أُضيف 14٬646 بايت
، قبل 7 سنوات
في حضرة الشك!
الراوية
وجدتني أصمتُ تمامًا حينما بادرني بسؤاله: لماذا النوع قضية؟
بالنسبة لي، امرأة ريفية الأصل تقليدية المنشأ روحانية الوجْد تعلمت في مؤسسة دينية؛ مالذي دهاها لتهتم بقضية كالجندر؟
بعد انتهاء مراسم عزاء والدي بل وانتهاء العدة، وجدت أمي بثوب الحداد الأسود لا تنزعه. الأمر لم يقتصر فقط على الثياب بل حتى لا يحق لها التزيُن بأدوات بسيطة كالكحل وخلافه، بل لا يحق لها حضور المناسبات الاجتماعية “الأفراح” وغيرها من التقاليد التي فُرضت على كل امرأة مثل أمي في قريتنا. وجدتني أقارن تلك الحالة الأكثر تقدمًا قليلًا بعادات الديانات الهندية القديمة التي كانت تأمُر الزوجة بقتل نفسها بعد وفاة زوجها، هُن الآن يفعلن ذلك بصورة مغايرة.
في المرحلة الإعدادية، وأنا أدرسُ مادة الفقه، في دروس الإمامة ” بأحقية الصبي المميز الذي لم يتجاوز عمره الإثني عشر عامًا بأن يؤم امرأة بالغة الرشد في الصلاة”، تساءلت بأي حكم صدرت هذه الفتوى؟ الأسئلة كانت -ومازالت- تثير قلقي واندهاشي منذ مراحل المراهقة، في تلك الفترة ااتخذتُ قرارا ألا انتمي إلى مذهب أو جماعة أو حزب، سأتعرف عليهم دون أن أكون منهم.ارتدتُ المساجد حيث كانت تُقام دروس الشريعة على طريقة مذاهب الأصوليين فترة تزيد عن 6 سنوات، ثم بالطوائف الروحانية، وكان لي شيخٌ ماهرٌ في علم أصول الفقه وكانت أكثر جدالاتنا عن من له الأحقية في تجديد الفقه المعاصر وإصدار الفتوى لمدة تزيد عن سنتين.
في مرحلة الجامعة، وبعد تعمدي دخول كلية الدراسات الإسلامية، وأنا اقرأ كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة لـ عبد الحليم أبو شقة؛ وهو كتاب يتحدث عن تحرير النساء في عصر الإسلام مستشهدًا بكل أدلته من الصحيحين البخاري ومسلم. كلما تمعّنت في القراءة كنت أُلقي بالكتاب بعيدًا عني، خوفًا من أن تتشوه صورة النبي محمد في ذهني، ليس هذا صحيحًا! ليس عادلًا أن يصفوه هكذا، البخاري مخطئ، التاريخ مُزيّف. وكانت بوادر الشك تحفر طريقها إليَّ..
في تلك اللحظة كنت أدعوُ الله كثيرًا أن يهدِنِي للحق! أن ينير دربي بالصواب. وكنت اتناقشُ عادة مع ثلاث من الأصدقاء من هم في مثل عمري أو أقل، وكانت لدينا نفس الحيرة. إلى أن وقعت عيني على إحدى المحاضرات لأحد المفكرين المعاصرين عدنان إبراهيم بعنوان ” هل حواء خلقت من ضلع آدم؟” كانت أُطروحته شبه منطقية وكان يدعو إلى أنها هي الأصل لا آدم -كما استدل عدنان-. عكفت على منهجه اَتطلع إليه ثم غيره وغيره لمدة دامت أكثر من ثماني أشهر ليل نهار، إلى أن وصلت لنتيجة تقلل حيرتي وتعرفت على مناهج لمجددين في قضايا الفكر الإسلامي مع تحليلهم للأحاديث النبوية واستخلاص ما يوافق منها كتاب الله باختلاف أفكارهم ومذاهبهم، وهم الأكثر منطقًا من الأصوليين. بدأت مع الوقت خطواتي الأولى وقررت أن أكَونَ إحدى المجددات في فهم آيات القرآن المتعلقة بقضايا النوع.
وبعد مرور شهور على بداية اختلاطي بأفكار وأشخاص تختلف كثيرًا أو قليلًا عن بيئتي التي توصي بعدم التأخير، أو التكلم بحدود مع الجنس الآخر أو في الشارع عمومًا، أو حتى ارتدائي للملابس الشرعية، وجدتني أقفُ عند تلك الحيرة ثانية، في إحدى النقاشات طُرِح سؤال: هل تعتقد أن زينب الغزالي نسوية رغم أنها كانت تضع حدًا في القضايا الدينية؟ كانت أغلب الإجابات بـ لا. شعرت بقشعريرة تملّكت جسدي، هل يعني ذلك أن انتمائي لعقيدة ما أو فكر ما يلغي جهودي تجاه النسوية؟ لماذا ننكر جهودها نحو الإصلاح لمجرد أنها وضعت حدًا لمباديء أو قوانين تؤمن بها، ثم بدأت أفكر في الحدود، مَن الذي وضعها وهل علينا كسرها أم تطبيقها؟ أم كسر البعض وتطبيق الآخر؟ وما هي الحدود التي يجب أن نتبعها كنسويات حتى نحصل على هذا اللقب، في اعتقادي الشخصي جدًا أنني من حقي كإنسان أن أُعبر عن القضية التي أهتم بها ولتكن قضايا لا تخص المرأة بل النوع، ولا أجد تعارضًا إذا وضعت حدًا لمعتقدٍ أو فكرة ما في تلك القضية والتزمت بها على نفسي، قد تراها أنت خارج إطار حدود أفكارك، بالمثل لا يحق لي أن اعترض على حقٍ تراه مشروعًا لك أو للفئة التي تنتمي إليها لمجرد أنها تخالف معتقداتي. ومن منطلق القاعدة الذهبية التي تقول “لا ضرر ولا ضرار” فما دمت لم تحكم عليّ بالتخلف لمجرد اِرتدائي قطعة قماش وتحدثي عن حقوقي كامرأة ومحاولتي البحث عن مدى حدوديتي في تلك الحقوق مثلًا؛ لا أحكم أنا عليك بـلقب ساذج مثلًا أو أُقلل من هويتك العربية (بما أنها تجمعنا سويًا) لأنك تؤمن بالاشتراكية أو تعتقد بأن الخلاص في أفكار ماركس مثلًا. كلانا عانينا العنصرية من أطراف مجتمعنا، من الاضطهاد ومن الأحكام المسبقة التي لا تنتهي وكلانا لجأ إلى الجندر ليبحث عن حقه كفرد يعبر عما يقتنع به دون حصره في تقاطعات وكلانا وقع في تلك الحفرة مرة أخرى، سواء كنا نمارس ذلك حينما نقرأ أفكارًا لا تعجبنا أو حتى عندما نتناقش في قضايا ونسمع أصداء أراء تخالف أراءنا، سواء كنا نفعل ذلك أمام الآخر “المختلف” أو أمام أنفسنا “وحدنا” ونحن نردد الحديث ونّسَفّه تلك العقليات ثانية أو حتى في أمسيات ليلية مع أصدقاءنا نهرب من بؤسنا الذي نعيشه بأن نستخف بأراء لا تشبهنا. آراها عنصرية بثوب جديد، أن نحد من اجتهادات الغير لمجرد اختلافه عنا. شاء القدر أن تكون النموذج الذي اتكلم عنه تنتمي إلى ما يسمى بالنسوية الإسلامية وإن كنت اتمنى أن تكون شخصًا لا ينتمي لدائرة اهتماماتي حتى اختبر نفسي صدقًا في الحكم عليها. على كلٍ لا تهم المسميات أن تكون “نسويًا” أو لا الأهم أن تصنع تغييرًا ذو قيمة.
اَتذكرُ حينما وضعت فرنسا قانونًا بإلغاء الحجاب في المدارس والجامعات الحكومية، تلك الضجة التي أثارت غضب الشرق. حينها كنت أفكر في الأقليات، ومازلت أذكر تلك الواقعة وأتعاطف مع من ينتمي إلى دائرة الأقلية في أي مكان في بقاع الأرض.
وجاء الاختبار، التعرف على من يتعرضون للقهر بسبب هويتهم الجندرية والجنسية من خلال وقائع يتحدثون بها عن معاناتهم بحذرٍ شديد في أن تٌكشف هويتهم، عن صراعاتهم اليومية ، انتهاك حقوقهم وحرياتهم. لا أنكر أنني وقبل عام واحد فقط كنت انظر إلى القضية باشمئزاز بحكم ترسخ الأراء الدينية التي تلقيتها منذ صغري والتي تتلخص في قصة قوم لوط، أعيد التفكير. أليس هم أقلية؟ ألا يستحقون الاحترام والتعاطف؟ ألا يستحقون احترام مساحاتهم الشخصية والتي لا تتعارض مع مساحاتك أيضًا؟ ألا تنزعجين من التمييز؟ وهم كذلك أيضًا!
وأنا هنا ليس لأصدر حكمًا في هل هي حرام أم حلال أو هي عدم نضوج أم رغبة حرة، ما أفكر فيه هو إذا كان تعريف الحريات في الفكر الغربي هو ألا تتعدى حريتك حدود الآخر، فلماذا حتى الآن تستنكر أغلب المجتمعات هؤلاء؟ ولماذا يحرمها الدين؟ وهل يعني بتحريم الفعل أن أتعامل بتفرقة أو تمييز ضدهم؟ مازال عقلي لا يستطيع أن يربط بين حكم النهي واحترام حريات الغير وبين ما حدث لزوجة لوط والتي تخبرنا الكتب المقدسة بأنها نالت العقاب مثل قومها فقط لتأييدها لهم. هل يعني ذلك أن التعامل بإنسانية مع من يختلف عني أنني سأنال عقاب الله؟!
و لماذا في ألاصل نملك “رغبة جنسية” وما الذي يحدد طبيعة تلك الرغبة لدى كل إنسان ؟ وما الهدف من وجودها ؟ هل من أجل الإنجاب فقط؟ ماذا عن العاقر؟ وهل من أجل ذلك ينكر المجتمع فكرة زواج المثلي لأنه لا يسعى إلى الإنتاجية ؟
تطرق عقلي إلى فكرة الحجاب، لماذا فُرض الحجاب؟ ولماذا يُرفع عندما تصل المرأة لسن اليأس؟ ولماذا يجوز رفع الحجاب أمام النسوة دون الرجال؟ كما أخبرونا في الصغر أن إلزامية الحجاب “وهو إخفاء مفاتن جسم المرأة عن الرجل الأجنبي عنها” لوجود عامل الانجذاب، هل معنى ذلك وأنا امرأة تلتزم الحجاب أن ارتديه في وجود النساء لاحتمالية تواجد مثليات في محيطي مثلًا (إذا كان فرض الحجاب من الأصل لوجود عامل الانجذاب) أم ما الحكمة من شرعيته؟ أعلم أن الكثير من دراسات المفكرين المعاصرين الإسلاميين وصلت إلى نتيجة بعدم فرض الحجاب حتى أنني اَتذكرُ آخر دراسة قرأتها لما وصل الباحث لنتيجة بوجوب الالتزام بلباس فضفاض لا يظهر ملامح جسم المرأة مع إباحة ظهور الرأس، على كلِ ورغم اقتناعي التام بحجابي كاختيار حر فقضية الحجاب اعتبرها شخصية لكل امرأة فكما هناك حرية في اختيار العقيدة فهناك أيضًا حرية في اختيارك لما هو غير ذلك.
في إحدى المرات وجدت أمي تشاهد مسلسلًا تركيًا يتحدث عن زوجين تعاني الزوجة العقم فلجئا إلى عملية تخصيب خارجي مع توفير أم حاضنة يتم زرع الجنين في رحمها، وهي تحكي لي باختصار أحداث المسلسل عقبت أمي “بس طبعًا دا حرام” أي فكرة زرع جنين من بويضة مخصبة في رحم امرأة أخرى، لفتت انتباهي القضية ثم بدأت أفكر في أبعادها، لماذا هي حرام؟ ولماذا هي حلال أيضًا؟ إذا كانت الرضاعة توجب الأحكام الشرعية من إرث وتحريم في الزواج من الدرجة الأولى والخ، وبما أنه يجوز استئجار امرأة للرضاعة. فبأي منطق تم تحريم الأم الحاضنة؟
في كثير من الأحيان يتملكني الرعب وأنا استمع لآيات القرآن، وخاصة قوله” وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا ” هل يعني ذلك أن أتوقف عن الحديث مع المنتمي لما هو غيري؟ أن لا استمع إلى اللاديني أو الرباني مثلًا وهو يسرد تجربته الفكرية المستقلة تمامًا في حياته؟ وكيف والله قد أمرنا بالتعرف على غيرنا ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”. أفكار خزعبلية تتسلل يوميًا إليّ دون أي أدلة فقط محاولة للفهم، تمزقني وترهق عقلي، تجعلني أخشى مصيري، أحيانًا أظن أنني قذفت بنفسي في منجم من نار لا فرار منه أشعر بأنني أدفع ضريبة استقلالية الفكر وعدم الانتماء الكامل لأي مجتمع.
[[تصنيف: دورية اختيار]]
[[تصنيف:وثائق مصدرها اختيار]]