تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
وصلات وتصنيفات
سطر 37: سطر 37:  
يظن كلّ من لم ينشأ في الهند أنّ الأخيرة هي موطن للتنوع والتقبّل والتعايش. غير أن النشأة في الهند ليست بالأمر الهيّن لامرئ لا يندرج بسهولة ضمن تصنيف مُحدّد. فالمجتمع الهنديّ بحكم عراقة نظام «الكاست» الطبقيّ- العرقيّ يميل إلى التصنيف الدقيق لكلّ مجموعة من المجموعات أو فرد من الأفراد، وهو بذلك يستهجن التهجين ويرتاب أمام الضبابيّة في الأصول والمكانة. وتنوّعُ البلاد الهنديّة في الواقع هو عبارة عن فرز دقيق ومتواصل بين المجموعات والأفراد داخل كل مجموعة، لذا فأنا منذ أن تعرَّفَ والدي الذي وفد من الهند إلى بوسطن بهدف الدراسة، على والدتي الأميركيّة، أي منذ تشكّلَ فكرة وجودي في هذا العالم، أمثّلُ مصدر حيرة وارتياب. وأذكرُ وأنا ألعبُ في حديقة الحارة مع أقراني في حيّ من أحياء الطبقة الوسطى في نيودلهي كيف كان هؤلاء الأقران يتهامسون في ما بينهم عن هذا الشخص الذي يلعب معهم، ويتساءلون عن أصوله وعن سبب وجوده بينهم. كنتُ أعرفُ أنّني أنتمي إلى هذا المكان، لكنّني كنتُ في الوقت ذاته أشعر بغربة حقيقيّة عنه.  
 
يظن كلّ من لم ينشأ في الهند أنّ الأخيرة هي موطن للتنوع والتقبّل والتعايش. غير أن النشأة في الهند ليست بالأمر الهيّن لامرئ لا يندرج بسهولة ضمن تصنيف مُحدّد. فالمجتمع الهنديّ بحكم عراقة نظام «الكاست» الطبقيّ- العرقيّ يميل إلى التصنيف الدقيق لكلّ مجموعة من المجموعات أو فرد من الأفراد، وهو بذلك يستهجن التهجين ويرتاب أمام الضبابيّة في الأصول والمكانة. وتنوّعُ البلاد الهنديّة في الواقع هو عبارة عن فرز دقيق ومتواصل بين المجموعات والأفراد داخل كل مجموعة، لذا فأنا منذ أن تعرَّفَ والدي الذي وفد من الهند إلى بوسطن بهدف الدراسة، على والدتي الأميركيّة، أي منذ تشكّلَ فكرة وجودي في هذا العالم، أمثّلُ مصدر حيرة وارتياب. وأذكرُ وأنا ألعبُ في حديقة الحارة مع أقراني في حيّ من أحياء الطبقة الوسطى في نيودلهي كيف كان هؤلاء الأقران يتهامسون في ما بينهم عن هذا الشخص الذي يلعب معهم، ويتساءلون عن أصوله وعن سبب وجوده بينهم. كنتُ أعرفُ أنّني أنتمي إلى هذا المكان، لكنّني كنتُ في الوقت ذاته أشعر بغربة حقيقيّة عنه.  
   −
وذاك ما جعلني عرضة «للتنمّر» طوال حياتي المدرسيّة وإن بشكل مُتقطّع. فالأطفال جماعاتٍ (وليس بصفتهم أفراداً) هم أكثر فئات المجتمع ميلاً إلى إطلاق أحكام قاسية على كل من يصعب تصنيفه، ويلتذّون في «شمشمة» رائحة الضعف على قرين من أقرانهم. كنتُ أتعرضُ للمضايقة تارة لأنّي من أصول مختلطة، وتارة أخرى لأنّي لا أتحلّى بصفات الذكورة المتعارف عليها كالقوّة البدنيّة العاليّة أو إجادة الألعاب الرياضيّة كالفوتبول أو الكريكت (مع أنّي كنتُ ولا أزال من عشّاق الثانية ومتابعيها) كي أحظى بمكانة عالية واحترام مطلوب، وأيضاً لأنّي لم أقضِ وقتاً كافياً في ترتيب هندامي أو في اختيار ملابسي. وأذكر مرّة أنّ أحدهم قال لي: «أُحبّ الأميركان وأُحبّ الهنود، أمّا الذين هم نصف هؤلاء ونصف أولئك، فلا!»، كما أذكر الأولاد الذين كانوا يطالبونني بإبراز جواز سفري كي أثبت لهم انتمائي!
+
وذاك ما جعلني عرضة «للتنمّر» طوال حياتي المدرسيّة وإن بشكل مُتقطّع. فالأطفال جماعاتٍ (وليس بصفتهم أفراداً) هم أكثر فئات المجتمع ميلاً إلى إطلاق أحكام قاسية على كل من يصعب تصنيفه، ويلتذّون في «شمشمة» رائحة الضعف على قرين من أقرانهم. كنتُ أتعرضُ للمضايقة تارة لأنّي من أصول مختلطة، وتارة أخرى لأنّي لا أتحلّى بصفات ال[[ذكورة]] المتعارف عليها كالقوّة البدنيّة العاليّة أو إجادة الألعاب الرياضيّة كالفوتبول أو الكريكت (مع أنّي كنتُ ولا أزال من عشّاق الثانية ومتابعيها) كي أحظى بمكانة عالية واحترام مطلوب، وأيضاً لأنّي لم أقضِ وقتاً كافياً في ترتيب هندامي أو في اختيار ملابسي. وأذكر مرّة أنّ أحدهم قال لي: «أُحبّ الأميركان وأُحبّ الهنود، أمّا الذين هم نصف هؤلاء ونصف أولئك، فلا!»، كما أذكر الأولاد الذين كانوا يطالبونني بإبراز جواز سفري كي أثبت لهم انتمائي!
   −
هناك من تقول إنّها عرفت منذ سن مبكر جدّاً أنّها مثليّة أو متحولة بالفطرة. أمّا أنا فتجربتي ليست على هذا النحو، إذ لم أكن على يقين أو حتى وعيّ بأنّني متحولة كما هي الحال لدى البعض، لكنّ الأمر في الوقت ذاته لم يكن خياراً طوعيّاً على نحوٍ كامل. عندما أنظر إلى الظروف التي ولدتُ ونشأتُ فيها، وإلى ما آلت إليه حياتي فيما بعد، فإنّ الخروج على الثنائيّة الجندريّة لا يبدو شيئاً غريباً أو مفاجئاً. بل على العكس، يبدو وكأنّه ينسجم انسجاماً تامّاً مع بقيّة أوجه حياتي. فأشعر بأنّني لست سوى التباسٍ لكلّ الأجناس الخلقيّة منها والمكتسبة، وليس فقط الجندريّة. ولدتُ لأبٍ هندي وأمّ أميركيّة يهوديّة، ولم أترعرع في كنف أيّ منهما بسبب إصابة والدتي بالفصام. فبعيد ولادتي في أميركا انتكست حالة أمّي وتفاقمت، وجرى تسفيري إلى الهند حيث اهتمت جدتي بتربيتي. وتمايَزتُ في شكلي عن أقراني وذلك قبل أي بادرة من بوادر التحوّل الجندري، أو حتّى قبل أن أفقه معناه.  
+
هناك من تقول إنّها عرفت منذ سن مبكر جدّاً أنّها [[مثلية جنسية | مثليّة]] أو [[عبور جنسي | متحولة]] بالفطرة. أمّا أنا فتجربتي ليست على هذا النحو، إذ لم أكن على يقين أو حتى وعيّ بأنّني متحولة كما هي الحال لدى البعض، لكنّ الأمر في الوقت ذاته لم يكن خياراً طوعيّاً على نحوٍ كامل. عندما أنظر إلى الظروف التي ولدتُ ونشأتُ فيها، وإلى ما آلت إليه حياتي فيما بعد، فإنّ الخروج على [[ثنائية جندرية | الثنائيّة الجندريّة]] لا يبدو شيئاً غريباً أو مفاجئاً. بل على العكس، يبدو وكأنّه ينسجم انسجاماً تامّاً مع بقيّة أوجه حياتي. فأشعر بأنّني لست سوى التباسٍ لكلّ الأجناس الخلقيّة منها والمكتسبة، وليس فقط الجندريّة. ولدتُ لأبٍ هندي وأمّ أميركيّة يهوديّة، ولم أترعرع في كنف أيّ منهما بسبب إصابة والدتي بالفصام. فبعيد ولادتي في أميركا انتكست حالة أمّي وتفاقمت، وجرى تسفيري إلى الهند حيث اهتمت جدتي بتربيتي. وتمايَزتُ في شكلي عن أقراني وذلك قبل أي بادرة من بوادر التحوّل الجندري، أو حتّى قبل أن أفقه معناه.  
   −
لطالما رزحتُ تحت وطأة دور الرجولة مع رزمة من الأعراف الاجتماعيّة الأخرى، سواء كانت مفروضة في المنزل أم في ملعب المدرسة وأروقتها. وتوهمتُ مع البعض أنّ الامتثال والاتّباع لما يعتبره أقراني «كوول» ربّما يمثّل فسحةَ تحررٍ مما كنت مطالباً به في البيت والصفّ من امتثال لدور الصبي «العاقل» الشطّور، وأن الفسحة تلك قد تمنحني قسطاً من القبول الذي من شأنه أن يُخفّف من إحساسي بالنبذ (إحساسٌ لا يزال ينتابني أثره في لحظات البؤس). فلهثتُ وراء الماركات وصيحات الموضة والموسيقى الدارجة، وانخرطتُ حتى في ممارسة الرياضة كي أنحف. لكن سدى! فكلما أجهدت وحاولت كان النبذ يشتدّ.
+
لطالما رزحتُ تحت وطأة دور ال[[رجولة]] مع رزمة من الأعراف الاجتماعيّة الأخرى، سواء كانت مفروضة في المنزل أم في ملعب المدرسة وأروقتها. وتوهمتُ مع البعض أنّ الامتثال والاتّباع لما يعتبره أقراني «كوول» ربّما يمثّل فسحةَ تحررٍ مما كنت مطالباً به في البيت والصفّ من امتثال لدور الصبي «العاقل» الشطّور، وأن الفسحة تلك قد تمنحني قسطاً من القبول الذي من شأنه أن يُخفّف من إحساسي بالنبذ (إحساسٌ لا يزال ينتابني أثره في لحظات البؤس). فلهثتُ وراء الماركات وصيحات الموضة والموسيقى الدارجة، وانخرطتُ حتى في ممارسة الرياضة كي أنحف. لكن سدى! فكلما أجهدت وحاولت كان النبذ يشتدّ.
   −
وكنتُ أستعصي على التصنيف. هل أنا هنديّ (أتكلم عن نفسي في الصغر بصيغة المذكر) أم إفرنجيّ، أسمر أم أبيض، أميركيّ أم هندي! العنصر المشترك في تعاملي مع الناس أينما حططت الرحال في العالم هو عجزهم عن تصنيفي في خانة إثنيّة أو عرقيّة أو ثقافيّة أو دينيّة، وكانت تلك الحيرة تزداد إذ يسألني أحدهم عمّا أعمل، فأخبره عن اشتغالي في حقل الثقافة العربيّة، فلا يستطيع مهما كان انتماؤه أن «يفرز» أو يستوعب. والشيء نفسه ينسحب على هويّتي الجندريّة. إذ لستُ من المتحوّلات الساعيات إلى «العبور» الكامل والمباشر إلى الضفة المقابلة لثنائيّة الذكر/الأنثى، فأتلذّذ «باللخبطة» الشاملة التي أتسبب بها في أذهان الناس إذ يعجزون عن زجّي في خانة من الخانات. بالتالي، ومن وجهة نظري، لا ضيرَ في تعقيد تصنيفي الجندريّ، فهذا يتطابق بل يتناغم تماماً مع التباساتي الثقافيّة والعرقيّة، ومع مسيرة حياتي الملتوية والعصيّة على التفسير «المنطقيّ» المتعارف والمجمع عليه!
+
وكنتُ أستعصي على التصنيف. هل أنا هنديّ (أتكلم عن نفسي في الصغر بصيغة المذكر) أم إفرنجيّ، أسمر أم أبيض، أميركيّ أم هندي! العنصر المشترك في تعاملي مع الناس أينما حططت الرحال في العالم هو عجزهم عن تصنيفي في خانة إثنيّة أو عرقيّة أو ثقافيّة أو دينيّة، وكانت تلك الحيرة تزداد إذ يسألني أحدهم عمّا أعمل، فأخبره عن اشتغالي في حقل الثقافة العربيّة، فلا يستطيع مهما كان انتماؤه أن «يفرز» أو يستوعب. والشيء نفسه ينسحب على [[هوية جندرية | هويّتي الجندريّة]]. إذ لستُ من المتحوّلات الساعيات إلى «العبور» الكامل والمباشر إلى الضفة المقابلة لثنائيّة الذكر/الأنثى، فأتلذّذ «باللخبطة» الشاملة التي أتسبب بها في أذهان الناس إذ يعجزون عن زجّي في خانة من الخانات. بالتالي، ومن وجهة نظري، لا ضيرَ في تعقيد تصنيفي الجندريّ، فهذا يتطابق بل يتناغم تماماً مع التباساتي الثقافيّة والعرقيّة، ومع مسيرة حياتي الملتوية والعصيّة على التفسير «المنطقيّ» المتعارف والمجمع عليه!
   −
عندما كنتُ أصغرَ سناً، وكنتُ قد تنبّهتُ للتوّ إلى هويتي بشكل واعٍ (لاحظوا كم هو أمر شائك اختيار المفردات اللائقة!)، كان الأمر يربكني ويُشعرني بأنّ «تحوّلي» هو تحول مزيف. فمن أين لي أن أكون متحوّلة إذا لم أتّبع مسار التحول الجسدي وإذا لم أغيّر هندامي و... إلّا أنّني أدركتُ بعد سنتين أو ثلاث أنّ تحوُّلي الجندريّ أعمق من تحوّل خارجي في المظهر. ومع مرور الوقت وجدتُني أتخذ قراراً تدريجياً بالانحراف عن هذا المسار المسبق المفترض، فأجّلتُ التفكير في مسألة  تلقّي الهورمونات إلى أجل غير مسمى، وألغيتُ فكرة إجراء أيّ عمليّة على جسدي، وقرّرتُ علاوة على ذلك ألّا أُجهد نفسي في محاولة ارتداء لباس يُصنّف أنثويّاً. وذلك ليس انتكاسة، أو ارتكاسة إلى الرجولة، بل هو تحرّر من ضيق ملابسَ لم أرتح لها في حياتي، واستعضتُ عن ذلك بالإمعان في ارتداء ما يُفرحني، أي الملابس الهنديّة أو الإفريقيّة الفضفاضة ومتعدّدة الألوان. وتوحي لي هذه الألوان بأنّني أشغل مساحة خارجة عن ثنائيّة الذكر والأنثى، كوني أتوق إلى التحرّر من هكذا ثنائيّة
+
عندما كنتُ أصغرَ سناً، وكنتُ قد تنبّهتُ للتوّ إلى هويتي بشكل واعٍ (لاحظوا كم هو أمر شائك اختيار المفردات اللائقة!)، كان الأمر يربكني ويُشعرني بأنّ «تحوّلي» هو تحول مزيف. فمن أين لي أن أكون متحوّلة إذا لم أتّبع مسار التحول الجسدي وإذا لم أغيّر هندامي و... إلّا أنّني أدركتُ بعد سنتين أو ثلاث أنّ [[عبور جندري | تحوُّلي الجندريّ]] أعمق من تحوّل خارجي في المظهر. ومع مرور الوقت وجدتُني أتخذ قراراً تدريجياً بالانحراف عن هذا المسار المسبق المفترض، فأجّلتُ التفكير في مسألة  تلقّي الهورمونات إلى أجل غير مسمى، وألغيتُ فكرة إجراء أيّ عمليّة على جسدي، وقرّرتُ علاوة على ذلك ألّا أُجهد نفسي في محاولة ارتداء لباس يُصنّف أنثويّاً. وذلك ليس انتكاسة، أو ارتكاسة إلى الرجولة، بل هو تحرّر من ضيق ملابسَ لم أرتح لها في حياتي، واستعضتُ عن ذلك بالإمعان في ارتداء ما يُفرحني، أي الملابس الهنديّة أو الإفريقيّة الفضفاضة ومتعدّدة الألوان. وتوحي لي هذه الألوان بأنّني أشغل مساحة خارجة عن ثنائيّة الذكر والأنثى، كوني أتوق إلى التحرّر من هكذا ثنائيّة
      سطر 52: سطر 52:  
مع الوقت توصّلتُ إلى قناعة بأنّي لا أحتلّ هذا الجسد، بل هو يحتلّني ويُحيط أناي، الكائنة القادمة من كوكب آخر لا ذكور وإناث فيه. إنّ عيني الداخليّة ترى في جسدي هذا تجسيداً لجدران سجن متنقل لا يفارقني.  
 
مع الوقت توصّلتُ إلى قناعة بأنّي لا أحتلّ هذا الجسد، بل هو يحتلّني ويُحيط أناي، الكائنة القادمة من كوكب آخر لا ذكور وإناث فيه. إنّ عيني الداخليّة ترى في جسدي هذا تجسيداً لجدران سجن متنقل لا يفارقني.  
   −
أدركتُ بل أيقنتُ أنّني لست متحوّلة «ناجزة»، أي أنّني حسمتُ أمر هويّتي الجندريّة وتوصلتُ إلى قناعة راسخة بأنّي لا أحاول العبور من ضفة إلى ضفة مُقابِلة، بل إنّ مكاني في نقطة ما في النهر على الحدود بين الرجولة والأنوثة، حيث تفيض مياه العناصر الرجوليّة على أنوثتي، وتملأ مياهُ أنوثتي عناصر الرجولة التي خُلقت فيها. وينتج عن هذا حيّزٌ ثالثٌ أشبه ببرزخ تختلط فيه كل ألوان كياني وترفد بعضها بعضاً. لذا فأنا أتحلّى بعنصر الأنوثة وعنصر الرجولة (لم ولن أنكره)، والعنصر أو الحيّز الثالث الخارج عن كليهما، والذي سبق وأشرت إليه في سياق كلامي عمّا كان ينتابني من شعور اغتراب عن هذا الكوكب. ارتأيتُ أن أُسمّي هذا العنصر «قِوامي الجندركويري». تحمل «الجندركويريّة» دلالة كلمة «كوير» الأصليّة، أي إنّها تشذّ عن القاعدة أو عن الإطار الذي يؤطّرُ أغلبيّةُ البشر حياتهم ضمنه دون مُساءلة، ربما لأنّ مُساءلة كهذه من شأنها زعزعة الأسس المتينة والـ«أساسيّة» لحياتهم. وتصبّ هذه العناصر الثلاثة (أو الأوجه إن شئنا) وكأنها روافد في النهر الأكبر الذي يشكل كياني (وكوني من برج الحوت، فإن هذه الاستعارة تليقُ بي جدّاً!)
+
أدركتُ بل أيقنتُ أنّني لست متحوّلة «ناجزة»، أي أنّني حسمتُ أمر هويّتي الجندريّة وتوصلتُ إلى قناعة راسخة بأنّي لا أحاول العبور من ضفة إلى ضفة مُقابِلة، بل إنّ مكاني في نقطة ما في النهر على الحدود بين الرجولة والأنوثة، حيث تفيض مياه العناصر الرجوليّة على أنوثتي، وتملأ مياهُ أنوثتي عناصر الرجولة التي خُلقت فيها. وينتج عن هذا حيّزٌ ثالثٌ أشبه ببرزخ تختلط فيه كل ألوان كياني وترفد بعضها بعضاً. لذا فأنا أتحلّى بعنصر الأنوثة وعنصر الرجولة (لم ولن أنكره)، والعنصر أو الحيّز الثالث الخارج عن كليهما، والذي سبق وأشرت إليه في سياق كلامي عمّا كان ينتابني من شعور اغتراب عن هذا الكوكب. ارتأيتُ أن أُسمّي هذا العنصر «قِوامي الجندركويري». تحمل «[[جندركويرية | الجندركويريّة]]» دلالة كلمة «[[كوير]]» الأصليّة، أي إنّها تشذّ عن القاعدة أو عن الإطار الذي يؤطّرُ أغلبيّةُ البشر حياتهم ضمنه دون مُساءلة، ربما لأنّ مُساءلة كهذه من شأنها زعزعة الأسس المتينة والـ«أساسيّة» لحياتهم. وتصبّ هذه العناصر الثلاثة (أو الأوجه إن شئنا) وكأنها روافد في النهر الأكبر الذي يشكل كياني (وكوني من برج الحوت، فإن هذه الاستعارة تليقُ بي جدّاً!)
   −
ولذلك قررت استيطان هذه المساحة الحدوديّة - أو لنقل مساحة المياه المتماوجة، غير الثابتة - المساحة البرزخيّة التي أحملها أينما حللت أو تنقلت في العالم. البرزخ معجماً هو قطعة أرض محصورة بين أرضين أو موصلة بينهما (وأنا أقتبسها هنا للمساحة المائيّة). ويبرز هذا البرزخ في ملامحي، في تضاريس جسدي، وفي هندام ثيابي وتسريحة شعري، وفي التباين بين أنوثة ثنايا خصري وردفيّ المكتنزين وبين «رجوليّة» ساقيَّ وذقني وصوتي. وتُعرَف المناطق الحدوديّة عموماً بعدم ضمانتها للكثير من الحقوق البديهيّة، خاصة تلك المتعلّقة بكرامة الأفراد. وكلّ من تتحرّك في تلك المناطق تكون عرضة للمساءلة من قبل حرّاس عند طرفيْ الحدود. وإنّه لمن الأمر الشائك أن يتحرك شخص في الفضاء العام، في أيّ مكان من العالم - وليس فقط في بيروت التي لا يزال الشارع فيها حيزاً يفتقر إلى الأمان والاحترام في المعاملة، ليس تجاه المتحوّل أو «المُربِك» جندرياً فحسب، بل تجاه كل من ليس ذكراً ذا قضيب وهيئة ذكوريّة – في مثل هذه الحال. إذ حيث تكمن تلك المنطقة «الرماديّة» أو «المبهمة»، فإنّ هذا الشخص يشكّل لمُحدّثه في كثير من الأحيان مصدر إرباك و«دربكة»<ref>اختلاطٌ وزحام، وَقْعُ أقدام الخيل (معجم المعاني الجامع).</ref>، قد يؤدّيان إلى مظاهر استباحة تتجسّد بأشكال مُتعدّدة، منها الموارِبة والملطَّفة، ومنها السافرة والفجّة التي قد تبلغ العنف اللفظيّ والجسديّ
+
ولذلك قررت استيطان هذه المساحة الحدوديّة - أو لنقل مساحة المياه المتماوجة، غير الثابتة - المساحة البرزخيّة التي أحملها أينما حللت أو تنقلت في العالم. البرزخ معجماً هو قطعة أرض محصورة بين أرضين أو موصلة بينهما (وأنا أقتبسها هنا للمساحة المائيّة). ويبرز هذا البرزخ في ملامحي، في تضاريس جسدي، وفي هندام ثيابي وتسريحة شعري، وفي التباين بين [[أنوثة]] ثنايا خصري وردفيّ المكتنزين وبين «رجوليّة» ساقيَّ وذقني وصوتي. وتُعرَف المناطق الحدوديّة عموماً بعدم ضمانتها للكثير من الحقوق البديهيّة، خاصة تلك المتعلّقة بكرامة الأفراد. وكلّ من تتحرّك في تلك المناطق تكون عرضة للمساءلة من قبل حرّاس عند طرفيْ الحدود. وإنّه لمن الأمر الشائك أن يتحرك شخص في الفضاء العام، في أيّ مكان من العالم - وليس فقط في بيروت التي لا يزال الشارع فيها حيزاً يفتقر إلى الأمان والاحترام في المعاملة، ليس تجاه المتحوّل أو «المُربِك» جندرياً فحسب، بل تجاه كل من ليس ذكراً ذا [[قضيب]] وهيئة ذكوريّة – في مثل هذه الحال. إذ حيث تكمن تلك المنطقة «الرماديّة» أو «المبهمة»، فإنّ هذا الشخص يشكّل لمُحدّثه في كثير من الأحيان مصدر إرباك و«دربكة»<ref>اختلاطٌ وزحام، وَقْعُ أقدام الخيل (معجم المعاني الجامع).</ref>، قد يؤدّيان إلى مظاهر استباحة تتجسّد بأشكال مُتعدّدة، منها الموارِبة والملطَّفة، ومنها السافرة والفجّة التي قد تبلغ [[عنف لفظي | العنف اللفظيّ]] و[[عنف جسدي | الجسديّ]]
      سطر 63: سطر 63:  
وعلى الرغم من تدهور صحّتي النفسيّة تحت وطأة تلك الضغوط، إلّا أن عارضاً إيجابيّاً برز وسط كلّ ذلك، وتمثّل في إقلاعي عن الاهتمام بكلّ ما يُقال عنّي، كما تزامن الأمر مع اكتشافي لولعي بالمكياج... وكانت إرهاصات تساؤلي حول هويّتي الجندريّة قد بدأت منذ ثلاث سنوات تقريباً، ورحتُ أُعبّرُ عنها بين الحين والآخر، تارة عبر طلي أظافري، وأخرى بوضع الكحل الملوّن والمخلوط بالـ glitter البرّاق أو الحمرة الأرجوانيّة. ذلك أنّي كنت أجرّبُ المكياج بألوان فاقعة غير تقليديّة لإحساس في الصميم بأني لست مثل باقي الفتيان الذكور حولي في المدرسة أو الحارة. وكنتُ أميل إلى الصبايا، لكن على نحوٍ يختلف عن ميل أقراني لهنّ. كنت أشعر منذ سنّ الخامسة عشرة أنّ هناك بذرة تنبت في داخلي، بذرة شعور بأن ثنائيّة الذكر والأنثى لا تتسع لما أُكنّه من مشاعر تميّزني عن هذين الجنسين النمطيين. لكنّي لم أعرف ماذا أفعل بذاك الاغتراب عن الدور الاجتماعي المفروض على جسدي المصنّف ذكراً. وعندما كبرت أدركت وأنا ألتفت إلى الوراء أنّ تربية جدّتي لعبت دوراً مُؤثِّراً في تكويني، إذ أحاطتني بطاقة أنثويّة غامرة شاملة، ولم تكفَّ عن ذلك طوال سنوات طفولتي التي قضيتها في رعايتها. لذلك لا شكّ أن مساماتي تشربت كل تلك الطاقة المُترسّخة في كياني منذ سن مبكّر جدّاً.
 
وعلى الرغم من تدهور صحّتي النفسيّة تحت وطأة تلك الضغوط، إلّا أن عارضاً إيجابيّاً برز وسط كلّ ذلك، وتمثّل في إقلاعي عن الاهتمام بكلّ ما يُقال عنّي، كما تزامن الأمر مع اكتشافي لولعي بالمكياج... وكانت إرهاصات تساؤلي حول هويّتي الجندريّة قد بدأت منذ ثلاث سنوات تقريباً، ورحتُ أُعبّرُ عنها بين الحين والآخر، تارة عبر طلي أظافري، وأخرى بوضع الكحل الملوّن والمخلوط بالـ glitter البرّاق أو الحمرة الأرجوانيّة. ذلك أنّي كنت أجرّبُ المكياج بألوان فاقعة غير تقليديّة لإحساس في الصميم بأني لست مثل باقي الفتيان الذكور حولي في المدرسة أو الحارة. وكنتُ أميل إلى الصبايا، لكن على نحوٍ يختلف عن ميل أقراني لهنّ. كنت أشعر منذ سنّ الخامسة عشرة أنّ هناك بذرة تنبت في داخلي، بذرة شعور بأن ثنائيّة الذكر والأنثى لا تتسع لما أُكنّه من مشاعر تميّزني عن هذين الجنسين النمطيين. لكنّي لم أعرف ماذا أفعل بذاك الاغتراب عن الدور الاجتماعي المفروض على جسدي المصنّف ذكراً. وعندما كبرت أدركت وأنا ألتفت إلى الوراء أنّ تربية جدّتي لعبت دوراً مُؤثِّراً في تكويني، إذ أحاطتني بطاقة أنثويّة غامرة شاملة، ولم تكفَّ عن ذلك طوال سنوات طفولتي التي قضيتها في رعايتها. لذلك لا شكّ أن مساماتي تشربت كل تلك الطاقة المُترسّخة في كياني منذ سن مبكّر جدّاً.
   −
وصلتُ إلى نيويورك وصدري يختلج بكل تلك الارتباكات. بعد فترة وجيزة وأثناء حضوري في ورشة لشباب يساريين من أصول هنديّة صعقتني زميلة وهي تتحدث عن «[[ترانس|الترانس]]» (المتحوّلين) وكأنّ ذلك أمر روتيني ومن أكثر الأمور اعتياديّة. انفعلتُ وارتبكتُ في بداية الأمر لدرجة أني رفضتُ التصديق أنّ هذا الشيء ممكنٌ وموجودٌ أصلاً! ووجدتُني بعد أن هدأت ثورتي قليلاً أسأل الزميلة بفضول عن معنى أن أكون «ترانسجندر». أخذت الرفيقة التي أدين لها بالشكر حتى اليوم تشرح لي أنّه من غير المحتّم أن تطابق الهويّة الجندريّة خانة الجنس التي نصنَّف فيها عند الولادة، وأنّ لنا الحرّية في تعريف جندرنا، وأنّه من غير الضروري أن يتزيّن جسدي بمهبل ومِشفريْن كي أكون امرأة. عندها أيقنتُ وأنا أستمع لما تقوله الصديقة أنّ ذاك التبرم من الرجولة الذي حملتُهُ معي في الطائرة المتجهة إلى نيويورك لم يكن طريقاً مسدودة. استغرق استيعابي للأمر أيّاماً عدّة. إلّا أنّ الفكرة بدأت تتبلور في داخلي. هل يُعقَل أن أكون أنا أحد هؤلاء؟ وماذا لو رفضتُ دور الرجولة، وجعلتُ من هذا الرفض جُزءاً أساسيّاً من وجودي في الحيز العام؟
+
وصلتُ إلى نيويورك وصدري يختلج بكل تلك الارتباكات. بعد فترة وجيزة وأثناء حضوري في ورشة لشباب يساريين من أصول هنديّة صعقتني زميلة وهي تتحدث عن «[[ترانس|الترانس]]» (المتحوّلين) وكأنّ ذلك أمر روتيني ومن أكثر الأمور اعتياديّة. انفعلتُ وارتبكتُ في بداية الأمر لدرجة أني رفضتُ التصديق أنّ هذا الشيء ممكنٌ وموجودٌ أصلاً! ووجدتُني بعد أن هدأت ثورتي قليلاً أسأل الزميلة بفضول عن معنى أن أكون «ترانسجندر». أخذت الرفيقة التي أدين لها بالشكر حتى اليوم تشرح لي أنّه من غير المحتّم أن تطابق الهويّة الجندريّة خانة الجنس التي نصنَّف فيها عند الولادة، وأنّ لنا الحرّية في تعريف جندرنا، وأنّه من غير الضروري أن يتزيّن جسدي ب[[مهبل]] ومِشفريْن كي أكون امرأة. عندها أيقنتُ وأنا أستمع لما تقوله الصديقة أنّ ذاك التبرم من الرجولة الذي حملتُهُ معي في الطائرة المتجهة إلى نيويورك لم يكن طريقاً مسدودة. استغرق استيعابي للأمر أيّاماً عدّة. إلّا أنّ الفكرة بدأت تتبلور في داخلي. هل يُعقَل أن أكون أنا أحد هؤلاء؟ وماذا لو رفضتُ دور الرجولة، وجعلتُ من هذا الرفض جُزءاً أساسيّاً من وجودي في الحيز العام؟
      سطر 72: سطر 72:  
وبعد أن صرتُ أُعرِّفُ نفسي كمتحوّلة على نحوٍ واعٍ وعلني، طال بي الوقت كي أدرك أن سعادتي لم تزدد في أداء الأنوثة بصيغتها المُتعارف عليها. كانت إزالة شعر إبطيَّ وساقيَّ بالنسبة لي عمليّة غير مريحة ومتكلّفة، فلم ألبث أن اكتشفتُ أنّ تحوّلي مختلف ويقع في حيّز آخر ولو كان قريباً، وهو أشبه بتخلٍّ مزدوج: تخلٍّ عن الرجولة المفروضة عليَّ في الصغر، وتخلٍّ عن الأنوثة المُتعارف عليها. وقررت أن أكون أنثى «على ذوقي». أنثى لا تتنكر لبعض الصفات الرجوليّة عندها، بل على العكس، تتعايش معها. فغدوتُ حسن – صبي وبنت، في آن!
 
وبعد أن صرتُ أُعرِّفُ نفسي كمتحوّلة على نحوٍ واعٍ وعلني، طال بي الوقت كي أدرك أن سعادتي لم تزدد في أداء الأنوثة بصيغتها المُتعارف عليها. كانت إزالة شعر إبطيَّ وساقيَّ بالنسبة لي عمليّة غير مريحة ومتكلّفة، فلم ألبث أن اكتشفتُ أنّ تحوّلي مختلف ويقع في حيّز آخر ولو كان قريباً، وهو أشبه بتخلٍّ مزدوج: تخلٍّ عن الرجولة المفروضة عليَّ في الصغر، وتخلٍّ عن الأنوثة المُتعارف عليها. وقررت أن أكون أنثى «على ذوقي». أنثى لا تتنكر لبعض الصفات الرجوليّة عندها، بل على العكس، تتعايش معها. فغدوتُ حسن – صبي وبنت، في آن!
   −
وقد قام تطابق غريب بين الاغتراب عن الوطن داخل الوطن، الذي خبرتُه، وبين الاغتراب عن جسدي الذي لطالما شعرت به كمتحوّلة، إذ تزامن الوعي على هذا «الخيار الثالث» مع تعمقي في اللغة العربيّة وتفتح تعابيرها ومفرداتها الجنسيّة الزاخرة أمامي. وغذّى أحد العنصرين الآخر. وجاءت دراسة العربيّة بمثابة خيار ثالث غير الخيارين المتوقّعين منّي. ففي جامعات الغرب عموماً، يُتوقَّعُ من كل من هو غير أبيض في حقل الانسانيّات إمّا أن يختصّ في موضوع يتعلق بثقافة الغرب، وإما بموضوع يرتبط بأصوله (أي أن يدرس نفسَه). كنت أعرف منذ الصغر أن الشعر يجري في دمي حتى قبل وعيي لهويّتي الجندريّة. لذلك ظننت أنّ خيارَيْ الاختصاصين الأساسيين أمامي هما الكتابة الإبداعيّة، أو الدراسات النسويّة والجندريّة. إلّا أنّني لم أجد ضالتي في أيّ منهما. إذ في ما يخصّ الدراسات النِسويّة، فإنّني لم ألقَ في الصفوف التي أخذتها أيّ صدى لتجربتي المُعاشة بكلّ ما أمرّ به يوميّاً من تجارب إيجابيّة وسلبيّة، ومضحكة ومحزنة. فتلك الدراسات إمّا متمركزة في التجربة الأميركيّة (البيضاء أو غير البيضاء)، والتي لم تكن إلا جزءاً صغيراً من تكويني الأساسيّ حتى سن البلوغ، ولم تُشعرني يوماً (خاصة وأنّي من أصول مختلطة) بانتمائي إلى هذه الفئة المصطنعة المسمّاة «ملوّنين» (POC)، أو أنّها غارقة في التنظير والمناظرات الفلسفيّة التي (على أهميتها) تُشعِرُ من يقرأها، أن المتحوّلين، وهم بشرٌ وقضيّة، ليسوا سوى موضوع عرضيّ في النقاش. أقول هذا مع احترامي لجهود منظرين أمثال جوديت بتلر، التي بكتاباتها عن الجندر باعتباره أداءً وليس فطرة، على أهمّيتها، لم تُفِدني في فهمي لهويتي، ولا في صراعي لنيل الاحترام والمساواة. هل تحوُّلي يأتي في حكم الفطرة أم أنّه أداءٌ اخترتُ أن أؤديه؟ قد يكون مزيجاً من الأمرين عندي، إذ يطيب لي اعتبار هويتي هلاميّة مُتغيّرة من يوم إلى آخر، مع تفاوت نسب الأنوثة والذكورة فيها. وهذا عند آخرين قد يكون أداءً واعياً في سبيل اختيار الاصطفاف خارج سطوة الثنائيّة، وقد يكون عند غيرهم فطرة طُبعوا عليها، ومن المؤذي بحقّهم التحدّث عن طوعيّة في الأمر، كون ذاك يجعلهم عُرضة للإلغاء والمساءلة في خياراتهم. وسرعان ما اعتذرتُ عن هذا النقاش لأني مللته، ولأنّه لا يُخرجنا من قاعة التدريس إلى الكفاح من أجل نيل الاعتراف بالمتحوّلين، في كافة أشكالهم، باعتبارهم بشراً كبقيّة البشر في حقوقهم وكرامتهم الفرديّة والجماعيّة. هذا ناهيك عن أن صفوف الدراسات النِسويّة كانت تفرض علينا أضعاف مواد القراءة والكتابة المقررة في اختصاصات أخرى، وذلك لبرهنة جدّيتها كحقل دراسيّ أكاديمي!
+
وقد قام تطابق غريب بين الاغتراب عن الوطن داخل الوطن، الذي خبرتُه، وبين الاغتراب عن جسدي الذي لطالما شعرت به كمتحوّلة، إذ تزامن الوعي على هذا «الخيار الثالث» مع تعمقي في اللغة العربيّة وتفتح تعابيرها ومفرداتها الجنسيّة الزاخرة أمامي. وغذّى أحد العنصرين الآخر. وجاءت دراسة العربيّة بمثابة خيار ثالث غير الخيارين المتوقّعين منّي. ففي جامعات الغرب عموماً، يُتوقَّعُ من كل من هو غير أبيض في حقل الانسانيّات إمّا أن يختصّ في موضوع يتعلق بثقافة الغرب، وإما بموضوع يرتبط بأصوله (أي أن يدرس نفسَه). كنت أعرف منذ الصغر أن الشعر يجري في دمي حتى قبل وعيي لهويّتي الجندريّة. لذلك ظننت أنّ خيارَيْ الاختصاصين الأساسيين أمامي هما الكتابة الإبداعيّة، أو الدراسات [[نسوية | النسويّة]] و[[دراسات الجندر | الجندريّة]]. إلّا أنّني لم أجد ضالتي في أيّ منهما. إذ في ما يخصّ الدراسات النِسويّة، فإنّني لم ألقَ في الصفوف التي أخذتها أيّ صدى لتجربتي المُعاشة بكلّ ما أمرّ به يوميّاً من تجارب إيجابيّة وسلبيّة، ومضحكة ومحزنة. فتلك الدراسات إمّا متمركزة في التجربة الأميركيّة (البيضاء أو غير البيضاء)، والتي لم تكن إلا جزءاً صغيراً من تكويني الأساسيّ حتى سن البلوغ، ولم تُشعرني يوماً (خاصة وأنّي من أصول مختلطة) بانتمائي إلى هذه الفئة المصطنعة المسمّاة «ملوّنين» (POC)، أو أنّها غارقة في التنظير والمناظرات الفلسفيّة التي (على أهميتها) تُشعِرُ من يقرأها، أن المتحوّلين، وهم بشرٌ وقضيّة، ليسوا سوى موضوع عرضيّ في النقاش. أقول هذا مع احترامي لجهود منظرين أمثال [[جوديت بتلر]]، التي بكتاباتها عن ال[[جندر]] باعتباره [[أدائية الجندر | أداءً وليس فطرة]]، على أهمّيتها، لم تُفِدني في فهمي لهويتي، ولا في صراعي لنيل الاحترام والمساواة. هل تحوُّلي يأتي في حكم الفطرة أم أنّه أداءٌ اخترتُ أن أؤديه؟ قد يكون مزيجاً من الأمرين عندي، إذ يطيب لي اعتبار هويتي هلاميّة مُتغيّرة من يوم إلى آخر، مع تفاوت نسب الأنوثة والذكورة فيها. وهذا عند آخرين قد يكون أداءً واعياً في سبيل اختيار الاصطفاف خارج سطوة الثنائيّة، وقد يكون عند غيرهم فطرة طُبعوا عليها، ومن المؤذي بحقّهم التحدّث عن طوعيّة في الأمر، كون ذاك يجعلهم عُرضة للإلغاء والمساءلة في خياراتهم. وسرعان ما اعتذرتُ عن هذا النقاش لأني مللته، ولأنّه لا يُخرجنا من قاعة التدريس إلى الكفاح من أجل نيل الاعتراف بالمتحوّلين، في كافة أشكالهم، باعتبارهم بشراً كبقيّة البشر في حقوقهم وكرامتهم الفرديّة والجماعيّة. هذا ناهيك عن أن صفوف الدراسات النِسويّة كانت تفرض علينا أضعاف مواد القراءة والكتابة المقررة في اختصاصات أخرى، وذلك لبرهنة جدّيتها كحقل دراسيّ أكاديمي!
    
ومن ناحية أخرى، لم تَرُقْ لي كثيراً طريقة «تعليم» الكتابة الإبداعيّة بصيغة الورشة، حيث يتناوب الطلّاب على تحليل وانتقاد نصوص بعضهم بعضاً تحت إشراف أساتذة، إذ لم أرتَحْ للاحتكام إلى آراء أشخاص لا أعرفهم ولا عهد لي بذائقتهم أو مبادئهم الفنيّة أو السياسيّة. وكانت مع كل فصل دراسي وكل ورشة جديدة تتكرر الأسطوانة مجدّداً وبوجوه مختلفة، الأمر الذي أرهقني ولم يُطوّر تقنيّاتي الإبداعيّة. وصادف في ذلك الوقت أن قرأتُ ذاكرة للنسيان، مذكرات محمود درويش في حصار بيروت عام 1982. وقد أغرمتُ بالنص، وبالأخصّ (من بين مقاطع عدّة) وصفه لعمليّة إعداد القهوة على الرغم من الذكوريّة البيّنة في هذا المقطع، وذاك جعلني أفكر جدّياً بدراسة العربيّة. ووجدت أنّ قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا هو من أخفِّ الاختصاصات من حيث المقرّرات، ويمنحني حريّة اختيار الصفوف التي تثير اهتمامي. إذ أنّ المقرّر الإجباري الوحيد كان اللغة. هذا وإنّني لم أرد الالتحاق بالذين «يدرسون أنفسهم»، وبالتالي استبعدتُ دراسة الهنديّة، فكان عليَّ أن أختار بين اللغة الفارسيّة واللغة العربيّة. وبما أنّني كنتُ مولعة بنص درويش، وبما أنّ برنامج تدريس الفارسيّة كان الأضعف، وقع اختياري على العربيّة مع أنّ الفارسيّة أقرب إلى الهنديّة نحواً. وفي السنة نفسها، في الصيف الذي سبق أول درس في العربيّة، تمكنتُ من تغيير خانة الجنس على هويتي وجواز سفري من ذكر إلى أنثى. وهكذا بدأت رحلتي مع العربيّة على نحوٍ جدّي ومتعمّد.
 
ومن ناحية أخرى، لم تَرُقْ لي كثيراً طريقة «تعليم» الكتابة الإبداعيّة بصيغة الورشة، حيث يتناوب الطلّاب على تحليل وانتقاد نصوص بعضهم بعضاً تحت إشراف أساتذة، إذ لم أرتَحْ للاحتكام إلى آراء أشخاص لا أعرفهم ولا عهد لي بذائقتهم أو مبادئهم الفنيّة أو السياسيّة. وكانت مع كل فصل دراسي وكل ورشة جديدة تتكرر الأسطوانة مجدّداً وبوجوه مختلفة، الأمر الذي أرهقني ولم يُطوّر تقنيّاتي الإبداعيّة. وصادف في ذلك الوقت أن قرأتُ ذاكرة للنسيان، مذكرات محمود درويش في حصار بيروت عام 1982. وقد أغرمتُ بالنص، وبالأخصّ (من بين مقاطع عدّة) وصفه لعمليّة إعداد القهوة على الرغم من الذكوريّة البيّنة في هذا المقطع، وذاك جعلني أفكر جدّياً بدراسة العربيّة. ووجدت أنّ قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا هو من أخفِّ الاختصاصات من حيث المقرّرات، ويمنحني حريّة اختيار الصفوف التي تثير اهتمامي. إذ أنّ المقرّر الإجباري الوحيد كان اللغة. هذا وإنّني لم أرد الالتحاق بالذين «يدرسون أنفسهم»، وبالتالي استبعدتُ دراسة الهنديّة، فكان عليَّ أن أختار بين اللغة الفارسيّة واللغة العربيّة. وبما أنّني كنتُ مولعة بنص درويش، وبما أنّ برنامج تدريس الفارسيّة كان الأضعف، وقع اختياري على العربيّة مع أنّ الفارسيّة أقرب إلى الهنديّة نحواً. وفي السنة نفسها، في الصيف الذي سبق أول درس في العربيّة، تمكنتُ من تغيير خانة الجنس على هويتي وجواز سفري من ذكر إلى أنثى. وهكذا بدأت رحلتي مع العربيّة على نحوٍ جدّي ومتعمّد.
سطر 102: سطر 102:  
في بعض الأحيان لا أصحّح صيغةَ توجُّه مُحدّثي إليّ إذا لم أكن مهتمّة برفقة هذا المحدّث أو المحدّثة، أو إنْ كنت منشغلة بأمور أخرى و«ما لي خلق». أمنح لنفسي حريّة خيار المواجهة أو تجنبها بحسب السياق والمزاج ومنسوب الطاقة. فالأمر بمثابة لعبة أدخل إلى حلبتها مع الطرف الآخر. في أحيان كثيرة يظنّونني رجلاً مثليّاً، ويخطر لي أن أصوّب خطأهم  وأنوّرهم بأنّي امرأة مثليّة! من أكثر المواقف التي تفرحني هو أن يعلّق أحدهم وأنا مارة في الطريق بـ«هيدا ذكر أو أنثى؟».
 
في بعض الأحيان لا أصحّح صيغةَ توجُّه مُحدّثي إليّ إذا لم أكن مهتمّة برفقة هذا المحدّث أو المحدّثة، أو إنْ كنت منشغلة بأمور أخرى و«ما لي خلق». أمنح لنفسي حريّة خيار المواجهة أو تجنبها بحسب السياق والمزاج ومنسوب الطاقة. فالأمر بمثابة لعبة أدخل إلى حلبتها مع الطرف الآخر. في أحيان كثيرة يظنّونني رجلاً مثليّاً، ويخطر لي أن أصوّب خطأهم  وأنوّرهم بأنّي امرأة مثليّة! من أكثر المواقف التي تفرحني هو أن يعلّق أحدهم وأنا مارة في الطريق بـ«هيدا ذكر أو أنثى؟».
   −
يختلف التحرّش من بيئة إلى أخرى من حيث التواتر والحدّة. في القاهرة كانت الحوادث تتكرر باستمرار وكأنّها بثّ راديو متواصل في الخلفيّة اعتدتُ على ثرثرته. أمّا في بيروت فالحوادث أقلّ، لكنّ المتحرّش على استعداد للتمادي أكثر، واحتمال العنف الجسديّ أكبر.
+
يختلف التحرّش من بيئة إلى أخرى من حيث التواتر والحدّة. في القاهرة كانت الحوادث تتكرر باستمرار وكأنّها بثّ راديو متواصل في الخلفيّة اعتدتُ على ثرثرته. أمّا في بيروت فالحوادث أقلّ، لكنّ المتحرّش على استعداد للتمادي أكثر، واحتمال [[عنف جسدي | العنف الجسديّ]] أكبر.
      سطر 132: سطر 132:  
إذا نظرنا إلى مفهوم التحول الجندريّ، أو «الجندركويريّة»، بصفته هويّة نختارها (سواء آمنّا باصطناعيتها أم بأصالتها/ طبيعيّتها) فذلك بوسعه أن ينير الطريق أمامنا لمعالجة بقيّة مشاكلنا «الهوياتيّة»، والتعامل مع الصراعات الناجمة عنها بهدوء أكثر وبتأنٍ ورويّة. إذ يُبيّن لنا مفهوم التحوّل أنّه لا يتحتّم على هويّة ما أن تكون في صراع مع هويّة/ات أخرى، بل يمكن لأيّ هويّة التعايش مع الهويّات الأخرى، وحتى التأثير فيها والاكتساب منها. وبوسع التحوّل أن يطرح أمامنا ممارسة مغايرة وأكثر تحرراً للأنوثة والرجولة على حدّ سواء، ممارسة تُريح من تداعيات الذكوريّة الكامنة في نمط الأنوثة والرجولة التقليديين. كما بإمكان الهويّات الجندريّة الخارجة عن الثنائيّة، كـ«الجندركويريّة» (لن أستخدم الترجمات السيّئة المتداولة حتى الآن)، أن تغني فهمنا لممارسة الذكورة والأنوثة، وكذلك أن تطرح علينا بدائل أكثر تحرراً، مهما كانت خصوصيّات المجتمع الذي نعيش فيها.
 
إذا نظرنا إلى مفهوم التحول الجندريّ، أو «الجندركويريّة»، بصفته هويّة نختارها (سواء آمنّا باصطناعيتها أم بأصالتها/ طبيعيّتها) فذلك بوسعه أن ينير الطريق أمامنا لمعالجة بقيّة مشاكلنا «الهوياتيّة»، والتعامل مع الصراعات الناجمة عنها بهدوء أكثر وبتأنٍ ورويّة. إذ يُبيّن لنا مفهوم التحوّل أنّه لا يتحتّم على هويّة ما أن تكون في صراع مع هويّة/ات أخرى، بل يمكن لأيّ هويّة التعايش مع الهويّات الأخرى، وحتى التأثير فيها والاكتساب منها. وبوسع التحوّل أن يطرح أمامنا ممارسة مغايرة وأكثر تحرراً للأنوثة والرجولة على حدّ سواء، ممارسة تُريح من تداعيات الذكوريّة الكامنة في نمط الأنوثة والرجولة التقليديين. كما بإمكان الهويّات الجندريّة الخارجة عن الثنائيّة، كـ«الجندركويريّة» (لن أستخدم الترجمات السيّئة المتداولة حتى الآن)، أن تغني فهمنا لممارسة الذكورة والأنوثة، وكذلك أن تطرح علينا بدائل أكثر تحرراً، مهما كانت خصوصيّات المجتمع الذي نعيش فيها.
   −
في شهادتي الشخصيّة هذه في الجندر واللغة وتجربة الإقامة في بلاد الشام، وفي ما اختبرتُهُ في البيئة الخارجيّة حولي وفي عوالمي الداخليّة المتناقضة، ثمة ما يجعلني أقول إنّ ما أدعو إليه لا يقتصر على دعوة المساواة بين الرجل والمرأة، بل هو دعوة لنسف هذه الثنائيّة المصطنعة برمّتها ومن أُسسها. فتلك ثنائيّةٌ تضع الرجولة والأنوثة على طرفي نقيض، وفي صراع أزلي على «مساواة» لن تتحقق بوجودها. إنّها ثنائيّة تطمس كل الاحتمالات الكامنة في الرجولة والأنوثة، كما الاحتمالات الموجودة خارجهما. فإذا قال الزعيم ماو في إحدى إشراقاته (ويا ليتها فعلاً نُفِّذت!)، «دع مئة زهرة تتفتّح ومئة مدرسة فكريّة تتنافس»، يمكننا تحريف كلامه (وما ألذّ تحريف كلام من يتمتع بهالة القدسيّة) والقول «دع مئة زهرة تتفتّح ومئة مذهب جندريّ ينافس ثنائيّة الرجل/ المرأة!»، فالتحوّل الجندري (الترانس) لا يضمن التوجّه نحو التحرر تلقائيّاً كما شهدنا في حالة المتحوّلين في إيران. فأين التحرّر بالضبط عند من تحوّلت من هويّة الذكورة إلى الأنوثة (سواء أكان هدفه التمويه عن مثليته أم نزعةٌ صادقة) فأجبرت على ارتداء الشادور وعدم الاختلاط بالرجال؟؟ كذلك حالة العديد من المتحوّلين الرجال (من الأنوثة إلى الذكورة) الذين ما لبثوا أن أكتسبوا صفات ذكوريّة تبدو لنا وكأنّها حُقنت بهم مع كلّ جرعة تستوسترون تلقوها. وهذا الأمر بيّنٌ في المجتمعات المثليّة في الغرب، كما في كثيرٍ من الحالات التي شهدتها شخصيّاً وسمعت بها في المنطقة العربيّة. ولدينا مثل شهير في شخصيّة «سامية/ سامي»، المُصوَّرة في المسلسل السوري شتاء ساخن (2009)، والتي ترتبك جراء إثارتها من قبل نساء راقصات، فتقنعها طبيبة، أرادت درأ الفضيحة عن أهلها، بوجوب التحوّل إلى شاب، ثمّ ما أن اكتسب «سامي» هويّته الجندريّة الجديدة حتى بدأ بممارسة الوصاية الأبويّة على أخته المُحجبة، وكأنّ الأمر بديهي ولا مفرّ منه!
+
في شهادتي الشخصيّة هذه في الجندر واللغة وتجربة الإقامة في بلاد الشام، وفي ما اختبرتُهُ في البيئة الخارجيّة حولي وفي عوالمي الداخليّة المتناقضة، ثمة ما يجعلني أقول إنّ ما أدعو إليه لا يقتصر على دعوة [[مساواة جندرية | المساواة بين الرجل والمرأة]]، بل هو دعوة لنسف هذه الثنائيّة المصطنعة برمّتها ومن أُسسها. فتلك ثنائيّةٌ تضع الرجولة والأنوثة على طرفي نقيض، وفي صراع أزلي على «مساواة» لن تتحقق بوجودها. إنّها ثنائيّة تطمس كل الاحتمالات الكامنة في الرجولة والأنوثة، كما الاحتمالات الموجودة خارجهما. فإذا قال الزعيم ماو في إحدى إشراقاته (ويا ليتها فعلاً نُفِّذت!)، «دع مئة زهرة تتفتّح ومئة مدرسة فكريّة تتنافس»، يمكننا تحريف كلامه (وما ألذّ تحريف كلام من يتمتع بهالة القدسيّة) والقول «دع مئة زهرة تتفتّح ومئة مذهب جندريّ ينافس ثنائيّة الرجل/ المرأة!»، فالتحوّل الجندري (الترانس) لا يضمن التوجّه نحو التحرر تلقائيّاً كما شهدنا في حالة المتحوّلين في إيران. فأين التحرّر بالضبط عند من تحوّلت من هويّة الذكورة إلى الأنوثة (سواء أكان هدفه التمويه عن مثليته أم نزعةٌ صادقة) فأجبرت على ارتداء الشادور وعدم الاختلاط بالرجال؟؟ كذلك حالة العديد من المتحوّلين الرجال (من الأنوثة إلى الذكورة) الذين ما لبثوا أن أكتسبوا صفات ذكوريّة تبدو لنا وكأنّها حُقنت بهم مع كلّ جرعة تستوسترون تلقوها. وهذا الأمر بيّنٌ في المجتمعات المثليّة في الغرب، كما في كثيرٍ من الحالات التي شهدتها شخصيّاً وسمعت بها في المنطقة العربيّة. ولدينا مثل شهير في شخصيّة «سامية/ سامي»، المُصوَّرة في المسلسل السوري [[شتاء ساخن]] (2009)، والتي ترتبك جراء إثارتها من قبل نساء راقصات، فتقنعها طبيبة، أرادت درأ الفضيحة عن أهلها، بوجوب التحوّل إلى شاب، ثمّ ما أن اكتسب «سامي» [[هوية جندرية | هويّته الجندريّة]] الجديدة حتى بدأ بممارسة الوصاية الأبويّة على أخته المُحجبة، وكأنّ الأمر بديهي ولا مفرّ منه!
      سطر 154: سطر 154:       −
ولماذا نتورّع عن إدخال كلمة [[كوير]] إلى اللغة؟ هذه الكلمة نفسها كانت تعتبر كلمة ازدراء لدى المثليين قبل حركات التحرر الجنسيّة النِسويّة، لكنّها استُعيدت في أواخر الستينيات شيئاً فشيئاً كنوع من احتضان المسبّة والافتخار بها. فنَعْتُ «شذوذ» الذي استُخدم لترجمة deviance من قبل علماء النفس في القرن العشرين، الذين كانوا ينظرون بحسب المفهوم التقليدي إلى كل علاقة خارجة عن علاقة الذكر والأنثى باعتبارها علاقة شاذة ومنحرفة... إلخ. لكن كما استُعيدَ استخدام كلمة كوير، بإمكاننا استعادة كلمة «شاذّ» بالعربيّة. وأودّ هنا أن أشكّك بصحّة كلمة «مثليّة» وأطرح كلمة «شاذّ»، التي ناصرتُها أعلاه، بديلاً لها. إذ مع الأخذ بعين الاعتبار الدلالات السلبيّة المتراكمة على هذه الكلمة، إلّا أنّها تفتح لنا آفاقاً أكثر تحرّراً، وأقل تقيّداً بالخطاب «الحَقِنساني»<ref>من مصطلح حقوق الإنسان، ويعود فضْل نحْتها لفادي الطفيلي.</ref>، كما أنّها تشتمل على هويّات جندريّة بديلة تضاف إلى الهويّات الجنسانيّة، فتضم أفراداً من أمثالي لا يشعرون بالرّاحة في الثنائيّة الجندريّة وفي الثنائيّة الجنسانيّة
+
ولماذا نتورّع عن إدخال كلمة [[كوير]] إلى اللغة؟ هذه الكلمة نفسها كانت تعتبر كلمة ازدراء لدى المثليين قبل [[حركات التحرر الجنسية النسوية | حركات التحرر الجنسيّة النِسويّة]]، لكنّها استُعيدت في أواخر الستينيات شيئاً فشيئاً كنوع من احتضان المسبّة والافتخار بها. فنَعْتُ «شذوذ» الذي استُخدم لترجمة deviance من قبل علماء النفس في القرن العشرين، الذين كانوا ينظرون بحسب المفهوم التقليدي إلى كل علاقة خارجة عن علاقة الذكر والأنثى باعتبارها علاقة شاذة ومنحرفة... إلخ. لكن كما استُعيدَ استخدام كلمة كوير، بإمكاننا استعادة كلمة «شاذّ» بالعربيّة. وأودّ هنا أن أشكّك بصحّة كلمة «مثليّة» وأطرح كلمة «شاذّ»، التي ناصرتُها أعلاه، بديلاً لها. إذ مع الأخذ بعين الاعتبار الدلالات السلبيّة المتراكمة على هذه الكلمة، إلّا أنّها تفتح لنا آفاقاً أكثر تحرّراً، وأقل تقيّداً بالخطاب «الحَقِنساني»<ref>من مصطلح حقوق الإنسان، ويعود فضْل نحْتها لفادي الطفيلي.</ref>، كما أنّها تشتمل على هويّات جندريّة بديلة تضاف إلى [[هوية جنسانية | الهويّات الجنسانيّة]]، فتضم أفراداً من أمثالي لا يشعرون بالرّاحة في الثنائيّة الجندريّة وفي [[ثنائية جنسانية | الثنائيّة الجنسانيّة]].
      سطر 176: سطر 176:  
'''فلنواصل الدقّ على جدران الفصل الجندري'''
 
'''فلنواصل الدقّ على جدران الفصل الجندري'''
   −
لنتذكر أن تفشي التمييز على أساس الجندر في اللغة لا يتماشى طردياً مع نسبة التحرّر الجندريّ أو الجنسيّ في المجتمع الناطق بها. فهناك لغات كالفارسيّة والتركيّة لا يوجد في نحوها ذكر أو أنثى، لكن الثنائيّة الجندريّة قائمة وصارمة في المجتمعات الناطقة بها، التي تظل تعاني من الذكوريّة والتمييز على أساس الهويّة الجندريّة. وكذلك لغات أخرى كالألمانيّة التي يوجد فيها جنس ثالث محايد (وهي لغة فيها إعراب بالمناسبة وعدد الناطقين بها أقل بكثير من الناطقين بالعربيّة لكن لا أحد «ينقّ» على صعوبة تعلمها؟ يا ترى لماذا؟)
+
لنتذكر أن تفشي [[تمييز على أساس الجندر | التمييز على أساس الجندر]] في اللغة لا يتماشى طردياً مع نسبة التحرّر الجندريّ أو الجنسيّ في المجتمع الناطق بها. فهناك لغات كالفارسيّة والتركيّة لا يوجد في نحوها ذكر أو أنثى، لكن الثنائيّة الجندريّة قائمة وصارمة في المجتمعات الناطقة بها، التي تظل تعاني من الذكوريّة والتمييز على أساس الهويّة الجندريّة. وكذلك لغات أخرى كالألمانيّة التي يوجد فيها جنس ثالث محايد (وهي لغة فيها إعراب بالمناسبة وعدد الناطقين بها أقل بكثير من الناطقين بالعربيّة لكن لا أحد «ينقّ» على صعوبة تعلمها؟ يا ترى لماذا؟)
    
إذن فالعربيّة كسائر اللغات تحمل في طياتها إمكانيّة التحرر كما إمكانيّة الارتجاع، فعلينا أن ننقّب ونغور في الثغرات التي تركها الشيوخ الذين وضعوا قواعد اللغة في الحصن المنيع الذي أقاموه. هذه الثغرات لا بدّ أن تكون موجودة كي ننفذ إلى لغة أكثر تحرّراً وانفتاحاً على التحرّر الجندريّ، إذ كُلّما تعقدت القواعد و«تشربكت»، كُلّما ازدادت فرص التلاعب بها والإفلات منها.
 
إذن فالعربيّة كسائر اللغات تحمل في طياتها إمكانيّة التحرر كما إمكانيّة الارتجاع، فعلينا أن ننقّب ونغور في الثغرات التي تركها الشيوخ الذين وضعوا قواعد اللغة في الحصن المنيع الذي أقاموه. هذه الثغرات لا بدّ أن تكون موجودة كي ننفذ إلى لغة أكثر تحرّراً وانفتاحاً على التحرّر الجندريّ، إذ كُلّما تعقدت القواعد و«تشربكت»، كُلّما ازدادت فرص التلاعب بها والإفلات منها.
سطر 182: سطر 182:  
إليكم ملاحظاتي المتواضعة، أو بالأحرى إليكم الكوّات الجندر-تحررّية التي استشففتها في العربيّة حتى الآن:
 
إليكم ملاحظاتي المتواضعة، أو بالأحرى إليكم الكوّات الجندر-تحررّية التي استشففتها في العربيّة حتى الآن:
   −
- في كثيرٍ من الأشعار العربيّة القديمة لا يتفق الفعل مع الفاعل لا جنساً ولا عدداً، فيُصرف فعلٌ فاعله مؤنّث بالياء بدل التاء.
+
* في كثيرٍ من الأشعار العربيّة القديمة لا يتفق الفعل مع الفاعل لا جنساً ولا عدداً، فيُصرف فعلٌ فاعله مؤنّث بالياء بدل التاء.
   −
- عشوائيّة تذكير أو تأنيث الأسماء، مثلاً (وهذا فعلاً يبدو شيئاً غير معقول من وجهة نظر الثنائيّة الصارمة) أسماء الأعضاء التناسليّة الأنثويّة - كسّ، فرْج، [[مهبل]]، رحْم، كُلّها اسماء مذكّرة!! ومذكّرة هذه بدورها هي جمع غير عاقل، ومن المثير كيف أنّ الجموع غير العاقلة تؤنِّث المفرد مذكّراً كان أم مؤنّثاً.
+
* عشوائيّة تذكير أو تأنيث الأسماء، مثلاً (وهذا فعلاً يبدو شيئاً غير معقول من وجهة نظر الثنائيّة الصارمة) أسماء الأعضاء التناسليّة الأنثويّة - كسّ، فرْج، [[مهبل]]، رحْم، كُلّها اسماء مذكّرة!! ومذكّرة هذه بدورها هي جمع غير عاقل، ومن المثير كيف أنّ الجموع غير العاقلة تؤنِّث المفرد مذكّراً كان أم مؤنّثاً.
   −
- بعض الصفات لا تأخذ تاء التأنيث المربوطة، والأمثلة التي تخطر على البال تتعلق بأوضاع مختصة «بالنساء«: حامل، حائض، مُرضِع... إلخ.
+
* بعض الصفات لا تأخذ تاء التأنيث المربوطة، والأمثلة التي تخطر على البال تتعلق بأوضاع مختصة «بالنساء«: حامل، حائض، مُرضِع... إلخ.
   −
- وردت في السيرة النبويّة كلمة عُسَيْلة - «...حتى يذوق عُسيلتها وتذوق عسيلته»- مع أنّ الجماع هنا يتقيّد بممارسته بين رجل وامرأة ينصاعان للثنائيّة، فالنبيّ يستخدم الكلمة نفسها ليشير إلى أعضاء كلا الطرفين فيساوي بينهما، وبذلك يُحيِّدُ الجسديْن جندرياً. ثم هل هناك تسمية للأعضاء المخصّصة للمتعة في أيّ لغة أحلى وأظرف من العُسيلة؟؟
+
* وردت في السيرة النبويّة كلمة عُسَيْلة - «...حتى يذوق عُسيلتها وتذوق عسيلته»- مع أنّ الجماع هنا يتقيّد بممارسته بين رجل وامرأة ينصاعان للثنائيّة، فالنبيّ يستخدم الكلمة نفسها ليشير إلى أعضاء كلا الطرفين فيساوي بينهما، وبذلك يُحيِّدُ الجسديْن جندرياً. ثم هل هناك تسمية للأعضاء المخصّصة للمتعة في أيّ لغة أحلى وأظرف من العُسيلة؟؟
   −
- بعض الكنايات للأعضاء التناسليّة توحي وكأن واضعها كان بالفعل يقصد الدعابة الجندريّة، مثلا: الخصيتان تُكنّى بـ «الأُنثييْن»! (ذلك لأنّ جذر أ- ن- ث له دلالة الطراوة، لكن حتى ولو!).
+
* بعض الكنايات للأعضاء التناسليّة توحي وكأن واضعها كان بالفعل يقصد الدعابة الجندريّة، مثلا: الخصيتان تُكنّى بـ «الأُنثييْن»! (ذلك لأنّ جذر أ- ن- ث له دلالة الطراوة، لكن حتى ولو!).
   −
- الفعل الناقص بحرف العلّة عندما يُنطق بالمحكيّة في لام الجذر يجعل تصريف الفعل في ضمير المتكلم أو في صيغة الأمر محايداً جندريّاً، مثلا فعل حكى يحكي - نصرفه في صيغة الأمر هكذا: إحكِ/ إحكي، لكن في المحكيّة أو حتّى في كلام فصيح شفهي، إلى أي درجة يمكن التمييز بين الكسرة والياء الطويلة؟
+
* الفعل الناقص بحرف العلّة عندما يُنطق بالمحكيّة في لام الجذر يجعل تصريف الفعل في ضمير المتكلم أو في صيغة الأمر محايداً جندريّاً، مثلا فعل حكى يحكي - نصرفه في صيغة الأمر هكذا: إحكِ/ إحكي، لكن في المحكيّة أو حتّى في كلام فصيح شفهي، إلى أي درجة يمكن التمييز بين الكسرة والياء الطويلة؟
   −
- مجموعة المفردات التي تُسمّى الأضداد - أي كلمة واحدة تدلّ على معنى وعكسه في آن واحد، مثلاً كلمة مَوْلى التي تعني السيّد والعبد كلاهما! وقيل إنّ الأضداد وُجدت لأنّ «كلام العرب يصحّح بعضه بعضاً، ويرتبط أوّله بآخره» (ابن الأنباري، مقدمة الأضداد في اللغة). فعلى الصعيد الفكريّ، هل تحمل هذه الظاهرة بتناقضها الجوهريّ فكرة الانقلاب على صرامة الفصل بين الذكر والأنثى من داخل الثنائيّة نفسها؟ أنا شخصياً أرى في كياني بأسره، وخاصّة هويّتي الجندريّة، تناقضاً كبيراً، لكن بدل أن يزعجني الأمر، فقد بات يُمتّعني وصرتُ أحتفي به، إذ أنّ الجندر عندي هو ضدّ من هذه الأضداد.
+
* مجموعة المفردات التي تُسمّى الأضداد - أي كلمة واحدة تدلّ على معنى وعكسه في آن واحد، مثلاً كلمة مَوْلى التي تعني السيّد والعبد كلاهما! وقيل إنّ الأضداد وُجدت لأنّ «كلام العرب يصحّح بعضه بعضاً، ويرتبط أوّله بآخره» (ابن الأنباري، مقدمة الأضداد في اللغة). فعلى الصعيد الفكريّ، هل تحمل هذه الظاهرة بتناقضها الجوهريّ فكرة الانقلاب على صرامة الفصل بين الذكر والأنثى من داخل الثنائيّة نفسها؟ أنا شخصياً أرى في كياني بأسره، وخاصّة هويّتي الجندريّة، تناقضاً كبيراً، لكن بدل أن يزعجني الأمر، فقد بات يُمتّعني وصرتُ أحتفي به، إذ أنّ الجندر عندي هو ضدّ من هذه الأضداد.
   −
- المثنّى، أو الإمكانيات التحرّرية في المثنّى. هناك دائماً صنوٌ لك، مثلاً في مخاطبة المثنى في المقدمة الطلليّة - لم يقف أحد على دلالاتها الجندريّة - هذه الصيغة التي لا ننفكّ نتذمّر من وجودها أو نستهزئ باستخدامها في المقدّمات الطلليّة للقصائد القديمة (أو من قِبَل الأساتذة المتزمّتين) لكنها تنطوي على احتمال للتلاعب، على الأقلّ في استخدام الشعراء القدامى لها حسب رأيي، إذ مهما كان جنس الإثنين المعنييْن، هناك طرف آخر وهو المتكلّم الذي يخاطب صاحبيه، فيصبح بذلك المثنّى بالفعل مثلّثاً، وتُخترق الثنائيّة أو ما كانت تتبدّى لنا ثنائيّة. لمَّحَ محمود درويش إلى الأمر في إحدى سونيتاته في سرير الغريبة: «نون الأنا في المثنّى». قد يُعتبر هذا الكلام كله فذلكة وسفسطائيّة، لكنّي أرى فيه تقويضاً لثنائيّة متجذّرة في اللغة وإعادة فهمنا لها على الأقلّ، ولعلّ وعسى أن يفتح ذلك لنا الباب لتقويض ثنائيّات أخرى.
+
* المثنّى، أو الإمكانيات التحرّرية في المثنّى. هناك دائماً صنوٌ لك، مثلاً في مخاطبة المثنى في المقدمة الطلليّة - لم يقف أحد على دلالاتها الجندريّة - هذه الصيغة التي لا ننفكّ نتذمّر من وجودها أو نستهزئ باستخدامها في المقدّمات الطلليّة للقصائد القديمة (أو من قِبَل الأساتذة المتزمّتين) لكنها تنطوي على احتمال للتلاعب، على الأقلّ في استخدام الشعراء القدامى لها حسب رأيي، إذ مهما كان جنس الإثنين المعنييْن، هناك طرف آخر وهو المتكلّم الذي يخاطب صاحبيه، فيصبح بذلك المثنّى بالفعل مثلّثاً، وتُخترق الثنائيّة أو ما كانت تتبدّى لنا ثنائيّة. لمَّحَ محمود درويش إلى الأمر في إحدى سونيتاته في سرير الغريبة: «نون الأنا في المثنّى». قد يُعتبر هذا الكلام كله فذلكة وسفسطائيّة، لكنّي أرى فيه تقويضاً لثنائيّة متجذّرة في اللغة وإعادة فهمنا لها على الأقلّ، ولعلّ وعسى أن يفتح ذلك لنا الباب لتقويض ثنائيّات أخرى.
   −
- إمكانيّة استبدال كلمة «رجل» بامرئ/المرء وهو الأقرب الى كلمة امرأة - المرء/المرأة بدل رجل/امرأة، كما يحاجج شاكر لعيبي: «نحن نعلم أنّ لغة العرب لا تحتفظ إلا بصيغتيْ المذكّر والمؤنّث، غالباً. من الناحية اللغويّة ثمّة اتّفاق مبدئيّ على ذلك، لكن من الزاوية المنطقيّة، لعلّ هناك صيغاً محايدة، لا هي بالمذكّر ولا هي بالمؤنّث، وإنْ اُعتبرتْ في إطار المذكّر لغويّاً. مثل كلمة (المرء) التي هي «صيغة ذكوريّة» تصف (الإنسان) مهما كان جنسه، لكنها موصولة بكلمة (المرأة) كما نرى، ليس فقط لغويّاً وإنما دلاليّاً وتاريخيّاً. فمن أمثال العرب التي ينقلها الميدانيّ: «المرأةُ مِن المرء وكلُّ أَدْماءَ مِن آدم. وقالت امرأَة من العرب: أَنا امْرُؤٌ لا أُخْبِرُ السِّرَّ. وقد اعتبروا هذا كلّه نادراً شاذّاً، ونراه بقليل من التردّد صحيحاً إذا اعتبرنا مفردة المرأة خارجة بالأحرى من (مرء) وليس كلمة (رجل). أمّا إذا كانت مفردة المرء، المحايدة جنسيّاً، تعني الإنسان فإنّ هناك اعترافاً بأنّ المرأة هي الأصل». قد نتّفق أو لا نتّفق مع هذه النظريّة، لكنّها مرّة أخرى تفتح لنا باباً للتحرّر الجندريّ لم يكن بادياً لنا من قبل. لنفترض أننا نجحنا في استبدال «الرجل» بالمرء، وبذلك قلصنا سماكة جدار الثنائية بحيث لا يفصل المرء عن المرأة غير الـ ة. هل سيتحرر المجتمع تلقائياً من أدوار الرجولة والأنوثة التي يرزح تحتها، ومن ثقافة العيب والحياء والشرف المتحالفة مع هذه الأدوار. أستبعدُ ذلك.
+
* إمكانيّة استبدال كلمة «رجل» بامرئ/المرء وهو الأقرب الى كلمة امرأة - المرء/المرأة بدل رجل/امرأة، كما يحاجج شاكر لعيبي: «نحن نعلم أنّ لغة العرب لا تحتفظ إلا بصيغتيْ المذكّر والمؤنّث، غالباً. من الناحية اللغويّة ثمّة اتّفاق مبدئيّ على ذلك، لكن من الزاوية المنطقيّة، لعلّ هناك صيغاً محايدة، لا هي بالمذكّر ولا هي بالمؤنّث، وإنْ اُعتبرتْ في إطار المذكّر لغويّاً. مثل كلمة (المرء) التي هي «صيغة ذكوريّة» تصف (الإنسان) مهما كان جنسه، لكنها موصولة بكلمة (المرأة) كما نرى، ليس فقط لغويّاً وإنما دلاليّاً وتاريخيّاً. فمن أمثال العرب التي ينقلها الميدانيّ: «المرأةُ مِن المرء وكلُّ أَدْماءَ مِن آدم. وقالت امرأَة من العرب: أَنا امْرُؤٌ لا أُخْبِرُ السِّرَّ. وقد اعتبروا هذا كلّه نادراً شاذّاً، ونراه بقليل من التردّد صحيحاً إذا اعتبرنا مفردة المرأة خارجة بالأحرى من (مرء) وليس كلمة (رجل). أمّا إذا كانت مفردة المرء، المحايدة جنسيّاً، تعني الإنسان فإنّ هناك اعترافاً بأنّ المرأة هي الأصل». قد نتّفق أو لا نتّفق مع هذه النظريّة، لكنّها مرّة أخرى تفتح لنا باباً للتحرّر الجندريّ لم يكن بادياً لنا من قبل. لنفترض أننا نجحنا في استبدال «الرجل» بالمرء، وبذلك قلصنا سماكة جدار الثنائية بحيث لا يفصل المرء عن المرأة غير الـ ة. هل سيتحرر المجتمع تلقائياً من أدوار الرجولة والأنوثة التي يرزح تحتها، ومن ثقافة العيب والحياء والشرف المتحالفة مع هذه الأدوار. أستبعدُ ذلك.
      سطر 220: سطر 220:  
''لا بدّ لي أن أوجه كلمة شكر وامتنان إلى رفيقيْن - فادي ومنال - اللذيْن لولا فدى الأول ونوال الثانية في المتابعة والمؤازرة، لما أبصرَ هذا النصّ النور. كما أشكر محرّر السلسلة كرم، الذي كرّمني بإلحاحه وحثّه المستمرّ على الكتابة. وأخيراً كلمة عرفان لمؤسّسة أشكال ألوان لدعمها المعنويّ والمادّي بإقامة فنّية تمكّنتُ من خلالها من إنجاز هذا النصّ.''</small>
 
''لا بدّ لي أن أوجه كلمة شكر وامتنان إلى رفيقيْن - فادي ومنال - اللذيْن لولا فدى الأول ونوال الثانية في المتابعة والمؤازرة، لما أبصرَ هذا النصّ النور. كما أشكر محرّر السلسلة كرم، الذي كرّمني بإلحاحه وحثّه المستمرّ على الكتابة. وأخيراً كلمة عرفان لمؤسّسة أشكال ألوان لدعمها المعنويّ والمادّي بإقامة فنّية تمكّنتُ من خلالها من إنجاز هذا النصّ.''</small>
    +
{{فنا}}
 +
 +
يندرج هذا النصّ ضمن [[:تصنيف:ملف الجندر، الجنسانية، السلطة | ملف «الجندر، الجنسانية، السلطة»]]، الذي تُنشر مواده صباح كلّ يوم خميس.
 +
 +
مواد الملف المنشورة حتى الآن: «[[وثيقة:الجندر، الجنسانية، السلطة | الجندر، الجنسانية، السلطة]]»، افتتاحية وتقديم كرم نشّار للملف؛ و«[[وثيقة:بين الكونية والثقافوية الضيقة | بين الكونية والثقافوية الضيقة]]»، حوار نائلة منصور مع المؤرخة التونسية-الفرنسية صوفي بيسيس؛ و«[[وثيقة:أنا الشاذ | أنا الشاذ]]» لرئيف الشلبي؛ و«[[وثيقة:لحظة أردوغان الكويرية | لحظة أردوغان الكويرية]]» ليَنَر بيرم أوغلو؛ و«[[وثيقة:اللغة والجنسانية | اللغة والجنسانية]]» ل[[نائلة منصور]]؛ و«[[وثيقة:ذكورة متعسكرة في لبنان | ذكورة متعسكرة في لبنان]]» لجووي أيوب
       
==الهوامش==
 
==الهوامش==
 +
 +
[[تصنيف:عبور جنسي]]
 +
[[تصنيف:الجندر واللغة]]
 +
[[تصنيف:ملف الجندر، الجنسانية، السلطة]]
7٬902

تعديل

قائمة التصفح