وثيقة:الجندر، الجنسانية، السلطة

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مقالة رأي
تأليف كرم نشار
تحرير غير معيّن
المصدر الجمهورية.نت
اللغة العربية
تاريخ النشر 2018-11-07
مسار الاسترجاع https://www.aljumhuriya.net/ar/content/الجندر،-الجنسانية،-السلطة
تاريخ الاسترجاع 2018-11-19
نسخة أرشيفية http://archive.is/Sidzt


النص مقدمة لملف في موقع الجمهورية تحت عنوان "الجندر، الجنسانية، السلطة".

النسخة الإنجليزيةالمترجمة للمقال نشرت في الجمهورية.نت بتاريخ 2018-12-05 وذلك تحت عنوان Commentary Gender, Sexuality, and Power



قد توجد وثائق أخرى مصدرها الجمهورية.نت




في العشرين من شهر تشرين الأول الماضي، قُتلت صبية سورية تدعى رشا بسيس على يد أخيها، بسبب ما قيل إنها علاقة ربطتها بضابط تركي في منطقة جرابلس الحدودية. الأخ، بشار، أفرغ ثلاثة مخازن من الرصاص في جسد رشا بعد أن تسلّى بإهانتها وتعذيبها قليلاً، ووثق فعلته على شريط فيديو بمساعدة صديق محرّض، ونشر الشريط على شبكة الإنترنت بثقة واعتزاز.

قبل ذلك بحوالي عشرة أيام، اختُطِفَ صبيٌ عراقيٌ في الخامسة عشر من العمر يدعى حمودي المطيري وهو في طريق عودته إلى منزله في شارع اليرموك في بغداد. عثرت قوى الأمن بعد ذلك على جثته وعليها آثار طعن متكرر، وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يُظهر حمودي وهو في لحظاته الأخيرة: يصوره قاتله ويسخر منه، يسأله بتهكم «من هو صاحبك؟»، ومن ثم يخبره أن ما يراه أمامه هو أحشاؤه. حمودي، الذي كان شاباً «ناعماً» بشكلِ أثار الشكوك حول ميوله الجنسية، طلب في اللحظات الأخيرة أن يرى أمه، لكن القاتل استمرّ في تصويره إلى أن أصبح جثة هامدة.


أثارت كل جريمة على حدة عاصفة صغيرة من الاستهجان مرّت سريعاً، بشاعةُ المحتوى تشّجعُ وعينا على نسيانه بلا شك. لكن ماذا لو كابرنا وحدّقنا مرة أخرى؟ وماذا لو جربنا أن ننظر إلى الجريمتين في الوقت نفسه، وحاولنا أن نفهم كل جريمة بدلالة الأخرى؟ ماذا، بكلماتٍ أخرى، لو سجّينا جسدي رشا وحمودي بجانب بعضهما وقارنّا بين الجروح؟ التقاطعات الكثيرة ستوحي وكأننا أمام نسختين مختلفتين لنص أصيل واحد: المشهدية المُروعة، يفاعة الضحايا وضعفهم الواضح، تباهي القتلة واقتناعهم بصواب أو «عدل» ما يفعلون، وطبعاً وقبل كل شيء الدوافع التي لا يمكن فهمها في كلا الحالتين دون العودة إلى تلك الكلمة التي لا زالت بعد نصف قرن من بروزها تُقضّ مضاجع كثيرين: كلا الجريمتين تحيلاننا إلى «الجندر».

أن ننظر إلى جريمتيّ رشا وحمودي سوياً يعني أن نتجاوز سياقاتهما الجغرافية والثيمية الضيقة وننظر إلى واقع إنتاج وممارسة الذكورة والأنوثة العام في المنطقة، ليس بصفته موضوعاً متعلقاً بفئة محددة من الناس، بل من حيث أنه مجال أساسي لإنتاج السلطة وأُسس العيش في المجتمع ككل، وأن نفعل ذلك بالإلحاح الذي يتناسب مع الفظاعة التي لطالما كان هذا المجال مؤهلاً لإنتاجها. قُتلت رشا لأنها اعُتبرت فاشلة في «أداء» أنوثتها حسب التوقعات والضوابط التي تربط الأنوثة بالعفة، كما قُتل حمودي لأنه اعتُبر فاشلاً في «أداء» ذكورته حسب التوقعات والضوابط التي تربط الذكورة بالخشونة أو «الرجولة» أو الميل الغيري، وارتكب القاتلون جرائمهم كإثبات لذكورتهم أو انتصاراً لها ولـ «مسوؤلياتها» حسب التوقعات والضوابط ذاتها. الجميع «خضعوا» للمعادلة الجندرية السائدة في مجتمعاتهم، والجميع كانوا «ضحاياها» بشكل أو بآخر.


ولكن إذا كانت الأنثى والذكر المُشكَّكُ في ذكورته انتهوا موتى حسب عملية الإخضاع هذه، في حين تحول الذكور الـ «المذكّرون» إلى قَتَلة، فهذا طبعاً ليس بالصدفة. نعلم جيداً من الإرث المتراكم للفكر النسوي أننا حين ننطلق من كون الذكورة والأنوثة مفاهيم اجتماعية ينتجها البشر، وليست خصائص بيولوجية فقط، فهذا يعني بالضرورة أن «القوة» تخترق عملية الإنتاج هذه بشكل بنيوي وتطبعها باللامساواة. ونعلم، وبالنظر فقط إلى رشا وحمودي، أن الجذر الناظم أو المؤسس للامساواة هذه هي الجنسانية، بمعنى أن هذه اللامساواة هي في جذرها سعيٌ لإعادة إنتاج ثنائية فاعل/مفعول به الجنسية على شكل أنظمة وشرائع وأفكار تعطي «الذكر المُذكّر» أحقية وأهلية «الفعل» وتُنكرها بأشكال ودرجات متفاوتة على من سواه. نعلم أيضاً أن هذه المعادلة الجندرية السائدة تُنتج، كأي ترتيب اجتماعي قائم على عدم التكافؤ، عقلانية داخلية خاصة تحاول من خلالها إخفاء لا-عدالتها من خلال الإحالة إلى الله أو الطبيعة أو المصلحة العامة، فتتسرب إلى فهم الذات لنفسها لدى الخاسرين منها كما لدى الرابحين، وتصوغ قيم الخير والحق والفضيلة للمجتمع كلل. وبقدر ما تبدو هذه الهيمنة فعالةً في إنتاج انضباط هائل ومستمر بالمقارنة مع نظم وأفكار آخرى، بقدر ما تحتفظ بطاقة توليد عنف قصاصيّ مريع للعصاة يبدو، كما في حالة رشا وحمودي، فريداً هو الآخر في قدرته على تحويل أقرب الناس إلى أكثرهم وحشية، واستجلاب كراهية وعنف غرباءَ عشوائيين في الوقت عينه.

هذه النقاط الأساسية، والتي نَدين بها كما ذكرت للفكر النسوي في موجتيه الثانية والثالثة على اختلافهما، ونستطيع تبينها بوضوح وكثافة في مشهدي رشا بسيس وحمودي المطيري، هي الأرضية التي تقف عليها مقالات ملف «الجندر والجنسانية والسلطة»، والتي تبدأ الجمهورية نشرها اعتباراً من الغد وعلى مدى الأشهر الثلاثة القادمة. تنطلق المقالات جميعها من قناعة أن النظر في مسألة الإنتاج الاجتماعي للذكورة والأنوثة، أي في الجندر، ليس بفذلكة أكاديمية ولا «صرعة» مابعد-حداثية، بل هو في الأساس ضرورة لفهم ومقاومة ديناميكيات اجتماعية وسياسية وثقافية وقانونية ملموسة تتسم في جوهرها باللاعدالة، ملموسة بقدر ما كانت أجساد رشا بسيس وحمودي المطيري ملموسة، ولا عادلة بقدر لا عدالة موتهما. ترتبط بهذه القناعة قناعة ثانية تساويها أهمية، أن نظريات الجندر والجنسانية ليست مجرد طريقة ملتوية جديدة للحديث عن حقوق المرأة، بل محاولة واعية لمركَزَة هذه الحقوق في سياق يشمل الذكورة والأنوثة معاً، بكل تلويناتهما الجنسانية، كما التعبيرات التي تتحدى ثنائية ذكر/أنثى أو تحاول العبور من واحدة للأخرى، وهي بالمعنى نفسه ليست «غيتوهات» خطابية وفكرية تتحدث فيها النساء وأفراد مجتمع الميم عن مشاكلهم بعيداً عن «الشأن العام»، بل هي في الواقع معنية بجوهر تشكُّلِ الفضاء العام ككل، وعدسة نستطيع النظر من خلالها إلى شتى أنواع القضايا النظرية والتاريخية والعيانية.


تتنقل مقالات الملف جغرافياً بين سورية ولبنان وتركيا ومصر وتونس وإيران وصولاً إلى الهند، وتتوزع بين نصوص ذات طابع تحليلي وأُخرى كُتبت كشهادات شخصية من موقع نسوي أو كويري. لا تتوانى المقالات عن مجابهة قيم المجتمع المحافظ، دون الوقوع في فخ الثقافوية السهلة التي تتعامى عن تواطؤ الحداثة في جُلّ تاريخها مع هذه القيم. ولا توفر اليسار في بنيانه النظري أحياناً وفي انتهازيته السياسوية أحياناً أخرى من نقدها، دون أن تتخلى عن الإطار التحرري الذي يربطها به ومن ورائه بقيم الأنوار الكونية. وفي حين تعترف لما بعد البنيوية بفضلها المنهجي في دفع التنظير النسوي والكويري خطوات واسعة إلى الأمام، فإنها تتوقف عند الأثر الإشكالي الذي كان لهذا التيار الفلسفي في إعادة تأهيل الفكر الأهلي المحافظ خارج «المتروبول» وداخله من باب مراعاة الخصوصيات الثقافية. لكن الأهم من هذا كله، هو أن النصوص رغم انحيازاتها الفكرية الواضحة لا تضيع في تيه كل هذه المعسكرات الخطابية على حساب صوتها الخاص: بوح كُتّابها الشخصي، تجاربهم المستندة إلى تفاصيل عيانية سياسية واجتماعية غنية، اشتباكهم مع سياقات محلية أو وطنية خاصة، أو قراءتهم لأرشيف تاريخي أو نص أدبي معين. أصالة الملف تتمركز في الصوت الخاص هذا، قبل السرديات الكبرى وبعدها.