وثيقة:عن مخلفات الاستعمار
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | الملكة إليزابيث |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مجلة شباك |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.shubbakmag.com/articles/38
|
تاريخ الاسترجاع |
|
نُشرت هذه المقالة في العدد 2 من مجلة شباك
قد توجد وثائق أخرى مصدرها مجلة شباك
حين نتحدث عن مخلَّفات الاستعمار فإنَّ أول ما يتبادر للأذهان هو حقول الألغام أو بقايا الأسلحة... قد يذهب البعض لما هو أبعد ويعتبر الأنظمة العسكرية القمعية من مخلفات الاستعمارِ الأوروبي..
لكنَّنا هنا بصددِ الحديث عن المخلّفات القانونية: تلك القوانين التي وُضعت في العصور الوُسطى وتولّت الكنائس الأوروبية المتحارية تفصيلَها ونشرها في المستعمرات سواءً في آسيا أو أفريقيا.. و بالرغم من مرور عقودٍ على خروج المستعمر إلا أنّ تلك القوانين مازالت هناك لتضمن بقاء أبناء المستعمراتِ السابقة في العصور الوسطى، بينما ينعمُ أبناء أوروبا بالحرّيّة والرفاهية..
كي تتضح الصورة أكثر دعونا نرجع بالزمان إلى القرن السادس عشر، حين كان التنافس على أشدّه بين الكنيستَين الإنجليزية والفرنسية.. حين أصدر الملك هنري الثامن قانون اللواط لعام 1533 _قبل بدء الحقبة الاستعمارية_ مستنداً في تشريعهِ لتجريم الكنيسة البروتستانتية الإنجليزية للمثليّةِ الجنسية.. في الوقت نفسه كانت الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية أيضاً تعتبر المثليةَ جريمةً وكان الفاعل يُعاقبُ بالإخصاء أو الحرق أو الإعدام بطرقٍ أخرى..
إلا أن فرنسا سبقت إنجلترا في إلغاء تجريم المثلية عام 1791 إبان الثورةِ الفرنسية التي تمرّدت ورفضت كل ما هو ملكيٌّ وبالتبعية دينيّ، وألغت كل سلطةٍ للكنيسة أو قوانينَ صدرت مستندةً إلى تشريعاتها، بما فيها تجريم المثلية، وتبنَّت مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.. بل واعتبرت أنَّ كل العلاقات الجنسيّة التوافقيّة بعد سن الحادية عشر هي علاقاتٌ قانونيةٌ في الوقت الذي كانت إنجلترا تعاقب فية المثليين الذكور بالقتل.. واستمرت بريطانيا في استغلال ذلك الاختلاف المذهبيّ في حربها الاستعماريةِ في ظاهرها الدينية في باطنها ضدّ فرنسا! فمع تبنّي الجمهورية الفرنسية مبادئ علمانيّة تبتعد عن الكنسيّة في التشريع استغلت بريطانيا تفرَّدها بالساحة الدينية، واستمرت في فرض العقوبات على المثليين..
ومع بدء الحقبة الاستعمارية والتّنافس بين القوَّتين العُظمتين حينها، استمرّت كل دولةٍ منهما في فرض قوانينها بطريقةٍ أو بأخرى في مستعمراتِها.. فمعظم الدُّول التي ضمَّتها بريطانيا لإمبراطوريتها لم يكن بها عقوبةٌ تُذكر للسلوك المثلي بل وكانت تتسامح معه وتعتبره جزءاً من موروثها الأدبيّ والثقافي، كما كان الحال في البلدان العربية الخاضعة للحكم العثمانيّ حينها، والأمر نفسه بالنسبة للمستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا سواءً التي كانت خاضعةً للحكم العثماني ولا تعاقب السلوك المثلي ولا ترفضه أو بلاد غرب ووسط إفريقيا التي كان السلوك المثلي فيها جزءاً من شعائر بعض قبائلها، ولا يوجد أي عقاب يُذكر تجاهه!
الملفت للنظر هنا هو أن معظم تلك الدول ذات الأكثريّة المسلمة تدّعي أن تلك القوانين مُستَلهمةٌ من الشريعة الإسلامية، وهو ما ينافي الواقع التاريخي حين ألغت الدولة العثمانية، دولة الخلافة، التشريع القاضي بمعاقبة المثليين عام 1858، عهد السلطان عبد المجيد الأول في كافة الولايات العثمانية! التشريع الذي ارتبط تنفيذهُ بوجود أربعة شهودٍ يشاهدون دخول اللحم في اللحم، مما اعتبر تنفيذ العقوبة مستحيلاً وحيلة شرعية، اعتُبِر أكثر تسامحاً مع نظيره الإنجليزي الذي كان يكفية التلصّص على المشتبة بهم، وحتى مجرد الشك في سلوك الفرد وملبسِه وتصرُّفه كان كافياً لتعرُّض الشخص للاتهام والعقاب.. إلا أنه وبعد عامين فقط قامت أهم المستعمرات البريطانية، وهي الهند، بسنِّ قانونٍ يعاقب ويجرِّمُ المثلية الجنسية! وبالرغم من عدم وجود أي نصٍّ دينيٍّ لدى الديانة الهندوسية بخصوص تجريم أو تحريم العلاقات المثلية الجنسية _عكس الديانات الإبراهيمية_ إلا أن ذلك التشريع مازال معمولاً به حتى الآن! و بالرغم من انفصال بنجلاديش وباكستان عن الهند البريطانية، إلا أنهم ورثوا نفس التشريع عن الحقبةِ الاستعمارية واستمرّ العمل به..
أما في مصر، فقد اتّفقت المؤسسات الدينية _الأزهر والكنسية القبطية الأرثوذوكسية_ على حرمةِ ما أسموه "الشذوذ الجنسي"، ورفضوا تسمية "المثليّين"، واعتبرَه شيخ الأزهر "مرضاً"، ورفضت الكنيسة تماماً الاعتراف بحقوق ما وصفتهم بـ"الشواذ" بل وذهب أحد أعضاء المجلس المِلّي إلى التصريح بأن "الشواذ يستحقُّون الموت"! إذاً يبدو هنا أن المسلمين والمسيحيّين وحتى الهندوس في المستعمرات البريطانية السابقة قد اختلفوا على من منهم يستحق الرحمةَ الإلهية، ومن منهم سيسبق إلى الجنة أو الجحيم! لكنهم اتّفقو أخيراً على رفض السلوك المثلي ووجوبِ عقابِ فاعلِيهِ!
إذاً من غير العجيب اتّجاهُ معظم الدول الأفريقية غير الخاضعة للسلطة الدينية بشكلٍ أو بآخر للتخلُّص من الموروثِ القانونيّ الاستعماريّ المشوّه بخصوصِ المثليّة الجنسية.. ففي عام 2015 دعا وزير الصحةِ المغربيّ إلى إلغاء تجريم المثلية، وتبعهُ التونسي راشد الغنوشي قائد حركة النهضة المحسوبة على التيّار المحافظ في دعوتهِ لإلغاء تجريم المثلية الجنسية ورفضه التلصُّص على الحياة الخاصّة للأفراد! أما عن جنوب أفريقيا فقد سبقت الجميعَ بالتمرُّد ورفض كل ما تركَهُ الاستعمار من نظام فصلٍ عنصريّ وقوانين تمييزية ضد الأقليات وسمحت بزواج المثليّين! كذلك حال معظم دول وسط وغرب أفريقيا التي ألغت العقوبات بحق المثليين، لتتفرّد بعض دول الشمال والشّرق بالموروث القانونيّ الاستعماري بعقاب المثلية!
نذكر هنا اعتراف وتصريح رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي في أبريل 2018 بندمها الشديد على الموروث القانونيّ بتجريم المثلية في المستعمرات البريطانية السابقة، ودعوتها لإلغاء تلك القوانين! وكأنّ المصدر الرئيسيّ للتشريع في بلادنا المنكوبةِ ليس الكتب المقدسة، ولا الموروثَ التاريخيّ والثقافي، بل هي مخلَّفاتُ حقبةِ الاستعمار البريطانيّ كما وصفت خليفةُ المستعمرين بنفسها!