وثيقة:لا عمل غير المهمات/ين: إقتصاد الظل للنساء النوبيات في قرى التهجير
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | منّة آغا |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مجلة كُحل لأبحاث الجسد والجندر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://kohljournal.press/ar/node/182
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | http://archive.is/wQTDy
|
هذه الوثيقة هي مقالة من العدد الثاني من المجلد الخامس لمجلة كحل
1. مقدمة
يتكون اقتصاد الظل من صغار التجار/التاجرات، البائعين/ات في الشوارع، الخدمات السريعة والبسيطة، وغيرهم/ن من المجموعات شبه العاطلة عن العمل والمتواجدة في البيئة الحضرية (منظمة العمل الدولية 1972). ويعتبر اقتصاد الفقراء، حيث يشمل فقراء/فقيرات المدن، كسكان الأحياء الفقيرة والعشوائيات في البلدان النامية (موسر 1978). في هذه الورقة، أقارب اقتصاد الظل كشكل من المقاومة الجندرية في وجه أنظمة الهيمنة في القرى النوبية في مصر بعد التهجير، وأبحث في دوره في مواجهة السلب الجندري والمكاني والاقتصادي.
أتفحص مساحات تهجير النساء النوبيات واقتصاد الظل الخاص بهن، من خلال عدستهن/وجهة نظرهن؛ أحاول تفسير هذا الاقتصاد المادي والاجتماعي والعاطفي، المحذوفة والمغيبة قيمته من قبلهن وكيانات الدولة في الوقت ذاته. فتغدو مهمتي الأساسية سد الفجوة بين المرمز والمرئي. لأن هذه الظواهر تختفي غالبًا بفعل الدخلاء في المستوطنات التي بنتها الدولة، والتي يسميها النوبيون/ات تهجير، للتعبير عن رفضهم لتسمية الدولة: "نوبة الجديدة".
عشت حياة مزدوجة، كوني مهاجرة نوبية في القاهرة: من جهة، حاولت أن ألعب دور امرأة متعلمة من الطبقة الوسطى، مستعينة بتعليمي العالي ولكنتي المصرية. ولكن، من جهة أخرى، شوشت هويتي النوبية الحدود بين القرية والمدينة. لطالما نبهتني عائلتي مشددة على الاختلاف بيننا وبين القاهرة، وهذا بالفعل ما رأيته في شوارع القاهرة ونزعاتها العنصرية (سميث 2006). كمعظم العائلات النوبية في المدن الكبيرة، طالبنا بالعودة للانتماء إلى قريتنا الأم، وقضينا كافة العطل في مستوطنات القرية.
ومع الوقت، اكتشفت أن القرى لا تقل فعالية عن المدن. فالحليب الذي أشتري من متجر في القاهرة يتساوى في قيمته مع الحليب الذي تبيعه وفاء، المرأة النوبية التي ترسلني جدتي إليها لإحضار الحليب. وعندما عرفت أن وفاء لا ترى فيما تفعله عملًا، ولا تعتبر عاملة، أدركت على الفور اتساع الفروقات بين البيئتين، فلاحظت شكلًا من أشكال اللاعدالة الجندرية.
يتيح لي تموضعي المزدوج قراءة الرموز غير المرئية لتجارب النساء النوبيات اليومية، واكتساب المعرفة حول نظام يعمل على أطراف نظام مهيمن. تنعكس هذه الازدواجية في منهجية هذه الورقة: جزء منها اثنوغرافيا شخصية، والآخر مقابلات، أنطلق من تجربتي في قسطل، وأيضًا من قصص وروايات نقلت إليّ شفهيًا بالطريقتين الرسمية وغير الرسمية. كباحثة نوبية، أخصص مواردي الأكاديمية كحلقة وصل بين نساء النوبة ونضالاتهن ونساء تشبههن في مناطق أخرى. والأهم، أسعى إلى وضع إنجازاتهن في المكان والاقتصاد في إطار المقاومة والصمود في وجه التهجير الجغرافي والدلالي.
2. التهجير النوبي
تهجّر/ت النوبيون/ات منذ بداية القرن العشرين. وقد أغرق خزان أسوان وتمدده المتزايد لاحقًا مناطق شاسعة من الأراضي النوبية، وتحديدًا الزراعية منها. ألحق بناء السد الضرر باقتصاد النوبة منذ 1902: أدى إلى الهجرة المتفشية والممأسسة لعمالة الرجال. أما النساء، فتُركن لسد ثغرة العمل التي خلفتها هجرة الرجال. كما ألقيت على عاتقهن مهمة حفظ التقاليد والثقافة والهوية النوبية (أرمغارد غو-غراور 2018). بلغ التهجير النوبي ذروته مع بناء سد أسوان العالي، الذي اعتبر من سمات الدولة المصرية الحديثة.
بحلول العام 1963، هجرت دولة ما بعد الاستعمار 50000 عائلة نوبية (فيرنيا 1963). وقد شددت تقارير البنك الدولي والبعثة الدولية للسدود على الأثر الاقتصادي السلبي للسدود على حياة الناس المتأثرين/ات بعمليات التهجير وإعادة التوطين الناجمة عن التنمية (البعثة العالمية حول السدود 2000). هذا يفضح وعود الحداثة والازدهار التي منحتها خطط التهجير وإعادة التوطين الناجمة عن التنمية للمهجرين/ات، خاصة أمام الواقع الملموس للنساء المتكبدات العناء الأكبر في معظم الأحوال، ومن بينهن النساء النوبيات في مصر، كما يظهر التقرير ذاته، وكما هو موثق في أدبيات التهجير (شوا 2013؛ ويست 1995؛ كوك 1996؛ ديويت 2000).
في حالة النوبيين، ظهرت تأثيرات عمليات التهجير والتنمية الناجمة عن التنمية على النساء قبل استبعادهن ومنذ المسارات التشاركية الأولى. بالفعل، بدأت النساء النوبيات تفقدن مواقعهن المادية خلال المراحل التحضيرية لتهجيرهن. ماتت الحيوانات والدواجن في الحجر؛ وما بقي منها واجه مصير الموت المؤكد نتيجة النقص الحاد في الطعام في المستوطنات. كان كل بيت يملك بعض الأبقار والماعز والأغنام والدجاج – وهي موارد اقتصادية يعتبرها آلان هورتون (1964) ثروة بالنسبة للنساء النوبيات، خاصة في المناطق التي فقدت أراضيها الزراعية نتيجة تمدد خزان أسوان. ومع خسارة الدواجن، فقدت النساء ورقة تفاوض اقتصادية جوهرية.
3. إشكالية الاقتصاد الرسمي
لم تحقق إعادة توطين النوبيين/ات في مصر الرخاء الاقتصادي الموعود. لا سيما أن النساء النوبيات تكبدن خسائر اقتصادية هائلة. ففي السنوات الأولى للتهجير اضطرت النساء إلى بيع صيغتهن لتلبية الحاجات المعيشية وإستكمال تجهيز البيوت غير المنجزة التي قدمتها الحكومة المصرية. كما فقدت النساء سيطرتهن على جزء كبير من الأراضي لأسباب بيروقراطية: لم يسمح للنساء قبل الستينات بالحصول على وثائق ثبوتية في مجال تملك الأراضي. فأصبحت ملكيتهن للأراضي أمر متعارف عليه بشكل غير رسمي، وبالتالي، لم تعترف به الدولة خلال عمليات التعويض.
عملت تدخلات الدولة المتزايدة في النشاطات الاقتصادية الأساسية للنوبيين على إعطاء مفاتيح الاقتصاد الزراعي إلى الرجال. حيث خُصصت التمويلات المبكرة للتنمية لدعم نظام زراعي صمم حصريًا للرجال، من خلال برامج تدريبية وتمويل معدات (محجوب ١٩٩٩)، متذرعة بحجة غير معلنة مفادها أن الثروات سوف تتدفق إلى النساء والأسرة. بالإضافة إلى ذلك، سلب التحول من النخيل والتمور إلى قصب السكر المعنى من الاقتصاد ودلالته التي تجلّ النساء. بالفعل، كانت النساء النوبيات شريكات حقيقيات في اقتصاد شجرة النخيل، ولكنهن جردن أيضًا من مصدر آخر للثروة. تشكل إدارة الدولة الحصرية اليوم واحتكارها لمحاصيل قصب السكر، وسيطرتها على المبيدات الحشرات وإمدادات السماد، بالإضافة إلى الامكانيات المحدودة لتوسيع الأراضي في قرى التهجير، عوامل تساهم في انخفاض دخل الرجال النوبيين المعتبرين المعيلين الرئيسيين للأسرة النوبية.
لم تكن المصاعب الاقتصادية التي واجهتها النساء النوبيات غريبة على تجربة إفريقيا بعد الاستعمار. لقد كشفت التجربة مرة أخرى، فشل دولة ما بعد الاستعمار القومية وتطلعاتها الحداثوية في تقديم النمو الاقتصادي لضحايا مساعيها التنموية. وفي ظل هذا النظام، نما الاقتصاد غير الرسمي، وانتشر العمل غير الرسمي والعفوي والأجور المتدنية؛ فوجد غالبية سكان أفريقيا أنفسهم/ن أمام نتائج كارثية أبرزها فقدان أراضيهم/ن، عدم الاستقرار في العمل، ومعيشة متدهورة (تسيكاتا ٢٠٠٩)؛ كما أضعف التحول نحو اقتصاد السوق المركزي أنظمة الإنتاج التقليدية (بريتوام ٢٠٠٦). وبالتالي، اضطر النوبيون/ات إلى التكيف مع حياة جديدة تكن مناسبة لهم/ن، بل ساهمت في تهميشهم/ن وحرمانهم/ن.
ومع ذلك، شكلت النساء النوبيات مساحاتهن الخاصة، أولًا من خلال الالتحاق بالتدريب المهني، ثم عبر استلامهن وظائف حكومية، عملًا بشروط الدولة الاشتراكية المصرية بعد الاستعمار، والتي تقضي بتشغيل النساء في قواها العاملة. تظهر المقابلات التي أجريت في السبعينات حسًا بالتقدم والمساواة بين الموظفات النوبيات (فيرنيا ١٩٨٧). ولكن، اتضح في السنوات اللاحقة عدم استدامة ما اعتبر نظريًا يوتوبيا ماركسية نسوية: أصبح مصدرًا غير كافيًا للدخل، بحيث لم تعد تتناسب هذه الوظائف المحدودة إلا مع نسبة ضئيلة فقط من النساء النوبيات.
مؤخرًا، تراجعت مشاركة النساء في قطاع العمل الرسمي بشكل متزايد مقارنة مع الرجال. وقد ساهم غياب مشاركتهن المرئية في القطاع العام والمجالات الاقتصادية القابلة للقياس في تعزيز النظرة النمطية إلى النساء المسلمات كغير فاعلات ومستبعدات وغير مهتمات بالشؤون الاقتصادية. هذه المفاهيم صحيحة إلى حد ما، فمشاركة النساء النوبيات في المجالات العامة محدودة نتيجة الايديولوجيا الدينية. ولكن، النساء النوبيات منخرطات بشدة في الاقتصاد غير الرسمي، الذي يظلل البنى الاقتصادية المصرية المؤدية إلى معدلات بطالة مرتفعة وعزل اقتصادي. بعبارة أخرى، تمكنت النساء من ابتكار طرق لحل مشاكلهن الاقتصادية بشكل غير رسمي.
يرتبط تفوق النساء في اقتصاد الظل والنجاة هذا بتاريخ التحضر الاستعماري (أكيامبونغ وأغيي-منساه 2006). شجع التحضر المتزايد، الذي تبنته دول ما بعد الاستعمار الطموحة سيطرة عمالة الرجال، بهدف الانتقال إلى المراكز الصناعية والإدارية. تسبب هذا المنطق، بالإضافة إلى قطاع التعليم الرسمي في تهميش مشاركة النساء في الاقتصاد، بينما تؤدين الوظائف الحساسة لانجاب قوة العمل: فأصبحت تجارة البضائع والخدمات خيارًا جذابًا، وسيطرت النساء في بلدان وسياقات متعددة على هذا النطاق من الاقتصاد غير الرسمي (المصدر ذاته).
4. الاقتصاد الآخر
"نشتري هذا الخبز من جارتنا؛ إنه مشروع تقوم به من المنزل... هي لا تعمل ولكن زوجها موظف في مركز زراعي". هكذا أجابتني قريبتي عندما سألتها عن مصدر خبز "الذرة المخمر" في قسطل، إحدى القرى التي تم نقلها على إثر إنشاء السد العالي في العام 1960، وحيث أمضيت معظم فصول الصيف. تغيب النشاطات غير الرسمية التي تسعى إلى "زيادة بعض المدخول" إلى الأسرة، كعمل بيع الأغراض "البسيط"، عن محادثات النوبيين/ات في المستوطنات في قسطل حول العمل والنساء. وعلى الرغم من كثرتها وتشابهها، لا تعتبرها النساء النوبيات أو محيطهن الاجتماعي عملًا. ولكن، تشير الدراسات الميدانية في قسطل (2016) إلى غير ذلك: فبعض هذه الأعمال تولد دخلًا ثابتًا وهي ضرورية لاقتصاد الأسرة.
من جهة أخرى، فقد الرجال النوبيون اهتمامهم بقطاع الزراعة الذي تهيمن عليه الدولة، وباتوا يفضلون الهجرة سعيًا وراء العمل المأجور في المراكز الحضرية في القاهرة، خاصة في الخليج. أدى اقتصاد الدولة إلى استمرار الهجرة التي كانت ممأسسة في الأصل في المجتمع النوبي قبل إعادة التوطين. تخبرني سيدة، وهي امرأة نوبية في العقد السابع من عمرها: "كذبوا علينا؛ أخبرونا أن قرانا ستحظى بكل شيء وأن رجالنا سيعودون"، مشيرة إلى وعود الدولة بأن إعادة التوطين ستضع حدًا لشتات الرجال النوبيين. ولكن، أدت هجرة الرجال المستمرة بحثًا عن العمل المأجور، مرة جديدة، إلى جعل النساء الأكثرية العظمى لسكان قرى إعادة التوطين.
شهدت القرى المهجرة بوصفها مناطق ضعيفة اقتصاديًا، ارتفاعًا تدريجيًا في معدلات البطالة منذ انتقالها إلى المستوطنات الجديدة. لذا، حولت النساء جزءًا من بيوتهن إلى أماكن عمل. في بعض الحالات، قامت بعض النساء بإدارة مشاريع معقدة لأعمال غير مرئية. يرتبط اقتصاد الظل غالبًا بالنشاط الإجرامي والسوق "السوداء" (شنيدر وانستي 2013). ويشكل، في حالة المجتمعات المهمشة في مصر، عملية يومية لكسر هيمنة السلطة. لا تسعى النساء إلى الحصول على إقرار بهذا العمل وتأثيره على الاقتصاد الأشمل للقرية، ولا يعتبرن أيَضًا أنهن عاملات. ومع ذلك، تسيطرن على قطاع غير مرئي من الاقتصاد النوبي وتتحكمن بإدارته.
درست الأنتروبولوجية آن م. جينينغز (1998) النساء النوبيات في غرب أسوان، وهي قرية نوبية تهجرت على إثر تشييد خزان أسوان. وافترضت أن العقلية الأبوية التي تعين الرجال كمعيلين أساسيين، تتحمل مسؤولية الترويج لمعايير اقتصادية نمطية حول عمل النساء. كما قدمت جينينغز تحليلًا لاقتصادات الظل للنساء النوبيات، واصفة هذه الاقتصادات باسترتيجيات النجاة للنساء المهمشات (45-59).
ساهمت المسافة – بمعناها الحرفي والمجازي – بين المستوطنات النوبية وكيانات الحكم المركزي في مصر في عدم مرئية اقتصاد الظل النوبي، والعمل في ظل غياب الحوكمة المركزية، والرقابة البوليسية، والجباية الضريبية. ولكن، تؤثر التغييرات على مستوى الاقتصاد الواسع النطاق على الأعمال الصغيرة بشكل ملحوظ، وتحول اقتصاد الظل إلى اقتصاد نصف دوري. هذا الأمر ضاعف اهتمام النساء النوبيات بأخبار الاقتصاد المصري، حيث يرتبط ويتأثر اقتصاد الظل بالاقتصاد الأشمل والمنظم للدولة. وقد سمعت كثيرًا المناقشات والتعليقات من النساء صاحبات الأعمال اللواتي قابلتهن في العام 2006، حول قرار الحكومة بتعويم الجنيه المصري، وتسببه بالتضخم والارتفاع الملحوظ في الأسعار من دون أي زيادة في المداخيل بين النوبيات المهجرات، مترافقًا مع زيادة تبلغ ثلاثة أضعاف في أسعار المواد الأولية والأساسية.
يرفع التضخم المتفشي كلفة المعيشة باستمرار، مما يفاقم مشكلة النقص في فرص العمل المدفوع. فيصبح العمل غير الرسمي في ظل هذه الظروف – وهي ظروف ذات بعد عالمي في يومنا هذا – الوسيلة الرئيسية للبقاء اليومي. فالاقتصاد غير الرسمي، عالميًا، هو عندما تعمل النساء مقابل المال. يتموضع عمل النساء النوبيات غير الرسمي في اقتصاد الظل ضمن علاقاتهن الشخصية وعملهن العاطفي، وترسخهن في نسيج مجتمع المستوطنات. لذا، يعتبر اقتصاد الظل غير الرسمي هذا، بالدرجة الأولى، اقتصاد رعائي. أستخدم تعبير "غير رسمي" بمعناه التقني فقط، للإشارة إلى الاقتصادات الواقعة خارج نظم السيطرة المركزية، أو الدولة. ولا أعتبر إطلاقًا هذا النظام ككيان غير منظم: لأن اقتصاد الظل، بالفعل، يملك شكلًا، على الرغم من تصنيفه بالاقتصاد غير الرسمي.
تلمح النساء اللواتي قابلتهن في هذه الدراسة إلى اتفاق ضمني فيما بين الأعمال الموجودة في منازل، لخفض أسعار البضائع التي تعتمد على المواد الأساسية المتأثرة بالتضخم. فارتفاع الأسعار، وخاصة أسعار الطعام، تسبب بفورة، أو بالأحرى عودة إلى المنتجات الغذائية المنزلية. تتطلب تربية الدواجن، مثلًا، رعاية يومية وغذاء ميسور الكلفة، مثل بقايا طعام الوجبات المنزلية – وهي مهام تندمج بشكل سلس في الحياة اليومية للنساء النوبيات. أما التعاونيات الأكبر، فبدأت بتوسيع مبادرات شبيهة، وتحديدًا لانتاج اللحوم. تعتبر هذه المبادرات المنتشرة على امتداد القرية الرجال والنساء معنيين/ات معًا بتأمين البروتين طوال السنة.
يساهم اقتصاد الظل الخاص بالنساء بخلق الثروة والحد من مشاكل الاقتصاد الأشمل. ولكن، رغم مساهمته الكبيرة في مدخول الأسرة، لا يزال عملهن خارج تصنيفات العمل، في حين تبقى بصمتهن في المجال السياسي العام في قراهن محدودة. ومع ذلك، وجدت ثلاث قيم مضافة لاقتصادهن، ترتبط بالموارد والحيز المحلي: أولًا، يعيد تعريف استخدام الوحدات السكنية التي بنتها الدولة؛ ثانيًا، يتخذ رأسماله من اقتصاد عاطفي ويوكده؛ ثالثًا، يحفظ الإرث "الثقافي النوبي" المغيب تمامًا عن الاقتصاد الكلي.
- عمل المنزل
إذا ما أحصينا النشاطات غير الرسمية، نجد أن 15 % من المنازل تمارس نشاطات اقتصادية دائمة من الداخل، مغيرة استخدام الأرض في بنية المستوطنات. فالخبز، تأمين الطعام، التعليم، الخياطة، بيع الثياب، تصفيف الشعر، الماكياج، ومستحضرات وعلاجات التجميل، هي جميعها نشاطات تجري داخل، وحول وعلى مشارف المجال المنزلي. غير اقتصاد الظل شكل عمارة البيت. بدءًا بأثاث البيت، كتحويل مكان إلى مطبخ تجاري، إلى زيادة الغرف لتستوعب بعض النشاطات، وصولًا إلى تقنيات العزل والحماية من الحرائق، مع مراعاة اتجاه الرياح وتغيرات الطقس.
ضمن هذا الاقتصاد، عدلت النساء وغيرت كليًا الوحدات السكنية المقدمة من الدولة. قامت بعص صاحبات الأعمال، بالإضافة للتغييرات الداخلية، بإضافة غرفة أو كشك إلى منازلهن لإضفاء سمات شبه عامة على المجال الخاص، افتراضيًا. أعادت هذه البنى المضافة إحياء استخدام وتصنيع مواد التسقيف، التي وجدها النوبيون أرخص، وأكثر جدوى من المواد الحديثة من الناحية التقنية. كما غذت البنى التقليدية المؤقتة لتراث العمارة النوبية، نظرًا للطابع المؤقت أو الموسمي لبعض الأعمال، الحاجة إلى عمارة قابلة للإزالة، مما ساهم بالنتيجة بحفظ تقنيات هذه العمارة. يؤسس الناس في قسطل غالبًا دكانًا أو متجرًا داخل منازلهم، بدلًا من الذهاب إلى وسط القرية لشراء الحاجات الضرورية كالشاي والمرطبات.[1] مثلًا، في واحد من الأحياء النائية في القرية، حولت إحدى العائلات شبابيكها المطلة على الشارع إلى شبابيك تجارية. وقد ساهم موقعهم بازدهار عملهم. ثم توسعت أعمالهم عبر إضافة كشك مجاور وتسقيفة ظل فوق تلك النافذة. استفاد الفلاحون من البنى المؤقتة للتسقيف التقليدي، ولكنهم مساهمتهم في القوى العاملة في تراجع مستمر. أما اليوم، ينخفض الطلب على التسقيف نتيجة تزايد توجه الشباب إلى الوظائف الحضرية، ما أحالها إلى صنعة آيلة للزوال. بيد أن الحاجات الجديدة التي أنتجها اقتصاد الظل، أعادت لهذه الصنعة دورها ومعناها.
تدير المرأة التي تصنع الخبز الذي تشتريه قريبتي مخبزًا صغيرًا في باحة مبنى الوحدة السكنية. حولت هذه المرأة أيضًا غرفة الضيوف إلى ورشة لصنع الملابس، وهي في الوقت ذاته تقوم، بمساعدة أطفالها، بإعداد وتحضير الطعام أثناء مشاهدة التلفزيون. ويبلغ مدخولها الشهري، حسب تقييمها، ضعفي راتب زوجها الحكومي المتواضع. ولكنها لا تعرف عن نشاطتها كعمل، بل كأشياء تقوم بها في المنزل. النسبة إليها العمل يتم بشكل "رسمي" وفي مكان "عام".
يتم التعامل تقليديًا مع جغرافية المنزل كمكان خاص، ما يجعله معرضًا للتحيز الجندري: يصبح المنزل علامة للنقاء البيولوجي. لذا، هو مكان لا يمكنه تجاوز المعيار اجتماعي (هيلد 1990). ولكن، في حالة الجغرافيا النوبية، وتحديدًا في قسطل، يغدو المجال المنزلي مكانًا يتيح اقتصادات أخرى. وبهذه الطريقة، يستدعي المجال العام إلى داخل المنزل، حينها، تسقط النظرية التي تفترض أن هذا المكان لا سياسي. على الرغم من اعتقادهن أن العمل لا يكون إلا في مجالات عامة رسمية، تجمع النساء النوبيات القدرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبيت التقليدي النوبي، وتحولها إلى وحداتهن السكنية المتواضعة لتعزيز قدراتهن.
- البنك العاطفي
يسمح اقتصاد الظل في قسطل، بوجود شبكات فعالة للقروض الصغيرة (الجمعية): تطلب صاحبة الفكرة التمويلية من المقربين/ات منها، معظمهم من النساء، الانضمام إلى اتحاد مالي عبر دفع قيمة موحدة، أسبوعيًا أو شهريًا، أو كل أسبوعين أو غير ذلك (حبوب 2018). وهكذا، يبحث الناس عن اتحادات مالية تتناسب مع حاجتهم/ن الاقتصادية وقدراتهم/ن. وعندما يتم الاتفاق على الأطر الزمنية، تعين المجموعة أحد /إحدى أفرادها لإدارة الموارد المالية (البنك)، تلعب هذا الدور إجمالًا امرأة موثوقة. يجمع المدير/ة /المسؤول/ة عن البنك ويوزع التمويل وفقًا للوقت المتفق عليه، ويعتمد على أسلوب القرعة لتحديد الشخص الذي سينال الدفعة. عادة، تكون الحاجة معيارًا للحصول على المال وتتخطى قانون الاختيار بالقرعة، حينها يتوافق المشاركون/ات فيما بينهم/ن ويتخذون القرار – بالتنسيق مع المدير/ة – بالدفع أولًا لمن لديه/ا حاجة ملحة. ينضم الناس المرتاحون ماديًا إلى هذا النوع من الجمعيات على سبيل الخدمة الاجتماعية والواجب، ويقبضون عادة في آخر الدورة.
إنه بنك الفقراء "حيث لا يتخزن المال لفترة طويلة، بل ينتقل بسرعة بين الأيادي، ملبيًا بذلك حاجات الاستهلاك والانتاج في الوقت نفسه" (بومان 1983). هذا النظام المصرفي لا يقوم فقط على تبادل العملات؛ بل يعتمد أيضًا على تبادل الرعاية والشرف. تروي حبوب (2018) قصة فطوم جعارة، امرأة في العقد الثامن، تدير جمعية منذ العام 1970، في قرية نوبية مهجرة في توماس وعافية، انتقلت الآن إلى إسنا التي تبعد 55 كيلومتر عن لقصر. في العام 1970، كانت المنتسبات إلى الجمعية تدفعن ربع جنيه شهريًا. أما اليوم، ارتفعت قيمة المساهمة الشهرية إلى 1000 جنيه للشخص الواحد. وتمثل جمعية فطوم جعارة واحدة من بنوك عديدة تواجدت في كافة القرى المهجرة وساعدت على تمويل عمارات وأعراس وسفرات ولوازم مدرسية وغيرها، رغم انقطاع علاقات سكانها مع البنوك الرسمية أو الكبيرة.
بالإضافة إلى ذلك، قامت الأعمال في منازل قسطل أيضًا بإطلاق دورات تمويلية خاصة بها، وتحديدًا تلك التي تبيع بضائع موسمية أو مكلفة نسبيًا، كالسجاد والبطاطين. أتاحت استراتيجيات الحلول المالية الخلاقة هذه، تمويل بنى المؤسسات الصغيرة، وساعدت الناس على تخطي الأوضاع المالية الصعبة، عبر بيع أعمالهم/ن بالدين أو بالتقسيط. هذه النظم المالية باتت ممكنة لأن النساء النوبيات استثمرن بالثقة التي يملكن، والرعاية، والألفة لإعادة تعريف أدوار البيع والشراء، معتمدات بشكل رئيسي على مجالهن المنزلي لإقامة معظم نشاطاتهن.
- اقتصادات الحفظ
مع خسارة الأرض القديمة، اختفت المواد الخام، كأنواع معينة من شجر النخيل. بالنتيجة، فقد النوبيون/ات حرفًا وتجارات اعتمدت على هذه المواد لصنع التحف وحافظات الطعام. في الوقت ذاته، فرض مكان التهجير الجديد تغييرًا في النمط والأداء اليوميين. ولكن، حاول النوبيون/ات حفظ ثقافتهم من خلال بناء مشاريع اقتصادية تتركز حول الممارسات التقليدية. ففي الاقتصاد غير الرسمي، تعتبر النساء النشاطات النسائية المدرة للدخل في معظم الأحيان امتدادًا لأدوارهن التقليدية (تسيكاتا 2009)، مما يعني أن اجتهادهن لحفظ هذه الحرف هو أيضًا وسيلة لحفظ أدوارهن وسلطتهن الجندرية التقليدية.
نكتشف عندما نراقب النشاطات البلدية/الأصلية للنوبيين/ات، أن حيز تداولها يكون فقط في المجال غير المرئي. مثلًا، يستغرب المنتج المصري الأطعمة التقليدية، في حين تضيق السوق النوبية لناحية لتقديم منتج جديد. لذا، تقع مهمة حفظ الطعام النوبي التقليدي وصناعة الطعام على عاتق النساء النوبيات. ومن أجل إتمام مهمتهن، طورن أيضًا أدوات المنتج وعملية التحضير، ووجدن مكانًا للاستخدام والقيمة وتطوير الحرف التي شكلت جزءًا من الإرث النوبي.
وفر وجود المنتجات النوبية الاستمرارية للممارسة الثقافية النوبية في المستوطنات والشتات. في إحدى الحالات، تعاونت امرأتين لإعادة تشغيل بيتهما الموروث كمصنع للشعيرية، غير أنهما أبقتا على بنية المنزل كما هي، كتعبير عن احترامهما للمالكين الأصليين. وقد طبقتا بشكل فعال ما تسميه دراسات الحفظ الحديثة "إعادة استخدام متكيف". ومع ازدهار عملهما، اتشرت الشعيرية وأصبحت تباع في المدن الكبيرة؛ يجلس النوبيون/ات في الشتات في حلقة ويتشاركون طبق الطعام تمامًا كما فعل/ت أجدادهم/جداتهن قبل التهجير، لاستعادة المشهد النوبي بامتياز. خلال هذه النشاطات، وبسبب تلك المصانع، تجد الثقافة النوبية حيزًا للازدهار، وخاصة في شبكات الثقة والرعاية الاقتصادية النامية.
5. نقاشات حول العمل، رؤوس الأموال، والأخلاق
ينقسم اقتصاد الظل جندريًا على المستوى المكاني، وعلى مستوى الحدود الاجتماعية أيضًا. ومع أن الدراسات تثبت انتشار العمل في المنزل بين الرجال والنساء، يبدو واضحا أن النساء تعملن من البيوت أكثر من الرجال (كازيمبايا سينكوي 2004). وبالتالي، تتعرض النساء بشكل أكثر حدة في الاقتصاد غير الرسمي إلى صعوبات بيئية واجتماعية وعملية، فيما يخص مكان سكنهم؛ فهن خط الدفاع الأول في مواجهة التغيرات البيئية التي تؤثر على محيطهن المادي، كما تفرض عليهن مواجهة الانتزاع المنظم للبيت عن السياسة. ويتوجب عليهن ممارسة أدوار مختلفة تتضمن في الوقت ذاته مسؤوليات مالية ورعائية، كتربية الأطفال.
على الرغم من حيازة الاقتصاد غير الرسمي لقسطل على قيمة مضافة قابلة للقياس الكمي، ومع أن النساء تلعبن دورًا في الحد من تحديات الاقتصاد الأشمل، يبقى العمل المستثمر في هذا الاقتصاد غير مثمن ومغيب. يولد اقتصاد النساء النوبيات اقتصادًا مستقرًا وضروريًا لغالبية الأسر. ولكن، عندما لا يتم اعتباره "عملًا"، تذوب غلاله في اقتصاد الأسرة، من دون أن يمنح النساء أي ثروة مادية، ما يدفعنا إلى طرح إشكالية أنتولوجية وتصنيفية "للعمل". فالتعريف الاقتصادي للعمل يستثني نشاطات النساء، منذ أعمال آدم سميث "ثروات الأمم"، في العام 1776، والذي يعرف فيه الاقتصاد كانتاج للمصلحة الشخصية، والعمل كجهد نبذله لإشباع هذه المصلحة الشخصية، مقصيًا بذلك نشاطات النساء واقتصاد الرعاية. تسأل الكاتبة النسوية كاترين ماركال من خلال عنوان كتابها "من طبخ عشاء آدم سميث؟"، مشيرة إلى القصة الشهيرة بأن سميث عاش طيلة حياته مع والدته، التي كانت، بطبيعة الحال، توفر له الرعاية.
تبقى قيمة العمل الرعائي، سواء كان محدودًا في نطاق العائلة النووية أو ممتدًا إلى المجتمع، كما في حالة المستوطنات النوبية، خاضعة لعقد النظام الأبوي. يواجه هذا الشكل من العمل المنزلي والعاطفي سلبًا من تصنيفات "العمل"، بما يتضمن من دلالات حول الشرف لجهة المساهمة في بناء المجتمع الأكبر وقدرته على خلق قيمة مضافة. أعتقد أن هذا السلب صُمم للحفاظ على دور جندري ونظام قيمي يحد ممارسات النساء ويختصرها بوظيفة التكاثر والإنجاب (للبشر والقيم)، لتعزيز حلقة أكبر وأهم من "الانتاج". وبالتالي، يسعى لإبقاء أنوثتهن في مكانها حتى لا تقلق النظام الأشمل.
أركز في تحديد الإشكالية على استثناء الرعاية من العمل، ولكني أرى أيضًا قصورًا في تقدير حدود هذه الإمكانيات. يرتبط العمل الرعائي المتعارف عليه غالبًا برعاية البشر-رعاية الأطفال، رعاية المسنين/ات، رعاية المعوقين/ات. ولكن، يتضح من خلال هذه الحالة، أن العمل الرعائي يتسرب إلى ويضيف قيمة على جوانب أخرى للحياة، كبيئة البناء. بعبارة أخرى، الرعاية هي صنع المكان، مجازيًا وماديًا. يمنح العمل الرعائي في العقد الاجتماعي المحلي للنوبيين/ات قيمة مضافة؛ مثلًا، في اقتصاد شجر النخيل، يملك شجرة النخيل الواحدة عادة ثلاثة أشخاص: صاحب/ة الأرض، مانح/ة البذرة، والشخص الذي يعتني بالشجرة، أي امرأة في الغالب. كان العمل الرعائي جزءًا لا يتجزأ في اقتصاد شجر النخيل، ومصدر ثروة وملكية، على عكس اعتبارات العالم "الحديث" التي لا ترى قيمة في العمل الرعائي.
من الخطايا الأخرى للحداثة، الوريث الشرعي للتنوير _دوان 2014)، توليد فكرة "التخصص المهني". حرم التخصص العمال حق الاعتراف بعملهم، إلا إذا تم قبولهم واعتمادهم من النظام. مثلًا، في خضم مأسسة العمارة، أصبح التقدير حقًا حصريًا للمتدربين/ات في مؤسسات. أصبح القرن العشرون "عصر تعطيل المهن" وفقًا لإيفان إيليش (1977)، لأن التخصص المهني الممتد على هذا الاتساع من الحياة/العمل ساهم في إعاقة وتعطيل غير المتخصصين/ات ومخيلاتهم/ن. ألوم هذه الدوغمائية الحداثوية على تجاهلها عمل النساء النوبيات المربح: فالمؤسسات الحديثة في مصر ما بعد الاستعمار حرمت الخيال الثقافي النوبي من تسمية مفهوم اقتصاد الظل، عبر احتكارها لحقوق تحديد وتشريع المهن.
يعتبر اقتصاد الظل، كما ذكرنا سابقًا، تدفق نصف دوري لرأس المال، أو بالأحرى رؤوس الأموال. يتم استخدام تعبير رأس المال هنا بالمعنى الماركسي، بمعنى أنه ينمو نتيجة عملية تداوله. يستند استخدام رأس المال بصيغة الجمع (رؤوس الأموال) إلى مقاربة بورديو، حيث تطرح عدة أنواع من رؤوس الأموال التي تحتسب من أجل إدخال الفرد في نظام اجتماعي. بالنسبة لبورديو، (1989)، يرتبط التأثير الاجتماعي لرأس المال بعوامل اجتماعية، ناجمة عن موقع الفرد في النطاق الاجتماعي، أو حجم الموارد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي يملك، بالإضافة إلى مسار تجربته/ا الشخصية. كما يطرح تصنيفًا دلاليًا لرأس المال: فرأس المال الاجتماعي يعني انتماء الفرد إلى شبكة اجتماعية أو شبكة داعمين/ات، خدم، أسرة؛ أما رأس المال الاقتصادي فهو ملكية الثروات المادية، الحصص، المخازين؛ في حين يشمل رأس المال الثقافي المؤهلات العلمية، الكاريزما، والتميز في مجالات الفن والعلوم. تعتمد رؤوس الأموال هذه على عقود الأخلاق الممأسسة التي تحدد قيمتها المضافة بالنسبة للشبكة.
يستبعد هذا التصنيف الجانب العاطفي، ما استدعى لاحقًا إضافة نسوية على ثلاثية بورديو، نظرية رؤوس الأموال (نووتني 1981؛ رياي 2000؛ رياي 2004؛ سيلفا 2007). أعتقد أن تجاهل بورديو للجانب العاطفي في نظرية رؤوس الأموال تمثل خطأ في المعرفة والنظام الاجتماعي؛ وتأسر الجانب العاطفي ضمن تصنيف العمل "الممنوح"، كالعمل الرعائي، الذي، كغيره من الأعمال العاطفية، لا يقدم لمانحه/ته أي شيء بالمقابل. هذا يناقض مفهوم رؤوس الأموال، الذي يفترض تحول شكل من أشكال راس المال إلى آخر (بورديو 2011). وبالتالي، يمنع نزع القيمة عن رأس المال العاطفي تحوله إلى رأس مال اجتماعي، تمامًا كما يحجب الشرف عن النساء عبر عدم الاعتراف بنشاطاتهن كعمل.
تسببت النظم الاقتصادية المركزية التي جلبها الاستعمار، كما تناقش أكوا بريتووم (2006)، بتغييب عمل النساء عبر تخريب العلاقات التقليدية بين الأسر والمجتمعات وحدود السوق، ما شوه تعريف الهويات الجندرية ضد مصالح النساء. في حالة النوبيين/ات بعد التهجير، نجحت النظم الاقتصادية الخاضعة لسيطرة الدولة بالتخلص التدريجي من القيمة العاطفية التي كانت حجر الأساس في الروحية النوبية، وعاملًا محددًا للأدوار الجندرية النوبية. ولكن، تغيرت هذه العقود الجندرية مع تغير مؤسسات القوة. كما تناقش باتلر (1988)، الأدوار الجدرية هي نتاج المصالح السياسية للحائزين على السلطة. لذا، يقاوم اقتصاد الظل النظام المركزي وتهميشه للنوبيين/ات ووظائف رفاههم/ن، ليستعيد ويعتمد على العقود الجندرية النوبية البلدية/الأصلية، التي تقدر العمل الرعائي والخدمة المجتمعية. بعبارة أخرى، تصنع شبكة الظل مكانًا يتيح الهروب من الأدوار الجندرية للمؤسسة السياسية الرسمية.
ولكن، كيف نصالح المرأة التي تستحضر العقد الجندري البلدي/الأصلي في نشاطاتها، مع من يقلص مساهمتها ويعتبرها غير مهمة؟ تفيد نظرية جوديت باتلر (1988) حول ممارسات الجندر، أن الجندر نتاج المصالح السياسية. يفرض على النساء النوبيات، في تهجيرهن، مواجهة مصالح متضاربة: تلك التي تنفع شعبهن ضمن إطار النظام المركزي (مثلًا ممارسة الأدوار الجندرية كما يحددها هذا النظام لتعتبر مستقلة ماديًا)، وتلك التي تبدو مفيدة للحاجة الاقتصادية (مثلًا البدء بمشروع أو إدارة جمعية للقروض الصغيرة). كنتيجة لذلك، تتنقل المرأة النوبية بين أداء جندري وآخر، وفقًا للظروف، مجسدة تناقضاتها الشديدة.
يمكننا الاستعانة بعمل الفيلسوفة فيرجينيا هيلد "أخلاق الرعاية" (2005)، للرد على النظام الأخلاقي العام. يدرك الإطار الأخلاقي الذي يقر بقيمة العمل الرعائي أن الاقتصادات لا تنتج عن قدرة المصلحة الشخصية وحدها؛ بل، بقدرة قوة الرعاية على انتاج اقتصادات وثروات، مثل ما فعلت النساء النوبيات المهجرات. بدلًا من اعتبار القانون والحكومة أو الاقتصاد عوامل مركزية للمجتمع، تعتبر أخلاق الرعاية أن تربية الأطفال وتنمية الثقة بين أعضاء المجتمع شؤونًا أكثر أهمية (هيلد 2005). وعلى الرغم من أن طروحات هيلد تقصد العمل الانجابي، لكنها قابلة للتطبيق على اقتصاد الظل النوبي، لأنها توفر نمطًا بديلًا تختلف فيه الأولويات. لذا، يصبح تدفق الموارد قابلًا للتحرك في اتجاهات مختلفة.
تتخيل هيلد عالما يعترف فيه علماء الاقتصاد بعمل النساء؛ فهي تؤمن أن هذا سيساعد "على التقليل من الأهمية المفترضة للإنتاج" مقابل الإنجاب، أو "العام" مقابل "الخاص"، أو الرجال مقابل النساء (2005، 136). لذا، يغدو الإقرار بقيمة عمل النساء في الاقتصاد اللامرئي واعتباره "عملًا"، أمرًا جوهريًا لازمًا لإحداث التغيير الجندري؛ لأن تصنيفه بهذا الشكل يضمن رأس مال ثقافي واجتماعي للنساء، وبالتالي القوة ليكن جزءًا من صنع القرارات الرسمية وغير الرسمية.
6. خلاصة
اقتصاد الظل النوبي هو اقتصاد رعائي، ويمكن تحديده ك "أعمال صغيرة النطاق تنفذ ضمن مفهوم السوق الأفريقي البلدي/الأصلي، وهذا يشمل تجمع تجار/تاجرات تربطهم/ن علاقات اجتماعية وأواصر متينة أساسها الصداقة، النسب والعرق" (كينيانوي 2014، 1). هذه المبادئ الأخلاقية قادرة على إضافة قيمة للمجتمع المهجر، كما تفعل النساء النوبيات – والرجال – في اقتصادهم/ن. ولكن تبقى النظرة المهيمنة على عدم رسمية الاقتصاد محدودة، نظرًا لسوء تمثيلها وفهمها لاقتصادات الرعاية في النمو الحضري.
باستطاعة اقتصاد الظل هذا إحداث التغيير في بيئة الأبنية ووكالتها. والأهم، أنه يساعد على إعادة تصنيف المكان بعيدًا عن المفهوم الذي وضعته الدولة، كما يظهر في نموذج الوحدات السكنية التي أصبحت مكانًا غير خاص. هذا الاقتصاد قادر أيضًا على حفظ العقد الاجتماعي، الذي من شأنه أن يحشد الموارد العاطفية نحو الصمود الاقتصادي، خاصة لجهة الحد من المشاكل على مستوى الاقتصاد الكلي. وأخيرًا، يساهم في الحفاظ على ما هو نوبي: فصناعة الطعام التقليدي تحفظ الذوق النوبي؛ وصناعة الأثوابي تحفظ الجمال النوبي.
اقتصاد الظل هو عمل، وهذا العمل مهم. فهو، بالإضافة إلى نشر المساهمات النوعية والكمية للنساء النوبيات بإنقاذ مجتمعهن من محن الرأسمالية، يشكّل فضاء للمقاومة وإنتاج القيمة في آن واحد، لذا، أنتمي إلى نسوية أنطولوجية – معرفية حول العمل، يكون فيها العمل عاطفيًا أيضًا، وقويًا ومتبادلًا بطرق مختلفة ضمن تنوع هائل للمؤسسات الثقافية.
الهوامش
- ↑ يعتبر الشاي والمرطبات من أكثر البضائع شراءً في البيت النوبي، خاصة في المناسبات التي تتضمن كثير من الزوار. توقم النساء عادة بإرسال أولادها إلى أقرب بائع/ة لشراء هذه المنتجات، التي تبقى على الحساب، ويدفع ثمنها لاحقًا في معظم الأحوال.