وثيقة:حكايات الإجهاض - الخلاص
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
العنوان | حكايات الإجهاض: «الخلاص» |
---|---|
تأليف | غدير أحمد |
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مدى مصر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.madamasr.com/ar/2017/10/24/feature/مجتمع/حكايات-الإجهاض-الخلاص/
|
تاريخ الاسترجاع |
|
الحكاية الثانية في سلسلة حكايات الإجهاض.
قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر
طبيب ومشرط، هذا كل ما احتجته في تلك اللحظة.. قليل من المُخدّر وقدر من النظافة، والكثير من المواساة. هناك في غرفة عمليات الولادة بإحدى المستشفيات الخاصة بكفر الشيخ، أغمضتُ عيني عمّا رأيته للتو؛ كان ابني ملفوفًا بكيس شفاف، يخفق قلبه ببطء أكثر كل ثانية، حتى توقف عن الحركة. وتوقفتُ عن الصراخ، وتوقَفَت أمي عن البكاء. وغبتُ عن الوعي.
رأيت الدم وتمنيت لو أني ظللت نائمة، حتى لا أعيش التجربة مرة أخرى في صحوي، وعشرات في كوابيسي. حين أفقت رأيتني أخبط رأسي في الحائط، ورأيتُ جلد أختي في أظافري مخلوط بدمائها. أمسكتها بقوة، لم تأتني قبلها. هي تبكي وأمي تصرخ ووالدي يبحث عن دكتور أبلغنا بعد بدء الإجهاض أنه لن يُساعدني إلا لو رأى رأس الجنين تخرج من الرحم، «حرام»، هكذا قالها، وهكذا حكم عليّ بأسوأ تجربة أشفقت فيها على نفسي وكرهتها في الوقت نفسه. تركني الطبيب من الواحدة ظهرًا إلى الحادية عشر مساءً، أقتل ابني بنفسي، وبنصف وعي استطعت معه إدراك الأحداث.
لماذا انتهى بي الحال هنا؟ أنا فعلت كل ما يجب فعله، طبقت كل ما قرأته. كل تعليمات الطبيب. كل ما وسعني فعله لأحافظ على الحمل. لماذا انتهى بي الحال وأنا أجهضه؟ مَرمية في مستشفى لا طبيب ولا تمريض. هذا رحمي، أنا أريد الحمل. لماذا يا رب؟
عدتُ بنصف وعيي إلى خمسة شهور مضت. إلى مطب في الشارع لم يره زوجي فاهتزت السيارة ووضعت يدي على بطني لأول مرة. كنتُ كالذي يربُت على كتف شخص مُرددًا: «لا بأس، أنت بخير»، انتبهت لما فعلته وابتسمت وقلت: «أنا حاسة إني حامل، هحلل بكره». في اليوم التالي قفزتُ فرحًا بعد نتيجة التحليل وأحمد لمعت عينيه من الفرحة. أنا حامل، رغم أني أجلت الحمل فترة، لكنها مفاجأة طيبة. أحببتها كما أحببت أحمد.
أسابيع قضيناها بين محال ملابس الأطفال وبين زيارات الدكتور لمتابعة الحمل. حرصت في كل زيارة أن أسمع نبض الطفل، وعرفت أنه ولد. مضيتُ أيامًا أقرأ له وأغني وأتحسسه.
تحمست وتخيلت زوجي يُدللني أكثر وأكثر. يُقبّل بطني بين الحين والحين. يُعد لي إفطارًا ذات يوم. اممم حسنًا، أحمد لن يُعد الإفطار، هذه تهيؤات. آه لو أنه فقط يتوقف عن طلب كوب الماء من المطبخ أو مُناداتي من غرفة الجلوس لإطفاء أنوار غرفة النوم. مؤكد ستُصبح حياتنا أكثر رومانسية.
خمسة شهور مرّت وأنا أجهز وأرتب للولادة. وفي يوم استيقظت على ماء بين فخذيّ. فورًا توجهتُ إلى طبيب أخبرني أن الماء المحيط بالجنين، تم فقده بالكامل تقريبًا. وأنه لا فائدة من استمرار الحمل، سيموت في كل الأحوال. ولكنه سينتظر رأي دكتور علم أجنة ليتأكد من التشخيص.
هذا الجنين سيموت. أجمع الطبيبان، وأعطياني تقارير طبية قالوا إنها تُبيح إجهاضي في أي مُستشفى، بما أني متزوجة، وبما أن هناك ضرورة طبية للإجهاض، لكن كلاهما شدد على أنه لن يُجهض لي بنفسه.
كلمات الأطباء ما زالت تتكرر داخلي: «الأولاني قالي بذوق وبشياكة: أنا ما بعملش إجهاض. والتاني قالها صراحة: أنا مش هعمل حاجة. طيب طمني، فهمني، أنا دي أول مرة ليّا. كان فيه إهمال. وكان فيه عدم شرعية. وكان في حاجات بتخليني أحس بالذنب وأنا كنت باقنع نفسي إن مفيش حاجة أحس بالذنب ناحيتها».
«كان نفسي أحتفظ بالبيبي لحد السابع وبعدها يدخل الحضّانة، بس ما لحقتش». أيام قليلة، وبدأت أفقد كميات أكبر من الماء المحيط بالجنين وباتت حالتي الصحية من سيئ لأسوأ، وارتفعت حرارتي. كل شيء يدفعني إلى الإجهاض. هذا الذي لم يكن خيارًا بل أمر واقع.
توجهت من القاهرة إلى كفر الشيخ لأكون بين عائلتي. وأعدتُ الكشف عند طبيب متدين، رغبة أخيرة مني في أن أسمع كلمة حرام. لم تفلح حيلتي؛ كانت حالتي الصحية أسوأ مما أتصور. وأُضيف صوت ثالث لصالح الأطباء. وظلت رغبتي صفرية مخلوطة بصورة طفل ميت. هنا، استسلمت، وأعطاني الطبيب دواء مهبلي مُحفز للإجهاض. كنا في الثانية عشر ظهرًا.
«ما كانش باصص ناحيتي. كان باصص الناحية التانية. وإيديه عارفة هي رايحة فين بس بغشومية. وصوابعه كانت تخينة. بالإضافة إلى اللامبالاة بتاعة: روحي دلوقتي ولما يبقى الطلق ينتظم ابقي كلميني. وأنا دي أول تجربة حمل ليا فبالتالي دي أول تجربة إجهاض أو ولادة ليّا. فأنا مش فاهمة يعني إيه الطلق ينتظم. مش عارفة يعني إيه طلق».
انصرفت إلى المنزل حيث سمعت ما لم أحب سماعه في هذا اليوم تحديدًا. قالوا: «ربنا هيعوض عليكي واللي جاي خير. وإن ربنا ما بيعملش حاجة وحشة. فأنا مش فاهمة إزاى ما بيعملش حاجة وحشة وأنا هنا دلوقتي؟» على أي حال لم يخبرني الطبيب أن الدواء يُسبب نزيفًا، وها قد بدأ النزيف وأنا الآن في الطريق إلى المستشفى لا أعرف أي مصير ينتظرني.
اتصلنا بالطبيب الذي ترك هاتفه عن عمد بلا إجابة. ومنذ وصولي المستشفى وأنا بلا طبيب. تنصحني نساء عائلتي بالضغط أو (الحزق) لأدفع الجنين خارج الرحم، كمَن تلد في زمن آخر. ورغم معلوماتي بأنها خطوة أخيرة في وجود الطبيب، إلا أن الوجع صعب الاحتمال، ضغطت وضغطت وضغطت. انهارت قوايّ، وتزاحمت صرخاتي مع أنفاسي أيهما سيخرج أولًا.
«طول الوقت وأنا في الإجهاض كنت حاسة إنه بيقاوم. وجسمي بيطرده. وإن أنا مكانه وأنا بطرده. وإن أنا أمانُه، وأنا بطرده. كنت حاسة إنه بيعافر علشان يفضل عايش، وأنا بعافر علشان يموت. أنا بعافر. الطلق معافرة. أنا بعافر بكل حاجة فيّا، باخبط في الحيطة. ليه؟ علشان الوجع يخلص. والوجع يخلص إمتى؟ لما أموت. بس أنا خايفة أموت».
انخفض ضغطي وعرقت وبدأت أفقد الوعي.
«افتحوا بطني وطلعوه. في اللحظة دي كنت حاسة بأعلى درجة إحساس بالذنب: هو لسه عايش، ولسه بينبض. عايش وأنا جسمي عاوز يتخلص منه. أنا جسمي بيتخلص من بيبي عايش. البيبي ده أنا كنت باقول إني بحبه كل الحب ده. البيبي ده أنا محتفظة بصور السونار بتاعته. البيبي ده أنا كنت كل مرة عاوزة أسمع صوت دق قلبه. البيبي ده أنا كنت باروح كل أسبوعين للدكتور علشان بس عايزة أشوفه. فأنا في اللحظة دي، أنا عايزة أتخلص منه بأي شكل، حتى لو كان قيصرية. حتى لو كان هو كام سنتي ومش هيوجعني وهو طالع، بس أنا تعبت».
هرول والدي مرات بين مكتب مدير المستشفى وبين طبيبة رفضت مُتابعتي لأن الأطباء لا يتعدّون على حالات زملائهم. هل يُمكنني الآن إضافة بعض من الإنسانية والمهنية إلى قائمة أمنياتي؟ كم تمنيت أن تراني. أن تفحص رحمي. أن تطُمئني. «أنا مفيش حد بيطمني. أنا مش عارفة إيه اللي ممكن يحصلي».
بعد نزيف دام أكثر من سبع ساعات «البيبي نزل. في اللحظة دي ما كانش فيه دكتور موجود في المستشفى. الرحم كان فتح وأنا كان عندي الطلق، فـ خلاص الولد نزل. جسمي طلعه».
«ما شوفتوش. حسيت بيه. وجع بشع. سكون. وهو بيخرج كان في لحظة كده موجعة وإحساس بدفع مريب وكأنه خلاص الموضوع خلص، حتى الوجع سكن كتير. اللحظة اللي قبل ما الدكتور ييجي ويقطع الخلاص كنت مستنية لحظة الدفع القوية دي علشان هو يخرج والموضوع ينتهي. كان كل اللي بفكر فيه حقيقي هو إن الموضوع ما بينتهيش. مش هينتهي. حتة مني لسه متعلقة بيّا، وأنا برضه بدور على حد يقطعها مني. يقطعها عني».
هرول أبي مجددًا في طرقات المستشفى، يصيح كأنه يفقد شخصين، أحدهما ما زال ينازع الموت: «محتاجين حد يقطع الخلاص».
هنا، تدخّل مدير المستشفى أخيرًا، وقطع لي الخلاص بنفسه وبيديه. ورفض إعطاءنا أي أوراق تثبت مُتابعتي مع الطبيب. وقبل أن نغادر وفق طلبه، حضر صديق والدي لزيارتي وهو طبيب نساء وتوليد وطلب إدخالي غرفة العمليات لتنظيف الرحم.
مشيت إلى غرفة العمليات، ودمائي على ساقيّ. ابني ميّت ورائي، وها أنا أنجو بنفسي. في غرفة تفتقر إلى أدنى درجات النظافة، شعرت بأني «أجهض في عيادة تحت بير السلم في القاهرة». صعدت إلى سرير الولادة على كرسي بلاستيكي قذر كالموجود في حمام جدتي. أتجمّد من البرد ولم يتعب أحد نفسه بتغطيتي. اعتمدوا على أني سأنام، ويا ليتني نمت. في انفراجة ساقيّ على السرير فقدت آخر ما علّقني بالطفل، كما فقدت حرارة جسمي بسبب التكييف. برد ورجفة لم ينتهيا إلا حين احتضنت الطفل قبل ساعات من تنظيفه ودفنه.
كلانا الآن نظيف ولم يعُد بحاجة للآخر. هو تخلص من سوائلي كما لو أنه يولد. وأنا تخلصت من مشيمتي، ومن إيماني. هو يغادر إلى عالم جديد، وأنا باقية يلومونني على خسارتي وكأني تعمدتها. يمنعون المتزوجات حديثًا من زيارتي لأنه «فال وحش». نبذوني من البداية للنهاية. أنا هنا مع شعوري بذنبٍ لم أقترفه.
«يمكن علشان خوفت على نفسي لما ما لقتش حد يقطع لي الخلاص. يمكن للدرجة دي حاسة بالذنب ناحيته. أنا خُفت على نفسي فعلًا. خُفت على حياتي».
أنا هنا مع نصف وعي حفظ الموقف بتفاصيله. مع ثدي مُنتفخ ومُتأهب لإرضاع صغير منحته الحياة موتًا مُبكر. تسألينني كيف كان وجود الطبيب سيُغير الموقف؟ على الأقل «كان هيحسسني بالأمان. كان هيجنبني موقف الخلاص. كان هيجنبني موقف تأخر دخول العمليات. والخوف والهلع اللي كانوا في أهلي وفيا. كنت هاح س بالشرعية. لأن كلمته حسستني بالذنب زيادة. حسسني إن: يا ستي كل التقارير اللي معاكي دي بليها واشربي ميّتها، أنا مش هاحط إيدي في حاجة. أنا مش هاساعدك».
أنا هنا مع بقايا خوفي، مع توسلات وصلوات غير مسموعة «يا رب اختار لي ما تخيرنيش. يا تديني القوة والمعطيات اللي تخليني أقدر أكمل وده اختياري، يا تختار أي حاجة إنشالله يموت جوايا، ريحني من إحساس إني اخترت، وأنا ما اخترتش».
أشهر قليلة وحملت للمرة الثانية. هذه المرة مسكت اختبار الحمل وعينيّ مفتوحة كأني أتحدى سوء اختياره: «للحظة حسيت إن أنا مش عاوزه البيبي ده».
ههه! طريف أني أكملت الحمل وأنجبت بنت مُتعايشة مع مرض مزمن ليس له علاج، وأحبها وأتقبلها. والأطرف أن تجربة الحمل اختلفت وكذلك الولادة. استمروا في تلك العبارات المستفزة: «ربنا عوض عليكي أهو»، والولادة كانت في مستشفى تُشبه تلك التي لا تعرف الدولة عنها شيء. اهتمام ملحوظ أثناء الولادة. الجميع مُستعد. الطبيب حاضر. التمريض مُتعاون. واحتفاء لافت للانتباه بعد الولادة. نعم، أنجبت. هذا الرحم يُنجب. هذه المرأة مُنجبة. أنا مُنتجة بمقاييسهم. أما مقاييسي فمختلفة، كما هي دائمًا.
ظلت ذكرى الطفل هاجس يُراودني. افترقنا وجمعتنا الكوابيس. أحلم بنساء مربوطات بحبال ومُعلقات من أرجلهن، مثلي تمامًا. وأغزل الكروشيه وأقص خيوطه. لأكتشف في كل مرة أني أنسجها حولي، وأني أتلاشى داخلها بأوجاعي وأفكاري الانتحارية واكتئابي. أقص الخيوط لأعقُدها، فلا تنفك. أقصها وأقص معها كل صرخة صرختها ذلك اليوم ليقطعوا عني حبل خلاصي، فأخلص.
«أنا الحبل اللي بيني وبينه ما كُنتش لاقيه حد يقطعه. لسه أنا وهو مربوطين ببعض. حتى بعد ما طلع ومات. عرفت إن الخلاص ده مش خلاص. مفيش خلاص. التجربة دي مفيش منها خلاص».