وثيقة:للمجهولية وجوه كثيرة
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | دليلة |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مدى مصر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.madamasr.com/ar/2021/06/26/opinion/u/للمجهولية-وجوه-كثيرة/
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | https://archive.is/WT1AU
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر
أفكر مؤخرًا في علاقتي بالمجهولية، وفي الطريقة التي يتطور بها اختباري لها في سياقات مختلفة، سواء في سياق الكتابة الشخصية أو العمل السياسي. أدركتُ أنني كنت أتعامل معها بطريقة أحادية الأبعاد. ففي مناخ استقطابي، وفي قلب هجوم عنيف على نهج اتخذته التحركات النسوية مؤخرًا، نعلَق في موقع رد الفعل وتُستنزف طاقتنا في تشكيل خطاب مضاد لذلك الذي يهاجمنا، مما قد يعطلنا عن النظر لأدواتنا ونهجنا بطريقة أكثر تعمقًا. أتصور أن المجهولية ستبقى معنا لبعض الوقت، ولذلك يجب علينا فهمها كنهج واسع قد نتواجد فيه من مواقع مختلفة، واختبارنا له من هذه المواقع سيساعدنا على فهم آفاقها وحدودها في نفس الوقت.
للمجهولية تكلفة
كتبتُ منذ بضعة سنوات نصًا شخصيًا عن تجربة شديدة الخصوصية، في خضم هذه التجربة شعرت بالكثير من القهر والألم. كان قهرًا ممتدًا عبر مؤسسات النظام المختلفة. أدركتُ حينها من خلال تجربتي الشخصية أن جسدي ليس ملكي، وأنني مهما حاولت امتلاكه فلن أتمكن من ذلك، وأن العقبات التي تقف في طريقي هي عقبات مؤسسية وبنيوية وهي أكبر من قدرتي الفردية على التغيير. نشرتُ النص تحت اسم مستعار. وعبّرت حينها عن رغبتي في نسب تجربتي لنفسي علانية، وفي امتلاك ألمي وغضبي أمام الجميع.
فتحت تجربتي الشخصية في ذهني آفاقًا لإدراكِ أوسع. وبالمثل، أعطتني المجهولية مساحة للبوح العلني. مساحة متحررة من الأحكام والجدالات، أستطيع أن أهرب فيها من هجوم عنيف من خلال هجر ملكيتي العلنية لتجربتي الشخصية. ولكن ما أعطته لي المجهولية هو نفسه ما سلبته مني. وهنا تكمن التكلفة.
لم أفهم حينها هذه التكلفة باعتبارها كذلك. كانت هذه التكلفة مجرد عدم شعور بالارتياح الكامل. وأنا لم أشعر يومًا بالارتياح الكامل باعتباري امرأة قادمة من خلفية غير ميسورة الحال، والتكلفة في حياتي هي جزء أساسي من وجودي، حيثُ تعلمت منذ صغري أنني لن أحصل على كل ما أرغب فيه. التضحية بشيء أقل ضرورية في مقابل الحصول على شيء أكثر ضرورية هو إطار مُحدِد لاختياراتي، محدودية ما يسمح به واقعي أصبحت مع الوقت ما يشكل طموحي ورغباتي، حيث صرت لا أرغب فيما لن أستطيع الحصول عليه، يحدث ذلك بشكل تلقائي وغير مُتَعَمَد. ولأنني معتادة على هذا الشعور لدرجة عدم ملاحظته أحيانًا، لم أتذمر عليه، ولم أقف عنده. ولكن بدأ فهمي يتبلور شيئًا فشيئًا عندما بدأت في ممارسة العمل السياسي النسوي بشكل مُجَهَل. أجلس في نقاش، وأبدأ في نقد شيء أنا جزءٌ منه. يُسمَع نقدي، ولكن لا يُرى موقعي باعتباري جزءًا مما أنتقده. أشعر بأنه في غياب موقعي يتوه شيء ما بين الكلام. أتخّيل ذلك الموقع وكأنه فِلتر، يجعل كلامي مسموعًا بطريقة مختلفة. تضعني المجهولية هُنا في مساحة رمادية، ما بين الوجود وعدمه: أحيانًا يكون كلامي موجود ولكن موقعي غير موجود، وأحيانًا أخرى العكس؛ يصبح موقعي موجود ولكن جوانبي الأخرى غير موجودة. تضعني المجهولية أمام حقيقة أنني لن أكون حاضرة أبدًا بكليتي. وأنه يجب عليَّ التخلي عن جزء أقل ضرورية مني في سبيل حضور جزء أكثر ضرورية على حسب السياق.
الآن أصبحت المجهولية مركزًا لنقاشات سياسية نسوية كثيرة في مصر، خاصةً مجهولية الشهادات المنشورة عن العنف الجنسي. تحتدم النقاشات بين قطبين: القطب الداعم للمجهولية والقطب المُشكك فيها. يحاجج القطب المُشكك فيها بأن المجهولية كنهج لا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق تغيير، حيث أنه لا ضمان لمصداقية الشهادات المنشورة بشكل مُجهل ومن خلال وسائط مُجهلة. فالمصداقية تُستَمَد من خلال هوية الأشخاص، وإعلان الهوية له كلفته. فتصبح المصداقية هنا بمثابة «مقابل مُستَحَق» في عملية مقايضة، سأصدقك في مقابل التكلفة الاجتماعية التي ستدفعينها. ويحاجج القطب الداعم لها بأن المجهولية تُجنِب النساء جزءًا من التكلفة الاجتماعية والنفسية التي تترتب على مشاركتهن لشهاداتهن وهن معلنات لهوياتهن. وأن تجهيل الوسيط هو أحد طُرق تأمينه في سياق اجتماعي وأمني عنيف. المشكلة هنا أن القطبين يتحدثان عن التكلفة التي تزيحها المجهولية عن عاتق النساء المُجهلات (سواء صاحبات الشهادات أو مُحركات الوسيط)، والاختلاف بينهما يدور حول وجوب استمرار دفع هذا النوع من التكلفة من عدمه. ولكن لا أحد منهما يتحدث عن التكلفة التي تأتي بها المجهولية نفسها.
عدم الإلتفات لتكلفة المجهولية قد أخافني بعض الشيء. لأن عدم رؤيتنا لتجسيدات القهر في الأدوات التي نخلقها من أجل تحررنا، قد يجعل طموحاتنا السياسية محدودة بما يسمح به الواقع فقط، وليس بما هو خارج واقعنا القاهر. «الإخفاء» هو أحد تجسيدات قهرنا كنساء في مجتمع أبوي. فالنظام الأبوي يكرس لفكرة أن وجودنا الطبيعي يجب أن يكون في حدود البيت، وبالتالي يصبح وجودنا العلني مساحة للتفاوض والمقايضة، والإخفاء يكون الثمن المدفوع في هذه المقايضة. عادةً ما نختار إخفاء أجزاء من أنفسنا في حياتنا اليومية في مقابل تجنب بعض الصدامات المُهلِكة. في مجتمعنا المصري على سبيل المثال، يأخذ الإخفاء أشكالًا مادية وغير مادية. نخفي أجسادنا بأطنان من الملابس حتى نتجنب استنفار مَن هم بالشارع. أنا شخصيًا أختفي في منزلي بالأيام، لأنني أعلم أن مجرد وجودي في الشارع بإمكانه أن يعرضني لما لا طاقة لي به (وهذه رفاهية لا تمتلكها الكثيرات). وكثيرًا ما نخفي أجزاءً مما نحن عليه ومن اختياراتنا، عن أسرنا وأصدقائنا ومَن هم في محيطنا الشخصي لتجنب النبذ والصدام والعنف الذي قد نتعرض له إذا جاهرنا بحقيقتنا. هذا ما تفعله المجهولية جزئيًا، إنها تخفي أجزاءً منّا وتظهر أجزاءً أخرى. إنها تجعل أفكارنا وخبراتنا موجودة، ولكنها تنزع عنّا ملكيتنا العلنية لها. إنها تساعدنا على المجاهرة الجماعية بحقيقة ما نمرّ به وما نفكر فيه، ولكنها تمنعنا من الوجود بكليتنا كأفراد.
كلامي هذا ليس دعوة لهجر المجهولية كنهج تُنتج منه أدوات للعمل، فتصور أن الأدوات التي ننتجها لن تحتوي على مكونات من قهرنا هو تصور ساذج، لأننا نحن، وأدواتنا، منتجات لهذا الواقع. ولأن غياب التكلفة يتطلب قبل ذلك غياب القهر، وهذا ليس حالنا الآن. ولكن ما أدعو له هو أن نفحص أدواتنا باستمرار وأن نشير إلى مواطن القهر الكامنة بداخلها، وأن نعلم أننا في حالة تفاوض دائم مع أنظمة قهرنا، وأن الأداة هي مجرد تكتيك سياسي نختاره في لحظة، وسنتخطاه في لحظات قادمة، وأن نجعل خيالنا وطموحنا السياسي أوسع مما تقدمه لنا أداة مُستمدة من واقع قاهر.
في المجهولية تقويمٌ للذات
أثناء حديثي مع رفيقتين نسويتين عن ممارسات بعض النسويات في سياقنا، والتي نراها مُنطلقة من دوافع ورغبات ذاتية في التحقق الفردي، وغالبًا ما نُرجِع ذلك لقيم «المهنية» التي ابتلت التنظيم النسوي في مصر، حيث أصبح العمل النسوي سوق عمل، مما يعلي من قيمة الإنجاز الفردي والتنافسية، ويشوش على تكتياكتنا التي قد تُبنى على رؤى النسويات الأكثر تأثيرًا، والتي لا تتشكل بمعزل عن مصالحهن المهنية. هذا المناخ هو أحد مكونات علاقات القوة داخل الحركة: كلما زادت إنجازاتِك المهنية والأكاديمية، أصبحتِ مسموعة في الغرفة. ولذلك تصبح الحركة نفسها أحد الطُرق التي تثرين بها سيرتك الذاتية. وفي جملة مليئة بالأحكام القاسية -والحقيقية للأسف- قُلتُ لهن إن المجهولية تمثل تهديدًا بالنسبة لهذا النوع من النسويات، فهن لن يحتملن ألا تُنسب إليهن أعمالهن، حتى ولو كان ذلك على حساب القيام بالمهمة نفسها.
انتهى النقاش وبقت معي هذه الجملة. وبدأتُ أتفحص نفسي. أحيانًا عندما أكون جزءًا مُجَهَلًا من شيء سياسي ناجح ومُحتفى به، أجد رغبةً بداخلي في نسب نفسي إلى الشيء علانيةً. أحيانًا تأتيني رغبة في سماع كلمات إطراء وتشجيع إذا كتبتُ نصًا بشكل مُجهَل، ووجدتُ الناس تتداوله وتقرأه وتعيد نشره. لن أهرب من هذه الرغبة، حتى لو كان الاعتراف بها كتابة أمرًا محرجًا وغير سهل. ولكنني أعتقد أنني لستُ الوحيدة التي تشعر بذلك. جلستُ أبحث عن أصلها ووجدتُ نفسي قادرة على ربطها بسهولة بقيم نظام الإنتاج الرأسمالي الذي يحكم حياتنا، ويؤطر تعريفاتنا للنجاح والتحقق. حيث يأتي تحققنا من إنجازنا الفردي، ويأتي شعورنا بقيمة أنفسنا من مدى احتفاء الناس بنا. تعطينا الرأسمالية تعريفات معينة للإنجاز تعلي من قيمة «التفرد» و«التميز».
في نقاش مع مجموعة من الرفيقات حول المساءلة والمحاسبة في إطار بناء الحركة، أشارت إحدانا إلى إمكانيات الفساد التي قد تُطالنا بطُرق مختلفة. لم يكن الحديث حول الفساد المالي أو الإداري فقط، ولكن حول الفساد على مستوى الممارسات العامة واليومية الذي قد يحدث في إطار العلاقات المركبة الممتدة بين المنخرطات في الحركة. تتقاطع هذه العلاقات في مساحات عدة: ما بين العمل السياسي والصداقة والعلاقات العاطفية وعلاقات العمل وغيرها. شاركت واحدة منّا إدراكها بأن اختيارها للمجهولية في العمل النسوي في مصر لم يكن مبني فقط على تخوفاتها الأمنية، ولكنها تراه الآن كأحد الطُرق التي قد تقلّل من احتماليات إفسادنا.
أتذكر تلك الرغبة التي تتسلل لي في أوقات مختلفة. ويخبطني إدراكٌ لما تساعدني المجهولية على فعله. فحينها فهمتُ أن في المجهولية جهادًا للنفس وتقويمًا للذات. لا أقصد ذلك بالمعنى الديني أو الأخلاقي، ولكنني أقصده بالمعنى السياسي. ففي مقاومة النزعة الفردية وحزمة القيم التي تأتي معها فعلٌ سياسي. حيث أن هيمنة التطلعات إلى التحقق الفردي والشخصي على صفوفنا هي أحد العوائق الكبرى في طريق بناء حركة قائمة على التضامن والفعل الجماعي. فكيف لنا أن نبني حركة قائمة على الفردية، وفي الوقت ذاته تحارب نظامًا قائمًا هو الآخر على الفردية؟ لا أطرح ذلك السؤال من منطلق أخلاقي، بمعنى أنني لا أرى في النزعة الجماعية تفوق أخلاقي ما، ولكنني أرى في النزعة الفردية قهرًا واغترابًا. نظام الإنتاج الذي يشكل جزءًا كبيرًا من طريقتنا في الوجود يعمل على فصلنا وعزلنا عن بعضنا، المصلحة الفردية فيه تعلو فوق أي شيء، ويصبح الترقي الفردي هو الضامن الوحيد من أجل تجنب ظروف حياة قاسية وصعبة. النجاة التي يصدرها هذا النظام هي نجاة فردية مما لا يهدد بقائه واستمراره، بل في الواقع يضمنهما، فالحرص على النجاة الفردية سيدفعك أكثر للعمل والإنتاج حتى تضمن تفوقك الذي بدوره سيساعدك على تسلق السلم. يكرس كل ذلك للاعتقاد بأن فشلك هو نتيجة لعدم اجتهادك، وأن المشكلة ليست في اللامساواة الهيكلية التي تشكل فرصك في الحياة. تبنينا لنهج النظام سيرسم طريقنا باتجاه الفشل أو باتجاه محدودية تأثيرنا في أفضل الأحوال، لأننا لن نتمكن أبدًا من أدوات النظام ونهجه بنفس مستواه، حيث أنه هو الذي صنعها.
بناءً على ذلك، أرى أن المجهولية توفر لي مساحة لتربية نفسي تربيةً سياسيةً، حيث أحرم نفسي من رغبة قادمة من نزعة فردية ترسخت بداخلي لدرجة أنني لا أراها، ولا أرى تجسيداتها في بعض الأحيان. إنها تضعني في مواجهة دائمة مع أصل دوافعي، وتسمح لي برؤية الطريقة التي يعمل بها نظام أرغب بسحقه، وبرؤية أنني جزء منه ومن إعادة إنتاجه، وأن محاربته تعني بالضرورة محاربة نفسي ومسائلتها بشكل دائم. وأن أعي أنني في هذه الحرب أقوم باختيار سياسي أثناء انتهاجي للمجهولية، ليس فقط من منطلق الحفاظ على أماني الشخصي، ولكن أيضًا من منطلق الحرص على بناء حركة لا تكرس للفردية، ولا ترى أننا نحارب الأبوية فقط، بل إننا نحارب أنظمة متعددة ومتشابكة ومتقاطعة، وجود أحدها يسمح بوجود الآخر، ولا يمكن لنا هدم أحدها إلا بهدم الآخر.
لا أرغب بهذه الكلمات في إضفاء الطابع الرومانسي على المجهولية كنهج، فأثناء نقاشي مع صديقة حول الأفكار التي أطرحها هُنا لفتت انتباهي لأن المجهولية يمكنها أن تُستَخدم أيضًا حتى يفلت بعض المخربين من تحمل تبعات أفعالهم. حينها قفزت إلى ذهني تجربة مدونة «قاتلات البهجة»، التي كانت تنشر شهادات حول العنف الجنسي وسوء استخدام السلطة في منظمات المجتمع المدني بدون الحرص على أخذ موافقة النساء المعنيات بهذه المواقف. كانت المجهولية بالنسبة للقائمات على «قاتلات البهجة» غطاءً يستطعن من خلاله تصدير أنهن يعملن من أجل مصلحة النساء، وهن في الواقع لا يلتفتن للتكلفة التي تدفعها أولئك النسوة نتيجةً لأفعالهن.
في المجهولية طمسٌ واستبعاد
أثناء نقاشنا حول نقاط هذا المقال، أشارت إحدى الرفيقات للطريقة التي قد يُطمس بها وجود ودور نساء ونسويات كثيرات يقعن في مواقع أقل قوة في الحركة أثناء اتباع المجهولية؛ فرجوعًا لمعطيات واقع الحركة السابق ذكرها لا نحتل جميعًا مواقعًا متساوية في ميزان قوة الحركة، وبالتالي في هذه الحالة سيحوّل استخدام المجهولية دون إدماج نساء أكثر في مواقع معينة فيها، خاصةً المواقع المرتبطة بصناعة الاستراتيجيات أو بمناقشة التكتيكات أو حتى في مساحات النقاش والتعلّم الجماعيين، لأنهن لو استمررن في العمل بشكل مُجهل لن نعلم مَن هن أبدًا.
اشتباك الرفيقة لفت انتباهي لما أدى لوجودي الآن على موائد نقاش مختلفة (وليست كثيرة) مرتبطة بالتنظيم النسوي في مصر، وهو أنني قمت -وما زلت أقوم- ببعض المساهمات من دون تجهيل هويتي، مما أدى للتعرف عليَّ وعلى توجهاتي ومنطلقاتي السياسية، وإلى الاهتمام بدعوتي أحيانًا. وهذا نفسه هو ما ساعدني على العثور على نسويات أخريات أشعر معهن بالألفة والونس، أن أعرفهن وأن يعرفونني، أن نتمكن من التواجد في مساحة واحدة دون أن تشعر أي منّا بأنها مضطرة لإخفاء أجزاء من نفسها كشرط للتواجد في هذه المساحة. وهنا أجد أنه من الضروري أن نطرح سؤال: مَن منّا تستطيع أن تكون مُجهلة، وفي نفس الوقت أن تبقى موجودة ومُقَدَرة في مجموعاتنا النسوية؟ فمن هذه الناحية؛ المجهولية في العمل السياسي لها تكلفة أخرى، فإذا كان الاحتفاء المبني على العمل النسوي في حد ذاته يعطي رأسمالًا اجتماعيًا وسياسيًا لبعضنا، ويجعلهن مسموعات ومدعوات ومقدرات، ويجعل الفرص المتاحة أمامهن أكثر، بالتالي مَن منّا لا تحصل على الـ«كريديت»، أو بكلمات أخرى لا تنسب أعمالها لنفسها، فهي بذلك تتنازل عن جزء من رأسمالها الاجتماعي والسياسي الذي من شأنه أن يسمح لها بمساحات أوسع من القوة داخل صفوف الحركة، تمكنها من طرح آرائها وأخذها بجدية، وتمكنها أيضًا من التفاوض مع باقي مكونات الحركة من موقع أكثر قوة.
يأخذني هذا التساؤل إلى نقطة أخرى تمشكل طرحي في الجزء السابق من المقال. ففي سياق أمني واجتماعي عنيف، لا نمتلك جميعًا امتياز اختيار المجهولية من باب تربية النفس تربيةً سياسية، وبعض منّا تضطر لعمل حسابات مكثفة لتبعات اختياراتها، إذا فكرت في طرح نفسها على العالم بشكل علني وبدون إخفاء.. هذا لا يعني أن «الشعور بالأمان» يرتكز دائمًا بالضرورة على أمان حقيقي، خاصةً في سياق لا يتحرك بمنطق موحد -على الأقل ظاهريًا- في التعامل مع القضايا التي نطرحها، ولنا في التناقض ما بين التعامل مع قضيتي «أحمد بسام زكي» و«اغتصاب الفيرمونت» مثالًا. وهذا لا يعني أيضًا أن هشاشتنا في مواجهة العالم بالشيء الثابت، بل إنها تتغيّر من موقف لآخر، ومن موقع نتخذه في هذه المواجهة إلى موقع آخر. ولكن ما يعنيه ذلك أنه، في أغلب الأحيان، لا تكون المجهولية خيارًا «حرًا» نتخذه بإرادتنا، ولكنها تصبح خيارًا قادمًا من فهمِ واعِ بموقعنا وهشاشته، أو بسياقنا وشدة قمعه، أو من إدراكِ عفوي، قادم من تجاربنا الحياتية، بضرورة التنازل عن شيء في مقابل الحصول على شيء نراه أكثر أهمية ومحورية بالنسبة لنا. وكما أشارت زميلة إلى أنه رغم هشاشة موقع بعض النساء في بُنى القهر المختلفة، إلا أن بعضهن قد لا يخترن المجهولية، ولنا مثال في ذلك في قضية منة عبد العزيز وقضية بسنت (فتاة ميت غمر).
ورغم الدور الذي تلعبه المجهولية في مقاومة النزعة الفردية، فإنها ليست ضامنًا للعمل الجماعي أيضًا، ولنا في تجربة «قاتلات البهجة» مثالًا حيًا. فقد اتسمت هذه المدونة بنزعة استبدالية وفردية رغم مجهوليتها. والمقصود بالاستبدالية هو أن يقوم شخص أو مجموعة من الأشخاص باستبدال أنفسهم بأصحاب المصلحة، وتأتي النزعة الاستبدالية من شعور ما بالتفوق المعرفي والسياسي وأحيانًا الأخلاقي، فترى المجموعة صاحبة النزعة الاستبدالية نفسها باعتبارها صاحبة الطريق القويم، فهي مَن تعلم أفضل، وهي مَن تستطيع أن «تنقذ» و«تغيّر» و«تطهر» بخلاف أصحاب المصلحة المتقهقرات والمتخاذلات. النزعة الاستبدالية هي انعكاس لمنطق فردي في العمل السياسي، يرى أن التغيير يمكن أن يحدث من خلال أفراد أو مجموعة تعمل بمعزل عن أصحاب المصلحة في أفضل الأحوال، أو تتجاهل احتياجات وأولويات ورغبات ووجود أصحاب المصلحة في أسوأها.
ومثلما تشكل المجهولية عوائق سواء في طريق جامعية الحركة، أو في طريق تواصلنا الإنساني والرفاقي كفاعلات في الحركة، أو كصاحبات شهادات، أو تجارب حياتية مبنية على كوننا نساءً، أو في طريق محاسبة بعضنا، فإنها أيضًا تشكل عائقًا في قراءة تاريخ حاضرنا في المستقبل، وهو ما لفتت انتباهي له رفيقة نسوية. فعندما أحجب هويتي عن أي من مساهماتي، سواء المكتوبة أو المرتبطة بالعمل السياسي، فإنني لا أحجب فقط اسمي، ولكنني أحجب أيضًا مَن أكون، أحجب المكونات المتعددة التي تشكلني، ما قد يعطي قارئ التاريخ فهمًا أعمق لي ولأوجه امتيازاتي. إنني بذلك أمنع تشكيل فهم لي مناقض أو مغاير للفهم الذي أصدره عن نفسي، وعن موقعي في هذا العالم. وأقف في طريق قرائتي من منظور تاريخي، بمعنى فهمي، وفهم الدور الذي لعبته في سياقي الذي لا ولن أدركه بشكل كامل بالضرورة لأنني جزء منه. فتكلفة المجهولية هُنا هي تكلفة معرفية، مرتبطة ببناء هذه الحركة وفهم مكوناتها ومواقعها في الحياة والسياسة، والذي قد يلعب دورًا هامًا في البناء على تجارب الحاضر والماضي في المستقبل.
الموقعُ مفتاحٌ للفهم
«الإخفاء» هو ميكانيزم أساسي في عمل المجهولية، ولكن مثلما رأينا سابقًا، الإخفاء لا يمتلك قيمة سلبية أو إيجابية في حد ذاته. أحيانًا يكون الإخفاء تجسيدًا للقهر، وأحيانًا أخرى يكون تجسيدًا للمقاومة، وأحيانًا يكون طريقة نقاوم بها أنفسنا حتى نتجنب الفساد بقدر المستطاع، وأحيانًا أخرى يكون طريقة تمكننا من الهروب من تحمل مسؤولية أفعالنا.
كلمة السر بالنسبة لي في تحديد ما الذي يفرضه علينا استخدامنا للمجهولية في لحظة ما هو الموقع الذي نأخذه في بحرها، بكلمات أخرى إذا كنتُ صاحبة شهادة عنف جنسي، أو إذا كنتُ أحكي تجربة شخصية، لا يمكنني التفوه بها على الملأ خوفًا من رد الفعل العنيف، فاستخدامي للمجهولية هُنا يحمل بداخله أحد تجسيدات القهر، فالنظام يفرض علينا الإخفاء كأحد طُرق التفاوض معه، وباستخدام المجهولية في هذا السياق نفتح مساحة لتبديل ما الذي نخفيه وما الذي نعلن عنه، إنه قرار وتكتيك سياسي مبني على التفاوض، والتفاوض يأتي بالضرورة مع تكلفة، وبالتالي نختار ألا نطمس أصواتنا وتجاربنا -المطموسة بالفعل- في مقابل طمس هوياتنا، ولكننا يجب أن نظل منتبهات للتكلفة التي تأتي بها المجهولية هُنا. وفي سياق آخر، إذا كان لي نشاطٌ سياسيٌ قد يجلب لي الإطراء والشعور بالتميز والتحقق والتفوق، فاختياري للمجهولية هُنا هو بمثابة مقاومة لقيم نظام ترسخت بداخلي، وبإمكانها أن تصبح عائقًا في طريق بناء الحركة إذا لم أنتبه لها وأعمل على كبحها. وفي النهاية، يجب علينا الانتباه الدائم لخطر التخريب والإفلات من المحاسبة الذي قد تأتي به المجهولية.
يتضمن هذا الطرح أفكارًا خطرت لي من خلال تجربتي الشخصية مع المجهولية من مواقع مختلفة، ولم يكن له أن يتطور إلا بمساعدة صديقات ورفيقات يحفزنني دائمًا على التأمّل والتفكير. وقد كتبتُ هذا المقال على فترات مختلفة، وقررتُ الاحتفاظ بالتناقضات الموجودة في الأفكار المطروحة فيه، لأنني أراها جميعًا ذات صلة، ولأنني أرى التناقض جزءًا من الوجود، ومن السياسة أيضًا. لا أدعي أن ما قلته يمثل طرحًا شاملًا، ولكني أرى أنه قد يكون بداية لتأمل نهج اتخذناه، ولم نع بعد جوانبه كافة نتيجة لانحسار في الدفاع عنه بسبب الهجوم الشديد عليه وعلينا. في النهاية أدعو كل الرفيقات والزميلات لعدم إضفاء الطابع الرومانسي على المجهولية في مواجهة المشككين فيها، لأننا بذلك قد نغفل وجوهها الكثيرة.