زهري
زهري(أيضا: داء الإفرنجي و سفلس) مرض ناتج عن عدوى بكتيرية تسببها بكتيريا اللولبية الشاحبة Treponema pallidum، ينتشر بشكل أساسي بواسطة الاتصال الجنسي عبر ممارسات جنسية متعددة، مهبلية وشرجية وفموية وغيرها. يصيب الزهري الأنسجة المخاطية للجهاز التناسلي والمستقيم والحلق، ويمكن أن ينتقل ولاديًا من الأم إلى جنينها (بالإنجليزية: Syphilis)
يتميز الزهري بتطور سريري متدرج عبر أربعة مراحل: الزهري الأولي الذي يظهر فيه تقرح غير مؤلم في موقع العدوى (غالبًا في المنطقة التناسلية الخارجية)، الزهري الثانوي الذي يتجلى بطفح جلدي واسع وأعراض جهازية Systemic، يدخل بعدها الزهري في مرحلة كمون تستمر لمدة تستمر من سنة إلى عدة سنوات (تصل في حالات نادرة إلى خمسين سنة) وتخلو من الأعراض، يتلوها أخيرًا الزهري الثالثي الذي قد يصيب الجهاز العصبي والقلب والأوعية الدموية مُسببًا مضاعفات خطيرة. تُقدر منظمة الصحة العالمية عدد المصابين بالزهري في 2022 بحوالي 8 ملايين شخص حول العالم وهي أرقام منخفضة مقارنة بأمراض أخرى تنتشر عبر الاتصال الجنسي.[1]
تاريخ الزهري
لا يزال "أصل" مرض الزُهري مثار خلاف عميق بين الباحثين في تاريخ الطب، إن المرض الذي سُمي في يوم من الأيام بالطاعون التناسلي في أوروبا والذي تسبب في معاناة أعداد ضخمة من الناس عبر القارة الأوروبية وخارجها، يبدو في التاريخ وكأنه قد "انبثق" من العدم في لحظة ما من العام 1495، وذلك عندما هاجمت جيوش ملك فرنسا شارل الثامن مدينة نابولي وفرضت عليها الحصار. لقد هاجم شارل الثامن نابولي بما قدره 25 - 30 ألف جندي، غالبيتهم العظمى جنود مرتزقة أتوا من مختلف أنحاء أوروبا، بينما دافع عن نابولي جيش آخر تشكل أيضًا في معظمه من المرتزقة، وقد شكل الإسبان عددًا كبيرًا من مرتزقة كلا الطرفين، ومعظم هؤلاء الذين أمضوا عدة أشهر في القتال، عادوا إلى بلادهم ومدنهم وقراهم بعد انتهاء الحرب ورفع الحصار، ونشروا مرض الزهري في أول تفشٍ وبائي للمرض في أوروبا.
نظريات المنشأ
لم يكن الزهري من قبل معروفًا في أوروبا أو في العالم القديم إجمالًا، وإن كان هناك أدلة على وجود أمراض تناسلية مشابهة للزهري في العالم القديم ما قبل القرن الخامس عشر فإنها تظل أدلة غير حاسمة، وقد أدى ذلك إلى ظهور ثلاثة نظريات تاريخية مختلفة تحاول تفسير منشأ المرض وأصله[2]:
- النظرية الكولومبية: وتعزو سبب انتشار الزهري في أوروبا إلى كونه جزءًا من "التبادل الكولومبي"، وهو ما يُطلق على عملية التبادل التي حدثت على هامش رحلات كولومبوس الاستكشافية في الأمريكتين، وتشمل تبادلًا للأمراض، حيث نقل الإسبان إلى الأمريكتين أمراضًا مثل الجدري والحصبة والإنفلونزا وقد انتقل الزهري في الاتجاه المعاكس. تدعم هذه النظرية حقيقة أن عودة كولومبوس من رحلته الأولى قد تمت في 1493 أي قبل عامين فقط من حصار نابولي، بالإضافة إلى ملاحظات سجلها أطباء أسبان شهدوا عودة البحارة المشاركين في الرحلة وشاركوا في الرحلات التالية المتوجهة إلى القارة المكتشفة حديثًا. جدير بالذكر أن الأدلة الأركيولوجية أيضًا قد أثبتت بحسب العديد من الدراسات وجود البكتيريا اللولبية الشاحبة في الأمريكتين قبل رحلات كولومبس.
- النظرية ما قبل الكولومبية: ترفض المنشأ الأمريكي للزهري وتفترض أن الزهري مثل أمراض بكتيرية أخرى سببتها أنواع أخرى من البكتيريا اللولبية قد تواجدت في العالم القديم ولكنها لم تسجل أو توثق تفشياتها الوبائية من قبل، وبعضها شُخَّص بشكل خاطئ باعتباره نوعًا من الجذام، كما أن هناك أمراض أخرى يسببها أنواع أخرى من البكتيريا اللولبية Treponema مثل الداء العليقي Yaws والزهري المستوطن Pinta والبجل Endemic Syphilis معروفة في العالم القديم ويوجد أدلة أركيولوجية على وجودها وتطورها منذ زمن طويل.
- النظرية التوفيقية: يجادل أنصار هذه النظرية أن الأمراض الناتجة عن أنواع البكتيريا اللولبية المختلفة قد كانت منذ زمن طويل ظاهرة منتشرة بشكل عالمي، ولم تكن مقيدة بحدود جغرافية محدودة، حيث أن البكتيريا اللولبية Treponema pallidum قد تمظهرت سريريًا (على مستوى الأعراض والمضاعفات وطريقة انتشار العدوى) بأشكال مختلفة نتيجة للاختلافات البيئية بين الأقاليم التي انتشرت فيها، وبناء على ذلك فإن عدوى الزهري كانت في الأصل عدوى الداء العليقي وقد انتقلت أول مرة قبل رحلات كريستوفر كولومبس بخمسة عقود من من وسط وغرب أفريقيا إلى شبه الجزيرة الإيبيرية نتيجة لتجارة العبيد.
استمر انتشار الزهري في أوروبا لقرون طويلة لاحقة على تفشي 1495 للمرض الفرنسي، وقد كان له بجانب أمراض تناسلية أخرى عظيم الأثر على المجتمعات الأوروبية المختلفة، خاصة بسبب دورة حياتها الطويلة وعواقبها القاسية التي تراوحت ما بين الآثار قصيرة الأمد كالألم والافرازات والحمى وبين الآثار الصحية الدائمة التي كانت تؤدي أحيانًا إلى الوفاة، خاصة وأن الحديث عن وقت لم تُكتشف فيه المضادات الحيوية ولم يُتعرف فيه على طبيعة العوامل المسببة لهذه الأمراض.
علاج الزهري قبل البنسلين
كان نبات الجياك الطبي (المعروف أيضًا باسم عود الأنبياء أو الخشب المقدس) أول الأدوية المستخدمة في علاج الزهري، وينقل الطبيب الألماني أولريخ فون هوتن Ulrich von Hutten في 1519 في كتاب بعنوان[3] المرض الفرنسي De Morbo Gallico عن استخدامات الجياك في علاج الزهري، وذلك قبل أن يموت بسبب الإصابة به لاحقًا في 1523.[4]
لم يكن الجياك خيارًا فعالًا ضد الزهري، على العكس من الزئبق الذي بدأ استخدامه لعلاج الزهري (وكان يُستخدم لعلاج السيلان وأمراض أخرى من قبل) في 1496،[5] وذلك بتأثير من الطبيب المسلم ابن سينا الذي وصف الآثار العلاجية للزئبق في كتابه القانون في الطب (1025). وكان الزئبق يوصف شرابًا أو حقنًا (موضعيا في مكان الإصابة) أو يُدعك به الجلد أو يُعرض له المصاب على هيئة بخار. على الرغم من فعاليته إلا أن الزئبق مادة سامة وقد تسبب بالعديد من الوفيات خلال قرون طويلة بسبب التسمم.
لاحقًا بدأ بعض الأطباء في أوروبا باستخدام الحقن بالزهري كوسيلة للتطعيم والوقاية من العدوى،[6] في 1767 قام جراح يُدعى جون هنتر بحقن نفسه بإفرازات إحليلية لمريض مصاب بعدوى منقولة جنسيًا، لم يكن الغرض من التجربة علاجيًا وقتها بل من أجل إجراء بحثي، ولكن لاحقًا - منتصف القرن التاسع عشر - بدأ استخدام هذه الممارسة من أجل استحثاث رد فعل علاجي على المرض، وكانت تُسمى في ذلك الوقت (الزهرنة أو السفلسة Syphilization)، وكان أول من مارسها طبيب فرنسي يُدعى جوزيف-ألكساندر أوزياس-تورين الذي جادل في أن حقن المريض بمادة ناقلة للعدوى (إفرازات من شخص مصاب) يمكن أن تستحث رد فعل شافٍ وعلاجي، وقد أجرى تجاربًا على عاملات للجنس محتجزات في سجن سانت لازار في باريس.
في 1910 بدأ استخدام مركب سالفرسان Salvarsan كأول مضاد ميكروبي ضد الزهري،[7] السالفرسان مركب مشتق من الزرنيخ صُنع لأول مرة في 1906، واكتشفت خصائصه المضادة للزهري بعدها بعدة سنوات، ولم تكن فعاليته مضمونة للأسف خاصة خلال المرحلة الثالثة من المرض. في الأربعينات اكتُشف البنسلين لأول مرة وبدأ استخدامه ضد الزهري بنجاح، ولا يزال، حتى اللحظة، الخيار الأول والأفضل ضد عدوى البكتيريا اللولبية الشاحبة، ورغم انقضاء عقود طويلة على استخدامه لأول مرة فإن بكتيريا اللولبية الشاحبة لم تطور أي مقاومة ضد المضاد الحيوي لحد الآن، كما أن العدوى تستجيب بسهولة لتشكيلة واسعة من المضادات الحيوية بخلاف البنسلين أيضًا.
العامل المسبب للمرض Treponema pallidum
الزهري مرض معدي ناتج عن عدوى بكتيريا اللولبية الشاحبة Treponema pallidum، إحدى أنواع البكتيريا المنتمية إلى شعبة اللولبيات Spirochetes، اكتشفت بكتيريا اللولبية الشاحبة للمرة الأولى في 1913 على يد العالم الياباني هيديو نوغوتشي،[5] حيث استطاع عزل البكتيريا من عينة من دماغ مصاب بحالة متقدمة من الشلل الدماغي، وكانت هذه المرة الأولى كذلك التي يُربط بها بين الزهري وبين الأعراض الدماغية المتقدمة التي تظهر في المرحلة الأخيرة من المرض.
اللولبية الشاحبة بكتيريا حلزونية الشكل سالبة الغرام تتميز بجدار رقيق جدًا وخليتها ذات هشاشة عالية تتأثر بسهولة بالعوامل المناخية المحيطة، كما أنها تفتقر إلى العديد من المسارات الأيضية، ما يجعلها تعتمد بشكل كبير على العائل الذي تصيبه، ولذلك فإن انتقال اللولبية الشاحبة، يكاد يقتصر في كثير من الحالات على الاتصال الجنسي حصرًا أو من الأم إلى الجنين عبر المشيمة.[8]
الجدار الرقيق لخلية بكتيريا اللولبية الشاحبة، رغم كونه سببًا في هشاشة الخلية وقدرتها الضعيفة على تحمل التغيرات البيئية، إلا أنه السبب في قدرتها على التخفي من الجهاز المناعي لجسد المضيف/المصاب. حيث أن جدارها يحتوي على عدد قليل من البروتينات المكشوفة ما يجعل التعرف عليها وخلق مضادات لها أمرًا صعبًا، كما أنها تملك مرونة في تغيير تركيبة هذه البروتينات[9] ما يمنحها القدرة على البقاء داخل جسد المصاب لفترات طويلة والتسبب بتنويعة واسعة من المضاعفات المختلفة.
طرق انتقال العدوى
بشكل أساسي؛ تنتقل عدوى اللولبية الشاحبة المسببة لمرض الزهري - مثل جميع العدوات المنقولة جنسيًا - عبر الاتصال الجنسي مع شخص مصاب. وتنتقل البكتيريا المسببة للمرض من شخص لآخر عن طريق الاحتكاك مع السوائل الحيوية، والتي تشمل الدم، اللعاب، مخاط المهبل وعنق الرحم، السائل المنوي، والإفرازات الشرجية، ولذا فإن الزهري ينتقل عبر الجنس، مهبليًا كان أم شرجيًا أم فمويًا.
كذلك تنتقل عدوى الزهري عبر ملامسة القروح المفتوحة للمريض أو الاحتكاك بها خلال الجنس، ومن خلال التعرض لأي جروح مفتوحة، لكن لأن بكتيريا اللولبية الشاحبة لا تستطيع تحمل الظروف خارج جسد العائل لفترة طويلة، فإنها لا تنتقل عبر ملامسة و/أو استعمال أدوات المريض. ولكن يمكن أن ينتقل الزهري من الأم إلى الجنين عبر المشيمة، وهو ما يعرف باسم (الزهري الولادي) أو الزهري الخلقي.[10]
يكون الزهري شديد العدوى خلال فترة المرحلتين الأولى والثانية (الزهري الأولي والثانوي)، ويمكن أن ينتقل أيضًا خلال بدايات سكون الأعراض.[11]
الصورة السريرية لمرض الزهري
تبلغ فترة حضانة مرض الزهري ما بين 10 أيام إلى 90 يوم. وفترة الحضانة هي المدة الزمنية التي تفصل ما بين لحظة انتقال العدوى إلى فترة ظهور الأعراض الأولية للمرض. خلال هذه الفترة تبدأ المرحلة الأولى من أصل أربعة مراحل يتميز بها مرض الزهري. والذي يستمر بالتطور خلالها بشكل تدريجي إلى الحد الذي قد تصبح فيه أضرار العدوى دائمة ولا يمكن عكسها.
تتميز كل مرحلة بصورتها السريرية المختلفة، وهو ما يعني أن لكل مرحلة نصيبها من الأعراض والمضاعفات، ويتحرك الزهري عادة في اتجاه واحد من التطور الذي ينتهي عادة بمضاعفات في منتهى الخطورة وقد يؤدي في ختام الأمر إلى الوفاة في حال تُرك المرض بدون علاج، إلا أن طول كل مرحلة يختلف من مصاب إلى آخر.
الزهري الأولي
تُعرف المرحلة الأولى من الزهري باسم الزهري الأولي أو Primary Syphilis تبدأ أعراض المرض بالظهور خلال فترة تمتد ما بين 10 أيام إلى 90 يوم. هناك عرض واحد فقط يميز الزهري الأولي وهو قرح صلب Chancre دائري الشكل قطره يتراوح ما بين 1 - 2 سم، يظهر في مكان العدوى، عادة ما يظهر على المنطقة التناسلية (على القضيب أو المهبل أو على عنق الرحم)، ولكن يمكن أن يظهر أيضًا على أماكن أخرى، مثل فتحة الشرج أو داخل المستقيم أو على الشفتين أو الحلق أو الأصابع. غالبًا ما يكون قرحًا واحدًا ولكن في حالات نادرة قد تظهر قروح أو بثرات متعددة.
يستمر ظهور القرح لمدة تتراوح ما بين ثلاثة إلى ستة أسابيع،[12] ويمكن أن يستمر حتى نهاية مرحلة الزهري الأولي قبل أن يختفي (حتى مع عدم استخدام مضادات حيوية)، ويترافق القرح عادة مع انتفاخ في العقد الليمفاوية القريبة.[13] من الممكن أيضًا أن يصاب التقرح بعدوى ثانوية. في كثير من الحالات يظهر القرح ويختفي دون أن يتمكن المصاب من ملاحظته أو حتى الشعور به.
الزهري الثانوي
المرحلة الثانية هي الزهري الثانوي أو Secondry Syphilis، وتبدأ في حال تُركت الأصابة بدون علاج في المرحلة الأولى، يمكن أن تستمر هذه المرحلة لفترة تمتد من بين سنة إلى سنتين. خلال المرحلة الثانية تدخل البكتيريا إلى مجرى الدم وتتسلل إلى الأوعية الليمفاوية، وتنتشر عبر الجسم بالكامل. وتظهر خلالها الأعراض التالية:
- طفح جلدي عام، يبدأ (لدى غالبية المرضى) في فترة ما بين 6 أسابيع إلى 12 أسبوعًا منذ بداية الإصابة، ويمكن أن يظهر قبل اختفاء القرح المميز للزهري الأولي. يظهر الطفح على راحتي القدمين والكفين، وهو أمر غير معتاد في الأمراض الأخرى. يكون الطفح منتشرًا وعادة لا يسبب أي حكة. يختفي الطفح بدون علاج ويمكن أن يعود للظهور مرة أخرى بعد عدة أسابيع.
- في حالة ظهور الطفح الجلدي على الرأس فإنه يتسبب بتساقط الشعر ويظهر الرأس كأنه أكلته العثة.
- تظهر ثآليل مسطحة غير مؤلمة فوق مستوى الجلد على الأسطح الرطبة والمخاطية (الإبطين وداخل الفم والمنطقة التناسلية والشرج)، تُعرف هذه الثآليل باسم "الأورام اللُقمية"، تكون هذه الثآليل معدية جدًا وغنية ببكتيريا اللولبية الشاحبة ويمكن أن تتشقق ويخرج منها إفرازات معدية. تُشفى هذه الثآليل عادة وتتحول إلى لون وردي باهت.
- حمى وإرهاق عام وفقدان للشهية ونقص في الوزن.
- تضخم في الغدد الليمفاوية في أماكن متعددة من الجسم (50% من المصابين).
- أعراض أخرى (10% من المصابين) مثل التهاب العيون والتهاب الكبد واليرقان.[11]
الزهري الكامن
تسمى هذه المرحلة أيضًا بالزهري الهاجع أو Latent Syphilis، وفيها تختفي أعراض الزهري بشكل كامل، ولكن تظل العدوى موجودة ونشطة ويمكن كشفها عن طريق التحاليل المخبرية. تستمر هذه المرحلة لفترات طويلة، قد تصل إلى عدة عقود، وتنقسم هذه المرحلة، زمنيًا، إلى فترتين:
- الزهري الكامن المبكر: وهي المرحلة التي يبدأ فيها اختفاء الأعراض حتى فترة 12 إلى 24 شهرًا من بداية الإصابة. وتتميز بأنها مرحلة "معدية" يمكن أن ينتقل خلالها الزهري بواسطة الاتصال الجنسي.[11]
- الزهري الكامن المتأخر: تبدأ بعد انتهاء المرحلة السابقة (12 شهر إلى 24 شهر من بداية الإصابة) ويصبح حامل المرض فيها غير مُعدٍ، باستثناء انتقال الزهري من الأم الحامل لجنينها، والذي قد يظل احتمالًا واردًا لمدة تصل إلى تسعة سنوات من بداية الإصابة.[13]
الزهري الثالثي
المرحلة الأخيرة من الزهري، يظهر الزهري الثالثي أو Tertiery Syphilis خلال فترة تمتد ما بين 3 سنوات إلى 30 سنة من بداية الإصابة (وأحيانًا تتأخر حتى خمسين سنة). يعاني ما نسبته 30% من المصابين الذين لم يتلقوا العلاج خلال المراحل السابقة من أعراض متعددة تشمل ظهور ثآليل وناميات جلدية مطاطية القوام (تُسمى الصمغيات Gummas)، يُسمى هذا العرض بالزهري الثالثي الحميد Benign tertiary syphilis. تصيب أعراض أخرى خلال هذه المرحلة الجهاز العصبي (الزهري العصبي Neurosyphilis) أو القلب والأوعي الدموية (الزهري القلبي الوعائي Cardiovascular Syphilis). ويمكن أن تصيب أعراض أخرى العينين أو الأذنين، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها أعراض يمكن أن تظهر في أي مرحلة من مراحل المرض.[11]
من النادر جدًا وصول المريض بالزهري، في الوقت الحاضر، إلى مرحلة الزهري الثالثي، وذلك بسبب الانتشار الواسع لاستخدام المضادات الحيوية. على أن هناك احتمال قائم بوقوع الزهري الثالثي عند نسبة معينة من المصابين خاصة المصابون منهم بالإيدز.[13]
- الزهري العصبي
تصيب هذه الحالة حوالي 5% من المصابين بالزهري في حال عدم تلقيهم للعلاج، وتبدأ في غضون فترة تتراوح ما بين عشرين إلى ثلاثين سنة بعد بداية الإصابة، يؤثر الزهري على الجهاز العصبي المركزي وله عدة أشكال تختلف بحسب الجزء الذي يتعرض للإصابة والضرر من الجهاز العصبي:
- زهري عصبي بدون أعراض: التهاب بسيط في السحايا يسبب أعراض مثل الصداع وقلة التركيز وشعور بالتيبس في الرقبة.
- زهري عصبي سحائي وعائي: التهاب في الشرايين والأوعية الدموية المغذية للدماغ والحبل الشوكي، يسبب صداع وتيبس في الرقبة، شعور بالدوار، ضعف في التركيز والذاكرة وضعف في الرؤيا، تصاب عضلات الذراعين بالوهن ويمكن أن يؤدي إلى الشلل. يفقد المريض قدرته على التحكم بالإخراج ويمكن أن يؤدي هذا النوع من الزهري إلى الإصابة بسكتات دماغية.
- زهري عصبي خزلي parenchymatous: يؤدي هذا الشكل إلى تغيرات سلوكية، يظهر المريض بأعراض مشابهة لأعراض الخرف dementia، يصبح المريض أقل عناية بنظافته الشخصية ويعاني من تقلبات في المزاج بشكل متكرر بالإضافة إلى أوهام وتخيلات. يكون مصحوبًا بارتعاشات في الفم والأطراف.
- زهري عصبي تابسي tabes dorsalis : يؤثر هذا الشكل على الحبل الشوكي تدريجيًا، تبدأ أعراضه بألم قاسي طاعن في الظهر والساقين، ينحسر الألم ويعود بشكل متكرر، ويمكن أن يظهر أيضًا في أعضاء أخرى، ويسبب مغصًا في المعدة أو المثانة، ألمًا في المستقيم، أو في الحلق. يفقد المصاب شعوره وتحكمه بقدميه ويتطور الأمر إلى الشلل مصحوبًا بصعوبة في التحكم في البول.[11]
- الزهري القلبي الوعائي
تصيب بكتيريا اللولبية الشاحبة في هذه المرحلة الأوعية الدموية المتصلة بالقلب والأوعية الدموية المغذية لعضلة القلب. وأهمها الشريان الأورطي (الأبهر)، وهو الشريان القلبي الرئيسي المسؤول عن توزيع الدم المؤكسج (الذي يغذي أنسجة الجسم بالأكسجين) إلى جميع مناطق وأعضاء وأنسجة الجسم. وينتج عن إصابة القلب وأوعيته الدموية بعدوى الزهري ما يلي:
- إلتهاب الأورطي الزهري Syphilitic Aortitis: وصول العدوى البكتيرية إلى جدار الشريان الأورطي.
- تمدد وعائي في الشريان الأورطي Aortic Aneyresm: التمدد الوعائي (ويُعرف أيضًا باسم "أم دم") هو انتفاخ وتوسع موضعي في جدار الوعاء الدموي يسبب ترققا في جداره، يسبب التمدد الوعائي في الشريان الأورطي ضغطًا من موضع التمدد على القصبة الهوائية وأجزاء أخرى من الصدر ويسبب صعوبة في التنفس والكلام، تكمن خطورة التمدد الوعائي في احتمالية تمزق الشريان وحدوت نزيف داخلي مميت (خاصة وأن النزيف شرياني وليس وريدي ويحدث في وريد رئيسي، أي يقوم بضخ الدم بكمية كبيرة في وقت قصير).
- قصور الصمام الأورطي Aortic regurgitation: وهو الصمام الذي يحجز الدم عند ضخه من القلب إلى الشريان الأورطي ويمنع عودته إلى القلب مرة أخرى، ويصاب هذا الصمام بالقصور نتيحة تآكل حلقة الصمام بسبب العدوى البكتيرية.
- ضيق منشأ الشرايين التاجية coronary ostial stenosis: الشرايين التاجية هي التي تتفرع من الأورطي وتحيط بالقلب وتكون مسؤولة عن تغذية النسيج العضلي للقلب. قد تضيق هذه الشرايين بسبب العدوى البكتيرية وهو ما ينتج عنه ذبحات صدرية متكررة بسبب قصور الشرايين التاجية.
ينشأ عن المضاعفات السابقة ذبحات صدرية وتسبب فشل قلبي وقد تؤدي أيضًا إلى وفاة المصاب.[14]
الزهري الولادي
ويسمى أيضًا الزهري الخلقي أو Congenital Syphilis وينتج عن انتقال عدوى الزهري من الأم الحامل المصابة إلى جنينها خلال الحمل والولادة. ترتفع احتمالية الإصابة بالزهري الولادي بشكل كبير عند الأطفال المولودين لأمهات مصابات بالزهري خلال المرحلتين الأولى والثانية (الزهري الأولى والزهري الثانوي). كما تستمر احتمالية انتقال الإصابة إلى الأجنة خلال المرحلة الثالثة (الزهري الكامن) خاصة في مرحلته المبكرة، ويمكن أن تظل الأم قادرة على نقل العدوى حتى مرور 9 سنوات على بداية الإصابة.
لا تظهر أعراض عدوى الزهري على الأطفال حديثي الولادة على الفور، ويمكن أن تكمن الأعراض خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عمر الطفل ثم تبدأ بالظهور، ويُعتبر الزهري الولادي في هذه الحالة (مبكرًا)، ويمكن أن تتأخر حتى نهاية السنة الثانية من عمره، ويعتبر المرض في هذه الحالة (متأخرًا).
- الزهري الولادي المبكر
يتميز بظهور بثرات أو نطفات كبيرة مسطحة نحاسية اللون على الجلد، تظهر تشققات حول الأنف والفم، وطفح جلدي على راحتي القدمين واليدين. يخرج من أنف الطفل نزيف ومخاط وتتضخم عقده الليمفاوية كما قد يسبب الزهري له في هذه المرحلة تأخرًا في النمو. وقد يتطور الزهري الولادي المبكر إلى التهاب في السحايا ويسبب إعاقة حسية أو عقلية دائمة. تصيب العدوى العظام الكبيرة (الأطراف) والغضاريف وهو ما يسبب تشوهًا في نموها وصعوبة في الحركة.
- الزهري الولادي المتأخر
تبدأ الأعراض بالظهور خلال أول عامين من عمر الطفل، تظهر قرحات في الأنف والفم ويتشوه نمو العظام والأسنان، يمكن أن يتسبب الزهري هنا بالصمم في أي عمر قد يتسبب بالعمى بسبب تندُّب القرنية (ظهور طبقة رائقة أمام قزحية وبؤبؤ العين).[11]
تشخيص الزهري
يوجد العديد من الفحوص للتثبت والتحقق من إصابة مريض بالزهري تعتمد إما على فحص مضادات البكتيريا في الدم (serology) أو على فحص مباشر لعينات يمكن أن تحتوي على خلايا بكتيريا اللولبية الشاحبة بشكل مباشر (سواء في الدم أو عينات تُجمع بطريقة أخرى).
الفحوص المباشرة
تستخدم للكشف عن البكتيريا نفسها داخل عينة الاختبار وليس عن أية أجسام مضادة يفرزها الجسم كرد فعل على البكتيريا أو الأضرار التي تسببها، من أهمها:
- اختبار PCR: وهو اختبار للمادة الوراثية لبكتيريا اللولبية الشاحبة، استخدامه نادر لكن دقته عالية ويستخدم من أجل الكشف عن الزهري الولادي بشكل خاص
- اختبار الفحص المجهري المظلم Dark-field microscopy: يكشف عن البكتيريا بشكل مباشر تحت المجهر باستخدام عينات من القرحة أو البثور أو الناميات الرطبة التي يسببها الزهري (في المرحلتين الأولية والثانوية) بشكل خاص. وكذلك يفحص عن وجود البكتيريا في المشيمية والافرازات المخاطية من التقرحات الفموية والأنفية لدى الأطفال بعد الولادة. دقته عالية ولكن يُشترط أن تُحفظ العينات بشكل دقيق وتُختبر بسرعة ويجب أن تتوافر لدى الفاحص خبرة تقنية وعملية في التعامل مع العينة من أجل تأكيد الفحص (إيجابي أو سلبي).
- اختبار DFA-TP: ويعتمد على فحص عينات تُصبغ فيها الأجسام المضادة لبكتيريا اللولبية الشاحبة بعلامة فلورية fluorescent فتظهر تحتها البكتيريا مباشرة خلال الفحص المجهري.[15]
الفحوص المصلية Serology
أكثر الاختبارات المعملية استخدامًا على مستوى العالم من أجل تشخيص الزهري، تستخدم فيها عينات مصل الدم blood serum (الجزء الشفاف من الدم الذي ينتج عند تعريض الدم للطرد المركزي)، وتستخدم للكشف عن الأجسام المضادة التي يفرزها جسم المصاب كرد فعل على الإصابة بالزهري، تنقسم هذه الاختبارات إلى نوعين:
- اختبارات تريبونيمية (نوعية)
اختبارات تعتمد على فحص اجسام مضادة يفرزها الجسم كرد فعل على الاصابة ببكتيريا اللولبية الشاحبة، ولذلك تسمى اختبارات "تريبونبمية" نسبة إلى بكتيريا ال Treponema، ومن هذه الاختبارات:
- اختبار FTA-ABS
- اختبار التراص لبكتيريا اللولبية الشاحبة TP-PA
تؤكد النتائج الخاصة بها إذا كان المريض مصابًا أو سبق وأن أصيب بالزهري من قبل، حيث أن الأجسام المضادة تظل في الجسم وتظل في عينات الاختبار على الداوم بعد الإصابة الأولى، تعتبر اختبارات نوعية لا كمية حيث أنها لا تكشف عن أي تحسن في الحالة مع العلاج.[16]
- اختبارات لا تريبونيمية (غير نوعية)
اختبارات تعتمد على فحص أجسام مضادة يفرزها الجسم كرد فعل على الضرر الذي تسببه بكتيريا اللولبية الشاحبة وليس على البكتيريا نفسها. منها على سبيل المثال:
- اختبار VDRL للزهري
- اختبار الراجين البلازمي السريع RPR
اختبارات كمية يمكن أن تستخدم، لا من أجل تحديد وجود عدوى الزهري فحسب، ولكن من أجل متابعة تحسنها كذلك. من سلبياتها أنها ليست متخصصة للمضادات التريبونيمية ولذلك فقد تعطي في بعض الأحيان نتائج إيجابية كاذبة بسبب وجود أمراض وحالات فسيولوجية أخرى، وعلى سبيل المثال، فإن اختبار VDRL يمكن أن يُعطي نتيجة إيجابية للسيدات الحوامل (بدون إصابة بالزهري)، ويمكن أن تكون نتيجته إيجابية أيضًا في حالة إصابة الفرد بأمراض فيروسية مثل النكاف والحصبة والجدري والتهابات الجهاز التنفسي، وأيضًا بسبب أمراض مناعية مثل الذئبة الحمراء والروماتيزم.[17]
منهجية التشخيص باستخدام الاختبارات المعملية
عادة ما تستخدم الاختبارات المصلية من أجل فحص الإصابة بمرض الزهري، ويمكن استخدام فحص لا تريبونيمي (غير نوعي) من أجل التأكد من وجود العدوى ومن ثم توكيد نتائجه (في حال كانت إيجابية) باستخدام فحص آخر تريبونيمي (نوعي)، ومن المهم في هذه الحالة، إجراء الفحصين، ويمكن إجراء هذه الفحوص (المبدئية والتوكيدية) في كلا الاتجاهين، الفحص النوعي يليه فحص غير نوعي أو العكس.
في حال الاشتباه بأعراض الزهري العصبي يمكن أن يستخدم لكشف العدوى في الحبل الشوكي والدماغ اختبار للسائل النخاعي، حيث تُجمع عينة من خلال حقنة في العمود الفقري (بزل قطني Spinal/Lumber Tap) لاستخراج عينة من السائل النخاعي (الدماغي الشوكي Cerebrospinal fluid) وإخضاعها للفحص.[12]
في حالات الزهري الولادي، يمكن فحص عينات تُجمع بشكل مباشر من المشيمة حيث تؤكد هذه العينات وجود بكتيريا اللولبية الشاحبة بشكل مباشر، وذلك بالإضافة إلى الاختبارات المصلية الأخرى. يُنصح أن تقوم الأم بالفحص للكشف المبكر عن الزهري (كجزء من الفحوصات الروتينية) خلال الثلث الأول من الحمل، وفي حالة كانت معرضة لاحتمالية الإصابة بشكل أكبر يجب أن يُكرر الفحص خلال الثلث الأخير. كما أنه في حالة ولادة طفل لأم مصابة بالزهري فإنه يخضع لفحص جسدي سريري كامل بحثًا عن علامات أو إشارات جسدية تشير لعدوى الزهري بالإضافة إلى الفحوص المعملية.[10]
الوقاية ضد التعرض للعدوى
المقال الرئيسي لهذا الموضوع ”جنس آمن“
يمكن الحد من انتشار عدوى الزهري والعديد من الأمراض المنقولة جنسيًا بواسطة استخدام وسائل وطرق الجنس الآمن، وبإمكان الوسائل الحاجزية منع انتقال العدوى خلال ممارسة الجنس بنجاعة إلا في حالة الاحتكاك المباشر خلال الممارسة مع القرح المفتوحة والتقيحات النشطة لمصاب بالزهري.
بالإمكان أيضا تقليل احتمالية انتقال الزهري ومنع انتشاره وقطع سلاسل العدوى بواسطة الفحوصات الدورية، خاصة للأفراد الذين قد يتعرضوا لاحتمالية الإصابة أكثر من غيرهم، حيث أن الكشف المبكر للزهري يساعد في الشفاء منه بسرعةس. ويجب أن تُبنى العلاقات بين الأفراد على اختيار واع للشركاء ومصارحة متبادلة بينهم عن تاريخهم الجنسي والمرضي. وجدير بالذكر أنه لا يوجد أي تطعيمات حاليًا للزهري.
طرق العلاج
كان البنسلين ج (Penicillin G) أول مضاد حيوي يُستخدم لعلاج مرض الزهري في أربعينات القرن الماضي، وقد أظهر هذا المضاد الحيوي نتائج مُبهرة ولا يزال فعالًا حتى اليوم، إذ أنه قادر على استئصال العدوى بشكل كامل وعكس جميع تأثيراتها (خلال المراحل المبكرة من المرض). لم تتطور أي مقاومة لبكتيريا اللولبية الشاحبة ضد البنسلين على مدار العقود الماضية، كما أن الانتشار الواسع للمضادات الحيوية قد ساهم كذلك في الحد من انتشار المرض، وساهم أيضًا في الحد من وصول المصابين بالمرض إلى مراحله المتأخرة حيث تبدأ الأعراض العصبية والقلبية ومضاعفاتها الدائمة بالتأثير على المصاب. لكن في ذات الوقت فقد حجَّم من النشاط البحثي لمعرفة التأثير السريري لمضادات حيوية أخرى على بكتيريا اللولبية الشاحبة، وبالتالي فإن البيانات المتوفرة بهذا الخصوص تظل محدودة.
يحدد كل من المركز الأمريكي لمقاومة الأمراض CDC والجمعية الاسترالية لعلاج الإيدز والكبدي الوبائي وطب الصحة الجنسية ASHM التوجيهات الإرشادية التالية لعلاج مرض الزهري:
- علاج المصابين بالزهري خلال مراحل الزهري الأولي والزهري الثانوي والزهري الكامن المبكر: جرعة منفردة تُحقن عضليا من بنزاثين بنسلين ج (البنسلين طويل الأمد) بتركيز 2.4 مليون وحدة دولية. يمنح البنسلين طويل الأمد ميزة استمرار وجود المضاد الحيوي داخل الجسم لفترة طويلة تمتد ما بين أسبوعين إلى أربعة أسابيع، مع الأخذ بالاعتبار أن تركيز البنسلين في الدم بعد الجرعة في هذه الحالة سيظل منخفضًا بحيث لا يسمح له بالوصول إلى الدماغ، وهذا يعني أن الجرعة المنفردة من البنزاثين بنسلين ج غير مناسبة لعلاج الزهري العصبي.[18][19]
- علاج المصابين بالزهري خلال مرحلتي الزهري الكامن المتأخر والزهري الثالثي: جرعة أسبوعية تُحقن عضليًا من بنزاثين بنسلين ج (البنسلين طويل الأمد) بتركيز 2.4 مليون وحدة دولية. الجرعة الإجمالية تساوي 7.2 مليون وحدة دولية (يستمر العلاج لمدة ثلاثة أسابيع).[19][20]
- علاج المصابين بالزهري العصبي، عدوى الزهري في العيون Ocular Syphilis وعدوى الزهري في الأذن Otosyphilis: جرعة يومية إجمالية بتركيز 18 - 24 مليون وحدة دولية من البنسلين البلوري المائي، تُحقن وريديا مرة كل 4 ساعات (بواقع 3 - 4 مليون وحدة دولية في كل مرة)، لمدة 10 - 14 يوم.[21]
- علاج النساء الحوامل بالزهري: تعالج السيدات الحوامل المصابات بالزهري حسب التوجيهات الإرشادية لعلاج البالغين بحسب مرحلة الإصابة بالزهري.[22]
- علاج المصابين بالزهري من مرضى الإيدز وحاملي HIV: حسب التوجيهات الإرشادية لعلاج البالغين بحسب مرحلة الإصابة بالزهري.[23]
علاج الأطفال حديثي الولادة المصابين بالزهري
يفرق المركز الأمريكي لمقاومة الأمراض عند علاج الأطفال حديثي الولادة من الزهري بين الحالات التي تُصاب بالزهري خلال الحمل والولادة (الزهري الولادي) أو الحالات التي تنتقل إليها العدوى بطرق أخرى (مكتسبة وليست ولادية).
وتغطي التوجيهات الإرشادية التي يعتمدها المركز السيناريوهات التالية:
- السيناريو الأول
- الإصابة بالزهري الولادي مؤكدة أو احتماليتها عالية
يتحقق هذا السيناريو عند وجود الطفل حديث الولادة في حالة سريرية غير طبيعية بناء على الفحوص المخبرية أو المباشرة. أي أن التحقق الإصابة قد تم بدون الاعتماد على التاريخ المرضي للأم.
جرعة يومية من البنسلين البلوري المائي بتركيز 100 ألف – 150 ألف وحدة دولية لكل كيلوغرام من وزن الطفل، تُعطى مقسومة على جرعتين خلال اليوم خلال الأسبوع الأول من العلاج ومن ثم ترتفع إلى ثلاثة جرعات خلال الأيام الثلاثة اللاحقة (الجرعة الإجمالية لعشرة أيام). تُحقن الجرعة وريديًا. جرعة بديلة: جرعة يومية من البنسلين البروكائيين (متوسط الأمد) بتركيز 50 ألف وحدة دولية لكل كيلوغرام من وزن الطفل مرة واحدة لمدة 10 أيام.
- السيناريو الثاني
- الإصابة بالزهري الولادي ممكنة
يتحقق هذا السيناريو في حال كانت الأم مصابة بالزهري ولم تُعالج، عولجت بشكل غير صحيح، أو عُولجت خلال فترة أقل من 4 أسابيع من الولادة.
جرعة يومية من البنسلين البلوري المائي بتركيز 100 ألف – 150 ألف وحدة دولية لكل كيلوغرام من وزن الطفل، تُعطى مقسومة على جرعتين خلال اليوم خلال الأسبوع الأول من العلاج ومن ثم ترتفع إلى ثلاثة جرعات خلال الأيام الثلاثة اللاحقة (الجرعة الإجمالية لعشرة أيام). تُحقن الجرعة وريديًا. جرعة بديلة: جرعة يومية من البنسلين البروكائيين (متوسط الأمد) بتركيز 50 ألف وحدة دولية لكل كيلوغرام من وزن الطفل مرة واحدة لمدة 10 أيام. أو: جرعة منفردة من بنزاثين البنسلين (طويل الأمد) بتركيز 50 ألف وحدة دولية لكل كيلوغرام كم وزن الطفل.
- السيناريو الثالث
- احتمالية الإصابة بالزهري الولادي منخفضة
يتحقق هذا السيناريو في حال كانت الصورة السريرية للطفل سليمة، كما أن الأم عُولجت بشكل صحيح وكامل خلال فترة أطول من 4 أسابيع من الولادة.
جرعة منفردة من بنزاثين البنسلين (طويل الأمد) بتركيز 50 ألف وحدة دولية لكل كيلوغرام كم وزن الطفل.
- السيناريو الرابع
- الإصابة بالزهري الولادي غير محتملة
يقع هذا السيناريو في حالة كانت حالة الزهري لدى الأم قد عُولجت بشكل فعال ودقيق قبل الولادة بمدة شهر على الأقل وتثبت التحاليل المخبرية أنها قد تعافت من الزهري، وفي هذه الحالة لا يُعطى الطفل أي أدوية لعلاج الزهري الولادي،
في حالة عدم القدرة من التحقق من الإصابة بناء على السيناريوهات الأربعة الماضية، يُنصح باتباع التوجيه الإرشادي التالي لعلاج طفل مصاب (أو محتملة إصابته بقوة) بالزهري الولادي:
جرعة يومية من البنسلين البلوري المائي بتركيز 200 ألف – 300 ألف وحدة دولية تحقن وريديًا بواقع جرعة كل 4 – 6 ساعات، وذلك لمدة 10 أيام.[24]
الأعراض الجانبية وتفاعل باريش هيركسهايمر
تشمل الأعراض الجانبية للبنسلين الغثيان والقيء، الإسهال، طفح جلدي، مغص معوي، ويمكن أن يسبب أيضًا تقلصات عضلية وحمى وصداع بالإضافة إلى تسارع في نبضات القلب وانخفاض في ضغط الدم. الكثير من هذه الأعراض الجانبية نادرة الحدوث ويمكن التحكم فيها والاعتياد عليها بعد فترة من الاستخدام.[25]
على أن استخدام البنسلين لعلاج عدوى الزهري بالذات يمكن أن يتسبب برد فعل مناعي مختلف يسمى تفاعل جاريش-هيركسهايمر (نسبة إلى العالمين اللذين لاحظاه أول مرة)، حيث ظهرت ردود فعل مناعية ضد علاج الزهري بالبنسلين (وكذلك بالزئبق، خلال القرن 19)، ولاحقًا سجلت أعراض مشابهة عند علاج إصابات بكتيرية أخرى مثل داء لايم والحمى الانتكاسية ومرض البريميات، وجميعها إصابات تسببها جراثيم تنتمي إلى شعبة اللولبيات، لا يعتبر تفاعل جاريش-هيركسهايمر رد فعل تحسسي allergic reaction رغم أنه استجابة مناعية لاستخدام المضادات الحيوية، ولا يعتبر داعيًا لإيقاف العلاج، حيث أن أعراضه يمكن التحكم بها من خلال الأدوية المساعدة ومراقبة الإشارات والعلامات الحيوية للمريض داخل المستشفى.
تشمل أعراض تفاعل جاريش-هيركسهايمر الحمّى، القشعريرة، الارتعاش الشديد، الغثيان، القيء، الصداع، تسارع نبضات القلب، انخفاض ضغط الدم، فرط التهوية، الضعف، آلام العضلات، وتفاقم البثرات والثآليل الجلدية الموجودة مسبقًا.[26] يحدث التفاعل خلال أول 24 ساعة من الجرعة الأولى من البنسلين (عادة خلال 6 - 8 ساعات)، وتختفي تلقائيًا خلال 12 - 24 ساعة بعد بدايتها.
السبب الرئيس في حدوث التفاعل هو بقايا الخلايا البكتيرية الميتة داخل الجسم، والتي تتحلل نتيجة لتأثير المضاد الحيوي وينتج منها كمية كبيرة من البروتينات والدهون الغشائية والعضيات الأجنبية، وهو ما يدفع الجسم لإنتاج رد فعل مناعي (التهابي وليس تحسسي) يظهر على شكل الأعراض المذكورة مسبقًا.
يظهر التفاعل في حال كان الزهري في مرحلته الأولية أ(55 - 95% من المصابين) والثانوية (95% من المصابين)، ولا يظهر عند العلاج من الزهري في مرحلته الكامنة، أما في حالة تقدم الإصابة إلى المرحلة المتأخرة، فيندر ظهور التفاعل خلال العلاج، إلا إذا ما كان المريض مصابًا بالزهري العصبي (75% من المصابين).
علاج الزهري للمصابين بحساسية البنسلين
البنسلين هو العلاج الذهبي للزهري، وقد أثبت نجاعته منذ بداية استخدامه حتى الآن، ولم يتطور - لحسن الحظ - أي سلالات من بكتيريا اللولبية الشاحبة مقاومة للبنسلين، مع الأخذ بعين الاعتبار أن اللولبية الشاحبة قد تمكنت - وبشكل محدود - من تطوير مقاومة ضد أنواع مضادات حيوية أخرى مثل عائلة الماكروليدات والأزيثرومايسين (زيثروماكس Zithromax) على وجه الخصوص.
ولكن في بعض الأحيان تكون حساسية البنسلين عائقًا أمام قدرة الطبيبة على استخدامه، وبناء على ذلك تُستخدم خيارات أخرى للعلاج:
- دوكسيسايكلين (فيبرامايسين Vibramycin): حبة بتركيز 100 ملغم مرتين يوميًا لمدة أسبوعين، تستخدم لعلاج الزهري الأولي والثانوي وتصلح أيضًا لعلاج الزهري الكامن المبكر.
- تتراسايكلين (ريستاكلين Resteclin): حبة بتركيز 500 ملغم أربع مرات يوميًا لمدة أسبوعين.
- سيفوترايوكسون (روسيفين Rocephin): حقنة (وريدية أو عضلية) بتركيز 1 - 2 ملغم يوميًا لمدة 14 يوم.
- أزيثرومايسين: جرعة بتركيز 2 ملغم لمرة واحدة (توقف استخدامها بسبب المقاومة البكتيرية وحالات فشل العلاج).[27]
التوجيهات الإرشادية السابقة تصلح فقط في حالة علاج الزهري في مراحل الزهري الأولي والثانوي والكامن المبكر، ولكنها لا تصلح لعلاج الزهري الكامن المتأخر ولا يمكن استخدامها للحوامل، ففي هاتين الحالتين يجب استخدام البنسلين بجميع الأحوال، وذلك بعد تطبيق بروتوكول "نزع الحساسية" على المريض المصاب بالزهري.
نزع الحساسية أو إزالة تحسس البنسلين Penicillin desensitization عملية تدريجية يتم فيها رفع قدرة الجسم - مؤقتًا - على تحمل البنسلين بدون استثارة رد فعل تحسسي، وذلك من خلال جرعات وريدية أو فموية منخفضة، بحيث لا تكون كافية لاستثارة رد فعل مناعي من الجسم، وزيادتها بالتدريج تحت مراقبة طبية.
الزهري في السياق الاجتماعي والسياسي
على الرغم من تعدد النظريات حول منشأ الزهري، إلا أن هناك اتفاقًا تاريخيًا على بداية الانتشار الوبائي له وربطه بالحدث العسكري المتمثل في حصار جيوش شارل الثامن لمدينة نابولي في 1495، ولم يكن هذا الوباء الوحيد الذي انتشر، في أوروبا تحديدًا، بسبب الأنشطة العسكرية، إلا أنه كان من الأوبئة القليلة التي انتشرت بسبب ارتباط حركة عسكرية بالأنشطة الجنسية للجنود المشاركين فيها. لم تكن القارة الأوروبية في ذلك الوقت غير مدركة لمفهوم الأمراض التناسلية حيث أنها واجهت لقرون طويلة قبل ظهور الزهري انتشارًا وبائيًا لمرض السيلان ولكن ذلك، في ظل انعدام أي ثقافة صحية مبنية على أسس علمية صحيحة، لم يكن كافيًا لتتمكن القارة من تطوير وسائل وأدوات لمواجهة مثل هذه الأوبئة.
الزهري في أوروبا بعد عصر النهضة
سُيِّس مرض الزهري منذ بداية انتشاره، وقد ظهر ذلك في التسميات المتعددة التي ظهرت لهذا المرض، حيث أن الجيوش التي شاركت في الهجوم على نابولي والدفاع عنها على السواء قد تشكلت في معظمها من المرتزقة الذين نقلوا المرض إلى بلدانهم ومدنهم بعد انتهاء الحملة العسكرية لشارل الثامن على جنوب إيطاليا، فقد عُرف الزهري باسم (المرض الفرنسي)، وعندما خلط الأوروبيون بينه وبين السيلان أول مرة سموه باسم (السيلان الفرنسي)، ولكن الفرنسيين سموه باسم (المرض النابوليتاني)، نسبة إلى نابولي، وقد سُمي في كثير من بلدان القارة باسم (المرض الأسباني)، لأن كثيرًا من مرتزقة شارل الثامن كانوا من إسبانيا، وبسبب انتشار المرض في بولندا في 1496 فقد سُمي أيضًا باسم المرض البولندي، كما أنه عُرف في الدولة العثمانية باسم المرض الفرنجي أو الإفرنجي، ولا تزال هذه التسمية تستخدم حتى يومنا هذا في بعض المراجع والترجمات العربية.
كان الزهري أيضًا سببًا في ابتكار التسمية التي استخدمت لاحقًا للأمراض التناسلية في بعض اللغات الأوروبية Venereal diseases وهي مشتقة من اسم Venus إلهة الحب عن الرومان، وقد ارتبطت تسمية المرض الجديد بمفردات أخرى، منها: الطاعون، والجدري العظيم great pox (وذلك للتمييز بين الثآليل الكبيرة المرتبطة بالزهري الثانوي في مقابل البثرات والثآليل الصغيرة المرتبطة بالجدري smallpox)، بينما انتشرت التسمية بفينوس بعد أن سُجلت ملاحظات عن انتقال المرض بشكل أساسي عبر الاتصال الجنسي. وفي 1530 كتب الشاعر والطبيب الإيطالي جيرولامو فراكاستورو Girolamo Fracastoro قصة تتمحور حول المرض شخصيتها الأساسية يدعى "سيفيلوس Syphilus" وهو الاسم الذي تحول لاحقًا إلى اسم للمرض في اللغات الأوروبية.
كان للزهري أيضًا تأثيرات عظيمة في المجتمعات الأوروبية ظهرت تجلياتها عبر الأعمال الأدبية، وعلى سبيل المثال، يُقدم الطبيب والروائي الإنجليزي المشهور آرثر كونان دويل مبتكر شخصية المحقق "شيرلوك هولمز" في واحدة من قصصه القصيرة بعنوان (وثيقة طبية) المنشورة عام 1894 وصفًا حيويًا لأعراض الزهري العصبي لأحد شخصيات قصته الذي يقضي محكومية داخل سجن نيوغيت في لندن، وتقف هذه القصة شاهدة على عمق تأثير الزهري بالمجتمعات الأوروبية وتعامل الناس في تلك القارة مع المرض باعتباره حكمًا طويلًا ومؤجلًا وبطيئًا بالإعدام، لا يخلو من القسوة ولا من العبثية، خاصة وأنه مرض مرتبط "بالحب" وبالجنس.
يقدم الزهري أيضًا، في المرحلة المبكرة من تاريخه، صورة حية عن قسوة الحملات العسكرية الأجنبية في القارة الأوروبية، وكيف أنها قد ارتبطت أيضًا بجانب الفظائع في ميادين المعارك بفظائع أخرى بسبب تأثر جموع المدنيين بالنشاط العسكري، فقد كانت الحملة الفرنسية على نابولي في البداية محل ترحيب من الفلاحيين الإيطاليين الذين كانوا يعانون من قسوة حكم مملكة نابولي وكانوا يأملون أن يخفف عنهم الملك شارل قسوة العيش تحت راية ألفونسو الأول (ومن قبله فريدناند الثاني، ملكا نابولي خلال الحرب الإيطالية)، إلا أن ما لاقاه الفلاحون وجموع المدنيين في الحرب من جيوش شارل الثامن كان السلب والنهب وإجبار مئات وآلاف النساء والفتيات على الدعارة القسرية وتعرضهن للاغتصاب الممنهج. وهي ظاهرة معروفة ومنتشرة خلال الحروب، وعلى سبيل المثال فإن أحد أهم تفشيات السيلان الوبائية قد تمت خلال حصار عكا في الحملة الصليبية الثانية.
ارتبط الزهري مثل غيره من الأمراض المنقولة جنسيًا بوصم اجتماعي عميق، لا يزال يشكل حتى اللحظة عائقًا جادًا أمام الحد من انتشارها. وبالنسبة للزهري بالذات فإن أعراضه الجلدية الواضحة وصورته السريرية المكشوفة قد جعلته أكثر الأمراض المنقولة جنسيًا في العصر الحديث ارتباطًا بالوصم الاجتماعي. ولكن الوصم هنا لا يتوقف عند حدود النبذ الاجتماعي فحسب، وهو في حد ذاته أمر في غاية الصعوبة، إلا أنه يتجاوزه إلى الحد الذي تتمظهر فيه حالة الوصم من خلال السياسات الرسمية المضادة والمقاومة للمرض، ويظهر ذلك جليًا في حالات متعددة مرتبطة بالأمراض المنقولة جنسيًا، كان أبرزها على سبيل المثال السياسة الرسمية في ألمانيا النازية بوجوب القتل الرحيم أو الإخصاء للأفراد المصابين بالزهري العصبي، تفيد الاحصاءات أن حوالي 180 ألف شخص قد قُتلوا بأول أكسيد الكربون والأدوية المخدرة بعد العام 1937 في عدة منشآت مخصصة للقتل الرحيم، بعضهم من مرضى الزهري العصبي، على الرغم من محاولة الكنائس المسيحية في ألمانيا التدخل رسميًا لمنع الأمر.[6]
التجارب على البشر
بخلاف القتل الرحيم، كانت الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالزهري قد سهلت أيضًا العوائق الأخلاقية المفترضة على البحث العلمي، وبالتالي فإن مرضى الزهري، بالإضافة إلى فئات اجتماعية مهمشة مثل المساجين وعاملات الجنس ونزلاء مستشفيات الأمراض العقلية، قد كانوا أهدافًا للتجارب على البشر على يد أطباء وجراحين وفيسيولوجيين بدون أي رادع قانوني.
كانت بداية التجارب من أجل تحديد الفارق بين الزهري والأمراض التناسلية الأخرى، حيث كان هناك خلط كبير بين الزهري والسيلان، وانقسم الرأي وقتها بين مدرستين، الأولى رأت في جميع الأعراض التي تنتجها أمراض الزهري والسيلان مرضًا واحدًا بتنويعات مختلفة، والثانية فصلت بين المرضين واعتبرت أن للأعراض مسببات مختلفة. في 1812 قام طبيب فرنسي يُدعى جان-فرانسوا هيرنانديز بتلقيح 17 سجين بإفرازات إحليلية مأخوذة من مصاب بالسيلان وراقب الأعراض التي نتجت عن العدوى، وأثبت بهذه الطريقة أن السيلان منفصل تمامًا عن الزهري الذي لم تظهر أعراضه بعد عملية التلقيح. علماء وأطباء آخرون أيضًا استخدموا التجارب على البشر من أجل اختبار طبيعة الأمراض التناسلية أو محاولة ابتكار أدوية لها، ألبرت نيسير العالم الألماني الذي يُعزى إليه الفضل في اكتشاف البكتيريا النيسرية البنية المسببة لمرض السيلان، أجرى هو أيضًا في 1898 تجارب على عاملات جنس في ألمانيا حيث قام بحقنهن بمصل مستخرج من دماء مرضى مصابين بالزهري، وذلك ضمن تجاربه من أجل العثور على علاج. وعندما وصلت أخبار تجاربه إلى الصحافة ادعى أن المصابات بالزهري قد أصبن بالمرض خلال عملهن كعاملات جنس، وقد صدر عن الحكومة الألمانية وقتها توجيهات تضمن حقوق المشاركين والمشاركات في التجارب الطبية. توجه بعدها نيسير إلى جزيرة جاوة الإندونيسية من أجل إجراء تجاربه هناك بدون أي مضايقات قانونية.
لم تتوقف التجارب الطبية على البشر، وفي واقع الأمر فقد كانت الدول الكبرى تشجع أطبائها وعلمائها على ارتكاب فظائع ضد فئات مهمشة باسم العلم، وذلك من أجل تحقيق اكتشافات وابتكارات تساهم، بشكل أساس، في دعم المجهود الحربي، وبالنسبة لدول مثل ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة فإن خبرتهم خلال الحرب العالمية الأولى قد أوضحت لهم أن الجهود العسكرية الكبرى وما يرافقها من تحريك لأعداد ضخمة من الجنود والمدنيين ينتج عنها بالضرورة تفشيات وبائية، تؤثر سلبًا على المجهود العسكري وتحيد عددًا ضخمًا من الجنود عن أداء مهامهم القتالية. حوالي مليون جندي فرنسي أدخلوا إلى المستشفيات بعد الحرب العالمية الأولى وعشرة آلاف جندي أمريكي دخلوا إلى المستشفيات خلال الحرب بسبب إصابتهم بأمراض منقولة جنسيًا.[28]
وبالتالي فإن الحكومات شجعت على الدوام تنفيذ تجارب طبية على البشر مباشرة من أجل الحصول على نتائج أسرع في مسعى البحث عن أدوية للأمراض الوبائية، وقد شمل ذلك الأمراض المنتقلة جنسيًا. يظهر ذلك جليًا في الحملات الدعائية التي نفذها الجيش الأمريكي والتي حث فيها جنوده وضباطه على عدم ممارسة الجنس خلال الخدمة حرصًا على عدم التعرض للعدوات المنقولة جنسيًا،[29] وقد استخدم في هذه الحملات خطاب شجع على التعفف عن الجنس عن طريق استخدام الوصم الاجتماعي لعاملات الجنس ولهذه الأمراض والمصابين بها.
- مصنع الموت الياباني، الوحدة 731
مجمع علمي بنته القوات اليابانية بالقرب من مدينة بنغ فانغ على أراضي منشوريا (شمال شرق الصين) خلال الاحتلال الياباني للصين قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية،[6] بُني المجمع تحت اسم: مركز الوقاية من الأوبئة وتنقية الماء، وفي الواقع فإن مهام هذا المجمع كانت العمل على تسخير الميكروبات من أجل إنتاج أسلحة بيولوجية، وفي سبيل ذلك أجرى العلماء اليابانيون آلاف التجارب على البشر (معظمهم صينيون ومغول وكوريون متهمون بالتجسس لصالح الحلفاء أو بالعمل ضمن المقاومة ضد الاحتلال). وقد شملت التجارب أمراضًا كثيرة مثل الجمرة الخبيثة والتيفوس والجدري والزهري. قُتل خلال التجارب 10 آلاف شخص خلال الفترة من 1937 إلى 1945.
- مدونة نورمبرغ وتجارب السجون الأمريكية
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عقد الجيش الأمريكي محاكمات لقيادات الحزب النازي بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في مدينة نورمبرغ بألمانيا، وقد خُصصت إحدى هذه المحاكمات لثلاثة وعشرين طبيبًا اتهموا بإجراء تجارب على البشر ورعاية برنامج القتل الرحيم للمعاقين والمرضى العقليين والمصابين بحالات متقدمة من الزهري. وكانت المحاكمة عاملًا في ظهور وانتشار مدونة نورمبرغ Nuremberg code[30] التي تعتبر أساس المدونات السلوكية الأخلاقية للممارسات الطبية وخاصة التجارب السريرية على البشر. واحتوت المدونة على 10 مبادئ رئيسية ركزت على أهمية الموافقة الطوعية والواعية قبل المشاركة في التجارب، وضرورة وجود مبرر علمي للتجربة وخوض التجارب على الحيوانات أولًا قبل الانتقال للتجارب على البشر، وضرورة التوقف الفوري عن التجربة عند ظهور خطر على حياة المشاركين. وعلى ما يبدو فإن هذه المدونة، والتي صدرت على يد قضاة عسكريين أمريكيين، لم تكن كافية من أجل ردع العلماء الأمريكيين (أو الحكومة الأمريكية في هذا المجال) عن الاستمرار في استغلال الفئات المهمشة من أجل إجراء التجارب الطبية. جدير بالذكر أن الدفاع عن المتهمين خلال المحكمة قد جادل بشرعية الأفعال التي حُوكم المتهمون بسببها لأن زملاءهم الأمريكيين قد قاموا بتجارب مشابهة على السجناء في الولايات المتحدة، منهم على سبيل المثال ريتشارد بيرسون سترونج الذي أجرى تجارب على الكوليرا، بينما أجرى جوزف غولدبرغ أبحاثًا على مرض البلاغرا.[6]
- تجارب غواتيمالا
في 1946 نفذت الخدمة الحكومية للصحة العامة United States Public Health Service تجارب على البشر في دولة غواتيمالا في أمريكا الوسطى بالتعاون مع الحكومة المحلية، حيث كانت التجارب استكمالًا لتجارب أخرى أجريت داخل السجون الأمريكية من أجل الوصول إلى فهم معمق أكثر للأمراض التناسلية وكيفية انتقالها وطرق الوقاية منها، وقد نفذت التجارب المبدئية على مصابين بالأمراض التناسلية مثل الزهري والسيلان من نزلاء السجون، ولكن قرر الفريق الطبي الذي يجري الدراسة البدء بإجراء دراسات على الأصحاء من أجل اختبار آليات وطرق انتقال العدوى عن طريق الاتصال الجنسي وذلك باستخدام عاملات الجنس المصابات بأمراض تناسلية، ومن أجل ذلك اختيرت غواتيمالا بالذات بسبب قوانينها التي تُجيز العمل الجنسي حتى داخل السجون.
لم يزعج منظمو التجربة أنفسهم كثيرًا بالعثور على عاملات جنس مصابات بأمراض تناسلية وعوضًا عن ذلك فقد حقنوهن بالبكتيريا المسببة للأمراض بشكل مباشر. لم تنجح مساعي المنظمين في تحقيق معدلات عدوى عالية بهذه الطريقة، فلجأوا لاحقًا إلى حقن المرضى بالبكتيريا بشكل مباشر، وبعضهم حُقن ببكتيريا الزهري سواء في الدم أو في السائل النخاعي لاختبار تأثيرات المرض على الجهاز العصبي. استمرت التجربة لمدة سنتين (حتى 1948) وقد تعرض خلالها حوالي 1500 شخص للإصابة المتعمدة بأمراض مختلفة منقولة جنسيًا، بينما بلغ العدد الإجمالي للمشاركين في التجربة 5500 شخص تقريبًا.[31] في عام 2010 كُشفت لأول مرة وثائق تتعلق بالتجربة وقد ظلت تفاصيلها سرية طيلة العقود الماضية.
- تجربة توسكيغي
في 1932 بدأت الخدمة الحكومية للصحة العامة public health service في الولايات المتحدة تجربة في بلدة توسكيغي Tuskegee في ولاية ألاباما من أجل دراسة الآثار طويلة الأمد لمرض الزهري على الذكور الأمريكيين من أصل أفريقي. وأجريت دراسة طويلة الأمد استمرت لما يقارب 4 عقود (1932 - 1972) كان موضوعها حوالي 400 رجل أمريكي من أصل أفريقي مصابون جميعًا بعدوى الزهري.
قام أطباء الخدمة الحكومية للصحة العامة بفحص حوالي 600 شخص في بلدة توسكيغي، جميعهم أمريكيون من أصل إفريقي وجميعهم أميون لا يجيدون القراءة والكتابة، وبعد الفحص المعملي تبين أن 400 منهم يعانون من مرض الزهري، وقد قدم منظمو التجربة أنفسهم باعتبارهم أطباء يقدمون خدمة طبية مجانية للسكان، وفي الحقيقة فإن منظمي التجربة قد حرموا المرضى من العلاج طيلة 40 سنة من أجل مراقبة تطورات المرض لديهم. عندما بدأت الدراسة كانت الأدبيات الطبية المنتشرة في أمريكا تدعي، بدون توثيق أو دراسة كافيين، أن مضاعفات الزهري الثالثي تختلف في تأثيراتها على المصابين بحسب العرق، حيث أن الأوروبيين البيض يعانون غالبًا من الزهري العصبي بينما الأفارقة السود يعانون أكثر من الزهري القلبي الوعائي. إن هذا المبدأ الذي قامت عليه الدراسة هو في حد ذاته تمثيل واضح للمبادئ العنصرية التي تتجذر عميقًا في المؤسسة الطبية الرسمية الغربية.
اكتشف البنسلين في 1943، أي بعد 11 عام من بداية التجربة، وكانت مهمة الفريق المنظم للتجربة هي منع المرضى من الحصول على البنسلين أو أي علاج آخر طيلة فترة الدراسة، وقد تابعوا بأنفسهم العديد من حالات الوفاة بسبب مضاعفات المرض بالإضافة إلى العديد من حالات الزهري الولادي، حيث نقل الرجال المصابون بالزهري المرض إلى زوجاتهم وبالتالي إلى أطفالهم بالتبعية، وطيلة فترة الدراسة لم تتدخل أي جهة حكومية من أجل إيقاف التجربة حتى وصلت شهادات بعض الناجين من التجربة إلى الإعلام، وأجبرت السلطات في النهاية على إنهاء التجربة في 1972.[31]
مصادر
- ↑ منظمة الصحة العالمية: الزهري
- ↑ Brief History of Syphilis (PMC)
- ↑ Daniel Turner, De morbo gallico : a treatise of the French disease, publish'd above 200 years past
- ↑ Syphilis – Its early history and Treatment until Penicillin and the Debate on its Origins
- ↑ 5٫0 5٫1 Syphilis History
- ↑ 6٫0 6٫1 6٫2 6٫3 Syphilis and Human Experimentation From the First Appearance of the Disease to World War II: A Historical Perspective and Reflections on Ethics
- ↑ Revisiting the Great Imitator: The Origin and History of Syphilis
- ↑ Science Direct: Treponema pallidum
- ↑ Antigenic variation in Treponema pallidum: TprK sequence diversity accumulates in response to immune pressure during experimental syphilis
- ↑ 10٫0 10٫1 أدلة MSD: الزُهري عند حديثي الولادة
- ↑ 11٫0 11٫1 11٫2 11٫3 11٫4 11٫5 أدلة MSD: داء الزهري
- ↑ 12٫0 12٫1 YaleMedicine: Syphilis: Symptoms, Causes, and Treatments
- ↑ 13٫0 13٫1 13٫2 The Clinical Stages of Syphilis | what type of illness can you get with syphilis?
- ↑ Science Direct: Cardiovascular Syphilis
- ↑ ASHM: Clinical management | Testing and treating
- ↑ CDC Laboratory Recommendations for Syphilis Testing, United States, 2024
- ↑ Medline Plus: Syphilis Tests
- ↑ CDC: Primary and Secondary Syphilis
- ↑ 19٫0 19٫1 CDC: Latent Syphilis
- ↑ CDC: Tertiary Syphilis
- ↑ CDC: Neurosyphilis, Ocular Syphilis, and Otosyphilis
- ↑ CDC: Syphilis During Pregnancy
- ↑ CDC: Syphilis Among Persons with HIV Infection
- ↑ CDC: Congenital Syphilis
- ↑ Derek W. Yip; Valerie Gerriets: Penicillin (NIH bookshelf)
- ↑ James M. Wood; Evelyn Sbar: Jarisch-Herxheimer Reaction (NIH bookshelf)
- ↑ CDC: Managing Persons Who Have a History of Penicillin Allergy
- ↑ The Wartime Posters That Tried to Shame Soldiers Away From STDs
- ↑ تصنيف من صفحة ويكي كومنز: World War II venereal disease posters from the United States
- ↑ The Nuremberg Code (PDF)
- ↑ 31٫0 31٫1 Syphilis and Human Experimentation From World War II to the Present: A Historical Perspective and Reflections on Ethics