وثيقة:عن قضية اغتصاب خديجة: السرديّة الأخرى للعنف
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | ريم بن رجب |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | جيم |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://jeem.me/%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D8%A8%D9%86-%D8%B1%D8%AC%D8%A8/%D8%B9%D9%86-%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%A8-%D8%AE%D8%AF%D9%8A%D8%AC%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%89-%D9%84%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها جيم
الكيّ بأعقاب السجائر كما التوشيم القسريّ كما ختان البنات كما التصفيح، جميعها ممارسات تريد أن تصم الجسد الأنثويّ بالعار، أن تتملّكه وتتحكّم فيه.
أكملت زجاجة البيرة وعدت إلى شقتّي كي أكتب عن خديجة، الفتاة المغربيّة ذات الـ17 عامًا والتي احتجزت واغتصبت على يد أكثر من عشرة أشخاص لمدّة شهرين. معدتي تؤلمني وذهني خالٍ، لم أكتب شيًئا. في اليوم الموالي قرّرت أن أعود إلى البيت مباشرة بعد الدوام كي أكتب عن خديجة. في الطريق، ناداني الشوق إلى شراب الشعير البارد، فانعرجت يسارًا ودخلت إلى الحانة. البيرة الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة، توقّفت عند هذا الحدّ وعدت مسرعة إلى شقتي. معدتي تؤلمني وذهني خالٍ، لم أكتب شيئًا. صحوت باكرًا، أنّبت نفسي كثيرًا وقرّرت ألاّ أشرب البيرة في هذا اليوم المشؤوم كي أستطيع الكتابة عن هذه الخديجة. آخر اليوم وجدت نفسي داخل الحانة وبعزم وثبات المؤمنين عند الشدائد لم أشرب البيرة. شربت نبيذًا ورديّا، الكثير الكثير من النبيذ الورديّ وعدت بعدها إلى البيت بمعدةٍ تؤلم وذهن خالٍ. في الحقيقة لم يكن ذهني خاليًا فقد كنت أفكّر يوميًّا في خديجة التي صارت عبئًا ثقيلا ومزعجًا يؤرّقني. تمنحنا الحانات مساحاتٍ أكبر للتفكير والغوص عميقًا داخل ذواتنا رغم ضيقها وازدحامها. الحانات، هذه الاسفنجات الكبيرة التي تمتصّ مُزاح المخمورين الثقيل وشتائمهم الغاضبة وعواطفهم الحقيقية والمزيّفة والدراما ومحاولات العقلنة اليائسة والنظريّات السخيفة حول العلاقات وأحاديث السياسة المملّة. بداخلها تولد أعظم الأفكار وأكثرها تفاهة. أفكار سكرانة، تترنّح يمنةً ويسرة داخل رؤوسنا الصغيرة، تحاول الاشتباك مع الواقع فلا تنجح. ظننت أنّي بوكوفسكي زماني فكنت كلّ يوم أحاول كتابة أفكاري السكرانة. وفي كلّ مرّة أفشل. المسألة لا تتعلّق بكتابة نصّ حماسيّ عن فتاة قاصر تعرّضت إلى الاغتصاب أندّد فيه وأشجب وأستعرض من خلاله كلّ الحجج الرافضة للعنف والاعتداءات الجسديّة. المسألة في نظري تتعلّق أساسًا بكيفيّة الكتابة عن البطولة خارج القانون برمزيّاته وتمثّلاته المتباينة. كيف نكتب عن هؤلاء الأبطال البعيدين عنّا والذين أعدمهم الفقر والاحتياج. كيف نكتب عن ضحايا الأحكام المسبقة، عن العنف الحقيقيّ بعيدًا عن الرواية الرسميّة، عن لحظة الانهيار الكبرى. كيف نكتب عن خديجة.
تعدّدت الروايات بخصوص قضية خديجة. الأمر أكثرُ تعقيدًا ممّا يبدو عليه. تجاوزت الحكاية مأساة الاغتصاب الجماعيّ لفتاة قاصر لتطرح أزمة امتلاك الحقيقة المطلقة. لكلّ طرف في القضيّة حقيقته. لا أحبّ المنساقين وراء الخطابات المشحونة، إمّا مع أو ضدّ. لسنا في حرب تموقعات لأنّ الأمر أبعد من ذلك بكثير. قد تبدو رواية أهالي الجناة أكثر حقيقيّة من رواية المدافعين عن خديجة. قد تبدو رواية الجناة أنفسهم أكثر حقيقيّة من رواية خديجة نفسها. لا شيء حقيقيّ في المطلق. يقول المُدافعون عن خديجة أنّها في لحظة انهيار كبرى ويقول المُشيطنون لها أنّها تجلس على السلالم مطمئنّة القلب ومرتاحة البال. ما يجب أن تكون عليه حالة خديجة بعد الاغتصاب، هذا هو السؤال المحوريّ للمُدافعين والمُشيطنين على حد سواء. لا تهمّني حالة خديجة بقدر ما يهمنّي أن أعرف تلك اللحظة الفارقة التي تقف عند حدّي الهشاشة والصلابة ويكون بعدها الانهيار خيارًا هيّنًا وممكنًا. متى تنهار خديجة؟ وهل الاغتصاب في حالتها أشدّ عنفًا من الفقر؟ نحن نتكلّم عن فتاة قاصر ولكنّنا لا نتكلّم عن طفلة تحمل بين يديها دميتها البلاستيكيّة وتعيش في عالم هادئ طافح بالخيال. خديجة الابنة القبيحة لمنطقة أولاد عيّاد المهمّشة. هذه المنطقة تعرف الفقر جيّدًا، وتعرف العنف جيّدًا أيضًا. خديجة ليست سوى دورة صغيرة في حقل هذا العالم الكبير العفن. يمكن أن يكون لها حياةٌ عفنة مثل غيرها من البشر رغم صغر سنّها، حياة لم تخترها بمحض إرادتها. يمكن أن تكون خديجة القاصر قحبة بالمقاييس الاجتماعية، تسكر وتدخّن السجائر الرخيصة وتضع وشومًا هاوية على جسدها وتجلس مع رفاق السوء، فهل هذا يعني أنّها تستحق أن تُغتصب أو هل يُبرّر سلوكها الخارج عن صندوق العادات والتقاليد فعل الاغتصاب؟ يمكن أن يكون لخديجة علاقة جنسيّة بكلّ رجال القرية بل بكلّ نساء ورجال العالم، ويمكن أن يكون حادث الاختطاف ملفّقا وأنّها ذهبت مع الشاب بمحض إرادتها كي تمارس معه الجنس في قنّ للدجاج وفي آخر لحظة رفضت، فهل يبرّر ذلك الاغتصاب؟ الموافقة حقّ قانونيّ أساسيّ وكلّ فعل جنسيّ لا يتمّ برضا خديجة يعدّ اغتصابًا. دائمًا ما يقوم المجتمع بتجريم ضحيّة الاغتصاب، الحلقة الأضعف في كلّ الحكاية، وهو ما حصل مع فتاة أولاد عيّاد التي يريد الجميع أن تظلّ ضحيّة، وألاّ تذهب بتفكيرها بعيدًا عن منطق المأساة.
لنعد قليلا إلى لحظة الانهيار. وشوم خديجة تعبّر بصدق عن لحظات انهيارها وخيباتها وانكساراتها، ومن وجهة نظر جماليّة ذاتية، تبدو جميلة جدّا لأنّها مُنتجة للمعنى. الفرضيّات كثيرة فيما يتعلّق بهذه الوشوم، ورأي تلك الجهبذ مختصّة الوشم "المُحسنة" كما تدّعي لا يعنينا في شيء لأنّها صرّحت بأنّها تريد أن تبحث عن زوج "يستر" الفتاة المغتصبة. السؤال هنا، هل أكتب في رمزية الوشم لأفهم ذهنيّة الجُناة أم لأفهم ذهنيّة خديجة؟ إذا ما سلّمنا بالفرضيّة الأولى وهي أنّ المغتصبين هم من قاموا بالوشم سيكون تحليل رمزيّاته مختلفًا تمامًا عن تحليلها في حال سلّمنا بالفرضيّة الثانية وهي أنّ الوشم خاضع لإرادة خديجة. ربّما المهمّ في الموضوع أنّ جسد الفتاة تحوّل إلى مخطوط مجازيّ يختزل ما يجري في هذا العالم الكبير العفن. الوشوم المحفورة بعمق على جسدها خزّان للذكريات والحكايات الطويلة الشّاقة، وهي مؤنّثة بامتياز: شمعة تحترق، أزهار، نجوم صغيرة، علامات أمازيغيّة، فتاة على رسغها تحمل مصدحًا (ميكروفون)، أمّي، أبي، نبضات قلب خافق، وعزالدّين الذي مرّ من هنا على رقبتها. هذا الجسد الصغير تحوّل إلى مطفأة سجائر أيضًا. أذكر مرّة عندما كنت في سنّ الحادية عشرة أنّي سمعت عن فتاة من قريتنا قام أحد عشّاقها الكثر بكيّها بسيجارة على ردفها كي يصمها بالعار. كيّ الحبيبات أو المومسات بأعقاب السجائر في مجتمعاتنا الانغلاقيّة تجسيدٌ حيّ لمركزيّة القضيب وهو فعلٌ مسكون بهاجس السيطرة. عندما كبرت قليلا سمعت أنّ البوليس يغرز أعقاب السجائر في الأماكن الحسّاسة للمجرمين أو للمناضلين السياسيّين كشكلٍ من أشكال التعذيب الوحشيّة بهدف اقتلاع اعترافاتهم أو إجبارهم على التوقيع على محاضر جاهزة مسبقًا. الكيّ بأعقاب السجائر شبيهٌ بالتوشيم القسريّ في معسكرات الاعتقال النازيّة ضمن ما يُسمّى بنظام تحديد الهويّة. كلّ شيءٍ يدور حول وهم السلطة. الكيّ بأعقاب السجائر كما التوشيم القسريّ كما ختان البنات كما التصفيح، جميعها ممارسات تريد أن تصم الجسد الأنثويّ بالعار، أن تتملّكه وتتحكّم فيه وترميه جانبا لانتهاء صلاحيّته. متى تنهار خديجة؟ ربّما انهارت عندما خاصمتها صديقتها الحميمة وولّت وجهها عنها، ربّما انهارت عندما انقطعت عن الدراسة بسبب الفقر والحاجة، ربّما انهارت عندمّا عنّفها والدها في يوم من الأيّام الغابرة، ربّما انهارت عندما تقطّع حذائها الوحيد، أو عندما تلطّخ سروالها بماء الوحل بعد سقوط أمطار غزيرة، ربّما انهارت عندما لم تجد ثمن فوطة صحيّة ذات قدرة عالية على الامتصاص، أو عندما فهمت وهي في سنّ صغيرة جدّا أنها ابنة منطقة أولاد عيّاد البائسة وما الاغتصاب سوى انكسار جديد وخيبة أخرى تنضاف إلى قائمة خيباتها وانكساراتها، نكتب عنه نحن فيما بعد كنوع من التاريخ المضادّ.