وثيقة:ما ظهر منها: أية معان تختفي خلف الحجاب وتنوعاته ومعاركه؟

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مقالة رأي
تأليف عمرو عزت
تحرير غير معيّن
المصدر البوصلة
اللغة العربية
تاريخ النشر 2007-07

تاريخ الاسترجاع 2018-07-21


نٌشر هذا المقال في العدد الرابع من مجلة البوصلة الورقية المعنون "المرأة المصرية .. أسئلة الجسد والثقافة والسياسة" يوليو (2007)



قد توجد وثائق أخرى مصدرها البوصلة


لا تلبث إحدى معارك “الحجاب” أن تتوارى حتى تبرز أخرى لتشغل جانبا كبيرا من الجدل الثقافى والسياسى الراهن. كلمة “الحجاب”، هكذا على إطلاقها، لا تحمل معنى واحدا، بل معان متعددة مختلفة. الأهم أنها تخفى تحتها وسط السياقات العديدة والمتنوعة لذكرها، دلالات ومواقف تكشف عن معارك وساحات جدل أخرى، تبدأ من صورة المرأة ووضعها الاجتماعى، لتمر بقضايا المجتمع كله.. الديمقراطية والحريات والهوية والخصوصية الثقافية، ولا تنتهى بالجدل حول الدين والعلمانية. هذه محاولة للاقتراب من ساحات الجدل وتأمل المواقف والدلالات، بدون الانخراط بالضرورة في المعارك، أو الانحياز بإطلاق لأحد أطرافها.

التكوين

أصبح من التقاليد المعتادة علي هامش معارك الحجاب المتجددة، الرجوع إلي لحظة التكوين الأولي للحكم الشرعي للحجاب في الإسلام. فمن يتخذون موقف "أنصار الحجاب"، يستدلون من النصوص الشرعية الإسلامية (القرآن والسنة) ما يفيد أن الحجاب هو أمر من اللـه لكل امرأة مسلمة، كما يرجع "منكرو الحجاب" إلي ذات اللحظة وذات النصوص ليفندوا قول "الأنصار"، وينتهوا إلي أنه لا أساس للحجاب في التشريع الإسلامي، بل هي تقاليد وعادات عرب الجزيرة أُلبست ثوب التشريع الديني.

هذا الجدل صار مكررا ومعلومة جوانبه. ويمكن ببساطة الوقوف علي نماذج خطاب كلا الطرفين: أنصار الحجاب بالطبع يملأون بخطابهم السمع والبصر، بينما لم يذع صيت الكثير من أدبيات الطرف الآخر – القليلة في الأصل – إلا كتبا معدودة من أشهرها : " الحجاب" لجمال البنا، و"حقيقة الحجاب وحجية الحديث" للمستشار محمد سعيد العشماوي.

ليس من المفيد إذن تكرار عرض جوانب هذا الجدل بالكامل، ولكن أعتقد أنه من المفيد التقاط بعض الملاحظات الدالة من بين ثنايا هذا الجدل.

الملاحظة الأولى: أن مصطلح "الحجاب" نفسه لم يرد ذكره في النصوص الشرعية الإسلامية فيما يتعلق بالمرأة إلا مرة واحدة: "وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ": سورة الأحزاب 53.

ولا يعني هذا، كما في أقوال مشاهير المفسرين، سوي التنبيه علي المسلمين آنذاك بعدم اقتحام حجرات زوجات النبي الملحقة بالمسجد النبوي، طلبا لحاجة أو مسألة. وتوجيههم للاستئذان علي مدخل الحجرات من خلف الحوائط أو الستر، وليس للنص أية دلالة تتعلق بالزي. ومع ذلك يستخدم السلفيون هذا النص خارج سياقه هذا كحالة عامة في ضرورة فرض حالة من "الحجب" والفصل بين الرجال والنساء. وبالتوازي مع نصوص أخري يتم إلقاء عبء هذا الحجب علي المرأة، ليقال أن أصل حالها والغالب عليها الاحتجاب في بيتها والقيام بأعباء الزوجية والأمومة والمنزل. وإذا خرجت فإن "حجاب" المرأة/ زيها هو حالة موازية لاحتجابها في بيتها. لذا فإن النقاب الذي يغطي المرأة تماما هو صورة الحجاب الشرعية المفروضة علي النساء المسلمات.

الملاحظة الثانية تتعلق بأن باقي النصوص لا تحوي صراحة ضوابط هذا الزي، إذا استثنينا سحب حالة الحجب وتعميمها من قبل السلفيين.

فحوى النصوص الأخرى يأمر النساء بأن "يدنين عليهن من جلابيبهن" و"يضربن بخمرهن علي جيوبهن" و"لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها". والتعبيرات السابقة ليست واضحة بنفسها بأي حال فيما يتعلق بتحديد ضوابط لزي المرأة. كما أن هذه النصوص واضح أن دلالتها ليست مستقلة عن زي فعلي قائم تتحدث عنه. فالجلباب والخمار تتحدث عنهما النصوص بدون أن تعرِّفهما أو تضع لهما وصفا. وبالتالى فإن الرجوع لزي المرأة السائد وقتئذ لا بديل عنه لتحديد الدلالة. وهنا مفترق طرق. فالفقهاء اعتمدوا علي الزي التاريخي لامرأة جزيرة العرب في لحظة التكوين هذه، وتم ملء فراغات النصوص هذه بأقوال وآثار مروية عن هذا الزي، وأخرى عن سلوك النساء المسلمات من زوجات الرسول والصحابة بعد نزول هذه الآيات.

وبرغم أن الأحاديث النبوية في هذا الشأن مختلف علي صحتها والغالب فيها الضعف، فإن هذه الأقوال والآثار تكفلت بتحديد ما تم ترسيمه كصورة نموذجية للحجاب (أو الزي الشرعي للمرأة) في الفقه الإسلامي.

في اتجاه معاكس، لم يسلكه سوي مفكرون معاصرون، تم التعامل مع النص في سياقه التاريخي باعتباره يدخل تعديلات علي وضع قائم، وليس بالضرورة إضفاء مشروعية دينية عليه. لذا فإن الأمر لا يعدو تنبيهات تتعلق بالاعتدال في الملبس وعدم المبالغة في إظهار الزينة. ويؤكد هذا الفريق علي تاريخية أقوال وآثار صحابة الرسول، التابعة لتاريخية زي النساء وموافقته للبيئة والتقاليد العربية فحسب. ويستند رأي هذا الفريق إلى التعبير القرآني المفتوح "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها": فالأمر هنا يكاد يشير في إطلاقه "ما ظهر منها" إلي ما يظهر من المرأة بحكم العادة والعرف المتغيرين، بدون أن يعتبر ذلك شاذا أو متطرفا ومبالغا فيه، وهو ما يستحيل ضبطه وتحديده وتعميمه كضوابط لزي شرعي موحد. وتبعا لذلك، فالأمر لا يعدو كونه نهيا عن تجاوز زينة المرأة – باعتبارها شيئا طبيعيا - تلك الحدود المجتمعية المتغيرة في الزمان والمكان التي تحدد العادي والطبيعي من المتجاوز والمبالغ فيه.

هذه الطريقة في جعل النص متداخلا في جدل مع تاريخ تنزله ومفتوحا في جدل مستمر مع المستقبل فيما بعد، لم ترض بالطبع الفقهاء الإسلاميين الذين يتوجسون من المنهج التاريخي في التعامل مع النصوص. فالنص المفتوح الدلالة تم تجميده، وأصبح "ما ظهر منها" يتراوح بين رأي أقلية يرون أن المقصود هو ما ظهر من ثوبها الذي يغطيها بالكامل، والذي لا يمكن للأسف تغطيته هو أيضا! وبين أغلبية تري - تبعا لأحاديث نبوية ضعيفة أو لآثار ومرويات – أن المقصود هو الوجه والكفين فقط. وهما الصورتان المعتمدان للحجاب الشرعي في الفقه الإسلامي التقليدي.

الملاحظة الثالثة تتعلق بأن موجة تأليف رسائل ومؤلفات عن "الحجاب"، وباستخدام هذا المصطلح تحديدا، لا ترجع لأبعد من العصر الحديث. حيث كانت مسألة زي المرأة قديما مسألة هامشية، تذكر في ثنايا كتب الفقه في باب الصلاة في فصل عورة المرأة في الصلاة، في مسألة الفارق بينها وبين عورتها أمام غير محارمها في الحياة العامة. في هذا دلالة لا تخفي علي أن هذه المسالة لم تكن تمثل تحديا جديا للفقهاء المسلمين، أو لم تكن ذات معني أصلا. فالرؤية الفقهية لهذه المسألة، وفق طريقة تشكلها، كانت انعكاسا للواقع إلي حد كبير. كما أن الأزياء التقليدية للعرب، ثم الشعوب الشرقية التي صارت تحت حكم دولة الخلافة الإسلامية بعد ذلك، يغلب عليها جميعا المحافظة والالتزام بغطاء الرأس للنساء وللرجال أيضا.

وهكذا أتى تأليف مؤلفات خاصة مفردة للحجاب فيما بعد، كرد فعل علي مؤلفات رفع "الحجاب" ضمن الدعوة للنهوض بالمرأة في العصر الحديث، التي كانت تهاجم حالة "الحجاب" التامة (أى الاحتجاب والعزل) التي أحاطت بالمرأة آنذاك.

وبالتدريج تم تحويل دلالة كلمة الحجاب في الجدل العام من الاحتجاب الكامل إلي الحجاب/ الزي. باستثناء السلفيين السابق ذكر موقفهم. فقد واصل الإسلاميون الإحيائيون (ومنهم الإخوان المسلمين) استخدام مصطلح الحجاب بدلالته الجديدة بغير التورط في الدفاع صراحة عن حالة الاحتجاب الكامل. ولكن في تفاصيل خطابهم يجري أحيانا تحبيذه بدون فرضه، أو تم تقييد عكسه بضوابط عديدة تخف أحيانا وتشتد أحيانا أخري.

وحتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، لم تحدث تطورات جذرية فى المجتمعات المسلمة بالنسبة لوضع المرأة. تم ترسيم حالة “الحجاب” كوضع شرعى للمرأة، بإقرار قاعدة شبه متعارف عليها فى اجتهادات المدارس الفقهية الإسلامية المختلفة، هى أن حالة الستر أليق وأجدر بالمرأة. ولكن حالة “الحجاب” كوضع قيمى وأخلاقى سرت فقط بصرامة على "الطبقة الوسطى" لهذه المجتمعات.. أى أسر التجار ورؤساء الطوائف والكبراء والعلماء والقضاة والأعيان ورؤوس القوم، ففى المجمل ظل نساء هذه الأسر "حريما” داخل البيوت. بينما تراوحت حالة نساء القصور بين الاحتجاب داخلها، وبين البروز والفاعلية فى حالات قليلة معدودة. أما نساء الطبقات الدنيا والجوارى فكن أكثر حرية فى ممارسة الأعمال وغشيان الأسواق، فلم تكن محتجبة ولا محجبة بالكامل، ولم يكن ملبسهن يغطى الوجه.

فى أوائل القرن العشرين (فى إبريل 1919) رصد محمد فريد وجدى حالة "حجاب" المرأة، بما لا يختلف عن هذا الوضع. ولكن المثير أن المقال يدشن فى نفس الوقت الاحتجاج على بذور تغييره، فيعلن احتجاجه على خروج النساء المصريات فى مظاهرات عام 1919، لا سيما أن ذلك صاحبه نزع العديد من النساء غطاء وجههن أثناء التظاهر كرمز على تخطى حالة “الحجاب” والعزلة إلى "إعلان الوجود" والمشاركة. ولكن كانت لحظة 1919 الفارقة تعبيرا عن تراكم تغيرات عدة فى بنية المجتمع المصرى، بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر، وأدت إلى معركة فكرية محتدمة حول كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" فى أول القرن.

برغم الهجوم الحاد الذى ناله قاسم أمين، ولا يزال، فى كتابات بعض الإسلاميين، فإن ما دعا إليه لم يزد كثيرا على ما يقوله الفقهاء والدعاة الإسلاميون المعتدلون الآن، إذا استثنينا مديحه الحار للتمدن الأوربى. فموقفه يقتصر على رفض احتجاب المرأة الكامل عن الحياة العامة، وينادى بالعودة لـ“الحجاب الإسلامى الصحيح” الذى لا يشترط ضرورة ستر الوجه المعوق لنشاط المرأة وحياتها الاجتماعية بل يكفى فيه الحشمة وتغطية كافة البدن فيما عدا الوجه والكفين!

عكست تداعيات كتاب “تحرير المرأة” الصراع بين تيارين من تيارات الوطنية المصرية. فبينما دافع عن الكتاب مجلة المنار ورجال حزب الأمة، كان الحزب الوطنى وجريدة اللواء وطلعت حرب على رأس المهاجمين. كان الجدل بين الطرفين يعكس الجدل بين الوطنية الحديثة المتطلعة إلى “المدنية الأوروبية” بتعبيرات ذلك العصر وبين التيار المحافظ الذى ينافح عن التقاليد والهوية الإسلامية، كما يراهما، بجانب نضاله ضد المستعمر. ولكن نجاح التيار الليبرالى فى تولى قيادة الحركة الوطنية دفع حركة تحرر المرأة. كما كانت معدلات تعليم النساء مضطردة بفعل جهود جمعيات نسائية متعددة، فى القاهرة أولا، ثم الأقاليم أيضا. قبل وبعد ثورة 1919، وبدأت النساء تدخلن الجامعة وتعملن، وخصوصا من الشرائح العليا للطبقة الوسطى، ثم الشرائح الدنيا، إلى أن تغير المناخ السياسى كلية بعد انقلاب يوليو 1952.

"التحرير" من أعلى وصعود التيار الإسلامي : جزر ومد

اتخذ نظام يوليو موقفا “تقدميا” بشكل نسبى عند النظر لتعامله مع قضايا المرأة، من حيث تشريعاته وخطابه الثقافى والإعلامى، خصوصا مع تحالفه فى منتصف الستينيات مع قوى اليسار ومنحه مراكز مهمة فى الإعلام والثقافة. ولكن ممارساته القمعية الاستبدادية أثرت على وضع المرأة. فمن جهة ألغى استقلال الحركة النسوية وألحقها بالدولة، ومن جهة أخرى حال قمعه للإخوان المسلمين دون نمو اتجاه إسلامى كانت له رؤاه وتوجهاته التى توسطت بين إصلاحية الإمام محمد عبده وبين سلفية تلميذه محمد رشيد رضا.

ويمكن قراءة انعكاس هذه الممارسات فى تطور زى امرأة الطبقة الوسطى المصرية. فانحسار حالة “الحجاب” التقليدية قد خلف بديلين: الأول كان ارتداء الأزياء الغربية الذى اقترن بمجموعة من القيم الجديدة الحداثية، والثانى كان “الحجاب الشرعى” - غير المقترن بالضرورة بالاحتجاب الكامل - والذى دعمته دعوة الأخوان المسلمين وارتبط بمجموعة من القيم الأخرى التى تنتمى لدائرة المرجعية الدينية حسب تفسير الأخوان، والتى تحترز من كثير من القيم الحداثية.

مع انحيازات النظام والحاكم وتأثيراتها على البنية الاجتماعية، انتهى الأمر إلى صعود البديل الأول والتحجيم المؤقت للبديل الثانى. ففى الخمسينات والستينات كان من النادر أن تجد امرأة محجبة فى الطبقة الوسطى. تغطية الوجه اقتصرت على بعض العائلات الريفية أو شديدة المحافظة. وغطاء الرأس كان مقتصرا على أقلية ضئيلة معظمها من العجائز والناشطات الإسلاميات القليلات آنئذ.

فى أواخر الستينات عاود البديل الثانى صعوده. فعادة ما يؤرخ لـ “عودة الحجاب” بهزيمة يونيو 1967 وما مثلته من انتكاسة لـ"الحلم القومي" وبداية صعود المد الإسلامى الذى رسخت أقدامه بعد انتصار أكتوبر 1973 وأفول نجم الحركة الطلابية ذات النزوع اليسارى. أضف إلى هذا فتح النظام فى عهد السادات الباب للتنظيم ذى الطابع الإسلامى داخل الجامعة بتكوين الجماعات الإسلامية. سعيا إلى الحد من نفوذ اليسار. فى نفس الوقت أفرزت تجربة الجماعات الإسلامية فى الجامعات التنظيمات الإسلامية ذات الطابع السلفى والجهادى.

منذ هذه اللحظة بدأ وهج البديل الإسلامى، أو الحل الإسلامى، يزداد فى أوساط المصريين، وبالذات فى أوساط الطبقة الوسطى والمتعلمين. وحل مشروع العودة المجتمعية للإسلام مكان المشروع القومى. هذه العودة قادها دعاة ومفكرو التيارات الإسلامية المختلفة، بينما رزح الأزهر تحت ثقل تبعيته للدولة، وفقد خطابه التقليدى الحيوية والجاذبية.

وحتى نهايات الثمانينات كان الحجاب يشى بانحياز لتيار إسلامى ذى طابع سياسى ودعوى ما. وكان فى الغالب ذو نمط متشابه وملتزم بالضوابط الشرعية الفقهية للحجاب: ملابس فضفاضة وألوان بسيطة غير ملفتة، وزى يغطى كل البدن فيما عدا الوجه والكفين. وظهر النمط المميز الذى اصطلح على تسميته بـ"الخمار"، وهو النمط الأكثر شيوعا بين “الملتزمات” دينيا ونساء تيار الأخوان المسلمين. بينما كانت بداية ظهور “النقاب” الذى يغطى كل البدن بزى داكن ثخين ناتجا عن مزاحمة التيارات السلفية والجهادية لتيار الأخوان المسلمين، الذى كان، مقارنة براديكاليتهم، ميالا للتوفيق والتوسط.

ويمثل “حجاب” السلفيين والجهاديين الراديكالى (النقاب) عودة أخرى لحالة الحجاب الأولى (الاحتجاب)، وإن كان هذه المرة قد جاء معاكسا للتقاليد والهوى المجتمعى، ولاقى انتقادات عنيفة.

المثير أنه برغم كراهة أدبيات السلفيين لخروج المرأة من بيتها إلا لضرورة، إلا إن التعليم أصبح، بلا خلاف بينهم، من الضرورات. والعمل أيضا فى حالة غياب الزوج أو الحاجة الشديدة. لذا فإن الاحتجاب فى المنزل لم يعد مطروحا بقوة، وإنما المطروح هو الفصل بحجاب بين الرجال والنساء فى الحياة العامة.

فى التسعينات، وبعد انتهاء موجة عمليات العنف الجهادية، تراجع المد السلفى الحركى بسبب المواجهة الأمنية العنيفة، التى امتدت للجماعات الدعوية والأفراد الملتزمين، فيما عرف بالسياسة الوقائية لتجفيف منابع الإرهاب. وبشكل عام انتهى وجود السلفيين الحركيين فى الجامعات - وإن كان قد عاد مؤخرا – التى خلت تماما آنذاك للإخوان المسلمين.

الملاحظ فى هذه الحقبة أن الميل للتدين و”الالتزام” بالدين، مع زيادته المطردة كنمط عام للحياة ومنهج التفكير، أصبح منفصلا بصورة أكبر عن أتباع أية تيارات، وساهم ذلك فى تشكيل تهجينات مختلفة لأنماط التدين ولجماعات المتدينين ذات الميول والنزوعات المختلفة. وأدى هذا إلى انتشار هائل لـ“الحجاب” كنمط من الأزياء، ولكن بأشكال مختلفة، ليصبح، عند الكثيرين والكثيرات، يعنى مجرد غطاء للرأس مع تخفف الكثير من الضوابط. وبالإجمال أصبح ارتداء شكل ما من “الحجاب” من قبيل أداء فريضة دينية فردية أو من قبيل الالتزام بعادة اجتماعية تمثل حالة عامة يثير الخروج عليها العجب والتساؤل. حدث ذلك بالتوازى مع بدايات تشكل جماعات المتدينين الجدد غير المنتمين بالضرورة، حول دعاة ومفكرين ورموز جديدة غير تابعة لتيار منظم ما، أو تخفى انتمائها ولا تذيعه، وتحافظ على توجيه خطابها لعموم المسلمين وتحاول تجنب معارك السياسة والمواجهة المباشرة مع السلطة.

الحجاب المعاصر

بسبب هذه التطورات، أصبحت دلالة لفظ “الحجاب” ووصف "محجبة" فضفاضين. ويمكن أن نميز بين خمسة أنماط متداخلة تندرج تحت مسمى “الحجاب” بالمعنى الواسع:

أ- الجلباب الشعبى التقليدى: ويندرج تحته أزياء الطبقات الشعبية الفقيرة وتحت المتوسطة والأزياء الشعبية التقليدية للريفيات فى الدلتا والصعيد وأزياء البدو فى سيناء والواحات. وصاحباته تنتمين لبيئات تقليدية، والبعد الدينى هنا ليس إلا دعم لتقاليدها. ولا يخضع ارتداء هذا الزى للاختيار الفردى، بل هو تقليد جماعى. وهو زى يتميز بالزينة والتيمة الشعبية المميزة لأنماطه الفرعية بحسب البيئة. وهذا الزى يميز غالبا النساء الغير متعلمات أو اللاتى لم تصلن لمستويات عليا فى التعليم ولا يعملن إلا فى مهن هامشية مثل البيع فى الأسواق أو مساعدة الأزواج، وليس فى مؤسسات حديثة.

ب- الزى الحديث المحتشم مع غطاء رأس: وهذا النمط يتداخل مع سابقه، فكثيرات من نساء البيئات التقليدية يتحولن إليه بفعل تحولات اجتماعية أو اقتصادية (التعليم - دخول الجامعة - العمل فى مؤسسات حديثة - الصعود الاجتماعى - الانتقال لبيئة أكثر مدينية)، وهذا الزى يتميز بمحافظته وبزيادة البعد الدينى فيه بالتحاق مرتدياته بالطبقة الوسطى أو باقترابهن منها. وهو أيضا نمط بين الفئات الأكثر محافظة أو تدينا من نساء الطبقة الوسطى وفتياتها. وأهم ملامحه المميزة أنه لا يظهر ولا يجسد تفاصيل جسد المرأة بشكل كبير. وقد تعرِّف المرأة التى ترتدى هذا الزى نفسها بأنها ملتزمة دينيا، ولكن هنا الالتزام يتسم بالاعتدال والتوفيق بين الدين والتقاليد ومتطلبات الحياة المعاصرة.

ج- "الحجاب الملتزم": وهذا النمط يتداخل أيضا مع سابقيه ويكون ارتداؤه فى الغالب ناتجا عن ميول دينية واضحة وأكثر تركيبا تتلخص فى مفهوم "الالتزام". وهو يتميز بصرامة شكل غطاء الرأس الذى ينسدل فيغطى منطقة الصدر، وتختفى منه الزينة ولا تستخدم مرتدياته مساحيق التجميل. ونظرا لأن هذا الحجاب هو الشكل الأشهر للزى الشرعى الملتزم، يكون عابرا للطبقات والبيئات، وإن كان يكثر بشكل ملحوظ بين نساء الطبقة المتوسطة المدينية (الوسطى والدنيا).

د- النقاب: النقاب هو الزى الذى يغطى كل الجسد بما فيه الوجه والكفين بثوب فضفاض وثخين موحد اللون، غالبا أسود. ويكثر ارتداؤه لدى المتدينات من الطبقات الشعبية التى يمتزج فيها التدين السلفى بالتقاليد الشعبية، ويقل فى الطبقات المتوسطة والعليا. ويدور حوله جدل كبير، حيث ترفضه أو تنفر منه قطاعات من المجتمع تشمل حتى بعض الملتزمين دينيا، لما يحمله من عزل للمرأة وطمس لهويتها الشخصية وصعوبة فى ممارستها لأية أنشطة فى المجال العام.

هـ- الأزياء المتحررة نسبيا مع غطاء رأس: وهو النمط الأكثر إشكالية، حيث يقتصر تأثير البعد الدينى على غطاء الرأس وتغطية معظم الجسد، ولكن هنا غطاء الرأس أيقونى ورمزى أكثر منه تعبيرا عن “التزام” و”خضوع” لضوابط فقهية. وتغطية معظم الجسد أيضا تميل لذلك، فهذا الزى يشمل ارتداء الملابس التى تبرز تفاصيل جسد المرأة مثل الجينز والجيبات الضيقة، والقمصان الضيقة والقصيرة، وهو يتدرج فى أطياف متداخلا مع الزى المحتشم من جهة، ومن جانب آخر يقترب من أزياء غير المحجبات. ويشمل هذا النمط المتنوع قطاعات كبيرة من نساء الطبقات المتوسطة وما حولها، غير أنه يكثر فى حجاب الطبقة المتوسطة العليا ويقل نزولا إلى الطبقات الشعبية. وقطاعات كبيرة من مرتديات هذا النمط من الدوائر الثانوية لجماعات المتدينين الجدد اللا منتمين ممن لا يصنفن أنفسهن كـ"ملتزمات"، وإن كانوا أحيانا من مرتادى الدروس الدينية ومتابعى الدعاة الجدد. بل أن بعضهن لا يكترثن بالدين على الإطلاق، ويمثل غطاء الرأس لهن زيا نمطيا للفتاة التى تنتمى لأسرة مسلمة، فترتدينه تكيفا مع الصورة السائدة السابقة أو من ضغط المجتمع حولها.

صورة الجسد الأنثوى

يمثل الزى - أى زى - دلالة ذات معنى، باعتباره انتقالا من الطبيعى - الجسد - إلى الثقافى الذى يعكس عوامل البيئة والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والدين والتكوين المجتمعى وتراكيبه من طوائف وطبقات وفئات. فالزى لا يغطى الجسد ماديا فحسب، وإنما ينطلق من الجسد باعتباره موجودا طبيعيا وموضوعا لعلم البيولوجيا والفسيولوجيا فيسبغ عليه غطاءً يلخص قيما وأفكارا وعلاقات ربما تذهب بعيدا لتشير إلى دلالات ربما تلخص الوضع الاجتماعى والسياسى ولكنها فى أقرب دلالاتها تلخص القيم والأفكار والعلاقات المرتبطة بشكل مباشر بالجسد.

يلخص الحجاب باعتباره زيا نسائيا دلالات متعلقة بجسد المرأة، وإن كان جسد الرجل منخرطا أيضا فى منظومة الحجاب، باعتبارهما نوعى الجسد الإنسانى. فالجسد الأنثوى، كعلامة، تتحدد دلالاته داخل نسق ثقافى بوضعها داخل النسق، وفى نفس الوقت بالعلاقات البينية مع سائر العلامات الأخرى المجاورة والمتقاطعة معها داخل نفس النسق. فالنظرة للجسد الأنثوى داخل الثقافة السائدة التى أصبح “الحجاب” نمطا سائدا لها تتحدد بالتوازى مع النظرة للجسد بشكل عام ومع جسد الرجل أيضا.

وفى الثقافة السائدة، يشير جسد المرأة يشير إلى نقص وضعف ذلك الجسد بالمقارنة بجسد الرجل الأقوى والأكثر كفاءة. كما أن جسد الأنثى، منظورا إليه من وجهة ذكورية، هو جسد مختلف وحالة خاصة من الجسد الإنسانى الأصلى الذى يمثله جسد الرجل. وهو مقابل نقصه وعدم كفاءته يتميز بجمال يميل إليه الرجل بالغريزة طلبا للذة، فتدفعه لاقتنائه وتملكه والمحافظة عليه واحترامه وتحريمه ومنع الآخرين من التمتع به. ويرتبط ذلك الجسد أيضا بأفكار أخرى مثل الضعف الأخلاقى للمرأة ونقص عقلها وطغيان عاطفتها، مما يجعل المرأة أكثر انسياقا خلف متطلبات ذلك الجسد، وهو دافع - أو مبرر - آخر للسيطرة والتملك.

علاقة الجنس باعتبارها علاقة بين الرجل والمرآة من خلال جسديهما تتدخل فى تحديد النظرة للمرأة. فالنظرة للجنس ملحقة بالنظرة للجسد، فهو غريزة دونية محتقرة تتسبب فى الشرور والخطيئة، وهو أيضا العلاقة الحميمة الخاصة المقترنة بلذة عظيمة تكاد تُذهب نشوتها، سواء فى ممارستها أو فى طلبها، بالعقل والحزم. بين التقدير والافتتان بالجمال وبين الاحتقار والدونية تتلخص ازدواجية هذا التفكير فى نظرته للجنس ثم الجسد الأنثوى ثم المرأة بشكل عام. وفق هذه الثقافة التى تضم دوافع التملك والسيطرة التى يمارسها الذكر على المرأة، سواء زوجته أو أخته أو ابنته، يتم تجريم معظم العلاقات بين الذكور والإناث والفصل بينهما بصرامة.

لحظة الجنس إذن، ممارسته أو التطلع إليه، تحدد نظرة كلا الجنسين للآخر فى هذه الثقافة، فتحمل ازدواجية الاحترام/ التحريم، وازدواجية الجمال واللذة والمتعة والإغواء مقابل الاحتقار والدونية ومشاعر الذنب والخطيئة.

يفرض الذكر من موضع سلطته أفكاره هو على جسد المرأة. فالمرأة هنا هى "الآخر" منظورا إليه، والذكر هو الذات الناظرة والمفكرة والمتكلمة، والتى تطلب المتعة وتتوجس من الإغواء، وهى التى تخاف على حريمها وتتلصص على حريم الآخرين. جسد الرجل غائب عن الجدل وغير مثقل بالقيم والتعليمات والمحاذير. ونظرة الرجل تصبح نظرة المجتمع أو الثقافة أو الدين، لتشكل الثوابت والتقاليد عبر آليات عدة، فتتبناها المرأة نفسها بعد أن تستسلم لها، ثم تعيد إنتاجها بالاشتراك مع الرجل.

الحجاب كصورة للجسد الأنثوى

“الحجاب” - بأى من أشكاله - كزى أنثوى سائد فى مجتمعات عدة، متصل بالتأكيد بالنسق المسبق الذى يحدد صورة جسد المرأة. لنسمّ هذا النسق إذن “نسق الحجب”. وهو نسق سابق تاريخيا على الإسلام والتشريع الإسلامى.

فى هذا النسق، قبل الإسلام وبعده، تكون القيمة العليا للمرأة المصانة المحتجبة، التى لا يراها الناس ولا يصل إليها طالبها إلا بصعوبة. ولا تشمل هذه الصيانة والحماية إلا الحرائر (الحرات، المحترمات، ذوات المكانة فى القبيلة، بأنفسهن أو برجالهن)، بينما الإماء غير محتجبات، يقمن بالأعمال ويختلطن بالرجال، ويتم بيعهن وشرائهن فى الأسواق، فهن أشياء قابلة للتداول. لذا فإن الإماء لم يكن يغطين وجوههن. ويمكن أن نتبين بوضوح استمرار منع الإماء بعد الإسلام من التحجب وأمرهن بكشف وجوههن ليتميزن عن الحرائر. بل يقر الفقه التقليدى، بغير سند واضح، أن عورة الأمة ليست مثل عورة المرأة الحرة وإنما مثل عورة الرجل: ما بين سرتها وركبتها.

قد تصل "الصيانة" إلى الحد الأقصى، بوأد البنات مثلا قبل الإسلام، ولكنها أساسا تمارس إنهاء وجود المرأة الاجتماعى بفرض الاحتجاب الكامل، أو تغطية الوجه عند الخروج فلا تعرف هويتها، بما يعنى انعدام الوجود الشخصى للمرأة وتقلص إمكانية ممارستها أية فاعلية اجتماعية بشخصها فى الفضاء العام الذى هو عالم الرجال. وهذا كان بالطبع مع استثناءات من نساء فاعلات وبارزات ذكرهن التاريخ بعناية دالة على تميز حالتهن. كانت الأزياء التقليدية فى المجتمعات المسلمة مزيجا من نسق “الحجب” العربى الذى تم تصديره مع امتداد الدولة الإسلامية، متداخلا مع نواتج البيئة والثقافة المحلية. يغلب الأول فى المدن والحواضر، وتغلب الثانية فى المجتمعات الفرعية التقليدية الريفية والبدوية. ففى المدن وعند الطبقات المتوسطة يشكل نظام “الحريم” - والذى يتم تبريره بالتقاليد والدين - نموذجا معبرا عن نسق "الحجب” الكامل وصورة الأنثى فيه. بينما فى المجتمعات التقليدية غير المدينية تنوعت دلالات الزى مع التنوعات الكبيرة له، حيث يستمد الزى شرعيته من كونه تقليدا جماعيا غير فردى كما ذكرنا.

وقد أعيدت بلورة "نسق الحجب" مرة أخرى فى العصر الحديث، بسبب بدء عملية تحديث المجتمعات الإسلامية وبداية انحسار الأزياء التقليدية فى المدن بالذات، لتخلف فراغا تملؤه الأزياء الغربية. هرع رد الفعل إلى لحظة التشريع الأولى عند ظهور الإسلام للبحث عن ضوابط لزى شرعى محدد يكون ملمحا لهوية واضحة لا تحملها الأزياء التقليدية التى تتنوع فى طيف واسع.

أحيانا تتلاقى إحدى دلالات الزى التقليدى مع دلالات الأشكال المعاصرة من “الحجاب”، ولكن الفارق بينهما يتمثل فى ثنائية التقليدى/ الحداثى، فالزى التقليدى فى علاقته بالدين يعكس دور هذا الأخير الموازى للحياة والمستبطن فيها، الذى يغير فيها أحيانا ولكنه يحفظ الاستقرار ويبرر الواقع المحلى المتعدد التقاليد، كما أنه يحتفظ بهامش واسع للتسامح مع الخطأ والتفاصيل والتنوع بعيدا عن الضوابط الموحدة والصارمة. بينما تعكس الأشكال المعاصرة الشكل الحداثى للفكر وللدين كأيدولوجيا صارمة تستدعى سلطة كبرى مركزية ومتحكمة ومتغلغلة فى الفعل اليومى وتفاصيله وتستدعى هوية كبرى جامعة عابرة للتكوينات الصغيرة. ففى مقابل تنوع الأزياء التقليدية بحسب البيئة والمكان، نجد وحدة ونمطية أشكال “الحجاب” الملتزم: الخمار والنقاب والشادور والإسدال. وبجانب سماحية الزى التقليدى فى تعامله مع جسد المرأة رغم محافظته تجد صرامة "الحجاب الملتزم" فى الطمس الكامل لكل معالم أنوثة الجسد. فالزى التقليدى يشير إلى هوية فرعية مميزة، القرية أو القبيلة أو ربما الحى الشعبى، بينما يشير “الحجاب الملتزم” للهوية الدينية الجامعة.

ولهذا ربما يتعرض الجلباب الشعبى التقليدى أحيانا للنقد من قبل الخطاب الإسلامى الذى لا يراه إلا استمرارا لتقاليد محلية - ليست بالضرورة متصالحة مع الهوية الإسلامية - بينما الحجاب الذى تتخذه الفتاة بقرار فردى شخصى وعن قناعة دينية يعبر عن اتجاه حضارى ثقافى يختلف عن العادات المحلية والتقاليد، ولكنه أيضا يقف مواجها الحداثة الغربية وتحديها الثقافى.

عملية تحديث المجتمعات المسلمة هى مفتاح جوهرى لفهم دلالات “الحجاب” بتنوعاته، فعملية التحديث التى قادت التحول من الريفى والقبلى إلى المدينى، صنعت انقطاعا بين الأزياء التقليدية بين أزياء حديثة غربية بالأساس. هذا الانقطاع الذى شهد تحولا كبيرا فى أزياء المرأة المصرية فى الخمسينات والستينات لم يكن يعبر عن انقطاع أصيل مع النسق التقليدى لصورة المرأة (نسق الحجب) إلا عند بعض قطاعات الطبقات الوسطى والعليا، لذا فإن تحرر أزياء هذه العقود ليس أصيلا ولا يستند لتحرر حقيقى مواز للمرأة. ومن هنا نستطيع أن نقول أن "العودة" المحافظة فى السبعينات وما بعدها، ليست انتكاسا إلا لمشروع تحديث ثقافى لم يتجذر بعد، فهو ارتداد طبيعى للنسق الكامن فى الأذهان وفى الثقافة اليومية عن المرأة، أى "نسق الحجب". وقد تجاوب هذا الارتداد، الذى كانت الإيديولوجيا الدينية أحد تياراته، مع الاتساع المتزايد للطبقات الوسطى المدينية التى تنتمى لأصول ريفية.

يمتزج الدافع الدينى مع اعتبارات الحشمة كدلالة للزى المحتشم مع غطاء رأس، فحتى الخطاب الدينى المعتدل أو التوفيقى يعقلن التشريع القائل بفرضية الحجاب، فيذهب إلى أن حكمة التشريع تهدف لـ"حجب الجانب الأنثوي" للمرأة لكى يبقى الجانب الإنسانى فيها - "الحجاب يظهر المرأة كإنسانة وليس كأنثى" على حد تعبير محمد حسين فضل اللـه - وذلك لكى لا تطغى دوافع الغريزة على التعامل بين الرجال والنساء فى المجتمع، ولكى يضع الحد اللائق لزى مقبول وصالح للحياة اليومية وخال من الابتذال. ولكن هذا التبرير لا يذهب فى أطروحته حتى النهاية، فلا يصل إلى أن ذلك قائم بالفعل فى أى مجتمع، حيث يحدد السائد من ملابسه نوعا من الضابط والحد بين ما هو عادى من الملابس، للرجال والنساء، وبين ما هو مثير أو فاضح أو غير لائق، وهو حد يختلف من مجتمع لآخر، كما يتغير زمنيا تبعا للتغيرات التى تلحق بهذا المجتمع. كما أن حجب “الأنوثة” يصلح أيضا تبريرا لأقصى أشكال الحجاب “النقاب”، الذى يرى من يذهب لوجوبه على المسلمة أن الوجه هو عنوان جمال المرأة وجاذبيتها.

ولكن بالرغم مما سبق، ففى جانب الممارسة لا يخفى الحجاب "المحتشم" تماما أنوثة المرأة، فقط لا يظهرها بشكل مباشر أو كبير. ومرتديات هذا الزى ينزعن لإبداء زينة محدودة والحفاظ على أناقتهن، بل نشأت دور أزياء ومجلات موضة خصصا لتلبية رغبة المحجبات فى الأناقة والزينة والمظهر الجميل الجذاب. وبالتبعية يبتعد "الحجاب المحتشم" الذى لا يعادى أنوثة المرأة عن نسق “الحجب"، ليعبر عن نوع من الالتزام المعتدل التوفيقى بنسق أخلاقى يحتل فيه الدين مكانة مميزة إلى جانب قدر من المحافظة الاجتماعية، لا يحرم المرأة من الوجود الاجتماعى والمشاركة والفاعلية ولا يجعلها تتوجس من الاختلاط بالجنس الآخر. بل إن البعض يرى أن هذا يسهل مهمتها. وهكذا يعتبر هذا الزى أحيانا نوعا من الصفقة بين المرأة وبين المجتمع وقيمه، تكون فيه المرأة محافِظة فى جانب، مقابل تقدمها أو تحررها فى جوانب عدة (الدراسة، العمل، النشاط الاجتماعي)، ويعد كثير من المفكرين، جلال أمين مثلا فى "ماذا حدث للمصريين"، هذه الصفقة رابحة وعملية للغاية.

ورغم ذلك يثير نمط الحجاب المحتشم الأنيق أحيانا انتقادات وتحفظات الدعاة الإسلاميين باعتباره يمثل خروجا عن روح التشريع - فى رأيهم - التى يهدف لحجب الجمال والأنوثة، بينما الانتقادات الأشد والأعنف تنصب على نمط الزى المتحرر نسبيا مع غطاء رأس باعتباره "تبرجا" يتمسح فى الزى الشرعى بإضافة غطاء رأس. هذا النمط من “الحجاب” هو الأكثر إشكالية والأغنى دلاليا. فهو نمط من الاستجابة لضغط “خطاب الحجاب” أو "نسق الحجب" الذى يسود، عن طريق مجاراته و”التمسح” به.

هذا النمط أيضا يفارق "نسق الحجب“ فى أكثر من مظهر، فكثير من مرتدياته لا يتحرجن من الاختلاط بالرجال أو إقامة علاقات زمالة وصداقة وحب أكثر تحررا من “المحجبات”، كما أن بعضهن لا ينتظرن الزواج التقليدى ويتزوجن بعد علاقات حب. ولكن بعض من تردينه يستحضرن “نسق الحجب” عندما يرفضن الاختلاط تماما ويعتبرن أزيائهن المتحررة نسبيا ضرورة لجذب الرجال من أجل الزواج، ويستدركن أنهن يخططن للعدول إلى ملابس أكثر محافظة بعد الزواج، وفى الوقت نفسه يكون غطاء الرأس عنصر تفضيل لهن كزوجات محتملات لأنهن فى الأصل "محجبات"!

هذا النمط إذن يحمل فى طياته نزعات التوفيق والتهجين كما يحمل نزعة شكلانية وميلا لتحويل الجانب الدينى إلى مجموعة من الأيقونات والطقوس المريحة والمُرضية للذات وللمجتمع. وهذه النزعات المرتبطة بهذا الزى تعكس سمات مميزة للتدين الشعبى المعاصر سواء للنساء أو للرجال الذين يمارسون دورا كبيرا فى قبول هذا الزى أو ذاك، وإقراره من موضع سلطتهم الاجتماعية وتأثيرها.

دلالات التدين الشعبى هذه تتراجع عندما ننتقل لدلالات الحجاب "الملتزم"، الخمار والإسدال وما شابههما. فالالتزام هنا يجعل الزى أكثر صرامة فى حجب المعالم الأنثوية، وفى الإحالة لمفاهيم مرتبطة مثل رفض الاختلاط تماما والاعتماد على شكل تقليدى فى الزواج. هذا النمط هو المفضل لنساء الحركات الإسلامية الوسطية نسبيا، مثل الإخوان، بينما يمثل النقاب الزى المفضل لنساء الحركات الإسلامية الراديكالية، فالأول يبدو معتدلا وأكثر قبولا من النقاب كما أنه يسهل قيام المرأة بأنشطة دعوية وغيرها ويسهل توسيع دائرة علاقاتها الاجتماعية أكثر من النقاب. ولكن مرتديات هذا الزى لا ينتمين بالضرورة لأى حركات. وكما أن ارتداء هذا الزى يمكن أن يعبر عن اتجاه الزوج ثم تبعية المرأة، فهو أحيانا أخرى يكون معبرا عن العكس.

وفى دراسة ميدانية مهمة أجرتها "علياء رضا رافع" تحت عنوان “المعانى المختلفة لمفهوم الحجاب الإسلامى” وعبر دراسة لعينتين من الفتيات المحجبات، الأولى درستها فى أوائل الثمانينات والثانية فى أواخر التسعينات، رصدت تحول الحجاب من رمز قوى وأيديولوجى مقترن بأخلاقيات متشددة وارتباط بالحركة الإسلامية أو قرب منها ومن دوائرها فى العينة الأولى، إلى شيء عادى مقترن بسلوكيات متنوعة وانفتاح أكثر وغير دال على انتماء أيديولوجى ما فى أواخر التسعينات.

ولكن صحيح أن الحجاب الملتزم على وجه الخصوص يمثل ممارسة مميزة لفئات تعد مجال نفوذ وتأييد أو على الأقل قبول الحركات الإسلامية السياسية بأنواعها. وبدرجة أقل الحجاب “المحتشم”، بينما يقل الاحتمال فى الأنماط الأخرى من الحجاب. بما فيها النقاب الذى يغلب على مرتدياته النزعة السلفية المعادية للسياسة تماما ويتبع السلفيون عادة رموزا سعودية وخليجية أو مصرية سلفية تحمل إما نزعات موالية للسلطات القائمة وترى فى المعارضة خروجا على الحاكم أو نزعات جهادية غير متصالحة مع “السياسة" ولعبتها من الأصل.

هناك دلالات أخرى يجرى تضخيم أثرها تبعا لتحليل إيديولوجى ما، مثل الجوانب الاقتصادية وأثرها فى تزايد ارتداء الحجاب كبديل رخيص عن الزينة والتزين، وهذه لا تبدو دلالة حقيقية، خاصة إذا لاحظنا أنماط الأزياء التى ترتديها المحجبات الآن. كما أن مقابل كلفة تصفيف الشعر هناك كلفة الإيشاربات التى أصبحت هى نفسها دالا طبقيا، فهى تتدرج من أنواع رخيصة إلى أنواع باهظة الثمن ومن تصميمات شعبية إلى تصميمات راقية تسوقها مجلات ودور أزياء كبيرة. وأيضا زينة الوجه ليست عنصرا فاصلا فكثير من المحجبات باستثناء صاحبات الحجاب الملتزم - والنقاب طبعا - يستخدمن مساحيق التجميل. وهذا يرد أيضا على تحليل د. عبد الوهاب المسيرى باعتبار الحجاب مفارقة لسلوك استهلاكى خاضع للسوق إلى سلوك واع متحرر منه، وهو ربط افتراضى استدل منه د. المسيرى على أن الحجاب علامة سلوك لجيل جديد لديه وعى حضارى وفاعل اجتماعيا، كما ورد فى مقاله “الحجاب بين الدين والمجتمع”. هذا التحليل يؤدي كذلك إلى خلق ثنائيات متعارضة بين محجبات واعيات وفاعلات اجتماعيا وغير استهلاكيات، وغير محجبات استهلاكيات ومترفات ومتغربات. وبهذا يوحى بأن كل غير محجبة هى مستهلكة متغربة وتافهة، ليربط بين الدوافع الأخلاقية والوطنية والاجتماعية وبين الحجاب، وهذا شطط آخر فى الجانب المقابل لاعتبار الحجاب “تخلفا ورجعية”، هكذا مطلقا، فضلا عن كونه يستخدم فى تحليله نموذجا مصطنعا ومختزلا يفتقر للتركيب المعبر عن تفاصيل الواقع وتنوعاته.

وتتجاهل بعض الأطروحات التى تضع الحجاب كشعار فى مواجهة العولمة ومقاومة النزعات الاستهلاكية، وكرمز معبر عن هوية حضارية متمايزة، أن نسبة كبيرة من المحجبات الآن يرتدين غطاء الرأس على “الجينز” وعلى قطع أزياء غربية، وكثيرات من المحجبات يبدين سلوكا استهلاكيا مفرطا وميلا للتجاوب مع السوق وصرعاته - ربما مع بعض التهجين كما سبق تناوله. كما أن بعض غير المحجبات لديهن سلوك واعٍ فى مواجهة السوق، وربما كن من الناشطات ضد العولمة وسياساتها.

خطاب الحجاب

على جانب آخر، هناك الدلالات التى ترتبط بـ"خطاب الحجاب”، وبتقديمه على أنه حماية وصيانة للمرأة، وتلخص هذا الخطاب شعارات من نوع "الحجاب طاعة لربك.. صيانة لنفسك" أو "الحجاب.. يحميك من الذئاب"، وهى شعارات تضمنتها أكثر الملصقات انتشارا. فكرة الحماية والصيانة تشير فى وضوح لأفكار "نسق الحجب": التملك والسيطرة والدخول فى حرم الرجل ومسئولية المرأة عن أى تهديد للشرف. فهذه الحماية والصيانة تعنى فى المقابل أن غير المحجبة معرضة لخطر الذئاب، وأن إبداء المرأة بعض زينتها هو مبرر كاف للذئاب لانتهاكها. وهذا تبرير ولو نسبى لفكرة التحرش بالمرأة غير المحجبة أو غير المحتشمة وفق معيار مجتمعى ما.

يلقى هذا الخطاب يلقى رواجا فى المناطق العشوائية والشعبية التى تقل فيها سطوة الأمن ولا تهتم فيها الشرطة بأمن الأفراد، بل بإخضاعهم وتحجيم الجريمة التى تمارس ضد أحياء الطبقات الأعلى. غياب الشرطة يجعل مسؤولية تحقيق الأمن ملقاة على عاتق الأفراد، ولا قدرة لهؤلاء الأفراد على مواجهة المجرمين. وكذلك المتحرشون يصيرون أمرا طبيعيا ويصبح على عاتق الفتاة حماية نفسها منهن. وهنا يصبح الحجاب أو الزى المحافظ ضرورة للفتاة لتجنب التحرشات والمضايقات، خاصة إذا ما كانت تخرج للدراسة أو العمل. أما المتحرشون فكثير منهم يسكنهم هذا الخطاب ويرون فى المرأة المتزينة “عاهرة” تدعوهم للتحرش بها، أو أنها على الأقل المسئولة عن ذلك لأنها "غير محترمة".

هناك دلالة أخرى تتعلق بمساحة التسامح وقبول الاختلاف فى خطاب الحجاب، وهذه المساحة التى تكاد تنعدم يبدو نقيضها فى ترسيم “الحجاب” كثابت من ثوابت الدين برغم أدلته الملتبسة شرعيا، والاستناد إلى فكرة الإجماع لتجريم كل رأى آخر، وإبداء تشنج كبير إزاء هذه الآراء الأخرى. بل يصل الأمر إلى حد التلويح بالتكفير أو المحاكمة، والتظاهر واستنفار الناس لمواجهة "المؤامرة"، مثلما حدث فى أزمة إبداء فاروق حسنى وزير الثقافة رأيا فى الحجاب. هذه النزعات دالة أيضا على جوانب فكرية تصم التفكير الدينى -الملتزم والشعبي- المحملين بفكرة المؤامرة وبهاجس مواجهتها: الحجاب هنا ليس إلا أحد المسائل التى لم يشهد “تاريخنا” خلافا عليها، فتنضم لقائمة الثوابت وأصول الدين والمعلوم منه بالضرورة، ولقائمة ما يدخل تحت بند “الإجماع” الذى يحفظ التماسك ويحفظ “أصول الدين” من العبث، وأصول ديننا وثوابته تمثل تراثا لنا وأساس عزتنا كأمة موحدة ينبغى مواجهة محاولات التشكيك بها أو تغييرها، فهى ليست آراءً أو نقدا يمكن التعامل معه بالكلمة وحدها، بل تعد جزءا من تآمر كبير على الإسلام وفق هذا التفسير، ويتم استحضار الأجزاء العالمية من المؤامرة مثل موقف فرنسا من الحجاب فى المدارس الحكومية الفرنسية.

خطاب الحجاب - بالشكل السابق – تغييب مباشر للبعد التاريخى والإصلاحى والتجديدى فى الخطاب الدينى السائد لصالح ترسيم الدين كإيديولوجية قومية تحمل بعض السمات الفاشية، وكسلاح فى معركة مفترضة ضد الأمم الأخرى - وربما المختلفين من نفس "الأمة" أيضا - لا رسالة للإنسانية كلها. البعد الإنسانى العام يكاد يغيب فى خطاب الحجاب المكثف الذى يفرد مساحة كبيرة لقضية جسد المرأة فى مقابل مساحات هامشية لقضايا أخرى. وهو جزء من الخطاب الكبير الذى يرى الانحطاط والتخلف وشيوع الظلم وغياب العدل كنتائج لتردٍ أخلاقى مفترض، يبرر فى مقابله التوجه الدعوى المكثف للضبط الأخلاقى للأفراد. الأخلاق هنا أيضا تحدد بمفاهيم شكلية وطقوسية لا تعبر إلا عن “الالتزام بالنص” والاستسلام له أو لتفسيراته الشائعة، وتربط ربطا “نصيا” أيضا بين “الالتزام بالنص” وبين عودة مجد “الأمة” وعزها.

الموقف السياسى من الحجاب

مما سبق، ليس الحجاب (بتنوعاته ودلالاته وخطابه) خاليا من البعد السياسى، بل كان وما زال فى قلب المشهد الاجتماعى والثقافى والسياسى العام. ولكن المواقف السياسية البحتة - إن جاز التعبير - تتوزع إزاءه على محورين: فرض الحجاب مقابل الدفاع عن التحرر منه، وحظر الحجاب فى مقابل الدفاع عن حق ارتدائه. فرض الحجاب تقوم به أنظمة ذات طبيعة دينية مثل المملكة العربية السعودية و إيران: عرفا عن طريق جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (المطوعين) فى السعودية، أو عن طريق قانون مكتوب كما فى إيران.

يبدو فرض الحجاب، أو تحبيذه والدفع باتجاهه على برامج حركات سياسية إسلامية، بأشكال مختلفة حسب إصلاحية أو راديكالية الحركة، وحسب انخراطها فى اللعبة السياسية مع أطراف أخرى يلزم الالتقاء معها على قضايا الحريات. ولكن حتى أداء حركات إسلامية إصلاحية مثل الإخوان المسلمين فى مصر فى معارك الحجاب، يشى بنزوع سلطوى، يتمثل فى الإصرار على أن الحجاب فرض على كل مسلمة، وأمر مسلم به غير متاح للنقاش، ربما يبرر بشكل ما إجراءات باتجاه فرضه أو بتمييز ما ضد غير المحجبات.

على الجانب الآخر نجد السياسات التى تحظر الحجاب جزئيا أو تميز ضده تحت دعاوى “علمانية” مثل الحالة الفرنسية التى اعتبرت الحجاب علامة دينية يُحظر ارتداؤها فى المدارس حماية لعلمانية الدولة، وحالة تونس التى تعتبر حكومتها الحجاب “زيا طائفيا” ومناقضا لتقدم المرأة التونسية ولعلمانية الدولة، وفى تركيا التى تحمى مؤسستها العسكرية القيم العلمانية الأتاتوركية وتحظر ارتداء الحجاب فى المؤسسات العامة باعتباره زيا دينيا.

الحالة المصرية تبدو مراوحة، فأجهزة الدولة لا تحبذ ظهور “الحجاب” فى الواجهة فتميِّز ضد المحجبات فى قطاعات السياحة والإعلام والعلاقات العامة، ولكن النخبة الحاكمة، مهما تكن كارهة للحجاب ودلالاته السياسية، لا يمكنها أن تذهب بعيدا بينما أغلبية المصريات المسلمات "محجبات" بشكل ما. بل يصل الأمر بسبب المد الدينى الحالى إلى مجاراة الحزب الوطنى الحاكم لخطاب الإسلاميين والمزايدة عليه، كما حدث فى أزمة تصريحات وزير الثقافة فاروق حسنى بشأن الحجاب.

على المحور الأول يواجه فرض الحجاب بخطاب الحريات والديمقراطية والمطالبة بعلمانية الدولة والتنديد بتبنى الدولة مذهبا دينيا محددا وحمل الناس عليه. وعلى المحور الثانى يواجه حظر الحجاب أو التمييز ضده بخطاب الحريات والديمقراطية - أيضا- والتنديد بالعلمانية السلطوية التى تنتهك الحرية الدينية للأفراد.

النظم التى تفرض الحجاب ربما تعلن بوضوح عدم ديمقراطيتها (السعودية) أو تقدم ديمقراطية فى حدود وتحت وصاية ما (ولاية الفقيه فى إيران)، وعلى الجانب الآخر تعتبر النظم التى تقدم نفسها كدول علمانية ديمقراطية، أن ممارساتها إجراءات واجبة لحماية الديمقراطية والعلمانية. المشترك بينهما هو الوصاية والسلطوية سواء باسم الدين أو باسم العلمانية.

الوصاية فى دولة ذات مرجعية دينية أمر مفهوم، فالمرجعية الدينية فى حاجة إلى من يفسرها ويقننها ويقرها ويحرسها، ولكن العلمانية، التى ترد الأمر إلى الناس وتبدو لصيقة بالديمقراطية، حين تتذرع بحماية نفسها بإجراءات سلطوية، ترسّم دينا آخر، دين “القيم العلمانية” الذى تفسره سلطة ما وتقننه وتقره وتحرسه وتحمل الناس عليه قسرا.

تذكى الممارسات العلمانية السلطوية خطاب الإسلام السياسى وتؤكده عندما تضع العلمانية فى مواجهة الدين، وتؤكد على خطابه الذى يفسر صراعات العالم كصراعات بين الإسلام و”الكفر”، يتخذ فيها "الغرب" والحكومات المحلية التابعة له موقف "الكفر" (أو “الباطل": تخفيفا)، بينما تتخذ الحركات الإسلامية موقف المدافع عن الإسلام وعن الشعوب المسلمة. كما أنها الفرصة الذهبية للإسلاميين للاستدلال على ما يرونه من خواء خطاب الحريات الديمقراطى أو العلمانى وتناقضاته، وللتأكيد على ضرورة وجود مرجعية ما وثوابت ونوازع سلطوية، بل هم يتميزون على الأطراف الأخرى بالصراحة، بينما يخفى الآخرون النزوع التسلطى تحت دعاوى الحرية وحكم الشعب.

أين إذن يمكن أن يكون “الموقف الديمقراطى الصحيح" إن جاز التعبير؟

مواقف التيارات العلمانية أو المدنية المعارضة للتيار الإسلامى تتراوح بين تيارات تنحاز مطلقا للدفاع عن الحريات وحق الاختيار الفردى، وتيارات تدعم أو تغض الطرف عن ممارسات سلطوية وربما قمعية تراها ضرورية فى مواجهة الإسلام السياسى.

يبدو بداهة أن الانحياز لحرية الأفراد فى الاختيار وإدانة أى وصاية عليهم هو الموقف الديمقراطى الطبيعى، بينما يعترض البعض على أساس أن الديمقراطية الجذرية تقتضى تحرر الفرد من كافة العلاقات السلطوية بين أفراد وفئات المجتمع، بينما "الحجاب" أحد أشكال التمييز بين الجنسين وعلامة على هيمنة سلطة ذكورية على جسد المرأة. ولكن فى ظل المقاربات السابقة للحجاب وتنوعاته ودلالاته لا يبدو ذلك صحيحا مطلقا بالنسبة لكل أنماط الحجاب، ولكنه صحيح فيما يخص تلك الجوانب المتعلقة بما أسميته "نسق الحجب". كما أن السعى للديمقراطية الجذرية والتحرر الحقيقى يكون بمواجهة سلطة فرض الحجاب وتفكيكها، وليس بمواجهة الحجاب نفسه كممارسة فردية واختيار شخصى، وبالمواجهة الثقافية والاجتماعية -لا السلطوية- لقيم ومفاهيم "نسق الحجب" التى لا تمثل كل دلالات وتنوعات ظاهرة “الحجاب”.

ما الموقف من الحجاب؟ (بمعنى الانحياز لهذا الطرف أو ذاك)، سؤال يبدو عاجزا عن إنتاج إجابة ديمقراطية واحدة، فالموقف من القضايا الثقافية المركبة المتعلقة بالدين يفترض أن الموقف حولها يتنوع بحسب الأفراد، وفقا لأديانهم ومذاهبهم، وبحسب التحليل وزاوية الرؤية. ويُفترض فى تيار ديمقراطى أو دولة ديمقراطية أن يكون الفضاء العام مفتوحا أمام احتمالات الاختلاف والتنوع والجدل. الموقف الدينى والثقافى الخاص هنا لا يتماهى مع الموقف السياسى الذى يقع فى مساحة اللقاء المشترك. الالتقاء على دعم حرية الاختيار والممارسة، وحرية التفكير الدينى، وقبول الاختلاف واحترام الآخر، ومناهضة التمييز ضد أى طرف هى مساحة مشتركة للطرفين اللذين ربما تفرقهما ساحة جدل ثقافى أو دينى.

إن وضع ارتداء “الحجاب” بتنوعاته فى سلة واحدة مع خطاب فرضه ومع "نسق الحجب" واعتباره مؤشرا على نفوذ التيارات الإسلامية السياسية هو اختزال مخل، وخلق لمساحات من المعارك المتوهمة، وتعامل متعسف مع النواتج والمظاهر المركبة للثقافة الشعبية المعاصرة وتحولاتها.