وثيقة:شهادات النساء عن الحبس المنزلي: عن أي مرة نحكي؟

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.


وفقًا لرؤية فريق عمل مبادرة قانون يحمي الفتيات من العنف الأسري، فإن الحبس المنزلي من قبل أحد أفراد الأسرة يعد شكلًا من أشكال العنف المُمارَس ضد النساء في المجال الخاص، سواء وقع داخل المنزل أو بمنزل آخر من منازل العائلة، حيث تُقيَّد حركة النساء ويُمنعن من الخروج، سواء للتعليم أو للعمل أو حتى للأعمال اليومية العادية.

قد يأتي المنع من الخروج في شكل منع من السفر خارج المحافظة أو خارج الجمهورية، وقد يصل إلى المنع من الخروج من البيت تمامًا، وهو أعنف أنواع الحبس المنزلي، إذ يتضمن عزلًا اجتماعيًا كاملًا وأذى نفسيًا شديدًا.

ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط، لكن غالبًا ما يُصحب الحبس المنزلي بصور أخرى من العنف، مثل المنع من الطعام والشراب ومن الأدوية، ومثل الضرب المبرح و الاعتداءات الجسدية، بالإضافة إلى العنف الجنسي والتهديد بالإيذاء.

في هذا السياق نروي لكم بعضًا مما جاء في شهادات معتقلات داخل البيوت المصرية. وصلت إلينا تلك الشهادات عن طريق استمارة توثيق أطلقناها قبل بداية حملة الـ16 يومًا لمناهضة العنف ضد النساء في مصر، في إطار حملة جوه البيت التي شارك بها عدد من المبادرات النسوية الشابة من مختلف محافظات مصر. كما سنحاول هنا تحليل بعض من تلك الشهادات من وجهة نظر نسوية، في محاولة لرؤية تأثير كل من السلطة الأبوية والمصالح الحاكمة، ودور الأسرة والمجتمع ودور القوانين، في ظاهرة قديمة وحديثة؛ الحبس المنزلي.

«لما خلّصت ثانوية، أعمامي أصروا يجوّزوني، واتعرضت للضرب والتهديد بالقتل والتشكيك فيا عشان رفضي للجواز، وإصراري على استكمال تعليمي، فواحد منهم حبسني في بيته.»

عندما لا يكفي الضرب، أو التهديد بالقتل أو الإجبار على الزواج المبكر أو الحرمان من استكمال التعليم، للسيطرة على النساء والتحكم في مصيرهن وحياتهن، عندما يتحالف رجال عائلة ما لاختيار «مصلحة فتاة» من وجهة نظرهم، على حساب كل شيء وأي شيء، يصبح الحبس المنزلي العقاب الأكبر الذي تنتهي معه الحياة والمقاومة.

في هذه الشهادة نتوقع أن يكون المجتمع بأكمله مشاركًا في ممارسة العنف ضد تلك الفتاة، سواء كانت المشاركة فعلية أو بالصمت وعدم التدخل، بحكم «دي عيلتها وهم أحرار يربوها»، كما سمعنا في العديد من الشهادات الأخرى. نتوقع تلك النتيجة لأننا نعيش في ظل مجتمع تحكمه السلطة الأبوية والمصالح العليا للرجال عمومًا، وتزداد صعوبة مقاومة تلك المصالح بداخل الأسر.

«في المدرسة، كان دايمًا فيه بنات بتختفي فترة وبعدين ترجع وفيه كدمات في وشهم بسبب «علقة» في البيت من أهلها، لأنها على تواصل عاطفي مع شاب.»

هل لاحظت أثناء الدراسة إختفاء إحدى الفتيات؟ هل تسألت يومًا أين ذهبت؟ هل تابعت رجوعها مرة أخرى للدراسة؟

هذا ما دار بذهني لدى قراءتي لتلك الشهادة؛ الأمر أشبه بجريمة الإخفاء القسري؛ تختفي الفتاة وتعود بأثار ضرب وتعذيب بوجهها وما خفي مما لا نعلم عنه شيئًا بالتأكيد، ما خفي من جسدها وما خفي من مشاعرها، ثم تعود للمدرسة مرة أخرى مجددًا، بتلك الآثار النفسية والجسدية، لتكمل مسارها التعليمي بين زميلاتها وزملائها، وتنجح وتتفوق وتكون لديها الثقة بنفسها للتعبير عما يدور بخاطرها من إجابات على أسئلة مدرسيها، بدون خوف من «علقة موت».

«اتعرضت للحبس بعد تعب شاق ودراسة جادة للحصول على منحة دراسية.»

في العادة يبذل الأهالي قصارى جهدهم للدفع بأبنائهم وبناتهم للسفر خارج مصر في منح دراسية، ولكن تلك الحكاية تسرد علينا العكس تمامًا.

اجتهدت صديقتي -وأعتبرهن جميعًا صديقاتي- في الحصول على منحة دراسية في بلد ترغب بشدة في السفر إليها؛ اليابان. وعندما حصلت على المنحة، حُبست في المنزل ومُنعت من السفر، إلى أن ضاعت عليها فرصة السفر.

أتخيل مشاعرها، وإن ظل خيالي قاصرًا مهما حاولت، بعد ما بذلتْ كل هذا الجهد ورسمتْ كل الآمال والطموحات للوصول لهدف ما، لينتهي بها المطاف محبوسة في البيت. ليس فقط أنها لم تسافر، ولا أن هناك أملًا في فرصة أخرى للسفر، ولكنها محبوسة وممنوعة من الخروج للشارع تمامًا!

«اتحبست لأني كنت بحب واحد، وبابا فجأة قال لي افتحي باسوورد موبايلك وصمّم يشوف فيه إيه.»

أكثر من شهادة تحتوي على نفس السبب للتجسس وانتهاك الخصوصية والحبس؛ «اتحبست علشان كنت بحب» أو «اتحبست علشان كانوا شاكين اني بحب». هل يمنع الخروج من المنزل أن تشعر إحدانا بالحب تجاه شخص ما؟ هل ستتوقف مشاعرنا عندما نُحبس؟ ليس بإمكان أحد السيطرة على مشاعرنا مهما حدث.

رغبة الرجال في السيطرة على حياة النساء عمومًا، حتى على مشاعرهن، تكشف لنا عن مدى خوفهم من تعبير النساء عن أنفسهن، كما تكشف لنا عن مركزية موازين القوى داخل المجتمع، وضرورة تحجيمها.

«والمرة التالتة علشان واحد زميلي دخل البيت من بابه، بس ماعجبش الوالد، فخاف لاحسن أهرب من البيت وأتجوز، فاتحبست في البيت. ممنوع كمان واحدة من صديقاتي تزورني أو أكلم حد نهائي.»

توقفت كثيرًا في قمة اندهاشي عند تلك الجملة، لماذا تُحبس الفتاة في المنزل لأن شخصًا ما قرر التعبير عن رغبته في الارتباط الرسمي بها، وذهب إلى أهلها مباشرة؟ ما الطريقة المناسبة للتعبير عن الحب، إن لم يكن مصارحة صاحبة الشأن نفسها، بل وإن لم يكن مصارحة أهلها وأخذ الأذن منهم؟

«المناقشات مع والدتي بتقلب بخناق ومد إيد، وأحيانًا كتير حزام أو عصاية، دا غير الإهانة اللفظية اللي فيما معناه انتي عايزة تنحرفي. الصراحة، الحرية الوحيدة اللي عندي هي الدراسة.»

من الحبس فقط إلى الحبس مع الضرب، والشعور بالامتنان لحصولنا على أي نوع من أنواع حرية الاختيار.

«بتحبس في البيت وبتضرب وبتعذب بدون أي سبب، ولما كنت بعترض حاولوا يقتلوني.»

«لو اتكلمت ممكن يقتلوني.»

«من أكتر من 14 سنة كانت ليا قريبة اتوفت بسبب سقوطها من دور عالي. كانوا قالوا إنها داخت ووقعت، بس أنا عرفت من قريب إنها كانت محبوسة.»

يصل الأمر إلى التعذيب أو التهديد بالقتل، وأحيانًا كثيرة للقتل أو الدفع للانتحار دون أن يعلم أحد أمرًا عن الواقعة.

«اتحبست في البيت أيام، عشان الشرطة قبضت عليا بسبب نشاط سياسي.»

عندما ننجو من الحبس من الشرطة، يعاقبنا مصدر الأمان الذي يفترض في الأحوال الطبيعية أن نلجأ إليه.

«حصلت مرتين. مرة علي سبيل العقاب، والمرة التانية لإني اتثبتّ بمطواة واتسرقت؛ اتسرق موبايلي وشنطتي وكل حاجة.»

وعندما نتعرض للعنف في الشارع، نُعنَّف بشكل أكبر في الأسرة، لأننا تعرضنا للعنف في الشارع، لأننا سمحنا لنفسنا أن نتعرض للعنف؛ كيف يحدث ذلك؟ كان يجب علينا الموت؛ هو أفضل من ذلك.

«أحكي عن أنهي مرة طيب؟»

توقفت بعدها الراوية، ولم ترو شهادتها. فقط سألتنا سؤالًا عجزنا تمامًا عن الرد عليه. ولكنَّ أن تتوقعن ماذا كانت لتروي لنا.

«حاولت أعمل بلاغ، لكن الظابط هدّدني يكلم عيلتي، وقال لي إني بنت عاقة لأهلي، لإننا في الأرياف فكل الناس عارفة بعضها. عندي دلوقتي 27 سنة وشوية، وبتضرب لدرجة إن الضرب عمل لي عاهات.»

«حاولت أعمل محضر في القسم ومارضيوش يعملولي، واعتقدوا إني مجنونة.»

يكون الأمر غاية في السوء في المجال الخاص، حيث لا يتوقف عند الدور غير الفعال لمنفّذي القانون وحسب، وإنما يمتد لعدم وجود قوانين تحمي الفتيات، اللاتي لم يبلغن الـ18 عامًا، من أسرهن. واعتبار هؤلاء الفتيات ملكية خالصة للعائلة ورجالها يجعل الأمر خارج السيطرة.

القانون لا يحمي النساء في المجال الخاص عمومًا، ورغم وجود مواد في القانون تُجرّم تقييد حرية الحركة والتنقل، إلا أن نفس القانون يحمل ثغرات تتيح الإفلات من العقاب كما يتضح لنا هنا.

لا يتعلق الأمر بالقانون وحسب، بل بالقائمين عليه أيضًا، وفي حالة كانت الفتيات أكبر من 21 عامًا يصبح تعامل الضباط وأقسام الشرطة معهن على شاكلة ما اتضح لنا من الشهادتين السابقتين.

في أغلب الشهادات كانت الناجيات تُجيب بالنفي على سؤال: «هل تعلمين أن الدستور يكفل الحق في حرية الحركة لجميع مواطنيه؟» ولكن حكايتهن كانت تُعبر عن وعيهن بأن ما يحدث لهن ظلمٌ يجب أن يوقفه أحد. العديد من الشهادات كانت تستغيث طالبة أن يأتي أحدهم الآن لإنقاذهن من ذلك السجن.

كما أن إجابات الناجيات تكون غالبًا بالنفي على سؤال «هل قمتِ بعمل محضر؟»؛ أحيانًا يجبن بـ«لا» بدون تفسيرات، وأحيانًا أخرى يُعبرن عن عدم فائدة ذلك. ولكن إجابة بعينها جعلتني أوشك على التوقف عن تفريغ الاستمارات، لولا مساعدة صديقة من المبادرة، وكانت كالآتي: «عيب لإنه أخويا أكيد شاف عليا حاجة، وكان عاوز يسترني».

شعرت بالعجز وأنا أعدّ الشهادات للنشر، ثم وأنا أحاول التواصل مع صاحباتها اللاتي رغبن بعدم التواصل، كما بدا من تجهيل استماراتهن وعدم ترك أي مساحة للوصول إليهن. أحيانًا كنت أغلق الملف وأقرر عدم العمل لفترة، لأن الشهادات شديدة الإيلام وتمسني أحيانًا، فأتذكر حين هدّدني أحد أفراد عائلتي «لو محدش من إخواتها عارف يحكمها أنا هاخدها عندي»، أو أتذكر إحداهن التي ترغب في تدخل القانون، فأشعر بالعجز الكامل لعلمي بعدم وجود قانون يساعدهن.

توقفت لساعات أمام جملة «أخويا أكيد شاف عليا حاجة، وكان عاوز يسترني»، والتي تبدو صادمة رغم بساطتها وواقعيتها. وربما توقفت عندها كثيرًا لأنني كنت لأتبنّاها يومًا ما؟ هي لا تعلم أن ما يُمارَس ضدها عنف من الأساس، أو أنها قد تعلم ولكنها لا تريد الاعتراف بذلك من شدة وقع التجربة عليها، ربما تحب أخاها جدًا لدرجة تجعلها تنكر أنه يؤذيها، أو أنها ربما نشأت وترعرت على أن هذا هو الطبيعي؛ أن تشك في تصرفاتها، ولا تشكك للحظة في تصرفات أخيها، فالرجال لا يخطؤون أبدًا من وجهة نظر أغلب الأسر المصرية، وإن أخطأوا لا يُعاقَبون أمام إخوتهم من الفتيات، أو حتى يُعاقَبون بأن يفعلوا مثل الفتيات، فتنزل درجتهم من الرجولة إلى درجة أقل باتجاه الأنوثة.

عدد الشهادات كبير مقارنة بعدد متابعينا، وفي مثل تلك القضايا الشائكة الخاصة بالعنف ضد النساء في المجال الخاص المغلق، الذي قليلًا ما نصل لشهادات موثقة منه، نعلم أن هذا العدد قد يتضاعف أربع أو خمس مرات، ليصبح أقرب للواقع.

رغم أهمية الأرقام، إلا أننا لا نرى في شهادات المعنَّفات أرقامًا وحسب، فجميع الشهادات تحكي قصص حياة تلك الفتيات والنساء، وتسرد لنا مشاهد عن المجتمع وكيفية تعامله مع النساء في المجال الخاص، وكيف يؤثر هذا المجال الخاص على تواجد النساء في المجال العام.

لماذا اخترنا إذن التركيز على العنف في المجال الخاص؟

العمل على العنف في المجال الخاص يساعدنا على إيصال أصوات بعض النساء. فإذا علمت هؤلاء النساء أن أصواتهن يمكن سماعها، قد يخفف ذلك من حدة الواقع، ويبعث ببعض الأمل في أن تكون هذه بداية لمحاولات إيجاد حلول.

أردنا العمل على العنف في المجال الخاص لأن «الخاص» هو «العام» كما ندعي، ولأنه ليس من العدل أن يمر إنسان بكل هذا العنف والظلم والقهر، إن لم يُقتل أصلًا، ثم يتمكّن من استكمال دراسته ويعمل لتصبح له شخصية مستقلة ومؤثرة في مجالنا العام، وهو المليء بالمعارك بدوره هو الأخر.

ورغم أن الشهادات وضّحت جيدًا معنى العنف الأسري وأشكاله، وأغلب من يمارسونه، ولكننا، تأكيدًا على ما نريد إيصاله من المقال، وتخفيفًا لوقع الحكايات لمن لن يستطيع قراءتها، أو لمن لن يستطيع قراءة ما بين سطورها، نعرّف العنف الأسري كالآتي:

العنف الأسري، العنف المنزلي، العنف في المجال الخاص، ما يحدث «جوه البيت» من عنف مسكوت عنه، كما اخترنا اسم حملتنا؛ المعنى المقصود واحد، وتختلف المسميات وتتعدد.


والمقصود بهذا، طبقًا لرؤية مجموعة «قانون يحمي الفتيات من العنف الأسري»، هو العنف الواقع من أحد أفراد الأسرة، سواء وقع داخل المنزل أو بمنزل آخر من منازل العائلة أو في الشارع، أو في غيره من الأماكن، حيث يُمارَس العنف من الرجال في الغالب على النساء، وقد يقع من النساء على النساء، ويحدث ذلك في ظل مجتمع وقانون دولة يمنحان لأفراد معينة في الأسرة سلطات مفتوحة في التعامل مع النساء، ويحدث العنف من قبل أحد أفراد الأسرة، وقد يكون الأب أو الأم أو الأخ أو العم أو الجد، أو من قبل الشريك ضد شريكته، سواء كان الزوج أو الخطيب أو الحبيب أو الطليق، أثناء العلاقة أو بعدها، بما في ذلك بما في ذلك الاعتداء الجسدي و الاغتصاب الزوجي و الإيذاء النفسي، والسلوكيات الباعثة على فقد الثقة. وفي كل الأحوال يأخذ العنف الأسري أشكالًا متعددة، تتضمن العنف الجنسي أو الجسدي أو النفسي أو اللفظي أو الاقتصادي.

«مش قادرة أسامح»

جملة وردت في إحدى الشهادات، وحملت أوجاع آلاف النساء المعنَّفات.

ولصاحبة الشهادة أقول: «ليس من حق أحد أن يطلب منكِ مسامحة من أجرم في حقكِ. لو كنا في ظروف اجتماعية وقانونية أخرى، وتمكنتِ فيها من الحصول على عقاب عادل للمجرم متناسب مع ما أصابكِ من ضرر، قد تملكين القدرة على النسيان أو المسامحة، أما في غيرها فلا.»

وحتى ذلك الحين، فما يحدث خلف أبواب البيوت المصرية المغلقة، يسمعه المارة والجيران والمجتمع والقائمون على القانون، ولكن لا يتحدث عنه أحد، وكأنهم جميعًا يتمنُّون التحول إلى تماثيل لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم.


هذا المقال جزء من مخرجات حملة «جوه البيت»، وهي حملة إلكترونية تهتم بالعنف ضد الفتيات والنساء في المجال الخاص، وشاركت فيها، من ضمن مبادرات نسوية شابة أخرى، مبادرة «قانون يحمي الفتيات من العنف الأسري»، في إطار الحملة العالمية التي استمرت لمدة 16 يومًا والمناهضة للعنف ضد النساء.