تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رفع الوثيقة من مجلة كحل
{{بيانات_وثيقة
|نوع الوثيقة=مقالة رأي
|العنوان=أبعد من منطق حماية الدولة: الدّفاع عن النّفس ذو الطّابع النّسوي في القاهرة بعد ثورة 25 يناير
|مؤلف=نادية العلي
|محرر=
|لغة=ar
|ترجمة=
|المصدر=مجلة كُحل لأبحاث الجسد والجندر
|تاريخ النشر=2016
|تاريخ الاسترجاع=2020-12-01
|مسار الاسترجاع=https://kohljournal.press/ar/beyond-the-logic-of-state-protection
|نسخة أرشيفية=http://archive.is/thu0o
|بالعربية=
|هل ترجمة=نعم
|مترجم=لين هاشم
|لغة الأصل=en
|العنوان الأصلي=Beyond the Logic of State Protection: Feminist Self-Defense in Cairo after the January 25 Revolution
|تاريخ نشر الأصل=2016
|النص الأصلي=https://kohljournal.press/beyond-the-logic-of-state-protection
|ملاحظة=هذه المقالة نشرت في المجلد 2 - عدد 1، لمجلة [[كحل]].
|قوالب فرعية=
}}


'''مقدّمة: حكايا الدفاع عن النفس'''

في العام 2010، تخيّل المخرج محمد دياب في فيلمه 678 ما يمكن أن يحدث في القاهرة فيما لو توقّفت النساء عن تحمّل التحرّش الجنسي في الطرقات وفي وسائل النقل العام، وقرّرن بدلًا من ذلك الردّ على هذه التطفّلات بالعنف. وفي مشهدٍ بارزٍ، تصعد فايزة، إحدى الشخصيات الرئيسة في الفيلم، إلى باصٍ مكتظٍّ كالعادة حيث تتعرّض للملامسات في غالب الأحيان، لتجد مشهدًا شديد الغرابة: الركاب مصطفّون/ات باحترامٍ، الرجال في جهةٍ والنساء في جهةٍ أخرى، تفصل بين المجموعتين مسافة معيّنة. “ما خطب الرجال اليوم؟” تصرخ إحدى النساء في الباص، غير عالمةٍ بعمليات الطعن التي ملأت أخبارها عناوين الصحف في ذلك الصباح. يقدّم دياب مسألة الدفاع عن النفس كتدبيرٍ أخيرٍ للوضع غير المحتمل الذي يدفع بالنساء إلى حافّة الجنون. وبينما تضطرّ فايزة في كلّ يومٍ إلى تحمّل التحرّش الجنسي، تلجأ صِبا، بطلة الفيلم الأخرى، إلى الدفاع عن النفس بعد تعرّضها لاعتداءٍ جنسيٍ جماعيٍّ في خلال الإحتفالات بفوز المنتخب المصري في كرة القدم. وتولّد صدمة الإعتداء مسافةً بين صِبا وزوجها الذي يعجز عن التعامل مع ألم زوجته: إذ بعد مشاهدته انتهاك زوجته العلنيّ، يُصاب بالذنب والعار لفشله في تأدية دوره كحامٍ لها.

ويطرح دياب في الفيلم ما يُقصد به التوصّل إلى خاتمةٍ سعيدةٍ كحلٍّ لهذا الخيال السياسي، إذ يقرّر التحرّي المسؤول عن التحقيق في حوادث الطعن العفو عن النساء بعد وفاة زوجته في أثناء المخاض، تاركةً إيّاه من دون وريثٍ ذكرٍ كان يرغب به بشدّة. عوضًا عن ذلك، يبدو أن طفلة التحرّي المولودة حديثًا تفتح عينَي أبيها على محنة النساء المصريّات. وفي المشهد الختامي، تظهر نيللي، البطلة الثالثة في الفيلم، وهي في المحكمة تتعرّض للضغوط من حموَيها المستقبليّين لتسقط الدّعوى ضدّ رجلٍ أمسك بها من الفان في أثناء سيرها إلى منزلها. وعندما يطلب إليها القاضي تأكيد طلب محاميها بإسقاط دعوى التحرّش الجنسي، يعارض خطيبها علنًا قرارها بسحب الشّكوى، ويشجّعها على السّير بها. ينتهي الفيلم بإشارةٍ إلى إدانة المتحرّش وتجريم التحرّش الجنسي في مصر، وهو حدثٌ يحاكي القصّة الحقيقيّة لنهى رشدي، المرأة التي فازت بأوّل قضيّة تحرشٍ جنسيِ في مصر في العام 2009.<ref>مع الإشارة إلى أن تجريم التحرّش الجنسي – كما أشير لاحقًا في هذا المقال – لم يتحقّق فعليًا حتى يونيو من العام 2014. للإطلاع على بعض التأمّلات في قضية نهى رشدي، راجع/ي Amar 2011 وAbdelmonem 2015 (بالإنكليزية).</ref> وضمن هذه السرديّة، تُقدّم الدولة المتجسّدة في شخصَي التحرّي والقاضي كحاميةٍ جديدةٍ للنساء في سياقٍ لم تعد تُعتبر فيه أشكال الحماية الذكورية التقليديّة فعّالة. هكذا، بتبنّيه التغيير القانوني والسياسي والدّعم الضروري من الرجال، يستبعد دياب إمكانية لجوء النساء إلى الوسائل المستقلّة ذاتيًا للدفاع عن النفس، طارحًا حلًا أكثر محافظةً للتحرّش الجنسي في المكان العام

عادت مسألة الدفاع عن النفس إلى الواجهة مجدّدًا بعد ثورة يناير 2011، مع تزايد وتصعيد التحرّش الجنسي والإعتداءات الجنسية في خلال التظاهرات وفي الأماكن العامة بشكلٍ عام. في الأيام والسنين التي تلت إسقاط حسني مبارك، باتت الإعتداءات الجنسية الجماعية التي ترتكبها جماعاتٌ كبيرةٌ من الرجال أمرًا شائعًا في ميدان التحرير ومحيطه في خلال التظاهرات الجماهيريّة (El Nadeem et al. 2013; FIDH et al. 2014) ، كما ازدهر في تلك الفترة التحرّش الجنسي في الطرقات وفي وسائل النقل العام (El Deeb 2013; Fahmy et al. 2014). ونظرًا إلى فشل الدولة في تحديد الفاعلين ومحاسبتهم على هذه الإنتهاكات، وجّهت مجموعات حقوق الإنسان وحقوق النساء الإتهام إلى المسؤولين في السلطة بالتآمر مع مرتكبي العنف (El-Nadeem et al. 2013)، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بعفويّةٍ مبادراتٌ متعدّدةٌ هادفةٌ إلى منع ووقف هذه الإنتهاكات على الأرض.

إستنادًا إلى البحث الميداني المُجرى في القاهرة بين سبتمبر 2014 ويونيو 2015، بالإضافة إلى المصادر الثانوية التي تتناول موضوع الدفاع عن النفس في مصر، يبحث هذا المقال في ممارسات واستراتيجيات ومجتمعات الدفاع عن النفس التي ظهرت في العاصمة المصرية لاسيما بعد العام 2011.<ref> تألّف البحث الميداني خاصّتي من ملاحظاتٍ إثنوغرافيّةٍ ومقابلاتٍ نوعيّةٍ معمّقة، كما شمل قيامي بملاحظة المشارك/ة في النشاطات التي تنظّمها الجمعيات والمجموعات العاملة ضد الإعتداء والتحرّش الجنسي، ومن بينها “ويندو” مصر. وفي خلال بحثي، حضرتُ ثلاثة مقرّراتٍ أساسيّة في الدفاع عن النفس من تنظيم هذه المبادرة، بالإضافة إلى عددٍ من النشاطات التوعويّة الأخرى الموجّهة إلى جمهورٍ واسعٍ من النساء والفتيات. وفي خلال إقامتي هناك، حاورت عضواتٍ رئيساتٍ في المجموعات التي تنظّم ضد العنف الجنسي في المكان العام. أُجريت كلّ المقابلات بالإنكليزية وسُجّلت صوتيًا. في هذا المقال، أستخدم موادّ من مقابلاتي مع مدرّبات “ويندو” ومع متطوّعاتٍ سابقاتٍ في “قوّة ضد التحرش”، بالإضافة إلى مقابلاتٍ مع نساءٍ مصريّاتٍ وأجنبياتٍ يعشن في ضواحي مدينة 6 أكتوبر ومصر الجديدة. وتجدر الإشارة إلى أنه طيلة فترة عملي الميداني، عملت كزميلةٍ باحثةٍ في معهد سينثيا نيلسون لدراسات الجندر والنساء في الجامعة الأميركية في القاهرة (AUC) تحت إشراف البروفيسورة هيلين ريزّو. وحاز اقتراح بحثي على موافقةٍ معجّلةٍ من لجنة المراجعة المؤسّسية (IRB) في كلٍّ من الجامعة الأميركية في القاهرة وجامعة روتغرز (Rutgers) في الولايات المتحدة الأميركيّة.</ref> في هذا التحليل، أميّز بين نوعَين من الدفاع عن النفس: يركّز القسم الأول على ما أصفها بالأنماط “المحافِظة” في الدفاع عن النفس، وهي برأيي تشمل المطالبات بالحقّ في الدفاع عن النفس حسبما تصوغه أطرافٌ خاصّةٌ وعامّةٌ بإسم الأمن وحفظ النظام. وأجادل أن تعبيرات الدفاع عن النفس هذه تعمل من خلال تشكيل “آخرٍ” بصفته تجسيدًا للفوضى، وبالتالي منح الأولويّة لإعادة الإستقرار والنظام في إثر ثورة 25 يناير. أما القسم الثاني، فيتطرّق إلى الدفاع النسوي عن النفس، وهو تعبيرٌ عمّا أسمّيه بالأنماط “الراديكاليّة” في الدفاع عن النفس<ref>أقصد بوصف “راديكاليّة” أنّ تعبيرات الدفاع عن النفس هذه تناصر بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ تغييراتٍ جذريةً في البنى والعلاقات الإجتماعية القائمة. أما الأنماط “المحافِظة” في الدفاع عن النفس، فعلى العكس من ذلك، تعيد إنتاج البنى والعلاقات الإجتماعية القائمة، وبالتالي تساهم في ترسيخها. وأعتبر هاتين الفئتين نموذجَين مثاليّين، ما يعني أن الأمثلة الواردة في المقال تقارب إحداهما أو الأخرى، لكنها لا تطابق بالضرورة توصيفهما بشكلٍ تام.</ref>. ومن خلال مقابلاتٍ أجريتها مع عضواتٍ في مجموعتَي “قوّة ضد التحرّش” (OpAntiSH) و”ويندو” (WenDo)، أعاين الطرق العديدة التي تحدّت هذه المبادرات من خلالها منطق الحماية الذكورية وحماية الدولة التي ترسّخ العلاقات الجندرية التقليدية في مصر. في الختام، أناقش أهمية الدفاع النسوي عن النفس ضد العنف الجنسي في المكان العام في ضوء التدابير السياسية والقانونية الأخيرة التي اعتمدها نظام عبد الفتاح السّيسي لتجريم التحرّش الجنسي.


'''الخوف من الفوضى والدفاع عن النفس في مصر'''

راج تكتيك الدفاع عن النفس في إثر ثورة 25 يناير، لكن ليس بالضرورة بطرقٍ تحرّرية. بالطبع، المثال الأكثر خطورةً على استخدام الدفاع عن النفس كتبريرٍ لاستخدام العنف ورد في خطاب اللواء السّيسي في تاريخ 26 يونيو 2011، حين صرّح بأنّ القوات العسكرية أجرت فحوص عذريّةٍ للمتظاهرات من النساء “دفاعًا عن النفس ضد الإتهامات المحتملة بالإغتصاب” (Borkan 2011). وشكّل هذا التصريح جزءًا من حملةٍ عامةٍ أوسع للتشكيك في المناضلين/ات الثوريين/ات في خلال فترة الحكم العسكري التي تلت إسقاط حسني مبارك في تاريخ 11 فبراير2001 (Hafez 2014: 24). ومن خلال خطابٍ فعّل قيم العائلة الأبوية والقواعد الأخلاقية، هدف المجلس الأعلى للقوات المسلّحة إلى إعادة فرض سيطرته على المساحة العامة بعد الثورة، عبر طرح المتظاهرات النساء كـ”منحلّات جنسيًا” وبالتالي شرعنة استخدام العنف الجنسي ضدّهن (المرجع السابق: 27).

عملت مشاريع الدفاع عن النفس التي ظهرت في البلاد في خلال أيام الثورة الثمانية عشر (من 25 يناير حتى 11 فبراير، 2011) وفق أنظمةٍ جندريةٍ أكثر تباينًا. في يوم 29 يناير 2011، هرب عدّة آلاف من المساجين من سجن وادي النطرون ومن ثلاثة سجونٍ أخرى (Fayed and Saleh 2011)، وترافق هذا مع انسحاب الشرطة من الشوارع، ما ولّد شائعاتٍ كثيرةً عن وجود عصاباتٍ مسلّحةٍ من المجرمين والسّارقين حول القاهرة (Saleh 2011; Tisdall 2011). واستجابةً لهذه التهديدات المتصوّرة، برزت بسرعةٍ ممارسات الدفاع عن النفس الجماعية. في مجتمع “سيتي فيو” المبوّب في ضاحية 6 أكتوبر في القاهرة، أغلق السكّان الذكور وطواقم الأمن البوّابات بالمركبات، ونظّموا أنفسهم في دواماتٍ نهاريّةٍ وليليّةٍ لحراسة المجمّع من الدّخلاء. “لم نكن نعلم كميّة السلاح التي كانت في حوزة الناس” قالت لي إحدى القاطنات المصريّات (مقابلة 23 مايو، 2015) مستذكرةً الإضطراب في تلك الأيام، ثمّ أضافت أنّ السكّان كانوا “محظوظين/ات” أن كان من بينهم/ن قنّاصٌ سابقٌ في الجيش، إذ كان يراقب الأرض الخالية حول المكان ليلًا، ويصعد إلى أعلى نقطةٍ في المجمّع حاملًا بندقيّته المزوّدة بمنظارٍ ليلي (المرجع السابق)<ref> مع الإشارة إلى أن الخوف من الجريمة ومن الفوضى المدينيّة لدى الطبقات العليا يسبق ثورة 25 يناير، وقد شكّل دافعًا لقرار كثيرٍ من الأسر المصرية الثرية الإنتقال إلى مجمّعاتٍ سكنيّةٍ مؤمنَنةٍ كتلك التي انتشرت حول القاهرة منذ التسعينات (Kuppinger 2004: 44)، إلا أنّ هذا القلق تنامى على نحوٍ مطّردٍ بعد العام 2011. للإطلاع على مناقشة المجتمعات المبوّبة في مصر، راجع/ي Mitchell 1999.</ref>.

لم تنحصر مبادرات الدفاع عن النفس الجماعية في المناطق الميسورة، بل شملت القاهرة بالكامل. في أحياء كثيرةٍ، نشأت “لجان شعبيّة” مؤلّفةٌ من شبّانٍ مسؤولين عن حماية المنطقة (Reuters 2011). وبعد أيام الثورة الثمانية عشر، تحوّل بعضها إلى التنظيم على الصعيد المحلّي بهدف تنمية المجتمع وإصلاحه<ref>يتجاوز البحث المفصّل في هذه المبادرات مجال هذا المقال، لكن من المهمّ الإشارة إلى أنّ بعض اللّجان الشعبية طوّرت بنىً مستقلةً ذاتيًا من الدّعم الإقتصادي والطبّي، وكذلك من آليّات المساءلة السياسية التي ساهمت في تحوّل مجتمعاتها بعد العام 2011. ولا تنضوي هذه الحالات تحت النمط “المحافِظ” من الدفاع عن النفس الذي أناقشه في هذا القسم.</ref> (Mossallam 2011; El-Meehy 2015). لكن معظم هذه اللّجان نشأ فقط لملء الفراغ الأمني وكحلٍّ مؤقّتٍ لحفظ النظام في أوقات الفوضى، وبالتالي اختفى مع عودة الشرطة. وبينما اتّسمت هذه اللّجان بالنشاط، عكس تكوينها الديناميّات الجندرية التي تُموضِع الرجال كحماةٍ والنساء كمحتاجاتٍ للحماية في أوقات الأزمات، كما استنسخت طرق تنظيمها في غالب الأحيان إجراءات الشرطة في المراقبة والتحكّم.

وأدّى تزايد تصوّرات انعدام الأمان في الأماكن العامة إلى تصاعد خوف النساء من العنف الجنسي. وفي ضوء هذا، شهدت فترة ما بعد ثورة 25 يناير شيوع أدوات الحماية الشخصية وتكاثر صفوف الدفاع عن النفس المتاحة للنساء، لاسيما في الأحياء الثرية. وبحسب ما أسرّت لي إمرأةٌ أجنبيةٌ تقطن في مجمّع “قطاميّة هايتس” المبوّب، فإنّها كانت تبقي في سيارتها دومًا مسدّس تيزر (سلاح الصعقة الكهربائية) وتحمله معها كلّما تجوّلت في المدينة وحدها، لا “خوفًا” بل “حيطةً” (مقابلة 3 مايو، 2015). وكما تلحظ لاتشينال (Lachenal 2014: 58) في الإثنوغرافيا خاصّتها عن تدريب الدفاع عن النفس لنساء الطبقة العليا في القاهرة بعد الثورة، فإنّ مشاعر الهشاشة لدى النساء فتحت “سوقًا جديدةً من الفرص المتعلّقة بالأمن الشخصي”. وفي الصفوف التي تصفها، يبرز تعريف النساء كزوجاتٍ وأمّهاتٍ، وهو موقع يتضمّن حاجتهنّ إلى الحماية ومسؤوليّتهن في حماية أولئك ممّن هم/ن تحت رعايتهنّ.

لكن أمثلة دفاع النساء عن أنفسهنّ موجودةٌ في مصر منذ ما قبل ثورة 25 يناير. في العام 2009، وعلى الأرجح في الفترة التي تلت الإعتداءات الجنسية الجماعية في عيد الفطر من العام 2008، أشارت تقارير إلى أن النساء يتعلّمن كيفيّة مجابهة التحرّش الجنسي من خلال دروسٍ في الفنون القتالية دوجو<ref>في أثناء الإحتقال بهذه المناسبة الدينية، أقدم حوالي مئة شابٍّ على الإعتداء الجنسي على النساء في حيّ المهندسين (Leila 2008).</ref> (Fraser 2009). لكن على عكس الصفوف التي تقتصر على النساء فقط والتي أصفها في القسم التالي، كانت هذه الصفوف مختلطةٌ بحيث يمكن للنساء التمرّن على لكمات وركلات الكاراتيه بإشراف مدرّبٍ ذكر. وفي الفترة ذاتها، شكّلت موظّفات شركة “فالكون” الأمنيّة الخاصّة مجموعةً أخرى من النساء اللواتي يمارسن الدفاع عن النفس في القاهرة (Wedeman 2009). وهؤلاء “السيدات الحارسات” المدرّبات للعمل كمرافقاتٍ للنساء المصريات والأجنبيات البارزات، يقمن اليوم بمهمّة التحقّق من هويّات الطالبات وتفتيش حقائبهنّ عند بوّابات جامعة القاهرة. وتمثّل هذه الأمنَنة المتزايدة جزءًا من مجموعة تدابير إتّخذها نظام السّيسي في حرم الجامعات لسحق أيّ تمرّدٍ سياسيٍ ضدّ الإنقلاب العسكري الذي نحّى محمد مرسي في يوليو من العام 2013 (Khorshid 2014).

وسواءٌ شكّلت الأمثلة الواردة أعلاه إستراتيجيّاتٍ جماعيّةً لحفظ النظام، أو مشاريع فرديّةً لحماية الذات، أو حقّقت مطالب ناميةً لسوق الأمن النيوليبرالية، فإنّها تتّسم بعاملَين مشتركَين: الأوّل، هو فهم الدفاع عن النفس كامتيازٍ شخصيٍ بحسب الشخوص الذين/اللواتي يحقّ لهم/ن ممارسة العنف دفاعًا عن أنفسهم/ن، أو ملكيّتهم/ن أو أقاربهم/ن. ويعترف قانون العقوبات المصري الصّادر في العام 1937 بحقّ الدفاع الشّرعي عن النفس، وينصّ في المادّة 245 على أن “لا عقوبة مطلقًا على من قتل غيره أو أصابه بجراحٍ أو ضربةٍ أثناء استعماله حق الدفاع الشّرعي عن نفسه أو ماله أو عن نفس غيره أو ماله” <ref> كان مبدأ الدفاع الشرعي عن النفس معترفًا به في دستورَي 1883 و1904، وكلاهما مُصاغٌ وفق المبادئ النابوليونيّة (Grandmoulin 1908: 386).</ref> (Reza 2011: 191). لكن هذا الحقّ مقيّدٌ بمادّتَين: المادّة 247 التي تبطل حقّ الدفاع عن النفس حينما يكون متاحًا للأشخاص اللّجوء إلى القانون لتحقيق الحماية، والمادّة 248 التي تمنع مقاومة السّلطات بإسم الدفاع عن النفس “ولو تخطّى (مأمور الضّبط) حدود وظيفته” (المرجع السابق: 192). ومن خلال هذه الأحكام المقيِّدة، يُخضِع قانون العقوبات الحقّ في الدفاع عن النفس إلى احتكار الدولة للعنف.

إنّ مفهوم الدفاع عن النفس المُصان في قانون العقوبات والمعكوس في الأمثلة الواردة أعلاه، محفوظٌ بشكلٍ مثاليٍّ في الموادّ الترويجيّة لـ”أكاديميّة الحماية” (الصورة 1) وبرنامجها للدفاع عن النفس المُعلن عنه في مجمّع “القطاميّة هايتس” المبوّب، أحد أكثر المجمّعات ترفًا في الضاحية الصّحراوية في مصر الجديدة. متوجّهًا إلى شخصٍ مذكّرٍ في دوره كحامٍ لأسرته، يقول الملصق الإعلاني: “هل تريد أن تكون قادرًا على حماية نفسك؟ هل تريد أن تكون قادرًا على حماية زوجتك وأولادك؟ هل تريد أن تكون زوجتك قادرة على حماية نفسها وأولادها؟ … هل تريد حقًا حماية سيارتك والتعامل مع الخارجين عن القانون؟”. وتتصدّر هذه الأسئلة المكتوبة بالعربية وبالإنكليزية الملصق وسط مشهديّةٍ عدائيّةٍ تهيمن عليها قبضةٌ مقفلةٌ توجّه لكمةً أماميّةً، وسلسلة أشكالٍ في كعب الملصق تمثّل التطوّر المُتخيّل من قردٍ إلى محارب.


أما العامل الثاني الذي تشترك فيه تعبيرات الدفاع عن النفس المختلفة فهو تحديد “الآخر” – “الخارجين عن القانون” في ملصق “أكاديميّة الحماية” – وهو مصدر الخطر على الذات، والملكيّة والمجتمع. فيلقاءات غريبة (Strange Encounters) تجادل أحمد (Ahmed 2000: 3) أن شخص الغريب/ة يُنتج “لا بصفته ذاك الذي نعجز عن التعرّف إليه، بل كذاك الذي تعرّفنا إليه مسبقًا بصفته ’غريبًا‘”. وبحسب الكاتبة، يخلق خطاب خطر الغريب/ة شخص الغريب/ة كأحدٍ ما يهدّد “مساحة المجتمع المنقّاة” بمجرّد وجوده/ا فيها، وبالتالي لا بدّ من طرده/ا من أجل حماية مساحة الإنتماء المشتركة هذه (المرجع السابق: 22). بالنسبة إلى أحمد، إنّ المنفعة الإجتماعية والأخلاقية المنشودة التي يعبّر عنها المجتمع وتفرضها مجموعات الحراسة مثل “حرس الحيّ”، ليست سوى وسيطًا لحفظ قيمة الملكيّة وحمايتها في هذه المساحات (المرجع السابق: 27). وفي هذا السياق، تتجلّى تصوّرات الأمان والخطر بواسطة “تأويلات العرق والطبقة والمظهر الخارجي” (Koskela 2005: 262). وتمثّل هذه التقييمات وسائل فوريّةً يستخدمها الأفراد للتمييز بين غرباء وغريباتٍ آمنين/ات وآخرين وأخرياتٍ غير آمنين/ات في اللّقاءات اليومية في المساحة العامة، كما تستخدمها المجتمعات لتحديد الأجساد المثيرة للريبة، والواجب بالتالي استهدافها بالمراقبة والسيطرة. وكما تلاحظ أحمد (2000: 25)، هناك أجسادٌ – ذات دلالاتٍ جندريّةٍ وعرقيّةٍ وطبقيّةٍ معيّنةٍ – تُعتبر في أصلها خطيرة، إذ أنّ علاقات القوّة الموجودة “تسِم بعض الآخرين والأخريات كغرباء وغريباتٍ أكثر من آخرين وأخريات غيرهم/ن” (التوكيد للكاتبة).

في القاهرة، جرى تخيّل هذا “الآخر” على امتداد العقود الماضية من خلال شخصيّاتٍ مختلفةٍ تتعايش مع بعضها البعض. إحدى هذه الشخصيّات هي شخصيّة المتحرّش: وقد عرّفته الأبحاث المبكرة والناشطون/ات وروّج له الإعلام على أنّه شابٌّ عاطلٌ عن العمل ومُفقرٌ وغير قادرٍ على تحمّل تكاليف الزواج نظرًا لتراجع الأوضاع الإقتصادية في مصر، وهو يلجأ بالتالي إلى الحملقة والملامسة كمتنفّسٍ لإحباطه الجنسي، وكوسيلةٍ “لاستعادة رجولته رمزيًا في المكان العام” <ref>قدّمت الأبحاث الأكاديمية المنشورة في أواخر الـ2000 التحرّش الجنسي في المكان العام في مصر كظاهرةٍ إجتماعيةٍ مرتبطةٍ بالتحوّلات الإقتصادية والإجتماعية. تحديدًا، فسّرت بيبولز ( (Peoples 2008انتشار التحرّش الجنسي في الشوارع في القاهرة كنتيجةٍ للإرتفاع البنيوي في نسبة البطالة لاسيما بين الشبّان، وتفكّك الأسرة البطريركيّة. وعلى نحوٍ مماثلٍ، عكست إلهي (Ilahi 2009: 64) اعتباراتٍ منتشرةً بكثرةٍ عن التحرّش الجنسي بصفته المتنفّس الوحيد للكبت والإحباط الجنسي لدى الأعداد المتزايدة من الشبّان المصريين “غير القابلين للزواج”. وتتعارض هذه الأبحاث مع نتائج البحث التجريبي التي تشير باستمرارٍ إلى عدم ارتباط التحرّش الجنسي في المكان العام بالمهنة، أو بالمستوى التعليمي أو بالوضع العائلي (Hassan et al. 2008: 17; Fahmy et al. 2014: 24).</ref>(Peoples 2008: 3). وعبر التركيز على تحرّش الغرباء كمصدر تهديدٍ رئيسٍ لأجساد النساء وشرفهنّ، يُحيل هذا الخطاب أشكالًا أخرى من العنف الجنسي ضدّ النساء غير مرئيّةٍ على الرغم من كونها منتشرةً بالقدر ذاته، كتلك التي تحدث في المساحة الخاصّة في البيت أو في مكان العمل على يد الأقرباء والزملاء<ref> بحسب تقريرٍ نشره “مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب” (2015: 3) وتضمّن معلوماتٍ من كافّة القضايا التي عالجها المركز بين عامَي 2007 و2014، تبيّن في معظم الأحيان أن “النساء تعرّضن لأشكالٍ عدّةٍ من العنف في الوقت عينه”. وكما تعكس الدراسة، فإنّ غالبيّة الزبائن الـ162 اللواتي شملتهنّ العيّنة تعرّضن للإغتصاب (وللإغتصاب الزوجي في 20.6% من الحالات)، تبعه الإعتداء الجنسي، والتحرّش الجنسي وغير ذلك من أشكال العنف (المرجع السابق: 12).</ref>. بالإضافة إلى هذا، إنّ تأطير هذه الظاهرة من قبل المنظّمات غير الحكومية كمشكلةٍ ناجمةٍ عن التسيّب الأمني، قد خدم تبرير الأمنَنة المتنامية للمساحات العامة وتمدّد عنف الشرطة ضد شبّان الطبقة العاملة <ref>على سبيل المثال، وكجزءٍ من حملة “شارع آمن للجميع” التي أطلقها في العام 2005، طالب “المركز المصري لحقوق المرأة” (2009: 36-39) بتركيب كاميرات مراقبةٍ في الأماكن العامة وبنشر عددٍ أكبر من أفراد الشرطة في الشوارع.</ref> (Amar 2011: 318).


ما الشخصية الأخرى التي تغذّي القلق من الفوضى، فهي الجموع الفقيرة التي ستهبّ من العشوائيّات لتُقلق “راحة أحياء الطبقة الوسطى” <ref>وفق التقديرات الرسمية في العام 2008، يعيش 44% من سكّان القاهرة الكبرى في العشوائيّات (Sims 2010).</ref> (Karawya 2009: 100). واقتات هذا الخوف منذ أواسط الـ2000 على أفلامٍ مثل “حين ميسرة” لخالد يوسف، كما استغلّته خطابات الإعلام والسلطة قبل ثورة 25 يناير<ref> “حين ميسرة” (2007) هو أحد أفلام العشوائيّات العديدة (الأفلام التي يقطن “أبطالها/ بطلاتها” في العشوائيّات) التي كثرت في مصر في خلال أواسط الـ2000. وقدّم المخرج خالد يوسف الفيلم على أنه “رسالة تحذيرٍ للمجتمع كلّه، للحكومة وللناس، أن المناطق العشوائيّة المحيطة بالقاهرة هي قنابل موقوتة قد تنفجر في أيّ لحظة” (مقتبس في Karawya 2009: 60). وتردّدت أصداء هذه المخاوف بين عامَي 2007 و2008 في الصّحف التي اعتادت نشر التقارير عن أعمال الشغب التي يقوم بها سكّان العشوائيّات (المرجع السابق: 53(. وفي الفترة ذاتها، بدأت سلطات الدولة باعتبار هذه المجتمعات “باثولوجيا مدينيةً” وتهديدًا أمنيًا (Ismail 2006: 66).</ref>. تحديدًا، ساهم اختراقالجماعة الإسلامية المسلّحة لحيّ إمبابة غير النظامي في التسعينات في صياغة خطابٍ وَسَم العشوائيّات “كمراكز لانعدام القانون، والتطرّف، والجريمة والفقر” (Bayat and Denis 2000: 197).

أخيرًا، هناك شخصيّة البلطجي المرتبطة بشدّةٍ بهذه الأحياء، والمقدّمة تاريخيًا على أنّها “الآخر” الإجتماعي والسياسي الذي يعرّض التناغم الإجتماعي للخطر<ref>بحسب غنّام (Ghannam 2012: 34)، يدلّ مصطلح بلطجي تقليديًا على الرجل الذي “يستخدم العنف لفرض إرادته على الآخرين وتعزيز مصالحه الخاصة”. واستخدمت الحكومة المصرية هذا المفهوم في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي للإشارة إلى القادة الإسلاميين، ثم منذ أواسط التسعينات للإشارة إلى شبّان العشوائيّات (Ismail 2006: 140). وفي هذا السياق، أُقرّ القانون رقم 6 بشأن “البلطجة” في العام 1998، كجزءٍ من محاولة الدولة توسيع سلطاتها الأمنية وفرض النظام والإنضباط في العشوائيّات (المرجع السابق: xlv).</ref>. ومن اعتبارهم “إرهابيين إجتماعيين” وتهديدًا للأمن القومي في التسعينات (Ismail 2006: 122)، تحوّل البلطجية في خلال الـ2000 إلى أداةٍ قيّمةٍ بيد الشرطة التي وظّفتهم كمخبرين لترهيب المتظاهرين/ات (Amar 2011: 308). وبرز مثالٌ مفضوحٌ على هذا التعاون في 15 مايو من العام 2005 (المعروف بالأربعاء الأسود)، عندما قام بلطجيّةٌ مرتبطون بالحزب الوطني الديموقراطي التابع لمبارك بمهاجمة تظاهرةٍ نظّمتها حركة كفاية المعارِضة، وأقدموا على الإعتداء جنسيًا على النساء الناشطات<ref> أدان الناشطون والناشطات في مدوّناتهم/ن هذه الإعتداءات الجنسية التي تعرّضت لها المتظاهرات النساء في المكان العام. راجع/ي على سبيل المثال:http://wa7damasrya.blogspot.com/2005/05/blog-post_25.html وhttp://tinker-thoughts.blogspot.com/2005/05/el-nas-el-soghayara.html.</ref>. ومع تقدّم ثورة 25 يناير، أصبح البلطجيّة “تهديدًا جماعيًا ومباشرًا” في إثر انسحاب الشرطة من الشوارع (Ghannam 2012: 34). وفي خلال أيام الثورة الثمانية عشر، إستُخدم مصطلح البلطجيّة في غالب الأحيان للإشارة إلى البلطجيّة الذين تستخدمهم الدولة لمهاجمة المتظاهرين/ات في ميدان التحرير، لكنّه استُخدم بعد ذلك أيضًا من قبل أطرافٍ مختلفةٍ (من بينها المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة) بغرض تشويه صورة الخصوم وإظهارهم/ن بمظهر التهديد للمجتمع (المرجع السابق: 35، الملاحظة 16).
13. بحسب غنّام (Ghannam 2012: 34)، يدلّ مصطلح بلطجي تقليديًا على الرجل الذي “يستخدم العنف لفرض إرادته على الآخرين وتعزيز مصالحه الخاصة”. واستخدمت الحكومة المصرية هذا المفهوم في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي للإشارة إلى القادة الإسلاميين، ثم منذ أواسط التسعينات للإشارة إلى شبّان العشوائيّات (Ismail 2006: 140). وفي هذا السياق، أُقرّ القانون رقم 6 بشأن “البلطجة” في العام 1998، كجزءٍ من محاولة الدولة توسيع سلطاتها الأمنية وفرض النظام والإنضباط في العشوائيّات (المرجع السابق: xlv).


وتصوّر الأنماط المحافِظة في الدفاع عن النفس إحدى هذه الشخصيّات – أو مزيجًا منها – كسببٍ يبرّر حاجتها إلى الحماية. وتبرز هنا صفوف الدفاع عن النفس التي تصفها لاتشينال (2014: 70)، والتي يشجّع فيها المدرّبُ النساءَ المشارِكات على تصوّر أنفسهنّ أمام بلطجيٍّ يوصف كرجلٍ “قذرٍ” و”سيّء الهندام”، ذي “ندوبٍ في الوجه”، و”يرتكب الجرائم لقاء المال” (المرجع السابق). ويحمل هذا التوصيف اختلافاتٍ طبقيّةً واضحةً بين المتدرّبات من الطبقات العليا والمتحرِّش المُتخيّل، كما يعكس مخاوف عميقةً لديهنّ من استباحة أجسادهنّ وأحيائهنّ وتلويثها في إثر ثورة 25 يناير. لكن بموازاة هذه الأشكال من الدفاع عن النفس المرتكزة على تحديد “الآخر” والتعبئة ضدّه، برزت في مصر بعد العام 2011 أنماطٌ أكثر راديكاليّةً في الدفاع عن النفس.
staff
2٬193

تعديل

قائمة التصفح