أُضيف 50٬103 بايت
، قبل 4 سنوات
{{بيانات_وثيقة
|نوع الوثيقة=ورقة بحثية
|العنوان=
|مؤلف=أحمد غربية
|محرر=
|لغة=ar
|ترجمة=
|المصدر=مبادرة الإصلاح العربي
|تاريخ النشر=2020-01-23
|تاريخ الاسترجاع=2020-01-24
|مسار الاسترجاع=https://www.arab-reform.net/ar/publication/الويكيّات-كمحفّزاتٍ-للناشطية-ويكي-ال
|نسخة أرشيفية=http://archive.is/8b6jO
|بالعربية=
|هل ترجمة=
|مترجم=
|لغة الأصل=
|العنوان الأصلي=
|تاريخ نشر الأصل=
|النص الأصلي=
|ملاحظة=
|قوالب فرعية=
}}
==مقدّمة==
"الويكيّات" هي كياناتٌ معرفية وتنظيمية يُمكن أن تكون مُحفّزاتٍ لنشوء مجموعاتٍ ذاتية التنظيم تجمعها اهتماماتٌ مشتركة، وقد تكون وسيلةً جيّدة لتأسيس أساليب من الناشطية المجتمعية تكمّل جهود المساهمين فيها في انتماءاتهم التنظيمية والناشطية الأخرى. كما قد تكون حقول تجارب في مجال التنظيم الذاتي، وبؤراً لمراكمة وإتاحة المعرفة النوعية المتخصّصة في مجالات العلوم البحتة أو العلوم الإنسانية، وتقاطعاتها مع مسائل الحوكمة وتنظيم المجتمع والسياسة العامة.
يعرض الكاتب هنا جانباً من تجربته التي لا تزال جارية، كشخصٍ معني بالشأن العام، عايش بزوغ و ذروة تجربة المدوّنات، وأيضاً الحراك السياسي فيما حول 2011، ويعتقد بأنّ لديه درايةً بدرجاتٍ متفاوتة من التعمّق بموضوعات تقنية المعلوماتية، سواء في جوانبها التطبيقية والنظرية أو استعمالاتها الإبداعية والفنّية، ولديه اهتمامٌ بالآثار الاجتماعية والسياسية والقانونية لتطوّرات تقنية المعلوماتية، وكذلك بكيفية تأثُّر مآلات تطبيقاتها وأنماط إنتاجها واستهلاكها وحوكمتها بالمتغيّرات الاجتماعية والسياسية و القانونية؛ وهو في مجمله النظام المعقّد الذي نعيش فيه اليوم كفاعلين ومتأثّرين. هذه التجربة في خبرة الكاتب هي بمثابة ممارسة يومية تشكّل جانباً من انشغاله المهني والشخصي.
==المدوّنات والفردانية==
في مطلع العقد الأول من الألفية الجديدة، شهدت شبكة الإنترنت ظهور فضاءٍ اجتماعي جديد أخذ يتمدّد ويتسّع حتّى بلغ أوجه في منتصف العقد. أقصد بذلك المدوّنات، التي انضمّت إلى سلسلة أدوات بناء الشبكات الاجتماعية التي ظهرت في الفضاء السبراني منذ اندلاعه كظاهرةٍ اجتماعية عالمية؛ وهي سلسلةٌ شملت في أزمنةٍ مختلفة مجتمعات BBS1 والقوائم البريدية ومجموعات يوزنِت (Usenet) ومنتديات الويب (web forums)، وصولاً إلى المنصات الاجتماعية المركزية التجارية التي صارت اليوم موضوعاً للأخبار اليومية وساحةً للصراع السياسي الدولي.
في السنوات ما بين 2005 و2007 كان الفضاء السبراني دائم التوسّع لا يزال أصغر بكثير ممّا هو عليه الآن، وكان المحيط التدويني (blogopshere) يتألّق فيه تألّقاً باهراً. كان ذلك التألّق بطبيعة الحال مرتبطاً بجغرافية العالم غير السبراني ومجرياته. ومن بين البقع شديدة التألّق في المحيط التدويني كانت المدوّنات المصرية هي الأسطع عربياً — وتضاهيها في المنطقة المدوّنات الإيرانية — وهو ليس بمستغرب بالنظر إلى ما كان يدور آنذاك في كلا البلدين الحافلتين بالسكان والمشاكل من حراكٍ اجتماعي وسياسي، ساهمت المدوّنات لا في عكسه ونقله وتسجيله فحسب، بل كذلك في صنعه. وهو موضوع دراساتٍ وأوراقٍ بحثية عديدة لباحثين من خلفيّات الإعلام والعلوم الاجتماعية وغيرها من مجالاتٍ بحثية مجاورة ومتقاطعة.2
كان بزوع نجم المدوّنات في ذلك الوقت نتيجةً لتأجُّج الحراك الاجتماعي السياسي الذي شهدته المجتمعات العربية في ذلك الوقت، كما شكّل أحد روافده. وهو حراكٌ تواكَب مع وصول فئةٍ من الشباب في تلك المجتمعات إلى مرحلةٍ عمرية تفرض على كثيرين منهم الاشتباك مع الشأن العام في بلدانهم، علاوةً على كونهم قادرين تقنياً ومتّصلين بالإنترنت، وهو فضاءٌ اجتماعي كان واقعاً آنذاك خارج بؤرة انتباه الحكومات وآلاتها القمعية، على عكس الفضاءات المادّية التي سكنتها أجساد المدوّنين. وهو أحد أسباب التوافد السريع على سُكنى ذلك الفضاء السبراني من قبل مجموعاتٍ متباينة التّوجُّهات والقيم والطبقات الاجتماعية، اشتركت جميعها في كونها ساخطةً على الواقع المادي المعاش، أو ناقدةً له على أقل تقدير، وكذلك في كونها حالمةً بمستقبلٍ مختلف، كلٌّ حسب توجّهاته ومنظوره الشامل. كمّا ضمّت كذلك فئاتٍ من المراقبين والمتابعين الذين جذبهم ذلك الفضاء الاجتماعي العام الذي يمكن للفرد فيه أنْ يكون مراقباً خفيّاً لما يجري إن أراد، وأن يشتبك مع ما يدور من تفاعلاتٍ حوله بقدر ما يشاء؛ وهي صفاتٌ تشترك فيها الفضاءات السبرانية عموماً، وتزيّن للأقليات الاجتماعية والدينية والجنسية الوجود دونما شعورٍ دائم بالتهديد الملحّ الذي عادةً ما يصحب وجودها في الفضاءات المادية، والذي قد تزداد وطأته وعنفه إن هم قرّروا التعبير عن ذواتهم و هويّاتهم، وهو ما ينطبق أيضاً على النساء إلى حدٍّ كبير في جُلّ المجتمعات العربية، ومنها المجتمع المصري الذي يَتبدّى فيه هذا بشكلٍ خاص.
من الملاحظ كذلك أنّ موضوعات التنوّع الديني والعرقي و[[تنوع جنسي | الجنسي]] – كالتشاحنات الطائفية بين المسلمين والمسيحيين في مصر وقضايا الأقليات الدينية مثل البهائيين – فضلاً عن السياسي، كانت من الموضوعات دائمة الحضور في المحاورات الجامعة التي شهدتها المدوّنات في أوجها، بالإضافة إلى قضايا النساء عموماً، خاصّةً قضية التحرّش الجنسي والعنف المادي واللفظي الموجه ضدّهن في المجتمع المصري. شكّلت التغطيات التي قدّمها المدوّنون لوقائع بارزةٍ من هذا النوع تقديمًا لهم في وسائط الإعلام التقليدية، ومدخلاً لوجودهم في موضوعات الرأي العام؛ وهو الحال الذي عبّر عنه أحد المدوّنين النشطين في تلك الحقبة، وهو عمرو غربيّة، بقوله: "كنّا ننقل الأخبار، والآن أصبحنا نحن الأخبار".
لم يقتصر أثر المدونات في "الأخبار" والصحافة على كونها ناقلةً للأخبار أو موضوعاتٍ للمنابر الإعلامية تفرد لها الصحف مساحاتٍ في صفحاتها وتستضيف القنوات التلفزيونية من يعلّق على مجرياتها وينظّر إلى أصولها ومآلاتها وآثارها على الإعلام والمجتمع والسياسة؛ بل إنّها أنتجت جيلاً من الصحافيين – أو أتاحت المجال لظهورهم - أثّروا بشكلٍ مباشر في المؤسّسات الصحفية والإعلامية التقليدية التي عملوا فيها لاحقاً، قبل أن ينطلقوا لتأسيس منصّاتهم الصحفية الخاصة. وهو جيلٌ يتميّز بميله إلى الاستقصاء وتوقّع التشكيك والتساؤل في مخرجات عمله الصحافي، مستعدٌّ لتلقّي النقد والانخراط في حوارٍ مع الجمهور على نحوٍ لم يكن معهوداً من قبل في أكثر من مارسوا العمل الصحفي في مصر.3
وبالإضافة إلى ما سبق، بل من أهمّ آثار المدوّنات في تلك الفترة التي تألّقت فيها، كان الاشتباك المباشر للمدوّنين مع الحراك السياسي الذي كانت إرهاصاته مظاهرات الاحتجاج الشعبية على غزو العراق سنة 2003؛ وهو الحدث الذي كان محطّةً فارقة في بروز ظاهرة مدوّنات الإنترنت عالميّاً. تأجّج هذا الاشتباك بموجات الاحتجاج على تعديل الدستور في مصر عام 2005، واستشراف المعارضين المصريّين استعدادًا لنقل السلطة من حسني مبارك إلى ابنه جمال، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات العمّالية وصولاً إلى إضراب 6 أبريل 2008، وكذلك التصاعد المستمر للمطالب الحقوقية المتعلّقة بمحاسبة الشرطة على ممارسات تعذيب وقتل المواطنين المتفشّية منهجياً بين صفوفها. وبلغت تلك الحركة ذروتها في قضية مقتل خالد سعيد وما تلاها من احتجاجاتٍ شكّلت عاملاً مباشراً وأساسياً في اندلاع الثورة في مطلع عام 2011.
في تلك الفترة الزاخرة بالحراك وطرح القضايا العديدة والنقاشات الجامعة بشأن الحلول الممكنة و المستقبل المتصوَّر والمأمول، كانت المدوّنات بمثابة منبرٍ إعلامي لتلك الحركات الاحتجاجية و المطلبية، بما فيها الأطروحات الهامشية والجذرية التي يصعب إيجاد مكانٍ لها في الفضاءات الاجتماعية التقليدية عادةً بسبب ندرة المتّفقين معها وانتشارهم جغرافياً، وقلّة القبول الذي تلاقيه أفكارهم؛ مثل أطروحات نقض نظام الدولة الحديثة، سواء استناداً إلى مرجعيّاتٍ إسلامية أو أمميو أو لاسلطوية، والأطروحات البيئية الراديكالية، وكذلك دعوات نزع التديُّن عن المجتمع وإطلاق الحريّات الجنسية، إلى آخر ذلك من أطروحات.
لكن حتّى في إطار الدعوات السياسية الأكثر قبولاً وشيوعاً وعمومية التي سبق ذكر جوانب منها – كمناهضة توريث الحكم في مصر أو مناهضة التعذيب أو الطائفية، ساهمت المدوّنات في الحشد والدعوة للفعاليات السياسية واجتذاب عددٍ أكبر من المعنيّين بتلك القضايا إلى الكتلة المتنامية من النشطاء، وتشبيكهم على نحوٍ مباشر بالفعاليات الاحتجاجية، محدِثةً بذلك نقلةً نوعية مُلفتة.
كما مدّت جسور التعارف والتشبيك الشخصي المباشر على الأرض، خارج الفضاء السبراني، بين النشطاء من ذوي الميول والخلفيات المتشابهة؛ وهو ما قوّى أواصر الفئة النشطة في المجتمع وزاد من تمكينها، ومهّد لأشكالٍ لاحقة من التفاعل الحركي والتنظيمي4 ، وكذلك الفني والإبداعي. حيث كانت المدوّنات كذلك - وعلى نحوٍ بالغ الأهمية والأثر - ساحةً للتجريب الفني الأدبي، أنتجت أعمالاً وأدباء استمرّ انخراطهم في المجال الأدبي حتى في أعقاب انتهاء العصر الذهبي للمدوّنات بانقضاء العقد، منهم على سبيل المثال أحمد ناجي ومحمّد ربيع ويوسف رخا5 .
==سُلطة الكود==
ما يعنينا ممّا سبق ليس التفاصيل التقنية لكيفية عمل المدوّنات، ولا خصائص المحيط التدويني وسمات المنخرطين فيه، ولا حتى الاتّجاهات والأطروحات السياسية التي كانت سائدةً أو موجودةً إبان تلك الفترة. ما يعنينا هنا هو نمط العلاقات الذي تحفّز وجودَه ونموَّه أدواتُ النشر الجماهيري الشبكيّة عندما تُتاح للبشر المتّصلين بالشبكة، وأثر ذلك في تكوين روابط مجتمعية ذات أنماطٍ جديدة ربما كان يصعب كثيرًا تكوّنها في إطار مجتمعٍ غير منفتحٍ تعمل الدولة على نحوٍ ممنهج على فصم أوصاله وإضعاف مكوّناته المدنية، وتسدّ أمام عناصره من أفرادٍ وجماعات سبل التواصل الجماهيري والحصول على المعلومات و تداولها، وتخنق حريّة التعبير ومن ثمّ القدرة على تخيّل واقعٍ مغاير للمُعاش.
أعلت المدونّات من قيمة الفردانيّة، فحفّزت تفاعلاتٍ قوامها السجال والنقد والتفكيك، الذي ما كان بالضرورة منهجيّاً ولا عقلانياً. وكان الإعلان الصريح للاستقلالية والفردية مسطوراً كشعارٍ في ترويسات المدوّنات وقاعدةٍ أساسيّة للتواصل، فيما معناه: "هذه مدوّنتي الشخصية، ولا أدين لأحدٍ بشيء. فإنْ لم يعجبك ما أكتب، اغرب عن هنا". جاء هذا النمط فيما يبدو كردّ فعلٍ مباشر على النزعة السلطوية والشمولية السائدة في المجتمع اللاسبراني في رؤيته للعلاقة بين الفرد والمجتمع، والمدعومة بالقوة الجبرية من الدولة في ممارستها للحوكمة. وهي تلك النزعة السلطوية التي بَدَت أيضاً في فضاءاتٍ سبرانية عربية أخرى كان وجودها سابقاً على وجود المدوّنات، مثل منتديات الويب والقوائم البريدية، بحكم نمط تأسيسها وإدارتها الذي كان يُركّز السلطة الفعلية في يد فئةٍ قليلة تحكمها علاقاتٌ سلطوية تراتبية واستحقاقراطية وفق ظروف كلّ مجتمعٍ منها؛ سلطةٌ قادرة على وضع قواعد الانخراط والتواصل والتّرقي التراتبي، وعلى العقاب بالنفي، علاوةً على سلطة الرقابة على المحتوى الذي يُنتجه المنخرطون في تلك الفضاءات السبرانية، وهو محور التفاعل بينهم. وهي في التحليل الأخير سُلطةٌ فرعيّة محليّة نرى حدودها إذا وسّعنا النظر إلى الدائرة الأكبر التي تضمّ مُقدّمي خدمة الاستضافة ومالكي ومديري النظُم التي تمثّل حدود الأكوان المصغّرة التي توجد فيها تلك المجتمعات السبرانية في الفضاء السبراني الأشمل، حتّى وإن بدوا مترفعّين عن الانخراط في تفاصيل مُجريات تلك الأكوان الصغروية، وغير عابئين بما يدور فيها. هنا نرى كيف تكون للكود البرمجي القوّة الفعلية التي يتمتّع بها الكود القانوني.
هذه الفردانية ورفض التماهي مع الجموع وتفضيل "التغريد خارج السرب" يبدو أنّها استمرّت ملمحاً من ملامح الممارسة العامة لفئةٍ واسعة من شباب الطبقات الوسطى الذين اشتبكوا مع الشأن العام، بل والناشطين المنخرطين في حركاتٍ سياسية احتجاجية فضفاضة الأيديولوجيا والتنظيم، والفاعلين السلميّين، في محطاتٍ عديدة وصولاً إلى ثورة 2011 وما بعدها.
==القراءة والكتابة للجميع - الويب الأوّليّة==
في الرؤية الأصلية للويب كما وصفها تِموثي بِرْنَرْز لِي (Tim Berners-Lee)6 ، كانت شبكة الويب تتألّف من محيطٍ واسع من الوثائق المترابطة فيما بينها بروابط تعيّن مسارات الوثائق المربوطة إليها، بحيث تكون كل وثيقةٍ على بُعد وثبةٍ واحدة من كل وثيقةٍ أخرى، وهي بنيةٌ منطقيّة تشكِّلُ تجريداً فوق البنية التحتيّة المادية للإنترنت. في هذه المكتبة اللانهائية من الوثائق التي تذكّرنا بمكتبة خورخي لويس بورخيس، لا يكون متصفّحو محيط الوثائق قرّاءً فحسب، بلْ مؤلّفين أيضًا. وفي رؤيته تلك التي صارت تُعرف لاحقاً باسم الويب القابلة للقراءة والكتابة (read-write web)، كان كُل من يتصفّح الويب قادراً على تحرير الوثيقة التي يطالعها لتنقيحها ووضع الحواشي عليها بما يزيد من جودتها و فائدتها لغيره.
ذلك التصوّر الذي لَمْ يتحقّقّ فعليًّا كان يقوم بالطبع على افتراضاتٍ عديدة، أوّل ما يلفت انتباهنا منها ونحن مواطنو ما صار الفضاء السبراني اليوم، هو افتراض حُسن النيّة في الجميع، وافتراض الترفع عن التخريب المتعمَّد ورُشد المتصفّحين، وأنّ سلوكهم تحكمه النزعة الأكاديمية القاضية بالتعليل عند التصريح، وبالتحفّظ والتشكّك في ذلك، وبتقديم البراهين والحجج عند الاستنتاج، والنِّسبة عند الاقتباس و الإرجاع إلى المصادر. هذا في مجمله يتّفق تماماً مع البيئة التي ظهرت فيها الويب في أوائل التسعينيات كأداةٍ لنشر وتأليف الأوراق العلمية في بيئةٍ علمية معملية هي مُختبر الفيزياء النووية في سِرْن (CERN)؛ حيث كان يعمل تيم بِرْنَرْزْ لِي عندما ألّف بمساعدة روبِرت كالِيو برمجيَّتي أوّل خادوم وأوّل عميل للويب سنة 1990 – عندما كانت الويب البدائية لا تزال نظاماً معلوماتيّاً داخلياً في سِرْن – مُرسيًا ببراجماتيةٍ محضة بروتوكولها ولغة وصف وثائقها اللذين يطبّقان سويًّا مفهوم النصّوص الفائقة (hypertext).
مع العلم بأنّ شبكة الإنترنت في مجملها كانت إلى ذلك الحين وبعده ببرهة فضاءً اجتماعيًّا صفويًّا إلى حدٍّ كبير، تحكمه أخلاقياتٌ وسلوكياتٌ تختلف عمّا نعرفه اليوم؛ فضاءٌ يسوده إلى حدٍّ كبير افتراض حسن النيّة، وتقلّ فيه الحواجز التقنية والأسوار والبوّابات وتحكّمات الاستيثاق.
وبالرغم من أنّ تلك الرؤية لم تتحقّق فعليًا في الويب التي اتّخذ تطوّرها مسارًا مختلفاً، إلا أنّ جوهر فكرة الوثيقة الجمعيّة التي يسع الكافّةُ التشاركَ في تأليفها وَجدت تجليَّا آخر، وإن كان على نطاقٍ أضيق وفي داخل إطار الويب نفسها بدلاً من أن يكون هذا منهجها الكلّي. وذلك بتجربةٍ بدأها وارْد كَنِنْگهام (Ward Cunningham) في موقع ويب أسماه WikiWikiWeb شغّله سنة 1995 بغرض تيسير تبادل الأفكار وتسجيل الملاحظات فيما بين المبرمجين؛ وفسّر معناه بأنّه دمجٌ لكلمة من لغة هاواي هي "ويكيويكي" وتعني "سريعًا|خِفافًا" و "ويب" التي كانت قد رُسِّخت كاسم علمٍ لذلك الجانب من الإنترنت المرئي عبر بروتوكول HTTP.
كانت الويكي الأولى موقعًا تُشغّله برمجيةٌ خاصّة تتيح لزوّاره تحرير صفحاته، بإضافة النصوص إليها وحذفها منها، ثم حفظها كإصدارةٍ جديدة من الوثيقة، بحيث يحفظ نظام الويكي تأريخ التحريرات المُحدَثة في كلّ صفحةٍ منذ إنشائها، ويُسجّل اسم مُحرّرها (الاسم الذي يختاره، وهو عادةً كُنيةٌ حركيّة كما كان العُرف في الفضاء السبراني وماا يزال). كما يتيح نظام الويكي لكل زائرٍ الاطّلاع على كل الإصدارات السابقة من الوثيقة، أي ما كانت عليه في تاريخٍ معيّن سابق.
ويبدو أنّ الويكي في نظر كَنِنْگهام لم تكن تجربةً تقنية وحسب، بل فلسفيةً أيضاً. إذ لا يزال بوسعنا اليوم أن نطالع في الويكي الأم (التي لاتزال منشورةً على الويب إلى تاريخ كتابة هذه السطور في http://wiki.c2.com/?WikiWikiWeb) الإطارَ النظري الذي سعى كَننگهام ومحرّرو الويكي الآخرون تطويره كعقدٍ اجتماعي بين المواطنين السِّبرانيّين الراغبين في الانخراط في تلك التجربة، وهو مجموعةٌ من صفحات الويكي بعناوين مثل "فلسفة الويكي" (Wiki Philosophy Faq) و "العقل الجمعي" (Universal Mind) و "لِمَ تفلح الويكي" (Why Wiki Works) و "حل صراعات التحرير" (Edit Conflict Resolution)، والتي في مجملها تستشهد بدافيد هيوم ولاو تسي وغيرهما، وتحيل إلى مفاهيم البرمجيّات الحُرّة والأسلوب العلمي في التفكير ومصادر أخرى.
==الويكي - التنظيم التشاركي للمعرفة==
الويكيّات إذن أدواتٌ معرفية من العصر السبراني، لها تطبيقاتٌ برمجية متنوّعة تتفاوت في تفصيلات تصميمها وكيفية عملها، إلا أنّها تشترك في مقوّماتٍ أساسية، ويمكن باستعمالها تأليف المتون تشاركيّاً. وهي بالإضافة إلى كونها تُتيح تعديل المتون تعاونيّاً لمُجتمع مُحرّريها، فإنها أيضًا في الأغلب تجربةٌ في التنظيم الذاتي، حيث يكون على المُحرّرين الاشتراك في وضع القواعد المنظّمة لمجتمعهم التعاوني، بدءًا من حدود ذلك المجتمع ودرجة انفتاحه وقواعد الانخراط فيه، وصولاً إلى قواعد إحداث التغييرات فيما سبق تأليفه، ومروراً بالمضامين المطلوب تأليفها أو جمعها وحفظها، والمجال المعرفي الذي يُشكّل موضوع ذلك المتن التشاركي، وأسلوب توثيق ما يُدرج فيه من بياناتٍ ومعلومات.
لا يمكننا ذكر الويكيّات دون ذكر ويكيبيديا، الويكي الأشهر والأكبر في الويب التي تُعرّف نفسها بأنها مشروعٌ يهدف إلى إنتاج موسوعةٍ حرّة تجمع كلّ معارف البشريّة، وهو مشروعٌ طموح نما باضطرادٍ عبر أكثر من 15 سنة، له ما له وعليه ما عليه؛ طوّر نماذجه في التنظيم والحوكمة، إلى أنْ صار مجتمعه الضّخم موضوعاً للدراسات الاجتماعية من مداخل عدّة.
إلّا أنّ الصورة الذهنية التي صبغت بها ويكيبيديا مفهوم الويكي لا تنطبق بالضرورة على كًلِّ الويكيات. بمعنى أن الويكيات قد تكون حاوياتٍ للمعرفة الضمنيّة في منظّماتٍ كبيرة مُحكمة كالجهات المخابراتية، كما يمكن أنْ تكون مستودعاتٍ معرفية في مجالٍ تخصّصي بعينه، مثل ويكيّات أقسام الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة في الجامعات بتخصُّصاتها الدقيقة، أو أن تكون وثائق تصميم النظم المعقّدة وخطط تطويرها، وكيفية تركُّبها من مكوّناتها واشتغالها وشروح استعمالها، كما هو الحال في ويكيّات وثائق تطبيقات النُّظُم الحاسوبية، أو أي نظامٍ معلوماتي معقّد.
بل يمكن أنْ تكون الويكيّات مسارح للتأليف الإبداعي الأدبي والخيالي، وبناء العوالم المُتَصوَّرة أو عوالم الواقع الموازي، سواء الفانتازيّ منها، أو تلك التي تفصلها عن الواقع المُعاش أزمات حوكمة المجتمعات والأنماط الطاغية للسُلطة وعورات النُّظم السياسية والقانونية. كُلُّ ما سبق يمكننا إيجاد أمثلةٍ عديدة عليه في الويب. كما يمكن استعمال الويكيّات ككشكول قصاصاتٍ ومُسوّداتٍ لفردٍ واحد. فهي إذن أداةٌ مرنة تتيح آفاقاً عديدة لاستعمالها من دون أن تفرض نمطًا بعينه.
تتميّز الويكيّات، علاوةً على إتاحة التأليف التشاركي وحفظ تاريخ تحرير المتن كما سبق ذكره، بإمكانية إضفاء هيكلٍ تنظيمي أو تراتبي بين عناصر محتواها عن طريق الروابط والتصنيفات أثناء تطوير المحتوى، على نحوٍ مرن يمكن تغييره وإعادة تصميمه طوال الوقت، وهي صيرورة الغالب أن تستمر طوال حياة الويكي.
هذا النمط لتطوُّر نظم حفظ واسترجاع المعلومات لا يفرض هيكل بياناتٍ جامد ويتطلّب أقل قدرٍ من التحليل المسبق، وهو لهذا يلائم الأحوال التي تتطوّر فيها المعرفة بكُنه الجسم المعرفي وعناصره وحدوده، في أثناء تطوير الجسم نفسه، ويلائم أنوع الأجسام المعرفية التي تتطوّر باستكشاف هياكلها والعلاقة بين أجزائها. وهو نمطٌ يختلف عن نظم حفظ واسترجاع المعلومات التي ينبغي نصب هياكلها ورسم خطوطها وتسطير جداولها قبل الشروع في تعميرها بالبيانات.
كما أوجدت الويكيّات وظيفةً لَمْ تكن موجودة في الويب — بوصفها نظام النصّ الفائق الأشمل والأكثر شهرةّ — في تجلّياتها الأخرى، ألا وهي إمكانيّة الربط بالمستقبل، بمعنى إنشاء روابط في المتون لأقسامٍ أو صفحاتٍ أو ملفّات غير موجودة بعد في النظام، بحيث يفعِّل اتّباع تلك الروابط آلية إنشاء الوثائق المربوط إليها، بما يوجد في المتن تنويهاً أو إشارةً للمساهمين إلى ما قد ينبغي جلبه وحفظه، أو تعريفه وشرحه، أو تسجيل معلوماتٍ عنه، أو تأليفه، وهو ما يعين على الإنشاء السريع لهياكل المتون دون حاجةٍ إلى مُخطَّطٍ خارجها، وعلى نحوٍ لاخطّي. فالويكي كما توثّق في ذاتها قواعد عملها كنظام، توثّق كذلك بُنيَة مضمونها وخُطَّة تطويره المرجُوَّة.
والويكيّات لصفاتها هذه يُمكن تفعيلها كبؤرٍ للمجموعات البحثية والحلقات الدراسية ومنظّمات المجتمع المدني، والمبادرات الناشطة في مجالات التغيير الاجتماعي والسياسي. فهي من ناحية تتيح إطاراً مناسباً لتسجيل ومُراكمة المعرفة التي تنشأ نتيجة اشتغال تلك المنظمّات، سواءً أكانت تلك المعرفة بياناتٍ ومعلوماتٍ أوليّة مولّدة نتيجة أبحاثٍ إمبريقية، أو محصّلة دراسةٍ وجمع وتصنيف المعرفة من مصادرها الثانوية في المجال المعرفي موضوع الاهتمام، أو تحليلاتٍ نقدية وأطروحاتٍ جماعية متعلّقة بالمسائل الأكثر تجريدًا؛ مثل مسائل الحوكمة والسياسات العامة والبرامج السياسية والخطط المجتمعية متوسطة وطويلة المدى.
هذه المراكمة للمعرفة وإتاحتها تتيح استمرارية جهود تنقيحها عبر مددٍ زمنية أطول، بإيجاد إطارٍ عملي لانخراط الأفراد واشتراكهم في ذلك الجهد المنظّم على نحوٍ دائم يمكن أن يكون في ظروفٍ معيّنة أقلِ تأثُّراً بالتذبذبات في نشاط وفعالية الأفراد، ووسيلةً لاستمرار ذاواكر منظَّميّة أقلّ تأثّرا بتبّدلات أدوار أفرادها أو خروجهم من تلك المنظمّات، ومن ثمّ أكثر استدامة.
ولكون الويكيّات أدوات معلوماتية من عصر الإنترنت، فهي أيضا تتيح - اختياريًا - آلياتٍ للنشر والإتاحة مضمّنة في صيرورات التأليف والعمل، كما تتيح إطاراً لإشراك دوائر أوسع من الجماهير في صيرورة إنتاج وجمع وتنظيم المعرفة المتاحة عندما يكون ذلك ملائماً للغرض الذي أنشئت من أجله.
وعلى الجانب الآخر من استخدام المجموعات المنظّمة للويكيّات كأدواتٍ لتنظيم معرفتها، فإن الويكيّات يمكن أن تكون هي النواة التي تتشكّل حولها مجتمعاتٌ فاعلة من أفرادٍ يجمعهم الاهتمام بموضوعٍ ما، لكنّهم لم يكونوا من قَبل منخرطين في إطارٍ تنظيمي واحد. إذ أنّ إنشاء الويكيات واشتغالها على نحوٍ فعّال يستلزم تكوين مجتمعٍ من المساهمين الذين يقومون على تطوير محتواها، وهذا المجتمع بمجرّد نشوئه تواجهه التحدّيات التي تواجه كل المجتمعات المنظّمة من مسائل توزيع العمل وإنجازه بكفاءة وتنظيم صيروراته، وتوظيف قدرات أفراده واستغلال طاقاتهم، وحلّ الصراعات التي تنشأ بينهم، والتوافق على رؤيةٍ جامعة وتطويرها عبر التغيّرات الداخلية والمحيطية التي تمرّ بها الجماعة، وهي من ثمّ تجارب في التنظيم والحوكمة مفيدة في حدّ ذاتها، ويمكن أن تُنقل لاحقاً أو بالتواكب إلى المساحات التنظيمية الأخرى التي ينخرط فيها هؤلاء الأفراد.
إلا أنّ استخدام الويكيّات لهذا الغرض لا يخلو من صعوبات.
فمع أنّ الهيئة اللاخطيّة التي تُمثِّل فيها الويكي العلاقات بين أجزاء النظام المعرفي تماثل الهيئة التي تتمثل فيها المعرفة في العقل، يُخالف ذلك إلى حد ما الأسلوب الذي يكتسبه الناس ويعتادونه في أثناء تدريبهم الدراسي لتقديم المعارف والأفكار، و بحدٍّ أقل، لتلقّيها و فهمها. وهو ما يستلزم من المشاركين في إنشاء الويكيات بذل جهد ٍللتمكّن منه.
علاوةً على ما سبق، يوجد منحنى تعلّمي مرتبطٌ باستخدام أداة تقنية معلوماتية جديدة يختلف من شخصٍ إلى شخص حسب استعداده، ومن مجموعةٍ إلى مجموعة حسب ديناميكياتها.
كذلك فإن وضع تصوّر تنظيمي للمتن المعرفي الجاري تطويره هو صيرورةٌ صعبة تستغرق الكثير من الجهد العقلي، ويحتاج إلى من يقوده بتقديم أطروحاتٍ لتجريبها والبناء عليها، كما يتطلب تواصلا شخصيا كثيفا يحتاج إلى من يُيسِّره ويستبقيه منتجًا، بخاصة وأنّ الويكيات الوليدة تبدأ كمساحاتٍ شاغرة يلوح فيها شبح الصفحة البيضاء غير المسطرة؛ وهو ما قد يكون مثبِّطٍ للكثيرين، و يُمكن التقليل من أثره من خلال وجود شخصٍ أو مجموعة أشخاص لديهم خبرة معقولة في استعمال الويكيات واهتمام بموضوع الويكي الوليدة، وقادرين على التواصل بأريحية مع المساهمين الجُدُد، وهذا كلّه من محفّزات نمو مجتمع الويكي الناشئ.
==ويكي الجندر مثالاً==
منذ سنة 2015 ركّز معهد غوته في القاهرة على مشروعاتٍ وفاعليات تتناول قضايا ال[[جندر]] و[[تمكين النساء]]7 . وفي ديسمبر من نفس السنة توجّه معهد غوته إلى مؤسسة "أضِف" — وهي تعمل في مجالات التعليم الأهلي وترويج الاستخدامات الإبداعية لتقنية المعلوماتية والدعوة إلى الثقافة الحرّة ومساعدة مجموعات المجتمع المدني على الاستفادة من تقنيات المعلوماتية — بغرض استشارتها وطلب دعمها في إنشاء موقع ويب يكون دليلاً يحوي معلوماتٍ أساسية عن المنظّمات والمبادرات العاملة في مجالات قضايا النساء. فتحوّلت رؤية المشروع إلى إنشاء قاعدةٍ معرفية باللغة العربية في مجال الجندر والنسوية وقضايا النساء يكون دليل المنظّمات جزءاً منها، وكانت تلك بداية مشروع ويكي الجندر http://genderation.xyz.
بدأ المشروع برؤيةٍ أوّلية8 ، تطوّرت لاحقاً بمشاركةٍ من المجموعة المؤسِّسة التي تألّفت من أفرادٍ مقيمين في مصر؛ مصريّاتٌ وفلسطينيّاتٌ لهن اهتماماتٌ مختلفة، تعمل بعضهن موظفاتٍ في أدوارٍ مختلفة في منظّماتٍ أهلية تُعنى ب[[قضايا النساء]]، والبعض الآخر إمّا ناشطاتٌ أو باحثاتٌ مستقلّات. على أنّ نمط الانخراط في مشروع الويكي الذي عمد واضع الرؤية الأولية والمنسّقون المبكّرون إلى التوكيد عليه هو فردي لا تمثيلي؛ بمعنى أن الأفراد المنخرطين يمثّلون ذواتهم لا مؤسّساتهم أو المجموعات الأخرى التي ينتمون إليها، وهي رؤيةٌ تنبع من كون الأفراد لا الجماعات هي وحدات البناء المطلوبة للمجتمعات المستحدَثة على هذا النمط وبتلك الوسيلة.
سرعان ما أوجد أفراد المجموعة المؤسِّسة التي اكتسبت مهارات العمل التشاركي بأسلوب الويكي – والمجموعاتُ الفرعيّةُ التي تشكّلت لاحقًا مِنْ بينها – مشروعاتٍ فرعيةٍ في إطار الويكي، لكن في مجالات تركيزٍ مختلفة، تفاوتت حسب الاهتمامات الشخصية المتراوحة ما بين جمع الإدخال المنهجي لبيانات وسيَر المنظمات والأعلام في المجال، أو جمع و تصنيف أرشيف الوثائق والدراسات في المجال، أو تأليف مقالاتٍ تشرح المفاهيم والنظريات الأساسية في المجال، تُنقّح وتتوسّع وتزيد باستمرار رحلة التعلّم الذاتي والتشاركي التي انخرطت فيها المجموعة، كُلٌّ حسب درجة اهتمامه وقدر الوقت الذي يستطيع تخصيصه للمساهمة في المشروع.
ذلك الزّخم ولّد نقاشاتٍ بين أفراد المجموعة تعكس النقاشات الجارية في المجال عموماً، وأبرز ميولاً فكرية وجدت نفسها في حوارٍ فيما بينها بحكم الاشتراك في مشروعٍ واحد يوجِد أرضيةً دنيا مشتركة بين أعضائه، كما أنتج تجربةً خاصة في التنظيم بحكم الاحتياج إلى تنظيم العمل كما سبق، وإلى وضع سياساتٍ و معايير للانتقاء و قواعد للتصنيف، كلّها تؤدّي بالضرورة إلى أسئلةٍ في صميم المجال المعرفي والنظرية المعرفية نفسها، بدرجاتٍ متفاوتة من الصراحة أو التضمين.
تتنوّع الأسئلة المطروحة من قبيل درجة التماهي المتوقّعة بين المشاركين، لا أيديولوجياً فحسب كما هو متوقّع، بل جنسانياً أيضاً بسبب ميل العديد من المشاركين إلى تصنيف أنفسهم على أنهم من ذوي الميول الجنسانية والجندرية غير النمطية؛ ومنها كذلك كيفية تناول الأحداث والقضايا الجارية من حيث الإعلان عن مواقف منها وكيفية صياغة تلك المواقف، ومن حيث منهجية توثيقها.
وبتشكّل هوية المجموعة وزيادة وعيها بنفسها كجماعةٍ فاعلة، بدأت تبرز روابط بينها وبين كياناتٍ أخرى تنظر إليها بوصفها وحدةً يمكن التفاعل معها لأجل تبادل المنفعة أو تحقيق أهدافٍ مشتركة، مثل دعوتها إلى عرض تجربتها عمليًا، أو استيعاب أجسامٍ معرفية ذات علاقةٍ بموضوع الاهتمام المشترك وتضمينها في متن الويكي، أو النظر في سبلٍ أخرى للتعاون.
فسعت المجموعة منذ أوائل 2018 إلى تعريف المؤسّسات ال[[نسوية]] التقليدية بنفسها وأنشطتها على نحوٍ أكثر رسمية، في محاولةٍ لاجتذاب المزيد من الأشخاص ممّن لديهم نفاذ إلى المحتوى المعرفي المتراكم لدى تلك المؤسسات، ومعرفةٌ بكنهه وعلاقاته ببعضه البعض.
ثم تقدّمت المجموعة لعرض تجربتها في إدارة المحتوى والتنظيم في مؤتمر "خبز ونت" في بيروت في نوفمبر 2018، ثم دُعيت الويكي إلى المشاركة في ملتقى الممارسات الأرشيفية البديلة الذي نظّمه في بيروت المجلس العربي للعلوم الاجتماعية في ديسمبر 2018، وهو ما تواكب مع سعي المجموعة المؤسسة إلى توسيع نطاق المشاركة في الويكي، بإنشاء مجموعة في بيروت9 ثم تونس10 .
تنخرط تلك المجموعات حالياً في نقاشٍ مركّب تطرحه الممارسة الفعلية حول كيفية إدارة الويكي تنظيميّاً، وطبيعة العلاقة بين المجموعات ككياناتٍ فاعلة صاحبة مصلحة وجدت نفسها في بيئةٍ رخوة تنظيميّاً – داخليّاً وفيما بينها –، وكيفية إدارة كلّ مجموعةٍ داخليّاً وطبيعة استقلاليتها، وكذلك دور المجموعة المؤسِّسة.
هذه أسئلةٌ صعبة لا تزال الإجابة عليها غير محسومة ومفصلية في خضمّ صيرورة تحوّلاتٍ في طبيعة التنظيم والانخراط ونمط السلطة، كما أنّها تطرح بدورها مجموعاتٍ أخرى من الأسئلة تتعلّق بالاستدامة والعلاقة بالمؤسّستين الراعيتين منذ التأسيس؛ وكيفية التوسّع جغرافياً بتأسيس مجموعاتٍ جديدة في بلادٍ أخرى في ضوء الحماس والرغبة في المشاركة التي يتواصل بها مع المجموعة أفرادٌ من بلادٍ عربية عديدة.
والأمر البارز في مثل هذه التجارب هو أنّ جانباً كبيراً منها موثّقٌ في صفحات الويكي نفسها. فكما يمكننا أن نجد في الصفحات التنظيمية لويكيبيديا تاريخ تطوّر الموسوعة وسياساتها ومشروعاتها الفرعية، كذلك يمكننا إيجاد شيءٍ مشابه في صفحات ويكي الجندر والنقاشات الجارية حولها، وإن كان بقدرٍ أقل بحكم حداثة التجربة نسبياً؛ حيث تولي المجموعة عنايةً خاصّة لتوثيق وتسجيل التجربة إلى جانب المضمون المعرفي الذي أنشئت لأجله. فنجد على سبيل المثال مسوّدات خطط العمل11 ومحاضر الاجتماعات وقوائم المهام المسنَدة إلى أعضاء الفريق، ممّا يمكّن الأشخاص المنضمّين لاحقاً من الإلمام بأسلوب عمل المجموعة، وبمسار تطوّرها تنظيمياً، كما قد يكون مفيداً لدارسي هذا النوع من المجتمعات التي توجد في الفضاءات السبرانية والمادية على حدٍّ سواء.
==خاتمة==
تتطلب المُمثِّليّة (agency) والقدرة على المساهمة بفعالية في تشكيل المجال العام إلماماً بالمسائل المطروحة في موضوعاتٍ عديدة، وكلّما زاد المتاح عن تلك الموضوعات والقضايا، زاد إدراك الناس لها ومن ثمّ الرغبة في التأثير في مجتمعاتهم، وكذلك القدرة على استنباط الحلول والمفاضلة بينها.
تقليديّاً كان إيجاد تلك المعرفة ونشره دوراً تؤدّيه بدرجاتٍ متفاوتة من الكفاءة مؤسّسات البحث العلمي والاجتماعي والصحافة ووسائل الإعلام بأنماطها المختلفة. لكن وجود الإنترنت أتاح ظهور فئاتٍ جديدة من اللاعبين هم من ألحِق اسمهم بممارساتٍ حديثة مثل "الصحافة الشعبية" (citizen journalism) و "العلوم الشعبية" (citizen science) حوّلت قسماً كبيراً من الجماهير من متلقّين إلى منتجين – مع الأخذ في الاعتبار أثر الفجوة الرقمية بتجليّاتها المختلفة.
هنا تبرز الويكيّات كوسيلة عملٍ الجماعي لمراكمة وتنظيم جسمٍ معرفي بجهد المشاركين فيه. وتقدّم مشروعات الويكيّات تجارب في الإدارة والتنظيم يُمكن الاستفادة منها، حيث تأتي الأسئلة التنظيمية تالية لهدفٍ مشترك غير مسيّس مبدئياً في حدّ ذاته، وهو هدف التعلّم التشاركي ومراكمة المعرفة وإتاحتها، ممّا يُهيء الفرصة لتطوير أنماطٍ جديدة من التنظيم فيما بين الفئات النشيطة في المجتمع، إلى جانب الهدف المباشر، وهو إتاحة المعرفة التي يُمكن البناء عليها لاحقاً عندما تلوح فرص التغيير السياسي والاجتماعي.
==هوامش==
#اختصار Bulletin board system وهي خدمة شبكية حاسوبية بطريق التلفون، شاعت ما بين بدايات عقد 1980 ومنتصف عقد 1990 قبل شيوع الإنترنت، لتقديم خدمات متنوعة، منها البريد ونشرات الأخبار، ومجموعات النقاش ونشر و توزيع الوثائق الرقمية والبرامج الحاسوبية، وتعدّ إحدى أوئل الشبكات الاجتماعية السبرانية.
# قراءات ذات علاقة :Charles Hirschkind, From the blogosphere to the street: Social Media and Egyptian revolution, Oriente Moderno, XCI, 2011, 1, p. 61-74 ; Armando Salvatore, Before (and after) the 'Arab Spring': from connectftness to mobilization in the public sphere, Oriente Moderno, XCI, 2011, 1, p. 5-12
#المزيد عن الصحافة الشعبية في مصر في حقبة المدونات في دراسة نهى عاطف الصادرة سنة 2016 في كتاب بعنوان « الإعلام الشعبي .. بين إعلام الدولة ودولة الإعلام».
# تفصيل ذلك الجانب في المدونات المصرية وأمثلة عليه في دراسة أحمد ناجي المتأدِّبة الصادرة سنة 2010 عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان بعنوان "المدونات من البوست إلى التويت"
#تتناول تيريزا پيپي بعض هؤلاء و آخرين في دراستها الصادرة سنة2019 في كتاب بعنوان « Blogging from Egypt: Digital Literature, 2005-2016 »
# وصف مشروع الويب الأوّلية كما قدّمه تِم بِرنَرز لي إلى رؤسائه في سِرن سنة 1989 : https://www.w3.org/History/1989/proposal.html
#https://www.goethe.de/ins/eg/ar/kul/sup/trp/par/21143988.html
# https://adef.xyz/wiki/مشروع_ويكي_دراسات_الجندر
# https://genderation.xyz/wiki/مشروع:تدريب_من_الجندر_إلى_الويكي_الثاني_-_بيروت_-_نوفمبر_2018
# https://genderation.xyz/wiki/مشروع:تدريب_من_الجندر_إلى_الويكي_الثالث_-_تونس_-_ديسمبر_2018
# https://genderation.xyz/wiki/مشروع:خطة_عمل_مقترحة_لسنتي_2018-2019