تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
إضافة روابط داخلية وتصنيف
سطر 27: سطر 27:  
فيما يلي ترجمة لمقال «الأمومة اليوم» للمحللة النفسية الفرنسية، بلغارية الأصل، يوليا كرَستيفا. نُشر المقال عام 2005 في كتاب بعنوان أحلام النساء (Rêves de femmes) بإشراف البروفيسور رينيه فريدمان، وهو كتاب يجمع عدة مؤلفين من محللين نفسيين وأطباء توليد وطب نسائي.
 
فيما يلي ترجمة لمقال «الأمومة اليوم» للمحللة النفسية الفرنسية، بلغارية الأصل، يوليا كرَستيفا. نُشر المقال عام 2005 في كتاب بعنوان أحلام النساء (Rêves de femmes) بإشراف البروفيسور رينيه فريدمان، وهو كتاب يجمع عدة مؤلفين من محللين نفسيين وأطباء توليد وطب نسائي.
   −
جوليا  كرَستيفا نسوية وكاتبة وفيلسوفة أيضاً. تشكل مساهماتها الأساسية في نظرية الأدب والنقد الأدبي مصدر شهرتها الرئيسي، وهي من صكَّ مصطلح «التناصّ» أو (العَبر نصيّة / Intertextual) في دراساتها الأدبية البنيوية.
+
جوليا  كرَستيفا [[نسوية]] وكاتبة وفيلسوفة أيضاً. تشكل مساهماتها الأساسية في نظرية الأدب والنقد الأدبي مصدر شهرتها الرئيسي، وهي من صكَّ مصطلح «التناصّ» أو (العَبر نصيّة / Intertextual) في دراساتها الأدبية البنيوية.
    
لا يكتفي المقال بطرح سؤال الأمومة كما هي اليوم، أهميتها، دورها أو مشكلاتها، بل يقدم تحليلاً نفسياً للأمومة، أو بوجه أدق للموقف الأمومي وما يرافقه من تغيرات نفسية لاواعية ترافق المرأة منذ لحظة الحمل.
 
لا يكتفي المقال بطرح سؤال الأمومة كما هي اليوم، أهميتها، دورها أو مشكلاتها، بل يقدم تحليلاً نفسياً للأمومة، أو بوجه أدق للموقف الأمومي وما يرافقه من تغيرات نفسية لاواعية ترافق المرأة منذ لحظة الحمل.
سطر 33: سطر 33:  
يأتي هذا المقال في عالمنا اليوم الذي، كما تراه كرَستيفا، تخطى مرحلة الجهل التي عاش فيها الإنسان لقرون طويلة، الجهل الذي جعلَ المرأة عرضة للتقديس والتدنيس في آن. فالعلم الحديث، الذي اكتشف كثيراً من أسرار عملية الحمل والإنجاب، قد فتح باب التحرّر، من سلطة «لغز التكاثر»، أمام الإنسان عموماً والمرأة خصوصاً، دون أن يكون واضحاً بعد، أي مستقبل يَعِدُ به ذاك التحرر.
 
يأتي هذا المقال في عالمنا اليوم الذي، كما تراه كرَستيفا، تخطى مرحلة الجهل التي عاش فيها الإنسان لقرون طويلة، الجهل الذي جعلَ المرأة عرضة للتقديس والتدنيس في آن. فالعلم الحديث، الذي اكتشف كثيراً من أسرار عملية الحمل والإنجاب، قد فتح باب التحرّر، من سلطة «لغز التكاثر»، أمام الإنسان عموماً والمرأة خصوصاً، دون أن يكون واضحاً بعد، أي مستقبل يَعِدُ به ذاك التحرر.
   −
فعندما كان الإنسان يجهل كيف يتم تَشكُّل الجنين وعلاقة ذلك بالدورة الشهرية ومواعيد الإباضة وغيرها، كان عرضة لكثيرٍ من التفسيرات الخاطئة والمشوّهة عن الحمل والاجهاض، فصحيح أن ذاك الجهل جعل مكانة المرأة مقدّسة كونها تقوم بعملية لا يستطيع الرجل فهمها، إلا أنها أيضاً كانت عرضة لتحميلها المسؤولية في الحالات التي لا يحدث فيها حمل بعد جماع، أو في الحالات التي ينتهي الحمل فيها بالإجهاض.  
+
فعندما كان الإنسان يجهل كيف يتم تَشكُّل الجنين وعلاقة ذلك [[الدورة الشهرية|بالدورة الشهرية]] ومواعيد الإباضة وغيرها، كان عرضة لكثيرٍ من التفسيرات الخاطئة والمشوّهة عن الحمل [[إجهاض|والاجهاض]]، فصحيح أن ذاك الجهل جعل مكانة المرأة مقدّسة كونها تقوم بعملية لا يستطيع الرجل فهمها، إلا أنها أيضاً كانت عرضة لتحميلها المسؤولية في الحالات التي لا يحدث فيها حمل بعد جماع، أو في الحالات التي ينتهي الحمل فيها بالإجهاض.  
    
ترى كرَستيفا أن وظيفة الإنجاب، التي يأخذ فيها الرحم مكانا رئيسياً، لا تزال تتمتّع بالتقديس، في الوقت الذي تتراجع فيه مكانة التديّن في العالم يوماً بعد يوم. فصحيح أننا بتنا نعلم الكثير عن آليات الإلقاح والخصوبة، إلا أن التكاثر، أهم العمليات البيولوجية بالنسبة للجنس البشري على الإطلاق، لا يزال مرتبطاً بالمرأة وقدرتها على الحمل، ولا يزال يفرض على العلاقات البشرية أثره الواضح، كما يؤثّر ما يرتبط به من دافع جنسي وإنجاب وتربية للأولاد، ليس على النساء فقط بل والرجال أيضاً. إلا أن التغيرات والتحديّات التي يفرضها «التكاثر» على المرأة، في الحمل والإنجاب وبناء علاقة مع الطفل، تشكل سمة خاصة لحضارتنا اليوم. ففي ظل التشوّش القيمي الذي يعيشه العالم اليوم، يبدو أن الاتفاق القيمي الوحيد هو اتفاق على «حق الحياة»، التي تشكّل أرحام الأمهات مصانع لها. وبعد حلّ لغز الحمل والانجاب إلى حدّ بعيد، باتت المسؤولية الملقاة على عاتق الأم مرتبطة بحرية قرار الإنجاب من عدمه. لكن ما الذي يدفع إلى ذلك القرار؟ ومتى تكون الإجابة عليه «متنوّرة» كما تريدها كرَستيفا؟
 
ترى كرَستيفا أن وظيفة الإنجاب، التي يأخذ فيها الرحم مكانا رئيسياً، لا تزال تتمتّع بالتقديس، في الوقت الذي تتراجع فيه مكانة التديّن في العالم يوماً بعد يوم. فصحيح أننا بتنا نعلم الكثير عن آليات الإلقاح والخصوبة، إلا أن التكاثر، أهم العمليات البيولوجية بالنسبة للجنس البشري على الإطلاق، لا يزال مرتبطاً بالمرأة وقدرتها على الحمل، ولا يزال يفرض على العلاقات البشرية أثره الواضح، كما يؤثّر ما يرتبط به من دافع جنسي وإنجاب وتربية للأولاد، ليس على النساء فقط بل والرجال أيضاً. إلا أن التغيرات والتحديّات التي يفرضها «التكاثر» على المرأة، في الحمل والإنجاب وبناء علاقة مع الطفل، تشكل سمة خاصة لحضارتنا اليوم. ففي ظل التشوّش القيمي الذي يعيشه العالم اليوم، يبدو أن الاتفاق القيمي الوحيد هو اتفاق على «حق الحياة»، التي تشكّل أرحام الأمهات مصانع لها. وبعد حلّ لغز الحمل والانجاب إلى حدّ بعيد، باتت المسؤولية الملقاة على عاتق الأم مرتبطة بحرية قرار الإنجاب من عدمه. لكن ما الذي يدفع إلى ذلك القرار؟ ومتى تكون الإجابة عليه «متنوّرة» كما تريدها كرَستيفا؟
سطر 41: سطر 41:  
لا شكّ أن الثقافة تمرّر نصائح التربية للأمهات كي يقمن بدورهنّ بطريقة مناسبة، إلا أنّها نادراً ما تعترف بالأمومة كتحدٍ نفسي تخوضه المرأة، بل غالباً ما يُروَّج للأمومة كعلاقة ما ورائية تسمو فوق أي دافع أو عاطفة إنسانيّة. فلا مكان في الخطاب المجتمعي حول الأمومة اليوم، لغيرة الأم من ابنتها مثلاً، أو محاولة سيطرة الأم على حياة ابنها والتحكم به، أو لرغبة الأم بالتحرر من موقع الأمومة ومسؤولياتها في لحظة ما من حياتها، أو للعواطف المُركَّبة التي ترافق عملية التربية. التنوعات السابقة المذكورة، تعتبر إما شاذّة أو مَرَضيّة، أو يتم تجاهلها وتفسيرها بطرق تحاول تنقية الخطاب الأمومي والعلاقة بين الأم وطفلها من كل أدران النفس البشرية.
 
لا شكّ أن الثقافة تمرّر نصائح التربية للأمهات كي يقمن بدورهنّ بطريقة مناسبة، إلا أنّها نادراً ما تعترف بالأمومة كتحدٍ نفسي تخوضه المرأة، بل غالباً ما يُروَّج للأمومة كعلاقة ما ورائية تسمو فوق أي دافع أو عاطفة إنسانيّة. فلا مكان في الخطاب المجتمعي حول الأمومة اليوم، لغيرة الأم من ابنتها مثلاً، أو محاولة سيطرة الأم على حياة ابنها والتحكم به، أو لرغبة الأم بالتحرر من موقع الأمومة ومسؤولياتها في لحظة ما من حياتها، أو للعواطف المُركَّبة التي ترافق عملية التربية. التنوعات السابقة المذكورة، تعتبر إما شاذّة أو مَرَضيّة، أو يتم تجاهلها وتفسيرها بطرق تحاول تنقية الخطاب الأمومي والعلاقة بين الأم وطفلها من كل أدران النفس البشرية.
   −
في كل الأحوال، تشكل تلك القضية موضوع حوار نسوي ساخن، يتمحور حول دور الأمومة ذاك؛ هل تحرّر الأمومةُ المرأةَ وتفتح لها مجالات عاطفية ونفسية جديدة من خلال تجربة الأمومة الجسدية والنفسية التي لا مثيل لها؟ أم أن دور الأمومة هو أحد العوامل الرئيسيّة للسيطرة على المرأة ورغباتها الشخصية من خلال ربطها بدور رمزي، رضيَ المجتمع الذكوري به لها ليأسرها فيه إلى الأبد، ويُحجّم من تجربتها الخاصة. لا شك أن الإجابة معقّدة وتمتد على عدة مستويات، إلا أن غياب خطاب نفسي مركّب عن الأمومة بكل ما تجلبه من إيجابيّات وسلبيّات إلى حياة المرأة، هو حسب كرَستيفا النقصُ الأساسي فيما يخص الأمومة في عالم «اليوم». فالاكتفاء بالانتصار للحرية الجنسية والمساواة بين الجنسين، لا يقدّم جواباً كافياً لسؤال الأمومة، بل ربما يعيق محاولة البحث عن جواب تجريبي جدّي.
+
في كل الأحوال، تشكل تلك القضية موضوع حوار نسوي ساخن، يتمحور حول دور الأمومة ذاك؛ هل تحرّر الأمومةُ المرأةَ وتفتح لها مجالات عاطفية ونفسية جديدة من خلال تجربة الأمومة الجسدية والنفسية التي لا مثيل لها؟ أم أن دور الأمومة هو أحد العوامل الرئيسيّة للسيطرة على المرأة ورغباتها الشخصية من خلال ربطها بدور رمزي، رضيَ المجتمع [[ذكوري|الذكوري]] به لها ليأسرها فيه إلى الأبد، ويُحجّم من تجربتها الخاصة. لا شك أن الإجابة معقّدة وتمتد على عدة مستويات، إلا أن غياب خطاب نفسي مركّب عن الأمومة بكل ما تجلبه من إيجابيّات وسلبيّات إلى حياة المرأة، هو حسب كرَستيفا النقصُ الأساسي فيما يخص الأمومة في عالم «اليوم». فالاكتفاء بالانتصار للحرية الجنسية [[المساواة بين الجنسين|والمساواة بين الجنسين]]، لا يقدّم جواباً كافياً لسؤال الأمومة، بل ربما يعيق محاولة البحث عن جواب تجريبي جدّي.
    
لذلك تعتقد كرَستيفا  أنه لا يمكن اختزال الأمومة بـ«الرغبة بإنجاب طفل»، التي يبدو أن فرويد قد اكتفى بها في بحثه حول الأمومة، حيث أوضحَ كيفية نشوء تلك الرغبة عند الطفلة الصغيرة بعد المرحلة الأوديبية، واعتبرها طريقاً لخروجها من تلك المرحلة التي تتسم في نهايتها بخيبة ناتجة عن استبطان الفتاة للتحريم الجنسي (قانون تحريم السفاح) الذي يجعل الأب مستحيل المنال، مما يجعل رغبة الإنجاب أساسية لتعويض هذا النقص. تلك الرغبة القديمة تجد، حسب فرويد، طريقها لاحقاً عن طريق علاقات الحب والجنس نحو التحقّق (أي الإنجاب). فبغض النظر عن مصدر تلك الرغبة، إلا أن الأمومة لا تنتهي هنا بل بالأحرى تبدأ.
 
لذلك تعتقد كرَستيفا  أنه لا يمكن اختزال الأمومة بـ«الرغبة بإنجاب طفل»، التي يبدو أن فرويد قد اكتفى بها في بحثه حول الأمومة، حيث أوضحَ كيفية نشوء تلك الرغبة عند الطفلة الصغيرة بعد المرحلة الأوديبية، واعتبرها طريقاً لخروجها من تلك المرحلة التي تتسم في نهايتها بخيبة ناتجة عن استبطان الفتاة للتحريم الجنسي (قانون تحريم السفاح) الذي يجعل الأب مستحيل المنال، مما يجعل رغبة الإنجاب أساسية لتعويض هذا النقص. تلك الرغبة القديمة تجد، حسب فرويد، طريقها لاحقاً عن طريق علاقات الحب والجنس نحو التحقّق (أي الإنجاب). فبغض النظر عن مصدر تلك الرغبة، إلا أن الأمومة لا تنتهي هنا بل بالأحرى تبدأ.
سطر 117: سطر 117:     
«الأم الجيّدة كفاية» هي الأم التي تتمكن من القيام بمجموعة من الوظائف والأدوار التي عليها القيام بها ليتمكّن الطفل من النموّ الجسديّ والنفسيّ، وليست مجموعة من الصّفات الشّخصية التي على الأم أن تتحلّى بها. وتلك المحدّدات والوظائف غير مرتبطة كذلك بشكل مباشر بالطرق التي سيسلكها الطفل في حياته، حين يكبر: هل سيصبح شخصاً متوازناً أو فعّالاً في المجتمع، أم سيكون فاشلاً ومضطرباً نفسياً، فلذلك محددات وشروط بالغة التعقيد لا تتعلّق فقط بالتربية.
 
«الأم الجيّدة كفاية» هي الأم التي تتمكن من القيام بمجموعة من الوظائف والأدوار التي عليها القيام بها ليتمكّن الطفل من النموّ الجسديّ والنفسيّ، وليست مجموعة من الصّفات الشّخصية التي على الأم أن تتحلّى بها. وتلك المحدّدات والوظائف غير مرتبطة كذلك بشكل مباشر بالطرق التي سيسلكها الطفل في حياته، حين يكبر: هل سيصبح شخصاً متوازناً أو فعّالاً في المجتمع، أم سيكون فاشلاً ومضطرباً نفسياً، فلذلك محددات وشروط بالغة التعقيد لا تتعلّق فقط بالتربية.
من هي «الأم الجيدة كفاية» إذن، كما جاءت في المقال:
     −
أولاًـ  هي الأم التي تقدر على خلق فضاء مناسب للطفل حتى يتمكن من تطوير ملكة التفكير ولاحقاً الكلام. وحتى يتمكن من القيام بذلك، فهو بحاجة أيضاً لأن يحبّ نفسه. فليس من السهل أن تحبّ نفسك. وهكذا يكون على الأم أن تُعلّم الطفل أن يحبّ نفسه من خلال حبّها له كما تحبّ نفسها، وحبّها له لاحقاً حين تنفصل ذاته عنها. قد يقول قائل إن هذا الحبّ سهلٌ في الواقع، كون الطفل هو الامتداد النرجسي للأم، جسداً وذاتاً. إلا أن المشكلة هي في حب الأم لنفسها، فهي ستحبّه كما تحبّ نفسها، لكن هل تحبّ الأم نفسها؟ وكيف؟ ثم هل ستتمكن أن تحبّ طفلها بعد أن ينفصل عنها ذاتاً مستقلة لا تشبه ما رغبت به في طفلها حين كان صغيراً؟
+
'''''من هي «الأم الجيدة كفاية» إذن، كما جاءت في المقال:'''''
 +
 
 +
'''أولاً،''' هي الأم التي تقدر على خلق فضاء مناسب للطفل حتى يتمكن من تطوير ملكة التفكير ولاحقاً الكلام. وحتى يتمكن من القيام بذلك، فهو بحاجة أيضاً لأن يحبّ نفسه. فليس من السهل أن تحبّ نفسك. وهكذا يكون على الأم أن تُعلّم الطفل أن يحبّ نفسه من خلال حبّها له كما تحبّ نفسها، وحبّها له لاحقاً حين تنفصل ذاته عنها. قد يقول قائل إن هذا الحبّ سهلٌ في الواقع، كون الطفل هو الامتداد النرجسي للأم، جسداً وذاتاً. إلا أن المشكلة هي في حب الأم لنفسها، فهي ستحبّه كما تحبّ نفسها، لكن هل تحبّ الأم نفسها؟ وكيف؟ ثم هل ستتمكن أن تحبّ طفلها بعد أن ينفصل عنها ذاتاً مستقلة لا تشبه ما رغبت به في طفلها حين كان صغيراً؟
    
بهذا المعنى تكون الأم، حسب كرَستيفا، هي الوحيدة، بالإضافة للقدّيسين وصفوة المؤمنين، القادرة على حبّ «جارها حبّها لنفسها»، كما جاء في وصايا الإنجيل.
 
بهذا المعنى تكون الأم، حسب كرَستيفا، هي الوحيدة، بالإضافة للقدّيسين وصفوة المؤمنين، القادرة على حبّ «جارها حبّها لنفسها»، كما جاء في وصايا الإنجيل.
   −
ثانياً، هي الأم التي لا يعجبها أحد على وجه الخصوص!! لا تسحرها شخصية وسلوك طفلها بشكل يعميها عن رؤية الصورة الكاملة، فتعترف بعملية نزع الولَه كجزء من أمومتها، وتعمل على البحث عن صفائها الخاص وراحة بالها، بعيداً عن قلق الأمومة وعذاباتها. فإذا كان الولَه الأمومي هو النموذج البدئي لعلاقات الحب في عصرنا هذا، كما أسلفنا، فإن نزع الولَه، يشكل أيضاً النموذج المبدئي للتخلّي، لإفساح المجال للحبيب كي يبتعد إن كان ذلك ما يحتاجه، وهو النموذج المبدئيّ للحب «الكبير» أو «الحقيقي»، الذي لا يريد شيئاً سوى أن يكون الحبيب سعيداً، سواء كان ينفذ رغباتنا أو لا، سواء كان يعيش معنا أو لا. فلا أحد قادر على إتقان هذا النوع من الحب بقدر «الأمّهات الجيّدات بما فيه الكفاية».
+
'''ثانياً،''' هي الأم التي لا يعجبها أحد على وجه الخصوص!! لا تسحرها شخصية وسلوك طفلها بشكل يعميها عن رؤية الصورة الكاملة، فتعترف بعملية نزع الولَه كجزء من أمومتها، وتعمل على البحث عن صفائها الخاص وراحة بالها، بعيداً عن قلق الأمومة وعذاباتها. فإذا كان الولَه الأمومي هو النموذج البدئي لعلاقات الحب في عصرنا هذا، كما أسلفنا، فإن نزع الولَه، يشكل أيضاً النموذج المبدئي للتخلّي، لإفساح المجال للحبيب كي يبتعد إن كان ذلك ما يحتاجه، وهو النموذج المبدئيّ للحب «الكبير» أو «الحقيقي»، الذي لا يريد شيئاً سوى أن يكون الحبيب سعيداً، سواء كان ينفذ رغباتنا أو لا، سواء كان يعيش معنا أو لا. فلا أحد قادر على إتقان هذا النوع من الحب بقدر «الأمّهات الجيّدات بما فيه الكفاية».
    
كمثال على نزع الولَه الأمومي، تذكر كرَستيفا  قصة الكاتبة الفرنسية الشهيرة كوليت، التي تحدثت في كتبها عن أمها «سيدو»، أمها التي فضلت «انتظار تفتّح زهرة» على زيارة ابنتها، فضّلت التمتع بالطبيعة وفصولها وعيش طريقها الخاص، دون أن تكره ابنتها أو تبعدها عن حياتها. إذ إن سيدو لم تتوقّف عن مراسلة ابنتها، برسائل جميلة، حملت حبّاً أموميّاً فريداً وخاصّاً بها. فتحت تلك الرسائل لاحقاً أمام كوليت طريق حب اللغة والكتابة والأدب، وتتساءل هنا كرَستيفا: أليس ما قدمته سيدو لابنتها أكثر تحرّراً وتحريراً مما قدّمته أمهات كثيرات، لا يفارقن أطفالهن حتى حين يكبرون، لكنهنّ يُقيّدن حياتهم ويحدُدنَ من تطورهم واستقلالهم، بتحميلهم ذنب ابتعادهم عنهنّ وبطلب الطاعة من أطفالهنّ وامتثالهم لأوامرهنّ؟
 
كمثال على نزع الولَه الأمومي، تذكر كرَستيفا  قصة الكاتبة الفرنسية الشهيرة كوليت، التي تحدثت في كتبها عن أمها «سيدو»، أمها التي فضلت «انتظار تفتّح زهرة» على زيارة ابنتها، فضّلت التمتع بالطبيعة وفصولها وعيش طريقها الخاص، دون أن تكره ابنتها أو تبعدها عن حياتها. إذ إن سيدو لم تتوقّف عن مراسلة ابنتها، برسائل جميلة، حملت حبّاً أموميّاً فريداً وخاصّاً بها. فتحت تلك الرسائل لاحقاً أمام كوليت طريق حب اللغة والكتابة والأدب، وتتساءل هنا كرَستيفا: أليس ما قدمته سيدو لابنتها أكثر تحرّراً وتحريراً مما قدّمته أمهات كثيرات، لا يفارقن أطفالهن حتى حين يكبرون، لكنهنّ يُقيّدن حياتهم ويحدُدنَ من تطورهم واستقلالهم، بتحميلهم ذنب ابتعادهم عنهنّ وبطلب الطاعة من أطفالهنّ وامتثالهم لأوامرهنّ؟
   −
وأخيراً، هي الأم التي تعلم متى تغيب، متى تختفي من غرفة طفلها، لتسمح له بإعادة إنتاج تفكير الأم الذي ينتقل له في الحوار اللاواعي بينهما. الغياب يسمح له بإدماج ما تعلّمه في ذاته، وبإيجاد المكان (المعنى) المناسب له في ذاته. الرابط الحقيقي بين الأم والطفل يتشكّل في واقع الأمر في الوقت الذي تترك فيه الأم طفلها وحده. فقط عن طريق ترميز (تمثّل) غياب الأم، يستطيع الطفل الاستمتاع والتفكير بنفسه، فمتعة الطفل بالجسد الأمومي طاغية، تشغل الطفل تماماً وتجعله بغنى عن التفكير. فقط عن طريق «قتل الأم الرمزي» الذي يبدأ عند تعلّم الطفل للغة، يشعر الطفل بلذّة التفكير ويتحول إلى ذات متكلّمة. فقط من خلال هذا الغياب، يتمكّن الطفل من الانتقال من «الجسد إلى الفكر».
+
'''وأخيراً،''' هي الأم التي تعلم متى تغيب، متى تختفي من غرفة طفلها، لتسمح له بإعادة إنتاج تفكير الأم الذي ينتقل له في الحوار اللاواعي بينهما. الغياب يسمح له بإدماج ما تعلّمه في ذاته، وبإيجاد المكان (المعنى) المناسب له في ذاته. الرابط الحقيقي بين الأم والطفل يتشكّل في واقع الأمر في الوقت الذي تترك فيه الأم طفلها وحده. فقط عن طريق ترميز (تمثّل) غياب الأم، يستطيع الطفل الاستمتاع والتفكير بنفسه، فمتعة الطفل بالجسد الأمومي طاغية، تشغل الطفل تماماً وتجعله بغنى عن التفكير. فقط عن طريق «قتل الأم الرمزي» الذي يبدأ عند تعلّم الطفل للغة، يشعر الطفل بلذّة التفكير ويتحول إلى ذات متكلّمة. فقط من خلال هذا الغياب، يتمكّن الطفل من الانتقال من «الجسد إلى الفكر».
      سطر 134: سطر 135:  
يلخص العنوان الطَموح لمقالي هذا قلقاً اجتماعياً وتاريخياً عميقاً يتعلّق بمسألة أخلاقية الإنجاب لمجرد الرغبة به. سأقتصر بكل تواضع على جانب من جوانب الأمومة التي تهمني شخصياً كأم ومحللة نفسية: ولَه الأمهات وماذا يعني هذا الولَه اليوم. سوف يتطرق حديثي عن ولَه الأمهات إلى ثلاث نقاط، لن أتوسع بها تماماً هنا، ولكني آمل مع ذلك أن أتمكن من إلقاء بعض الضوء عليها.
 
يلخص العنوان الطَموح لمقالي هذا قلقاً اجتماعياً وتاريخياً عميقاً يتعلّق بمسألة أخلاقية الإنجاب لمجرد الرغبة به. سأقتصر بكل تواضع على جانب من جوانب الأمومة التي تهمني شخصياً كأم ومحللة نفسية: ولَه الأمهات وماذا يعني هذا الولَه اليوم. سوف يتطرق حديثي عن ولَه الأمهات إلى ثلاث نقاط، لن أتوسع بها تماماً هنا، ولكني آمل مع ذلك أن أتمكن من إلقاء بعض الضوء عليها.
   −
ماذا أعني بـ «اليوم»؟  
+
'''''ماذا أعني بـ «اليوم»؟'''''
    
حسناً، تكتسب العلوم الفيزيولوجية والبيولوجية، وكذلك طب التوليد، يوماً بعد يوم إتقاناً متزايداً في فهم لغز الحمل، الذي كان في الماضي، ونظراً لكونه لغزاً، يمنح الأم القوة، ويحرمها منها بشكل مرعب في الوقت نفسه<ref>تقصد الكاتبة أن جهل الإنسان الماضي بأسرار عملية التكاثر (كيف يحدث الحمل فعلاً، المخاطر التي قد تسبب الإجهاض، علاقته بالدورة الشهرية… إلخ) قد أعطى المرأة مكانة خاصة غامضة من جهة، كونها حاملةً لذاك اللغز ومتحكمة بموضوع الإنجاب، لكنه كان سبباً أيضاً لاستغلالها ومحاولة السيطرة عليها والتحكم بها باعتبار أن غياب معرفة حقيقية حول الحمل والجنين يفتح المجال لتحميلها ذنب الإجهاض أو عدم الحمل مثلاً، أو حتى التضحية بها تقرباً من إله ما. (المترجم)</ref>. على الرغم من ذلك، لا تستمر الخصوبة والحمل عند المرأة في إبهار خيالنا الجمعي فحسب، بل باتا يشكلان مجالاً لما هو مقدس أيضاً.
 
حسناً، تكتسب العلوم الفيزيولوجية والبيولوجية، وكذلك طب التوليد، يوماً بعد يوم إتقاناً متزايداً في فهم لغز الحمل، الذي كان في الماضي، ونظراً لكونه لغزاً، يمنح الأم القوة، ويحرمها منها بشكل مرعب في الوقت نفسه<ref>تقصد الكاتبة أن جهل الإنسان الماضي بأسرار عملية التكاثر (كيف يحدث الحمل فعلاً، المخاطر التي قد تسبب الإجهاض، علاقته بالدورة الشهرية… إلخ) قد أعطى المرأة مكانة خاصة غامضة من جهة، كونها حاملةً لذاك اللغز ومتحكمة بموضوع الإنجاب، لكنه كان سبباً أيضاً لاستغلالها ومحاولة السيطرة عليها والتحكم بها باعتبار أن غياب معرفة حقيقية حول الحمل والجنين يفتح المجال لتحميلها ذنب الإجهاض أو عدم الحمل مثلاً، أو حتى التضحية بها تقرباً من إله ما. (المترجم)</ref>. على الرغم من ذلك، لا تستمر الخصوبة والحمل عند المرأة في إبهار خيالنا الجمعي فحسب، بل باتا يشكلان مجالاً لما هو مقدس أيضاً.
سطر 162: سطر 163:       −
1- يجب أن نميز بين الولَه والعاطفة. الأمومة ولَهٌ بمعنى أن العواطف (كالتعلّق أو العدوانية تجاه الجنين وبعدها الرضيع والطفل) تتحول إلى حبّ (مثلنة، تخطيط لمستقبل الطفل، تفاني في تربيته) مع تحجيم الكراهية المرافقة عادة لدرجة أو لأخرى. تقف الأم على مفترق طرق بين البيولوجيا والمعنى في وقت مبكر من الحمل: أي أن وله الأم ينزع السمة البيولوجية عن الارتباط بالطفل، دون أن ينفصل تماماً عن البيولوجي، في حين تسلك مشاعر التعلق والعدوانية طريقها نحو التسامي<ref> التسامي أو التصعيد هو تغيّر يطرأ على الطريق الذي يسلكه دافعٌ ما، بحيث يتمّ التعبير عن الطاقة النفسية ذاتها من خلال ما هو مقبول اجتماعيّاً، مثال: تسامي الدوافع العدوانية تجاه الأب عند شاب ما، عن طريق ممارسة رياضة قتالية (الدافع يحافظ على طبيعته وقوّته لكنّه يغيّر هدفه بحيث تصبح العملية مقبولة اجتماعياً وقادرة على النجاة من الكبت). (المترجم)</ref>.
+
'''1-''' يجب أن نميز بين الولَه والعاطفة. الأمومة ولَهٌ بمعنى أن العواطف (كالتعلّق أو العدوانية تجاه الجنين وبعدها الرضيع والطفل) تتحول إلى حبّ (مثلنة، تخطيط لمستقبل الطفل، تفاني في تربيته) مع تحجيم الكراهية المرافقة عادة لدرجة أو لأخرى. تقف الأم على مفترق طرق بين البيولوجيا والمعنى في وقت مبكر من الحمل: أي أن وله الأم ينزع السمة البيولوجية عن الارتباط بالطفل، دون أن ينفصل تماماً عن البيولوجي، في حين تسلك مشاعر التعلق والعدوانية طريقها نحو التسامي<ref> التسامي أو التصعيد هو تغيّر يطرأ على الطريق الذي يسلكه دافعٌ ما، بحيث يتمّ التعبير عن الطاقة النفسية ذاتها من خلال ما هو مقبول اجتماعيّاً، مثال: تسامي الدوافع العدوانية تجاه الأب عند شاب ما، عن طريق ممارسة رياضة قتالية (الدافع يحافظ على طبيعته وقوّته لكنّه يغيّر هدفه بحيث تصبح العملية مقبولة اجتماعياً وقادرة على النجاة من الكبت). (المترجم)</ref>.
    
كل هذا يبدأ بِولَه المرأة الحامل بنفسها، «نفسها» التي تعكس نرجسية مُعززَّة ومُزعزَعة في آن: أي أن المرأة الحامل تفقد هويتها، لأنها تنقسم، في أعقاب تدخل الأب/الحبيب، إلى قسمين، لتؤوي شخصاً ثالثاً مجهولاً، قبل-كائن/غرض عديم الشكل. بعبارة أخرى، على الرغم من هيمنة النرجسية في تلك المرحلة، إلا أن وله الأمهات البدئي يظل مثلثيّاً؛<ref> أي بين ثلاث عناصر (الأم، الأب، الجنين) ففي هذه المرحلة لا علاقة ثنائية مباشرة بعد بين الام والجنين. (المترجم)</ref> تُظهر النظرة الغائبة أو تلك التي تنظر إلى الداخل، النظرة التي نجدها في لوحات (العذراء وطفلها) في عصر النهضة الإيطالية، مثل النظرات في لوحات جيوفاني بلليني، تُظهر صراحة ما يعرفه الكثير منا: وهو أن المرأة «تنظر» دون «أن ترى» الأب أو العالم؛ إذ أنها تكون في مكان آخر.
 
كل هذا يبدأ بِولَه المرأة الحامل بنفسها، «نفسها» التي تعكس نرجسية مُعززَّة ومُزعزَعة في آن: أي أن المرأة الحامل تفقد هويتها، لأنها تنقسم، في أعقاب تدخل الأب/الحبيب، إلى قسمين، لتؤوي شخصاً ثالثاً مجهولاً، قبل-كائن/غرض عديم الشكل. بعبارة أخرى، على الرغم من هيمنة النرجسية في تلك المرحلة، إلا أن وله الأمهات البدئي يظل مثلثيّاً؛<ref> أي بين ثلاث عناصر (الأم، الأب، الجنين) ففي هذه المرحلة لا علاقة ثنائية مباشرة بعد بين الام والجنين. (المترجم)</ref> تُظهر النظرة الغائبة أو تلك التي تنظر إلى الداخل، النظرة التي نجدها في لوحات (العذراء وطفلها) في عصر النهضة الإيطالية، مثل النظرات في لوحات جيوفاني بلليني، تُظهر صراحة ما يعرفه الكثير منا: وهو أن المرأة «تنظر» دون «أن ترى» الأب أو العالم؛ إذ أنها تكون في مكان آخر.
سطر 181: سطر 182:  
ليس من النادر أن يهدّد ولَه الأم - التي تعيش الإغواء، وتصنيم جسد الطفل وملحقاته، والانفجارات العاطفية، وحالات الهوس (الفرح المفرط)- إمكانيّة التفكير ذاتها عند الرضيع. يأخذ الأمر أبعد من ذلك معنىً أكثر فتكاً، مثل حروب التصفية العرقية، حيث نرى أن أكثر تلك الحروب شراسة هي تلك التي تكون فيها الفروق بين المجموعات العرقية المتحاربة طفيفة جداً، تلك الحروب التي تشن ضد الذات عن طريق مهاجمة الشخص الأقرب (الأمهات اللاتي يتم إدانتهنّ بتهمة قتل أطفالهنّ دليل على ذلك).
 
ليس من النادر أن يهدّد ولَه الأم - التي تعيش الإغواء، وتصنيم جسد الطفل وملحقاته، والانفجارات العاطفية، وحالات الهوس (الفرح المفرط)- إمكانيّة التفكير ذاتها عند الرضيع. يأخذ الأمر أبعد من ذلك معنىً أكثر فتكاً، مثل حروب التصفية العرقية، حيث نرى أن أكثر تلك الحروب شراسة هي تلك التي تكون فيها الفروق بين المجموعات العرقية المتحاربة طفيفة جداً، تلك الحروب التي تشن ضد الذات عن طريق مهاجمة الشخص الأقرب (الأمهات اللاتي يتم إدانتهنّ بتهمة قتل أطفالهنّ دليل على ذلك).
   −
2- رغم ذلك، يحدث نوع من نزع-الولَه/الانفصال في معظم الحالات. ومن خلاله يستمدّ حب الأم دعمه النفسي ـ الحيوي النهائي. نظراً لأن معظم الأمهات لا يخضعن للتحليل النفسي، يتعيّن على المرء أن يسلّم بأن هناك شيئاً ما في بنية تجربة الأم ذاتها يشجع عملية تفكيك (نزع) الولَه، وبالتالي فكّ الارتباط الأحادي.  
+
'''2-''' رغم ذلك، يحدث نوع من نزع-الولَه/الانفصال في معظم الحالات. ومن خلاله يستمدّ حب الأم دعمه النفسي ـ الحيوي النهائي. نظراً لأن معظم الأمهات لا يخضعن للتحليل النفسي، يتعيّن على المرء أن يسلّم بأن هناك شيئاً ما في بنية تجربة الأم ذاتها يشجع عملية تفكيك (نزع) الولَه، وبالتالي فكّ الارتباط الأحادي.  
    
أقترحُ فيما يلي مراعاة ثلاثة عوامل ضمن ولَه الأم نفسه: موقع الأب والزمن واكتساب اللغة.
 
أقترحُ فيما يلي مراعاة ثلاثة عوامل ضمن ولَه الأم نفسه: موقع الأب والزمن واكتساب اللغة.
سطر 204: سطر 205:     
ألا تشكّل القدرة على مشاركة العاطفة الأمومية من خلال هذه البهجة اللغوية طريقة لتوفير حضور أمومي أكثر حرية بكثير من الأم المفرطة في حضورها، والتي لا تزال ابنتها تعتمد عليها؟
 
ألا تشكّل القدرة على مشاركة العاطفة الأمومية من خلال هذه البهجة اللغوية طريقة لتوفير حضور أمومي أكثر حرية بكثير من الأم المفرطة في حضورها، والتي لا تزال ابنتها تعتمد عليها؟
 +
 +
 +
لاحظ فرويد دورة شبيهة في عملية رواية وسماع النكات. ففي واقع الأمر، يعمل راوي النكتة على تحييد عواطفه الذاتية من خلال إيصال فكرة النكتة السطحية (نص النكتة): فهو يتراجع عن دوافعه وأفكاره الكامنة ويستثمر طاقته النفسية فقط في ردّة فعل المستمع. تتضاعف متعة الراوي عندما يفهم المستمع المعنى الخفي للنكتة، وإن كان في النكتة فخّ، فسيشعر المستمع بمتعة غامضة عندما يفهم أنه قد وقع في الفخ.
 +
 +
هذه الدورة من التسامي يمكن مقارنتها بما يحدث عندما تتبادل الأم والطفل الدوالّ، إذ ينطوي هذا التبادل على إرسال «دوالّ غامضة»<ref>الدوالّ الغامضة، مصطلح طوره لابلانش (Laplanche) نقلاً عن لاكان، وهي إشارات يتلقاها الطفل من أمه، دون أن يفهمها بشكل كافٍ. بمعنى أن تلك (الابتسامة، التنهيدة، المسح على شعر الطفل وغيرها) تبدو غامضة له ومثيرة للقلق. فالطفل يفشل في إيجاد معنى ذاتي لكل ما يأتيه من اللغة والمجتمع والآخر (الأم). Lost in Translation: Orientalism, Cinema, and the Enigmatic Sign، ص 20.</ref>، لفظيّة أو ما قبل لفظيّة، من قبل الأم؛ وينطوي ذاك التبادل أيضاً على تحييد الأم لدوافعها، والانتباه فقط لردّة فعل طفلها وحدها؛ وتتشابه الدورتان أخيراً بفائض اللّذة الناتج، أو التشجيع الذي يمنح للطفل مكافأةً على استجابته. أي أن الأم لا تستثمر في رسالتها الخاصة، بل تستثمر فقط في استجابة الطفل التي تحصل منها على مزيد من المتعة (Jouissance)، والتي تقوم الأم بدورها بتضخيمها وتشجيعها.
 +
 +
 +
كما ترون، لا تخلو دورة التسامي هذه من الانحراف المتسامي فيما يتعلق بسلوك الأم وكلامها، فهي تؤجّل قبضتها المباشرة على الطفل حتى تشعر بمتعة أكبر معه، وكذلك في دورها  كحارس للمعنى الذي يجب على الطفل أن يتعلّمه، حتى حين يكون كل ما تفعله الأم «مزاحاً»! يا لها من أم! أليس كذلك؟
 +
 +
لكن الأمَّ في واقع الأمر تكفل بهذه الطريقة تسامي ولَهها المتناقض وتسمح للطفل بتكوين لغته الخاصة، وهو ما يعني اختيار لغة مختلفة عن لغة والدته، أو ربما حتى لغة غريبة تماماً.
 +
 +
أولئك الذين يزعمون أن وله الأم يفتقر إلى الفكاهة مخطئون: فإن كان بمقدرة الأمهات تحويل سيطرتهن على الطفل إلى دورة التسامي المشابهة لما يحدث في المزاح، وتعزز متعة التفكير عند الطفل، فإنهنّ دليل حيّ على زعم هيجل بأن النساء هنّ «السخرية الأبدية من المجتمع».
 +
 +
بعبارة أخرى، من خلال نزع الوله المتزايد و / أو من خلال قدرتها على التسامي، تسمح الأم لطفلها بإعادة تمثيل/ترميز غيابها وليس ترميز الأم نفسها («لا شيء يمكن أن يمثل الغرض الأمومي»، كما كتب أندريه جرين):
 +
 +
إذن وفقط إذا تُرك الطفل حراً، سيكون قادراً على تبييء الفكر الأمومي عن طريق إعادة خلقه بطريقته الخاصة في التفكير – إعادة التمثيل<ref>(Representation): وهي العملية التي تتشكل من خلالها الصورة الذهنية لشخص أو شيء غائب، وتنطوي على تحويل المدركات الحسية إلى رمز، صورة، فكرة أو أُخيولة. المصدر: The concept of Mental Representation; David Beres and Edward Joseph.</ref>. «الأم الجيّدة بما فيه الكفاية» هي إذن تلك التي تعرف كيف تغادر، لإفساح المجال للمتعة وللطفل وتفكيره. لتتركَ مساحة، يعني أن تختفي الأم عن إدراك الطفل. وهكذا فإن نوعاً ما من قتل الأم الرمزيّ يحدث عند اكتساب الطفل للغة والتفكير، مما يقلّل من حاجته إلى الاستمتاع بجسد والدته؛ يجد الطفل متعة في التفكير، أولاً مع والدته، بقدر ما تسمح به الطبيعة المتقطعة لتفكير الأم، ثم بمفرده، بدلاً عنها.
 +
 +
 +
يحدث هذا بشرط أن تعرف الأم كيفيّة تحويل رسالتها إلى مزاح بدلاً من استعمالها كوسيلة لممارسة تأثيرها. فقط عندما يأخذ نزع الولَه دوره في تطور الولَه الأمومي، يمكن أن ينتقل التسامي من الجسد إلى الفكر وبالتالي تشجيع تنمية تفكير الطفل. إلا أنّ ولَه الأمهات ليس نوعاَ من السحر حتى لو كان قادراً على نزع الوله عن الفكر نفسه، وحتى لو نتج عنه تحويل الفكرة إلى مزحة، وبالتالي نقل مفاتيح الثقافة جنباً إلى جنب مع انتقال الحمض الوراثي النووي DNA.
 +
 +
لقد رأينا كيف يمكن رؤية ولَه الأمهات كفجوة بين إحكام الام قبضتها على طفلها من جهة والتسامي من جهة أخرى. هذا الانقسام يجعل خطر الجنون حاضراً دائماً، ومع ذلك فإن خطر الجنون نفسه يمنح فرصة دائمة لانتقال ثقافة المجتمع إلى الطفل. لقد نسجت الأساطير الدينية شبكاتها حول هذا الانقسام. في الكتاب المقدس، المرأة هي «فجوة» (هذا هو معنى كلمة «امرأة» - نيكايفا - بالعبرية) وملكة؛ العذراء هي «فجوة» في الثالوث المسيحي الأب / الابن / الروح القدس وهي ملكة الكنيسة. من خلال هذه التركيبات التصوريّة، تعالج الأديان هذا الانقسام الأمومي: ومن خلال الاعتراف به، عملت الأديان على تخليده ووجدت طريقة لموازنته. وهكذا تمّ التمهيد لنوع من الاشتغال على الجنون الأمومي، مما جعل من الممكن وجود إنسانيّة تتمتع بوظيفة نفسيّة معقدة، قادرة على أن تكون لها حياة داخلية وأن تكون مبدعة في العالم الخارجي<ref>جاء في اعترافات أغسطيونس، في معرض اعترافه حول موقفه من رفض أمه لسفره إلى روما، قوله: «أما هي فإنها كانت، بسبب رغباتها الجسمانية، تُسلط عليها سياط الآلام العادلة»، أي أنه كان يرى وله أمه به وطلبها لبقائه بجانبها نوعاَ من الرغبة الجسمانية، التي من الطبيعي أن ترتد عليها ألماً وعذاباً، فكأنه يقول إن التمزق والجنون الذي تعيشه الأم هو جزء لا يتجزأ من الولَه الأمومي، ويذهب إلى كون تلك الآلام تتعلق بالجسد الأنثوي بشكل عام: «وبتلك الآلام كانت تكشف عما ورثته من حواء»، فالأمومة تجاور الألم منذ لحظة الولادة: «إذ أنها تطلب بالنحيب ما كانت قد ولدته بالنحيب». يخلص أوغسطينوس الشاب الذي صار لاحقاً من آباء الكنيسة البارزين، إلى أنه كان محقاً في الذهاب إلى روما وترك أمّه خلفه في قرطاج، ليكمل رحلته إلى اعتناق المسيحية، لكنه ندم على عدم مواساته لألمها فقط وليس على تركها خلفه. وهنا نرى، كيف اعترف أغسطينوس بالوله الأمومي وجنونه، دون أن يرى إمكانية الحلّ في تسامي الرغبات الجسدية عند الأم، فالألم/الوله مُقدَّر على الأم/المرأة.</ref>.
 +
 +
على العكس من ذلك، بتنا اليوم، ومن خلال تحويل كل انتباهنا إلى الجوانب البيولوجية والاجتماعية للأمومة، وكذلك التركيز على قضايا المساواة والحريّة الجنسية، أوّل حضارة تفتقر إلى خطاب حول الأمومة وتعقيداتها. حُلمي هو أن تساعد الحجج التي حاولتُ معالجتها هنا في الشفاء من هذا النقص، وأن تحثّ الأمهات ومن يرافقهنّ (أطبّاء النسائية والتوليد والقابلات وعلماء النّفس والمحلّلون) على صقل فهمنا لهذا الوله، المشبع بالجنون والتسامي.
 +
 +
هذا هو ما تفتقر إليه الأمومة اليوم.
 +
 +
== هوامش ==
 +
 +
[[تصنيف: أمومة]]
 +
[[تصنيف: علم النفس النسوي]]
staff
2٬193

تعديل

قائمة التصفح