النقد الماركسي للتقاطعية
قدم الكثير من الماركسيات والماركسيون، وأيضاً النسويات الماركسيات نقداً لنظرية التقاطعية، والذي برز بشدة في كتيب أنا امرأة .. وإنسان: نقد ماركسي نسوي لنظرية التقاطعية (I am a Woman .. and a Human: a Marxist feminist critique of intersectionality theory) بقلم إيف ميتشيل (Eve Mitchell).[1]
ويقوم نقد إيف ميتشيل الأساسي لنظرية التقاطعية على أنها تعتمد بالأساس على سياسات الهوية مما يكرس لفردية النضال، لأنها تتجاهل الأسس المادية والنمط الإنتاجي الرأسمالي التي يقوم عليها الجندر والعلاقات الجندرية في شكلها المعاصر. وتجادل إيف بأن منظرات ومنظري التقاطعية لم يكونوا مخطئين بالضرورة ولكن تحليلهم كان منقوصًا، وأنه لفهم التقاطعية والهوية، يجب علينا أن نفهم علاقات رأس المال أو بكلمات أخرى مجموع العلاقات الاجتماعية للإنتاج في إطار النمط الحالي للإنتاج. ففي إطار تحول نظام الإنتاج من الإقطاعية للرأسمالية، بدأ التقسيم الجندري للعمل (النساء ينجبن ويدرن المنازل، والرجال يخرجون للعمل)، وبالتالي تطورت علاقات جندرية جديدة بداخل الطبقة العاملة، واتخذت تلك العلاقات أشكالاً جديدة لتتناسب مع هذا النمط الجديد للإنتاج. حيث بُنيت هذه الأشكال الجديدة على أربعة محاور رئيسية:
- نشأة الأجور (والذي تسميه الكاتبة بنموذج القسر الرأسمالي):
مع تملّك الرأسماليين لوسائل الإنتاج، أصبحت العاملة مجبرة على بيع قوة عملها للرأسمالي، لتأخذ في المقابل أجرًا لا يتساوى مع قيمة العمل الحقيقي الذي تبذله، ولكنه يتساوى مع حاجتها لإعادة إنتاج قوة عملها، أي ما يُمكنها من توفير المأكل والملبس والمسكن، حيث أدى فصل العمال عن وسائل الإنتاج إلى جعل اغتراب العاملات عن عملهن هو السمة الأساسية الغالبة على طابع الإنتاج. وقد توحي فكرة الأجر بأن العامل يتقاضى مقابل ما يقوم به من عمل، ولكنه في الواقع لا يأخذ قيمة عمله المحسوس، ولكنه يأخذ قيمة قدرته على العمل (قوة عمله). وبالتالي أصبح يوم العمل مقسمًا إلى قسمين: وقت العمل الضروري؛ وهو الوقت اللازم للعمل حتى يستطيع العامل أن يشتري كل سلعة تمكنه من إعادة إنتاج نفسه (وقد يكون ساعةً واحدةً فقط)، وفائض وقت العمل؛ هو كل الوقت الذي يعمله العامل ما بعد وقت العمل الضروري (وقد يكون هذا باقي يوم العمل الرسمي). ومن هنا تتقاضى العاملة أجرًا يعادل قيمة العمل الضروري، أي ما تحتاجه لإعادة إنتاج قوتها على العمل، بينما تذهب القيمة التي تنتجها في فائض وقت العمل دون حساب، وينتفع بها فقط صاحب العمل الرأسمالي. وهذه النشأة للأجر، فرضت تقسيم العمل جندريًا بحسب الأعمال والتصورات عن القدرة على العمل
- الفصل ما بين الإنتاج وإعادة الإنتاج:
وتوضح إيف ميتشيل أن مفهوم إعادة الإنتاج لا ينحصر فقط في إنجاب الأطفال ولكنه يشمل أيضًا كل الأعمال المنزلية وأعمال الرعاية والدعم التي يتطلبها أفراد الأسرة من أطفال وزوج وعجائز أيضًا، ففي إطار نمط الإنتاج الرأسمالي أصبحت أعمال إعادة الإنتاج دون قيمة لأنها لا تعود على الرأسماليين بقيمة فائض وقت العمل، بينما الأعمال المُنتجة للقيمة من وجهة نظر الرأسمالي تحصل على أجر في مقابلها، ما دفع بالنساء خارج سوق العمل المدفوع ومنح سلطةً أعلى للرجال عليهن من هذا المنطلق، وهذا ما تم تسميته بـ "بطريركية الأجر"، أي عدم حصول النساء على أجر في مقابل أعمال إعادة الإنتاج وحصرهن في الأدوار المنزلية والإنجابية فقط.
- التطور المتناقض للأسرة النووية:
فمن ناحية تمت تقوية الأسرة النووية من خلال تقسيم العمل والفصل الجندري ما بين الإنتاج وإعادة الإنتاج، فأصبح كل أفراد الأسرة (النساء والأطفال) معتمدين على الأجور التي يتلقاها الرجال، بينما يحتاج الرجال لدعم النساء والأطفال لإعادة إنتاج قدرتهم على العمل، الأمر الذي أعطى قيمة أعلى للميول الجنسية المغايرة والثنائية الجندرية ورسخها. من ناحية أخرى تم إضعاف الأسرة النووية من خلال فصل الرجال عن النساء طوال فترة يوم العمل، فالنساء في المنزل والرجال في العمل.
- تطور الهوية والاغتراب:
تستشهد إيف ميتشيل بدعوة جون دي إميليو إلى الفصل ما بين السلوك المثلي والهوية المثلية، حيث يحلل دي إيميليو نشأة الهوية المثلية كنتيجة للحركة المتناقضة للعائلة النووية؛ ففي المجتمعات الاستعمارية ومع هيمنة فكرة العائلة، لم يوجد فضاء اجتماعي يسمح للرجال والنساء أن يكونوا مثليين ومثليات، لأن البقاء على قيد الحياة كان مبنيًا حول المساهمة في العائلة النووية، لكن هذا لا يلغي حقيقة وجود ممارسات مثلية في المجتمع. وفي منتصف القرن التاسع عشر، ومع استحكام الرأسمالية، أصبح العمل حرًا، وأصبح باستطاعة الأفراد أن يكسبوا معيشتهم من خلال العمل مقابل أجر بدلاً من أن يصبحوا جزءًا من عائلة يعتمد أفرادها على بعضهم البعض. عندها بدأت الرغبة والسلوكيات المثلية بالاتساق مع الشخصية للفرد، وأصبحت هناك هوية مثلية قائمة على القدرة على البقاء خارج اطار الأسرة المغايرة وبناء حياة شخصية قائمة على استهواء الجنس المماثل.
شبهت إيف ميتشل فصل دي إيميليو ما بين "السلوك" و"الهوية" بالتصنيفين الماركسيين "العمل" و"الاغتراب"؛ ويشرح ماركس العمل على أنه "نشاط الحياة الإنتاجية ذاتها"، ولكنه في ظل النظام الرأسمالي يبدو للإنسان أنه مجرد وسيلة لإشباع حاجته في الوجود الجسدي، ويستطرد قائلاً في نصه العمل المغترب "أن الحياة الإنتاجية هي حياة النّوع (species)، إنها حياة تولد حياة، وطبع أي نوع – بطبع كونِهِ نوعًا – يحويه طابعُ نشاط حياته، والنّشاط الحُر الواعي هو طبع نوع الإنسان. والحياة نفسها لا تظهر إلا كوسيلة للحياة". تشرح الكاتبة تعريف ماركس للعمل قائلة أن العمل هو تجريد أكبر وأشمل من نماذجه المحددة أو نمط الإنتاج الذي يقع تحته، ولكننا لا نستطيع أن نفهمه إلا في سياق نمط إنتاج محدد (قبلية، إقطاعية، رأسمالية ..إلخ)، فالعمل يشمل كل تعبيرات الإنسان عن نشاطه الذاتي ومن خلال نماذجه العديدة ينخرط الإنسان في العالم المحيط به؛ "فحتى خلق الفن والشعر هو عمل، وأيضًا ممارسة الجنس وإنجاب أطفال".
ففي إطار نظام الإنتاج الرأسمالي، يُفصل العامل عن وسائل الإنتاج، ويفرّق العمل عن إرادة العمال الواعية؛ لذلك يجب عليه أن يعمل لصالح من يمتلكون تلك الوسائل، وينخرط في نموذج العمل ذاته طوال اليوم وكل يوم، فتصبح مهنة العامل بالنسبة له هي مجرد وسيلة لتسديد حاجاته، بينما في جوهرها هي ممارسة الحياة نفسها، "وبسبب هذا الشقاق ما بين عملنا وإرادتنا الواعية، يُغرَّبُ عملنا تحت الرأسمالية، بمعنى أنه لا يُستخدم لإثرائنا الذاتي، وإنما نحن نهديه للرأسماليين، ويصبح عملنا متعددُ الجوانب عملا ذو جانبٍ واحد، إذ يُختزل في مهنتنا".
ومن هنا تطابق الكاتبة ما بين تصنيفي دي إيميليو: السلوك والهوية، والتصنيفين الماركسيين العمل والاغتراب، قائلة أن الممارسات والسلوك المثلي هو جزء من تفاعل الإنسان مع الحياة (نشاطه الذاتي أي عمله) وهو ما يمارسه بوعيه، بينما الهوية المثلية هي شكل عمل أُحادي الجانب وفردي ومغترب، فيُصنّف الشخص عن طريق نوع واحد من العمل، أي أنه مثلي. بكلمات أخرى، نحن، تحت الرأسمالية، نُقولب في إطار واحد، "فنحن إما سائق/ة سيارة، مصفف/ة شعر، أو امرأة أو أسود وسوداء .. إلخ)"، فحصر تعريفنا لشخوصنا في تلك التعبيرات المُحدِدة لنشاطنا الذاتي (العمل)، يؤدي إلى الحد من كوننا بشرًا متعددي الجوانب.
وبالرغم من إقرار الكاتبة بوجود تفرقة جندرية وتفرقة على أساس العرق في بعض مجتمعات ما قبل الرأسمالية، إلا أنها تقول أن تصنيفات "الهوية" هي أمر تختص به الرأسمالية وحدها، ولذلك ترى الكاتبة أن سياسات الهوية هي نهج بورجوازي وشديد الفردية، وأنه علينا أن نناضل من أجل مجتمع يتجاوز فكرة الهويات ويسمح للجميع أن يعبّروا عن نشاطهم الذاتي متعدد الجوانب كيفما شاءوا.
تساوي إيف ما بين سياسات الهوية والعمل المغترب، أي أن سياسات الهوية هي تعبير أحادي الجانب لمجموع إمكانيات الجنس البشري. في ظل نظام الإنتاج الرأسمالي، يظهر الفرد كشخص مغترب، بالرغم من أنه في الأصل ذو جوانب متعددة ويمارس أشكالا متعددة من العمل (النشاط الذاتي أيًا كان)، ولكن سياسات الهوية تعزز جانبًا واحد في هذا التناقض ما بين المظهر والجوهر، فإنها تحث على نضال جماعي قائم على هويات مفردة (جانب واحد للعمل المغترب) مثل النسائية أو العرق أو المثلية ...إلخ.
تؤكد الكاتبة على أهمية أن يناضل السود لسوادهم والمثليين لمثليتهم ..إلخ، ولكنها تقول أيضًا أنه بالتوقف عند جانب واحد (السواد، المثلية، النسائية ...إلخ) سنصبح نحن من يعيد إنتاج نفس مظهر الفرد المغترب أحادي الجانب تحت الرأسمالية، ولذلك تقول الكاتبة أنه لا يكفي أن نقول "أنا امرأة" ولكن يجب إضافة الجانب الآخر للتناقض "وأنا أيضًا إنسان".
وتنطلق الكاتبة في نقدها للتقاطعية من أنها تستنسخ بناء سياسات كاملة على أساس تجربة محددة واحدة أو حزمة محددة من الاختلافات، بل وتضيف أيضًا لحظات محددة ونقاط حاسمة بالدعوة لشمل الطبقة والعرق للتحليل النسوي، وليس ذلك فحسب بل إنها ترى أن نظرية "مصفوفة الاضطهادات المتشابكة" تصنع بشكل مماثل مجموعة من الهويات المُطَبَعة والمجردة من سياقها المادي والتاريخي.
تستنتج الكاتبة أنه في ظل سياسات الهوية (سياسات بورجوازية برأيها) تصبح الإمكانيات المتاحة للنضال بورجوازية أيضًا بدورها، فينحصر النضال في المطالبة بالمساواة بين المجموعات المختلفة في أحسن الأحوال، بينما في أسوأ الأحوال يأخذ النضال أشكالاً فردية.
وكحل لهذه الإشكاليات، تقترح إيف ميتشيل المنهجية الماركسية كحل حيث أن بإمكانها أن تطرح رؤية ما لكيفية خلق سياسات تتجاوز سياسات الهوية، فكون الشخص امرأة بالمعنى العالمي يعني أنها تنتج وتعيد إنتاج حزمة من العلاقات الاجتماعية من خلال عملها ونشاطها الذاتي، وهنا تأتي أهمية إدراك الخاص في علاقته الجدلية مع الكلي أو العام، بكلمات أخرى يجب أن ننظر للتمظهر الفردي للعمل في علاقته مع العمل ذاته.
تؤكد الكاتبة أيضًا أن منظرات ومنظري التقاطعية لم يكن مخطئات، ولكن طرحهن لم يكن كاملاً، فإنها تقر بحقيقية العلاقات الجندرية والعرقية وبوجودها، ولكنها ترى أن تلك العلاقات لا تبرز الحقيقة الشاملة والعالمية للوجود الإنساني، فبقولها "أنا امرأة .. وأنا أيضًا إنسان" تشدد على جانبي التناقض للوجود الإنساني، ومن هنا ترى الكاتبة إمكانية أن يُبنى الحل على وجود هذا التناقض ومن ثم المضي به، فالنضال من أجل التحرر يجب أن يبنى على كل من الخاص والعالمي.
وفي اشتباك الباحثة النسوية سارة سالم مع مقال إيف ميتشيل، في مقالها النسوية الماركسية كنقد للتقاطعية (Marxist Feminism as a critique of intersectionality)، تقترح مقاربة جرامشي للنسوية، كحل أكثر فاعلية من حل النسوية الماركسية الذي اقترحته إيف ميتشيل في ورقتها، وتبرر سارة سالم هذا الاقتراح باهتمام جرامشي بالنظر لكل من المادية والأفكار في آن واحد، فهو يرى أن "الأفكار والمادية دائمًا مرتبطتان بعضهما بالأخرى، تقوي إحداهما الأخرى، ولا يمكن اختزال إحداهما بالأخرى"، وهي من جهتها ترى أن مقاربة جرامشي ستساعد على فهم الجندر من خلال تفكيك الطرق التي بُني بها كأيديولوجية ناتجة من القوى المادية للتاريخ، التي بدورها تنتجه وتُنتَج من خلاله كمجموعة من الأفكار التي تُبنى.
كما أنها ترى أن مفهوم جرامشي عن "الهيمنة" -أن القوى الكبرى تحمي مصالحها من خلال الهيمنة على مستويين: السلطة والقوة من جهة، والتراضي وإخضاع المجتمع من خلال منظومة الاقتصاد ومجتمع المنتفعين[2]- يساعد في تحليل "الهيمنة" في البُنى الاجتماعية، بما يتضمن الاقتصاد والثقافة والجندر والعرق والطبقة والأيديولوجيا. وتضيف أن هذا النوع من المقاربة هو بالفعل تقاطعي، بالمعنى الذي يفي بأن "الهيمنة" هي حقيقة مفروضة، مبنية على أسس مادية محددة بأنماط الإنتاج، وأنها تعمل في إطار البُنى الاجتماعية المختلفة، والجندر هو أحد هذه البُنى. وبمعنى ما، فلقد تحدث جرامشي بالفعل عن فهم للجندر يتخطى حصره في الرجولة والأنوثة، ويصل لكونه واحدًا من البُنى الاجتماعية الكثيرة. وبالرغم من رؤية سارة سالم للمركزية الأوروبية التي تنطوي عليها الكثير من تحليلات جرامشي، إلا أنها ترى أن الدمج ما بين مقاربته وما بين أفكار نسوية ما بعد الاستعمار سيكون مفيدًا بشدة.[3]