أُضيف 7٬693 بايت
، قبل 6 سنوات
منذ صدور روايته الأولى «جوابا» (Guapa) باللغة الإنجليزية، تردد اسم سليم حدّاد على الساحة الإعلامية بشكل متزايد، خاصة بعد مقابلة أُجريَت معه ومقال كتبه بعنوان «أسطورة الحياة العربية المثلية» (The Myth of the Queer Arab Life)، تحدّث خلالهما عن الانطباع الزائف عمّا يسمى الهوية المِثليّة العربيّة؛ ذلك الانطباع الذي يجعل كلّ المثليين العرب شخصية واحدة تفتقر إلى الملامح، ويفرض عليها الاكتئاب والاضطهاد والكتمان، ثم يقول إن تلك العيوب نتيجة افتقار هذه الشخصية لحقوق الإنسان الغربيّة.
أدّت كتابات العديد من الباحثين المستشرقين إلى خلق ذلك الانطباع الزائف ودمغ جميع المثليين العرب به. يفترض حدّاد أن هذا الانطباع خُلق إلى حدٍّ ما بسبب تغاضي المستشرقين عن العوامل التي تؤثّر في الهويّة من نواحٍ ثقافية واقتصادية وسياسية، والتي تجعل من كل مثليّ إنسانًا فريدًا.
تحاول «جوابا» البحث عن الاعتدال بين نقيضيْن يحتلّان ساحة الأدب المِثليّ المكتوب عن الشّرق الأوسط؛ أوّلهما المستشرق، وثانيهما المناوئ للاستعمار. يتمثّل الثاني، كما يُقرّ حداد في المقابلة، باستجابات أمثال جوزيف مسعد (في كتابه «اشتهاء العرب») للمستشرق، التي تُدرِج الهوية المِثليّة تحت مظلّة الاستعمار الغربي وتشنّ حربًا على تلك الهوية بسبب ذلك الارتباط المؤذي برأيهم. ويحاول حدّاد نقد حديث المستشرق وحديث مسعد والعثور على حل أوسط معتدل بينهما.
ينسج حدّاد بمهارة قصّة بطله «راسا»، الذي نتعرف عليه خلال أحداث يوم واحد تمتد أحداثه على ٣٦٨ صفحة. يبدأ اليوم بكارثة شخصيّة تأتي على شكل اكتشاف جدّة «راسا» لهويته المَثلية عندما تجده مع حبيبه «تيمور». تتخلّل أحداث اليوم نفسه قفزات زمنيّة، يستعرض فيها حدّاد لقطات من طفولة «راسا» ومراهقته ومرحلته التعليمية في الولايات المتحدة بالإضافة إلى سرد عواقب هذا الاكتشاف في حاضره.
نكتشف بعد قراءة الرواية أن المقال والمقابلة عبارة عن عيّنتيْن مختصرتيْن وواقعيتيْن من «جوابا» (التي استوحت اسمها من حانة تدور بعض أحداث الرواية داخل أبوابها)؛ تتعمق الرواية بما يلمّح إليه المقال بطريقة موسّعة مع إضافة شخصيات شبه خيالية وحبكة روائية، بما أنّ جزءًا غير محددًا من الحبكة وبعض أبعاد الشخصيات تمثّل حياة حدّاد نفسه. بالإضافة إلى ذلك، لم تُمنح الرواية مكانًا محددًا، بل تقع أحداثها في مدينة في دولة عربية غير مُسماة تحوي عددًا من المعالم من دول عربية مختلفة. يُبرِّر حدّاد هذا القرار على موقعه الشخصي بتفادي تعميم مواصفات شخصياته على سكان مكان معين من ناحية اجتماعية، لإزالة بُعد وطنيّ محدّد قد يعكّر تنقّله في المنطقة من ناحية سياسية، وليؤكِّد أزمة الشخص الذي يشعر بالغربة وعدم الانتماء في وطنه (بسبب القناعة السائدة بأن الهوية المِثلية تتناقض مع الهوية العربيّة) من ناحية روائية.
لا يترك حداد أيّ حدث من أحداث الرواية دون استكشاف العوامل التي أدّت إلى وقوع الحدث وما نتج عنه من مشاعر. ينطبِق هذا سواء مسّ الحدث حياة شخصياته وتصرّفاتها المباشرة أم كان على مقياس اجتماعيّ أو سياسيّ خطير مثل أحداث ١١ سبتمبر. وتصل الرواية إلى بداية ذروتها في حفل زواج رجل مِثليّ من امرأة نتيجة حرصه على تحقيق المتوقع منه اجتماعيًا وعائليًا وكمحاولة لتخبئة ميوله الجنسية.
من أبرز ما يُدرجه حدّاد في الأجزاء المكرسة لحياة «راسا» في الولايات المتحدة من الرواية هو تأثير أحداث ١١ سبتمبر على العرب، واضطرار المتغرّبين منهم على التغاضي عن هوياتهم الشخصية المختلفة (بما في ذلك المثليّة) وترميم هويتهم العربية والحفاظ عليها. في هذا السياق يركّز حدّاد على الأزمة التي تُخلَق عند شخصيته بصفته شخصًا سيطرت عليه هويته الجنسية عندما كان يقطن في مسقط رأسه العربيّ وأدّت إلى إحساسهِ بالغربة فيه، بينما تَمَلَّكته هويته العربية وعرَّفت جميع أبعاده عندما انتقل إلى الولايات المتحدة في ظل ١١ سبتمبر فشعر بالغربة هناكَ أيضًا، نتيجة ما تلى ١١ سبتمبر من رهاب وعنصرية ضدّ العرب والمسلمين. يجد «راسا»، الذي سافر إلى الولايات المتحدة ومُناه استكشاف أبعاد مثليّته التي لم تُوفّر له في بلده، أن طاقاته تُستنفذْ في الدفاع عن شرعيته كإنسان عربيّ.
ويركّز حدّاد في الرواية على فكرة العار كحاجز يُبنى في طريق أيّ تصرّف قد يعارض ما يُعتبر مخالفًا للقيم والعادات والتقاليد. ويذكر قضايا اجتماعية أخرى مثل ظاهرة استخدام اللغة الإنجليزية في المجتمعات العربية في إطار طبقي، من باب ما يعتقده بعض المتحدثون العرب بها من أنها تضيفه من هيبة ورقيّ.
لكن المأخذ الواضح من الرواية يبقى عدم توفّرها بالعربية، لأنّها تنتسب لفئة أدبية تحتاجها اللغة العربية وجمهورها حاجةً ماسّة.
في طرحه لمواضيع الهويّتين العربيّة المثليّة وتأثير الطبقيّة العميق عليهما، فإنَّ حدّاد يرسم بوضوح ودقّة خرائط ساحات اجتماعيّة وسياسيّة كان قد زارها الباحثون قبله دون أن يفلحوا في إزالة الستارة عنها خارج حدود الاستعمار الغربيِّ وردّات الفعل عليه، لينجح في تسليط الضوء على معضلة الفرد المثليّ العربيّ في التصالح مع هويتيه في آن واحد.