تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ط
تعديل طفيف لترقيم الفقرات
سطر 21: سطر 21:       −
-1-
+
==1==
    
عشتُ طفولتي وأنا أشعر بوحدة كاملة لم أملك ترف فهمها حتى. وعندما أصبحت شاباً وفهمت سبب وحدتي، أيقنت أن هناك شيئاً كريهاً في داخلي، تماماً كذلك الصرصور البشع العملاق الذي باته غريغور في رواية فرانز كافكا الشهيرة. وكنت مقتنعاً تماماً أن بشاعتي الداخلية إن استحوذت عليَّ وظهرت للناس، ستكون كافيةً لألقى مصير الصرصور غريغور نفسه، فتشعر أمي بالقرف مني، ويرغب والدي في قتلي، وتستحي بي أختي أمام الناس، ويتحول الأصحاب والأحباب إلى وحوش مفترسة تسعى قاصدة لتحطيمي، أو ربما رميي «من شاهق».
 
عشتُ طفولتي وأنا أشعر بوحدة كاملة لم أملك ترف فهمها حتى. وعندما أصبحت شاباً وفهمت سبب وحدتي، أيقنت أن هناك شيئاً كريهاً في داخلي، تماماً كذلك الصرصور البشع العملاق الذي باته غريغور في رواية فرانز كافكا الشهيرة. وكنت مقتنعاً تماماً أن بشاعتي الداخلية إن استحوذت عليَّ وظهرت للناس، ستكون كافيةً لألقى مصير الصرصور غريغور نفسه، فتشعر أمي بالقرف مني، ويرغب والدي في قتلي، وتستحي بي أختي أمام الناس، ويتحول الأصحاب والأحباب إلى وحوش مفترسة تسعى قاصدة لتحطيمي، أو ربما رميي «من شاهق».
سطر 71: سطر 71:  
   
 
   
   −
-2-
+
==2==
    
قضيتُ كل سنين المرحلة الثانوية محاولاً الهرب من أحلامي. لكنها لم تتوقف. انكببتُ على كل ما وجدت فيه مصدراً للخير والنجاح والاحترام. بدأتُ بالمواظبة على صلاة الجمعة وقراءة القرآن. ضاعفتُ من جهودي في المدرسة واستبدلتُ محاولاتي الفاشلة في ممارسة رياضية جماعية بقراءة كل ما وقع تحت يدي من الكتب. بدأتُ أنحتُ لنفسي شخصية الشاب الجاد المتعالي على أحاديث الجنس «المبتذلة»، وكوّنتُ صداقات متينة في المدرسة مع شباب مجتهدين طيبين لم يتحدثوا عن غرائزهم كثيراً. كنتُ أتعرض بين الحين والآخر لتنمّر يطعن في ذكورتي فأشعر وكأني عدت إلى نقطة البداية، لكني لم أيأس قط، اقتنعت بكل جوارحي أني إن جهدتُ بما يكفي، وسيطرتُ على نفسي بما يكفي، وتغيرتُ بما يكفي، لا بد أن أندمج وأُقبل في نادي الرجال الفحول العظماء. لكن الأحلام لم تتوقف. بل باتت أشد وضوحاً ووقاحة. اختفى منها صبية المدرسة وحلّ محلّهم أبطال مسلسلات أجنبية كانت تُعرض على القناة الثانية أولاً، ومن ثم على القنوات الفضائية. كنتُ أستيقظ في الصباح، أتذكر أحداث الحلم فأشعر وكأن العالم ينفجر ضاحكاً على جهودي البائسة، ومن ثم أقنع نفسي أن ما يحدث لي امتحان من الله لا بد أن ينتهي سريعاً، أو أن هذه مرحلة نفسية مؤقتة لا بدّ أن يعقبها في النهاية المرحلة «الطبيعية».
 
قضيتُ كل سنين المرحلة الثانوية محاولاً الهرب من أحلامي. لكنها لم تتوقف. انكببتُ على كل ما وجدت فيه مصدراً للخير والنجاح والاحترام. بدأتُ بالمواظبة على صلاة الجمعة وقراءة القرآن. ضاعفتُ من جهودي في المدرسة واستبدلتُ محاولاتي الفاشلة في ممارسة رياضية جماعية بقراءة كل ما وقع تحت يدي من الكتب. بدأتُ أنحتُ لنفسي شخصية الشاب الجاد المتعالي على أحاديث الجنس «المبتذلة»، وكوّنتُ صداقات متينة في المدرسة مع شباب مجتهدين طيبين لم يتحدثوا عن غرائزهم كثيراً. كنتُ أتعرض بين الحين والآخر لتنمّر يطعن في ذكورتي فأشعر وكأني عدت إلى نقطة البداية، لكني لم أيأس قط، اقتنعت بكل جوارحي أني إن جهدتُ بما يكفي، وسيطرتُ على نفسي بما يكفي، وتغيرتُ بما يكفي، لا بد أن أندمج وأُقبل في نادي الرجال الفحول العظماء. لكن الأحلام لم تتوقف. بل باتت أشد وضوحاً ووقاحة. اختفى منها صبية المدرسة وحلّ محلّهم أبطال مسلسلات أجنبية كانت تُعرض على القناة الثانية أولاً، ومن ثم على القنوات الفضائية. كنتُ أستيقظ في الصباح، أتذكر أحداث الحلم فأشعر وكأن العالم ينفجر ضاحكاً على جهودي البائسة، ومن ثم أقنع نفسي أن ما يحدث لي امتحان من الله لا بد أن ينتهي سريعاً، أو أن هذه مرحلة نفسية مؤقتة لا بدّ أن يعقبها في النهاية المرحلة «الطبيعية».
سطر 133: سطر 133:  
   
 
   
   −
-3-
+
==3==
    
عدت إلى سوريا بعد شهور قليلة من تلك الليلة الرهيبة، وبدون تفكير وتمحيص كثيرين (أو ربما بعد تفكير وتمحيص دام عمراً بحاله)، انتهزت أول فرصة لأذهب إلى بيروت وأبحث عن شاب فلسطيني كنت قد التقيتُه هناك مرة، وقيل لي بعدها أنه يجاهر بمثليته. وجدته و«أخبرته عن نفسي» بجمل قليلة شديدة البطء ومخارج حروف ممطوطة ومبهمة، وشعرت تماماً وكأن صخوراً تزن أطناناً أُزيحت للمرة الأولى عن صدري وكاهلي.
 
عدت إلى سوريا بعد شهور قليلة من تلك الليلة الرهيبة، وبدون تفكير وتمحيص كثيرين (أو ربما بعد تفكير وتمحيص دام عمراً بحاله)، انتهزت أول فرصة لأذهب إلى بيروت وأبحث عن شاب فلسطيني كنت قد التقيتُه هناك مرة، وقيل لي بعدها أنه يجاهر بمثليته. وجدته و«أخبرته عن نفسي» بجمل قليلة شديدة البطء ومخارج حروف ممطوطة ومبهمة، وشعرت تماماً وكأن صخوراً تزن أطناناً أُزيحت للمرة الأولى عن صدري وكاهلي.
سطر 182: سطر 182:       −
ـ4ـ
+
==4==
    
أما وقد بُحتُ بأدق تفاصيل حياتي ووصلتُ إلى نهاية هذا النص الطويل، بقي فقط أن أعترف أن اسمي ليس رئيف واسم عائلتي ليس شلبي. ولكن لي أباً يرى العالم في ضوء عيوني، بات اليوم على مشارف الثمانين. كنتُ كلما أتذكره أثناء الكتابة أشعر بأنياب ومخالب تخرج من الطاولة والكرسي وتنغرس في قلبي وأحشائي. لن أكسر قلب والدي الذي أفنى عمره من أجل سعادتي. لن أخبره بحقيقتي وأجازف بصحته ومحبته واعتزازه بي. سأبكي عليه يوم يموت بحرقة مضاعفة، حرقة خسارته وحرقة جهله الطويل بأهم قصة في حياتي، لكني لن أجازف وأراه مكسوراً مصعوقاً حزيناً أو ظالماً قاسياً غضوباً. معه ومن أجله فقط، سأتعايش مع ذلك المزيج الغريب من التورية والكذب الذي أطلق عليه العرب قديماً كلمة «تقية»، أما بعده ومع سواه، فلا بديل لي عن الحقيقة. لا بديل لنا جميعاً.
 
أما وقد بُحتُ بأدق تفاصيل حياتي ووصلتُ إلى نهاية هذا النص الطويل، بقي فقط أن أعترف أن اسمي ليس رئيف واسم عائلتي ليس شلبي. ولكن لي أباً يرى العالم في ضوء عيوني، بات اليوم على مشارف الثمانين. كنتُ كلما أتذكره أثناء الكتابة أشعر بأنياب ومخالب تخرج من الطاولة والكرسي وتنغرس في قلبي وأحشائي. لن أكسر قلب والدي الذي أفنى عمره من أجل سعادتي. لن أخبره بحقيقتي وأجازف بصحته ومحبته واعتزازه بي. سأبكي عليه يوم يموت بحرقة مضاعفة، حرقة خسارته وحرقة جهله الطويل بأهم قصة في حياتي، لكني لن أجازف وأراه مكسوراً مصعوقاً حزيناً أو ظالماً قاسياً غضوباً. معه ومن أجله فقط، سأتعايش مع ذلك المزيج الغريب من التورية والكذب الذي أطلق عليه العرب قديماً كلمة «تقية»، أما بعده ومع سواه، فلا بديل لي عن الحقيقة. لا بديل لنا جميعاً.
staff
2٬190

تعديل

قائمة التصفح