تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ط
اضافة روابط داخلية
سطر 35: سطر 35:  
**
 
**
   −
أتخيّلُ الآن ممثلاً يبدأ في تأدية دور بشكل أخرق، فينهال عليه الجمهور بسياط جلد حقيقية. يدفعه العذاب ليتحسّن، فيبدأ بمراقبة ممثلين آخرين ناجحين وتقليدهم باجتهاد. لم يمتلك موهبتهم الطبيعية لكنه مع الوقت أتقن كثيراً من الأمور، ضبط حركته، صوته، وسيطر على انفعالاته، وفي لحظة ما بدأ يشعر وكأنه يحقق بعض النجاح. شيءٌ شبيه بهذا بدأ يحدث لي في المرحلة الإعدادية: صادقتُ أولاداً في شارع بيتنا وأرغمتُ نفسي على لعب كرة القدم معهم، بدأتُ بكسب بعض الاحترام في المدرسة بفضل مزيج من الاجتهاد الدراسي والقدرة على التقرّب من صبية نجوم أشداء وتقمُّص طباعهم. أتخيلهم الآن ماثلين أمامي بابتساماتهم الجريئة وعطفهم العابر. أتذكّر مثلاً كيف أني في خضّم سعيي المحموم لذكورة ناجزة قررتُ أن تهذيب كلامي اليومي يحمل شبهة ضعف وأنوثة. انتزعتُ ورقة من أحد دفاتري ووضعت قائمة مضحكة بجميع الكلمات النابية التي كنت أسمعها حولي، وعزمت أن أبدأ بتطعيم كلامي ببعض البذاءة كدليل على نضجي وفحولتي. في مرة أخرى، وجدت نفسي مع الأقوياء المتنمرين أمارس طقوس السخرية والرفض والتعذيب النفسي على ولد ضعيف آخر، فلا شيء يعبّر عن نجاح المرء في الاندماج كرفضه وتحقيره لأبناء جلدته «السابقين»! لم تختفِ السياط تماماً، لكنها خفّت بشكل مُشجّع. ولم أتوقف أنا لثانية واحدة منذ ذلك الحين عن محاولة تحسين «أدائي».
+
أتخيّلُ الآن ممثلاً يبدأ في تأدية دور بشكل أخرق، فينهال عليه الجمهور بسياط جلد حقيقية. يدفعه العذاب ليتحسّن، فيبدأ بمراقبة ممثلين آخرين ناجحين وتقليدهم باجتهاد. لم يمتلك موهبتهم الطبيعية لكنه مع الوقت أتقن كثيراً من الأمور، ضبط حركته، صوته، وسيطر على انفعالاته، وفي لحظة ما بدأ يشعر وكأنه يحقق بعض النجاح. شيءٌ شبيه بهذا بدأ يحدث لي في المرحلة الإعدادية: صادقتُ أولاداً في شارع بيتنا وأرغمتُ نفسي على لعب كرة القدم معهم، بدأتُ بكسب بعض الاحترام في المدرسة بفضل مزيج من الاجتهاد الدراسي والقدرة على التقرّب من صبية نجوم أشداء وتقمُّص طباعهم. أتخيلهم الآن ماثلين أمامي بابتساماتهم الجريئة وعطفهم العابر. أتذكّر مثلاً كيف أني في خضّم سعيي المحموم [[ذكورة|لذكورة]] ناجزة قررتُ أن تهذيب كلامي اليومي يحمل شبهة ضعف وأنوثة. انتزعتُ ورقة من أحد دفاتري ووضعت قائمة مضحكة بجميع الكلمات النابية التي كنت أسمعها حولي، وعزمت أن أبدأ بتطعيم كلامي ببعض البذاءة كدليل على نضجي وفحولتي. في مرة أخرى، وجدت نفسي مع الأقوياء المتنمرين أمارس طقوس السخرية والرفض والتعذيب النفسي على ولد ضعيف آخر، فلا شيء يعبّر عن نجاح المرء في الاندماج كرفضه وتحقيره لأبناء جلدته «السابقين»! لم تختفِ السياط تماماً، لكنها خفّت بشكل مُشجّع. ولم أتوقف أنا لثانية واحدة منذ ذلك الحين عن محاولة تحسين «أدائي».
    
**
 
**
سطر 101: سطر 101:  
**
 
**
   −
في عالم كهذا، تبدو فيه المثلية نصف مرض ونصف جريمة، تختلط صورة الطبيب النفسي مع صورة الجلاّد المالك لقرار حياتك أو موتك. أن تذهب إلى طبيب نفسي في سورية في أوائل الألفية الجديدة لتخبره أنك «تعاني» من ميول جنسية مثلية يعني أولاً أن تسلم نفسك وأمانك وسيادتك على ذاتك لشخص غريب قادر أن يوردك موارد التهلكة بوسائل شتى. ماذا لو خان الأمانة وأخبر الآخرين عنك؟ ماذا لو قرّرَ أنك لا تحاول أقصى ما بوسعك لتشفى؟ ماذا لو استنتج بعد بضع جلسات أن حالتك «مستعصية» وستبقى مثلياً مدى الحياة؟ وماذا لو قرر إخضاعك لعلاجات تجريبية وحشية كالصدمات الكهربائية أو الإبر الهرمونية، تتركك معطوباً أو عاجزاً طيلة العمر؟
+
في عالم كهذا، تبدو فيه [[المثلية الجنسية|المثلية]] نصف مرض ونصف جريمة، تختلط صورة الطبيب النفسي مع صورة الجلاّد المالك لقرار حياتك أو موتك. أن تذهب إلى طبيب نفسي في سورية في أوائل الألفية الجديدة لتخبره أنك «تعاني» من ميول جنسية مثلية يعني أولاً أن تسلم نفسك وأمانك وسيادتك على ذاتك لشخص غريب قادر أن يوردك موارد التهلكة بوسائل شتى. ماذا لو خان الأمانة وأخبر الآخرين عنك؟ ماذا لو قرّرَ أنك لا تحاول أقصى ما بوسعك لتشفى؟ ماذا لو استنتج بعد بضع جلسات أن حالتك «مستعصية» وستبقى مثلياً مدى الحياة؟ وماذا لو قرر إخضاعك لعلاجات تجريبية وحشية كالصدمات الكهربائية أو الإبر الهرمونية، تتركك معطوباً أو عاجزاً طيلة العمر؟
    
في الواقع، لا أحد اختبر الجانب المظلم للطب النفسي كما مثليو ومثليات القرن العشرين، وليس من الصدفة برأيي أن رجلاً مثلياً يدعى ميشال فوكو كان سبّاقاً في النظر إلى هذا المجال «العلمي» بوصفه أداة للسيطرة والتحكم. تجلس أمام الرجل - كان رجلاً خمسينياً في حالتي أنا على الأقل - فيخبرك بجدية بالغة أن مشكلتك خطيرة، وأن عليك أن تبذل جهداً كبيراً لتتجاوزها. يتحدث بصرامة وهدوء فتشعر بموضوعية العلم وتجرده سلطةً أكثر بأساً وثقلاً من سخرية المتنمرين وزجر العائلة وزعيق رجال الدين. تلمح بطرف عينك صورته مع زوجته وأطفاله دون أن يخطر ببالك أنه رجل غيري لم يعش تجربتك يوماً، أو أنه رجل مكبوت شديد الرغبة في تصدير كبته، أو أنه على الأقل ابن مجتمعه وزمانه تشبّعَ بكراهية المثلية كما الناس جميعاً، لا يخطر ببالك كل هذا لأنك تفترض أن العلم يحصّن من الانحياز والمشاعر والمعتقدات الشخصية.
 
في الواقع، لا أحد اختبر الجانب المظلم للطب النفسي كما مثليو ومثليات القرن العشرين، وليس من الصدفة برأيي أن رجلاً مثلياً يدعى ميشال فوكو كان سبّاقاً في النظر إلى هذا المجال «العلمي» بوصفه أداة للسيطرة والتحكم. تجلس أمام الرجل - كان رجلاً خمسينياً في حالتي أنا على الأقل - فيخبرك بجدية بالغة أن مشكلتك خطيرة، وأن عليك أن تبذل جهداً كبيراً لتتجاوزها. يتحدث بصرامة وهدوء فتشعر بموضوعية العلم وتجرده سلطةً أكثر بأساً وثقلاً من سخرية المتنمرين وزجر العائلة وزعيق رجال الدين. تلمح بطرف عينك صورته مع زوجته وأطفاله دون أن يخطر ببالك أنه رجل غيري لم يعش تجربتك يوماً، أو أنه رجل مكبوت شديد الرغبة في تصدير كبته، أو أنه على الأقل ابن مجتمعه وزمانه تشبّعَ بكراهية المثلية كما الناس جميعاً، لا يخطر ببالك كل هذا لأنك تفترض أن العلم يحصّن من الانحياز والمشاعر والمعتقدات الشخصية.
سطر 151: سطر 151:  
إلى جانب تشاؤمي هذا، كان هناك شيء آخر: رغبة دفينة بالاندماج، غريزة تلقائية تدفعني للتصرف حسب القواعد بغية الحصول على عطف ورضا الناس. أفكر ملياً في السنوات الأولى لقبولي بمثليتي فأدرك أني كنت لا أزال أشعر بمزيج من العار والنقص لكوني مثلياً. كنت كمن قَبِلَ «عاهة» فيه، فبدأ يعمل جاهداً على تخفيف أثرها على حياته اليومية. لم أكن قادراً على أن أكون غيرياً، فأردت أن أكون أقرب شيء إلى ذلك: رجل مثليّ يكاد المجتمع الغيري لا يشعر بمثليته، رجل مثليّ لا يزعج المجتمع الغيري بالحديث عن مثليته، رجل مثليّ لا يحوّلُ مثليته لـ«قضية»، بل يحاول على العكس أن يثبت للمجتمع أنه جيد «على الرغم» من مثليته.
 
إلى جانب تشاؤمي هذا، كان هناك شيء آخر: رغبة دفينة بالاندماج، غريزة تلقائية تدفعني للتصرف حسب القواعد بغية الحصول على عطف ورضا الناس. أفكر ملياً في السنوات الأولى لقبولي بمثليتي فأدرك أني كنت لا أزال أشعر بمزيج من العار والنقص لكوني مثلياً. كنت كمن قَبِلَ «عاهة» فيه، فبدأ يعمل جاهداً على تخفيف أثرها على حياته اليومية. لم أكن قادراً على أن أكون غيرياً، فأردت أن أكون أقرب شيء إلى ذلك: رجل مثليّ يكاد المجتمع الغيري لا يشعر بمثليته، رجل مثليّ لا يزعج المجتمع الغيري بالحديث عن مثليته، رجل مثليّ لا يحوّلُ مثليته لـ«قضية»، بل يحاول على العكس أن يثبت للمجتمع أنه جيد «على الرغم» من مثليته.
   −
في قلب كل هذا كانت تتموضع قضية الرجولة. كنتُ قد قضيت عمراً بحاله أحاول الهرب من فشلي المبكر في أداء ذكورتي الاجتماعية، ولم إدرك أني نجحت في هذا إلّا، ولسخرية الأقدار، عند قبولي بمثليتي. في بارات بيروت وسهرات دمشق وعبر تطبيقات المواعدة شديدة الرواج منذ ذلك الحين، رحّب بي شباب شديدو الحرص على «رجولتهم» كواحد منهم، واكتشفتُ بسعادة وزهو أني حسب التقسيمات و«المعسكرات» الكثيرة التي تملأ عوالم المثليين أُصنّفُ كشاب «رجولي». لن يفهم كثيرٌ من البُلهاء من كارهي المثليين والمثليات هذه القضية، لانهم يعتقدون أصلاً أن المثلي هو بالتعريف الشاب «المؤنث». لكن الحقيقة هي أن هناك كمّاً هائلاً من أصحاب الميول المثلية ممن قد يقال عنهم في سياق أو آخر أنهم «لا يبدون مثليين»، وتلك صفة يحتفي بها كثيرٌ من هؤلاء أنفسهم. «رجولي»، «يتصرف كغيري»، «حمش»، «متكتم»، «لا يبدو عليه»: تلك مصطلحات يتداولها كثيرٌ من الرجال المثليين كصفات إيجابية يتمثلونها ويبحثون عنها في شريكهم. يدفعهم إلى ذلك ربما خليط من النوازع: ذائقة اجتماعية صنعها التاريخ تربط جمال الرجل وجاذبيته بـ «قوته» و«فحولته»، رضّات نفسية عميقة يحملونها من الطفولة والمراهقة تدفعهم للتركيز على، وربما حتى الهوس، برجولتهم، أو سعي برغماتي واضح لتفادي غضب المجتمع واضطهاده. لا أعلم تماماً ولا أملك سوى انطباعاتي الشخصية في هذا الشأن. لكن الأكيد هو أن الخلطة هذه تعيد إنتاج ثنائية الذكورة والأنوثة السلطوية ذاتها داخل عوالم مجتمع الميم، وتخلق لدى كثيرٍ من المثليين ممن يُصنِّفون أنفسهم كـ«رجوليين» شيئاً يتفاوت بين عدم الراحة والبرود والنبذ والتعالي وصولاً إلى الكراهية المعلنة لأبناء جلدتهم ممن يعتبرونهم «مؤنثين» أو «طانطات» أو «مشموسين» أو ببساطة «نساء». وبدلاً من الانخراط في نضال معلن يضعهم في صف واحد مع هؤلاء، يعتقد كثيرٌ من أصحاب الرجولة الفخورة بنفسها أنهم قادرون على تفادي أي اضطهاد من خلال أسلوب حياتهم النمطي، وقد يؤمنون في بعض الحالات القصوى أن المشكلة لا تكمن في المجتمع الغيريّ أصلاً، بل في «الطانطات» الذين يسيئون إلى صورة المجتمع المثلي بخنوثتهم، ويؤخرون قبول الغيريين له.
+
في قلب كل هذا كانت تتموضع قضية الرجولة. كنتُ قد قضيت عمراً بحاله أحاول الهرب من فشلي المبكر في أداء [[ذكورة |ذكورتي]] الاجتماعية، ولم إدرك أني نجحت في هذا إلّا، ولسخرية الأقدار، عند قبولي بمثليتي. في بارات بيروت وسهرات دمشق وعبر تطبيقات المواعدة شديدة الرواج منذ ذلك الحين، رحّب بي شباب شديدو الحرص على «رجولتهم» كواحد منهم، واكتشفتُ بسعادة وزهو أني حسب التقسيمات و«المعسكرات» الكثيرة التي تملأ عوالم المثليين أُصنّفُ كشاب «رجولي». لن يفهم كثيرٌ من البُلهاء من كارهي المثليين والمثليات هذه القضية، لانهم يعتقدون أصلاً أن المثلي هو بالتعريف الشاب «المؤنث». لكن الحقيقة هي أن هناك كمّاً هائلاً من أصحاب الميول المثلية ممن قد يقال عنهم في سياق أو آخر أنهم «لا يبدون مثليين»، وتلك صفة يحتفي بها كثيرٌ من هؤلاء أنفسهم. «رجولي»، «يتصرف كغيري»، «حمش»، «متكتم»، «لا يبدو عليه»: تلك مصطلحات يتداولها كثيرٌ من الرجال المثليين كصفات إيجابية يتمثلونها ويبحثون عنها في شريكهم. يدفعهم إلى ذلك ربما خليط من النوازع: ذائقة اجتماعية صنعها التاريخ تربط جمال الرجل وجاذبيته بـ «قوته» و«فحولته»، رضّات نفسية عميقة يحملونها من الطفولة والمراهقة تدفعهم للتركيز على، وربما حتى الهوس، برجولتهم، أو سعي برغماتي واضح لتفادي غضب المجتمع واضطهاده. لا أعلم تماماً ولا أملك سوى انطباعاتي الشخصية في هذا الشأن. لكن الأكيد هو أن الخلطة هذه تعيد إنتاج ثنائية الذكورة والأنوثة السلطوية ذاتها داخل عوالم مجتمع الميم، وتخلق لدى كثيرٍ من المثليين ممن يُصنِّفون أنفسهم كـ«رجوليين» شيئاً يتفاوت بين عدم الراحة والبرود والنبذ والتعالي وصولاً إلى الكراهية المعلنة لأبناء جلدتهم ممن يعتبرونهم «مؤنثين» أو «طانطات» أو «مشموسين» أو ببساطة «نساء». وبدلاً من الانخراط في نضال معلن يضعهم في صف واحد مع هؤلاء، يعتقد كثيرٌ من أصحاب الرجولة الفخورة بنفسها أنهم قادرون على تفادي أي اضطهاد من خلال أسلوب حياتهم النمطي، وقد يؤمنون في بعض الحالات القصوى أن المشكلة لا تكمن في المجتمع الغيريّ أصلاً، بل في «الطانطات» الذين يسيئون إلى صورة المجتمع المثلي بخنوثتهم، ويؤخرون قبول الغيريين له.
    
لم أتبنَ يوماً بشكل واعٍ آراء كهذه، لكني حرصت جداً على رجولتي، وفضّلتُ الابتعاد عن أي شخص قد يلفت الأنظار، وعندما أفكر بصدق الآن مع ذاتي، أدرك أنه كان في موقفي ذاك بعض «التقيّة» وبعض... التواطؤ.
 
لم أتبنَ يوماً بشكل واعٍ آراء كهذه، لكني حرصت جداً على رجولتي، وفضّلتُ الابتعاد عن أي شخص قد يلفت الأنظار، وعندما أفكر بصدق الآن مع ذاتي، أدرك أنه كان في موقفي ذاك بعض «التقيّة» وبعض... التواطؤ.
staff
2٬186

تعديل

قائمة التصفح