تغييرات

ط
لا يوجد ملخص تحرير
سطر 24: سطر 24:  
سواءَ كانت اللغة ناقلاً شفيفاً لحال الواقع، وللمنظومة الرمزية والنفسية الجمعية لاجتماعٍ بشري ما، أم كانت تصنع واقعاً اجتماعياً لاحقاً؛ أي سواءَ اعتقدنا بسابقية اللغة على الواقع، أو سابقية الواقع على اللغة، فإنه لا شيء أكثر مشروعية في كلا الحالتين من التساؤل عن العلاقة بين اللغة والجنسانية بالمعنى الاجتماعي، وعمّا تعكسه لغةٌ ما في هذا الشأن: كيف تُغيِّبُ لغةٌ ما الجندر والجنسانية أو تُظهرهما، وكيف تتعامل معهما، كيف تنصف اللغة جنساً أو تُميّزُ ضده؟ ثم كيف تواكب اللغة متغيرات عالمية متسارعة مثل النظرية الجندرية؟ هل يمكننا القول إن لغةً ما ذكوريةٌ بنيوياً؟ وإن كانت كذلك، فهل ثمة إمكانية لتفكيك تلك الذكورية عبر الحقبات والطبقات المتقادمة؟  
 
سواءَ كانت اللغة ناقلاً شفيفاً لحال الواقع، وللمنظومة الرمزية والنفسية الجمعية لاجتماعٍ بشري ما، أم كانت تصنع واقعاً اجتماعياً لاحقاً؛ أي سواءَ اعتقدنا بسابقية اللغة على الواقع، أو سابقية الواقع على اللغة، فإنه لا شيء أكثر مشروعية في كلا الحالتين من التساؤل عن العلاقة بين اللغة والجنسانية بالمعنى الاجتماعي، وعمّا تعكسه لغةٌ ما في هذا الشأن: كيف تُغيِّبُ لغةٌ ما الجندر والجنسانية أو تُظهرهما، وكيف تتعامل معهما، كيف تنصف اللغة جنساً أو تُميّزُ ضده؟ ثم كيف تواكب اللغة متغيرات عالمية متسارعة مثل النظرية الجندرية؟ هل يمكننا القول إن لغةً ما ذكوريةٌ بنيوياً؟ وإن كانت كذلك، فهل ثمة إمكانية لتفكيك تلك الذكورية عبر الحقبات والطبقات المتقادمة؟  
   −
إلا أنه حين يتم التطرق للّغة و[[الجنسانية]] وعلاقتهما ببعضهما، فكثيراً ما ينحو حدس عام ما إلى الخلط بين مستويين للمقاربة ليسا بالضرورة متقاربين، أولاً اللغة ك'''منظومة''' صوريّة قواعدية قديمة لا مدخل لإداركنا الزمني لها، وثانياً اللغة ك'''أداء''' مُترسّخ ومشروط بالاجتماع  والاجتماع السياسي والنفسانية من جهة أخرى. بتعبير أبسط، حين يتداول الناس مقولات من قبيل: اللغة العربية لغة [[ذكورية]] كارهة للنساء لأن تأنيث «نائب» هو «نائبة»، والنائبة في اللغة تعني «المصيبة»، فإنهم لا يضيفون أي نقد أو تفكيك لذكورية اللغة، أو بتعبير أكثر جرأة، لقضيبيتها. ففضلاً عن أن المقولة مضحكة وغير دقيقة لغوياً، فإن النظام النيابي لاحقٌ لمعجمية «نائبة»، والجِناس موجودٌ في كل لغات العالم ومصادفاته غير المُحبَّذة لا تقتصر على هذا الاعتباط، ولا على اللغة العربية. ثم إنه إذا أردنا فعلاً أن نعطي للتأنيث، بمعناه النحوي/الصرفي، دلالةً ما، دلالةً ما فوق نحوية، أي دلالةً سيميائية مرتبطة بالواقع، فإننا سنندهش إلى أي حد هو مهم في هذه اللغة، وإلى أي حد هو غير متسق في مفاداته القواعدية النحوية الصرفية، فالتأنيث يفيد التصغير التحببي أو التحقيري كما هو معروف، ولكنه كذلك يفيد التعظيم أو إضفاء القيمة: رجل/رجال/رجالات، بيت/بيوت/بيوتات.
+
إلا أنه حين يتم التطرق للّغة و[[الجنسانية]] وعلاقتهما ببعضهما، فكثيراً ما ينحو حدس عام ما إلى الخلط بين مستويين للمقاربة ليسا بالضرورة متقاربين، أولاً اللغة '''كمنظومة''' صوريّة قواعدية قديمة لا مدخل لإداركنا الزمني لها، وثانياً اللغة '''كأداء''' مُترسّخ ومشروط بالاجتماع  والاجتماع السياسي والنفسانية من جهة أخرى. بتعبير أبسط، حين يتداول الناس مقولات من قبيل: اللغة العربية لغة [[ذكورية]] كارهة للنساء لأن تأنيث «نائب» هو «نائبة»، والنائبة في اللغة تعني «المصيبة»، فإنهم لا يضيفون أي نقد أو تفكيك لذكورية اللغة، أو بتعبير أكثر جرأة، لقضيبيتها. ففضلاً عن أن المقولة مضحكة وغير دقيقة لغوياً، فإن النظام النيابي لاحقٌ لمعجمية «نائبة»، والجِناس موجودٌ في كل لغات العالم ومصادفاته غير المُحبَّذة لا تقتصر على هذا الاعتباط، ولا على اللغة العربية. ثم إنه إذا أردنا فعلاً أن نعطي للتأنيث، بمعناه النحوي/الصرفي، دلالةً ما، دلالةً ما فوق نحوية، أي دلالةً سيميائية مرتبطة بالواقع، فإننا سنندهش إلى أي حد هو مهم في هذه اللغة، وإلى أي حد هو غير متسق في مفاداته القواعدية النحوية الصرفية، فالتأنيث يفيد التصغير التحببي أو التحقيري كما هو معروف، ولكنه كذلك يفيد التعظيم أو إضفاء القيمة: رجل/رجال/رجالات، بيت/بيوت/بيوتات.
    
قد يُدرَس هذا الجانب القواعدي الصرف لموضوع التأنيث ضمن كل مكونات اللغة، ابتداءً من الصرف الذي يجعل كلمات مؤنثة أو مذكرة، ولماذا؟ أو النحو الذي يجعل اللغة العربية مثل كثيرٍ من اللغات تُصرِّفُ مجموع الإناث والذكور كمجموع ذكور، أو الذي يجعل جمع غير العاقل بالعربية يُصرَّف كمفرد مؤنث. لا شيء سديدٌ في تلك المقاربة، إلا من وجهة نظر نضالية صِرفة، تبتغي قسر اللغة لإبراز وعدم تغييب الجنسانيات الأخرى، كحال المقاربة التي تتبنى الإملاء التضميني في اللغات الغربية، وأحياناً في اللغة العربية (إنكلوسيف) على سبيل المثال، حين يُجمَع التذكير والتأنيث في كلمة واحدة. لا شيء سديد، على الأقل في زمننا الحالي،  في محاولة دراسة مرونة اللغة مع الجنسانيات بمقاربة كهذه. هذا لا يلغي أن أحدث الدراسات الألسنية حالياً تحاول أن تربط السمات القواعدية المجردة بعوامل اجتماعية وتداولية تاريخية، ولكن هذا المسار في الأبحاث جديد، وما زالت ثمراته بعيدة. مرة أخرى في هذا الصدد، فإن التأنيث في اللغة العربية هو الشكل الصرفي الأكثر كلفةً لمتكلم العربية ودماغه، أي أنه ليس الشكل الصرفي القاعدي، لذلك تغيب نون النسوة في معظم لهجاتنا المحكية، التي بسّطت العربية الفصحى عبر التاريخ باتجاه الأقل كلفة صرفية (ربما ما عدا اللهجة الجنوبية الحورانية، وبعض لهجات الجزيرة السورية والعراق ولهجات الخليج في المشرق العربي). الشكل القاعدي المبتذل هو التذكير. السؤال الآن: ما هو حكم القيمة الذي نعطيه للابتذال والسهولة من جهة، والكلفة الصرفية من جهة أخرى؟ أيهما أفضل؟ لا جواب على هذا السؤال، فهو سؤال غير معرفي، على الأقل تزامنياً. اللغة، كل لغة، تنتظم في جزء كبير من قواعدها، وهنا أؤكد أنني أتحدّثُ على المستوى القواعدي النحوي والصرفي، على الاعتباط والاستقلال عن الدلالة، ونحن هنا لا نعيد اختراع أي شيء، فهذا مبدأ أولي وبسيط في الألسنيات الحديثة.
 
قد يُدرَس هذا الجانب القواعدي الصرف لموضوع التأنيث ضمن كل مكونات اللغة، ابتداءً من الصرف الذي يجعل كلمات مؤنثة أو مذكرة، ولماذا؟ أو النحو الذي يجعل اللغة العربية مثل كثيرٍ من اللغات تُصرِّفُ مجموع الإناث والذكور كمجموع ذكور، أو الذي يجعل جمع غير العاقل بالعربية يُصرَّف كمفرد مؤنث. لا شيء سديدٌ في تلك المقاربة، إلا من وجهة نظر نضالية صِرفة، تبتغي قسر اللغة لإبراز وعدم تغييب الجنسانيات الأخرى، كحال المقاربة التي تتبنى الإملاء التضميني في اللغات الغربية، وأحياناً في اللغة العربية (إنكلوسيف) على سبيل المثال، حين يُجمَع التذكير والتأنيث في كلمة واحدة. لا شيء سديد، على الأقل في زمننا الحالي،  في محاولة دراسة مرونة اللغة مع الجنسانيات بمقاربة كهذه. هذا لا يلغي أن أحدث الدراسات الألسنية حالياً تحاول أن تربط السمات القواعدية المجردة بعوامل اجتماعية وتداولية تاريخية، ولكن هذا المسار في الأبحاث جديد، وما زالت ثمراته بعيدة. مرة أخرى في هذا الصدد، فإن التأنيث في اللغة العربية هو الشكل الصرفي الأكثر كلفةً لمتكلم العربية ودماغه، أي أنه ليس الشكل الصرفي القاعدي، لذلك تغيب نون النسوة في معظم لهجاتنا المحكية، التي بسّطت العربية الفصحى عبر التاريخ باتجاه الأقل كلفة صرفية (ربما ما عدا اللهجة الجنوبية الحورانية، وبعض لهجات الجزيرة السورية والعراق ولهجات الخليج في المشرق العربي). الشكل القاعدي المبتذل هو التذكير. السؤال الآن: ما هو حكم القيمة الذي نعطيه للابتذال والسهولة من جهة، والكلفة الصرفية من جهة أخرى؟ أيهما أفضل؟ لا جواب على هذا السؤال، فهو سؤال غير معرفي، على الأقل تزامنياً. اللغة، كل لغة، تنتظم في جزء كبير من قواعدها، وهنا أؤكد أنني أتحدّثُ على المستوى القواعدي النحوي والصرفي، على الاعتباط والاستقلال عن الدلالة، ونحن هنا لا نعيد اختراع أي شيء، فهذا مبدأ أولي وبسيط في الألسنيات الحديثة.
staff
2٬186

تعديل