تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رفع الجزء الثاني من المقال
سطر 2: سطر 2:  
  |نوع الوثيقة=مقالة رأي
 
  |نوع الوثيقة=مقالة رأي
 
  |العنوان=أبعد من منطق حماية الدولة: الدّفاع عن النّفس ذو الطّابع النّسوي في القاهرة بعد ثورة 25 يناير
 
  |العنوان=أبعد من منطق حماية الدولة: الدّفاع عن النّفس ذو الطّابع النّسوي في القاهرة بعد ثورة 25 يناير
  |مؤلف=نادية العلي
+
  |مؤلف=سوزانا غلان
 
  |محرر=
 
  |محرر=
 
  |لغة=ar
 
  |لغة=ar
سطر 63: سطر 63:     
وتصوّر الأنماط المحافِظة في الدفاع عن النفس إحدى هذه الشخصيّات – أو مزيجًا منها – كسببٍ يبرّر حاجتها إلى الحماية. وتبرز هنا صفوف الدفاع عن النفس التي تصفها لاتشينال (2014: 70)، والتي يشجّع فيها المدرّبُ النساءَ المشارِكات على تصوّر أنفسهنّ أمام بلطجيٍّ يوصف كرجلٍ “قذرٍ” و”سيّء الهندام”، ذي “ندوبٍ في الوجه”، و”يرتكب الجرائم لقاء المال” (المرجع السابق). ويحمل هذا التوصيف اختلافاتٍ طبقيّةً واضحةً بين المتدرّبات من الطبقات العليا والمتحرِّش المُتخيّل، كما يعكس مخاوف عميقةً لديهنّ من استباحة أجسادهنّ وأحيائهنّ وتلويثها في إثر ثورة 25 يناير. لكن بموازاة هذه الأشكال من الدفاع عن النفس المرتكزة على تحديد “الآخر” والتعبئة ضدّه، برزت في مصر بعد العام 2011 أنماطٌ أكثر راديكاليّةً في الدفاع عن النفس.
 
وتصوّر الأنماط المحافِظة في الدفاع عن النفس إحدى هذه الشخصيّات – أو مزيجًا منها – كسببٍ يبرّر حاجتها إلى الحماية. وتبرز هنا صفوف الدفاع عن النفس التي تصفها لاتشينال (2014: 70)، والتي يشجّع فيها المدرّبُ النساءَ المشارِكات على تصوّر أنفسهنّ أمام بلطجيٍّ يوصف كرجلٍ “قذرٍ” و”سيّء الهندام”، ذي “ندوبٍ في الوجه”، و”يرتكب الجرائم لقاء المال” (المرجع السابق). ويحمل هذا التوصيف اختلافاتٍ طبقيّةً واضحةً بين المتدرّبات من الطبقات العليا والمتحرِّش المُتخيّل، كما يعكس مخاوف عميقةً لديهنّ من استباحة أجسادهنّ وأحيائهنّ وتلويثها في إثر ثورة 25 يناير. لكن بموازاة هذه الأشكال من الدفاع عن النفس المرتكزة على تحديد “الآخر” والتعبئة ضدّه، برزت في مصر بعد العام 2011 أنماطٌ أكثر راديكاليّةً في الدفاع عن النفس.
 +
 +
'''الدفاع النسوي عن النفس ضدّ التحرّش الجنسي في المكان العام'''
 +
 +
في يوم 25 يناير من العام 2013، أي في الذكرى الثانية لثورة 2011، تعرّضت تسع عشرة امرأةٍ لاعتداءاتٍ جنسيةٍ جماعيّةٍ في ميدان التحرير وجواره (El Nadeem et al. 2013). ومثّلت هذه الهجمات تصعيدًا في “حلقات الجحيم” التي انتشرت في التظاهرات منذ يونيو 2012 (المرجع السابق: FIDH et al. 2014). وكانت هذه الحادثة المرّة الأولى التي تُصاب فيها نساءٌ عدّةٌ بالجراح الناجمة عن استخدام الشّفرات والأسلحة الأخرى (EIPR 2013). وردًّا على هذه الهجمات، نظّمت النساء مسيرةً يوم 6 فبراير من العام 2013 في وسط البلد في القاهرة، رافعاتٍ سكاكين المطبخ في الهواء وحاملاتٍ لافتاتٍ هدّدت بالثأر الجسدي من المعتدين (الصورة 2). وفي يوم 12 فبراير من العام 2013، دعت مجموعة “إنتفاضة المرأة في العالم العربي” الناشطة على شبكة الإنترنت، إلى تظاهرةٍ عالميّةٍ ضد الإرهاب الجنسي إدانةً لهذا العنف<ref>للمزيد من المعلومات عن التظاهرة، راجع/ي http://egyptianchronicles.blogspot.com/2013/02/globalprotestfeb12-world-... و https://twitter.com/search?q=%23GlobalProtestFeb12.</ref>. وتحضيرًا لهذا الحدث، شاركت الرسّامة دعاء العدل على الإنترنت رسمًا يظهر المطربة المصريّة أم كلثوم حاملةً سكينًا مع تعليقٍ يقول “للصّبر حدود”. وانتشر رسم العدل على تويتر، كما أُعيد استخدامه لاحقًا في لافتاتٍ على صعيدٍ عالمي، ما ساهم في تعميم سرديّات الدفاع عن النفس في مصر وخارجها
 +
 +
لكن ممارسات الدفاع الجماعي عن النفس كانت حاضرةً في ميدان التحرير منذ أواخر العام 2012. وفي 30 نوفمبر من العام 2012، نشأت مبادرة “قوّة ضد التحرّش” ردًّا على تعرّض تسع نساءٍ للإعتداء الجنسي في محيط الميدان<ref>للمزيد من المعلومات، راجع/ي https://www.facebook.com/opantish/?fref=ts and https://twitter.com/OpAntiSH.</ref>، وكانت مهمّتها المباشرة منع ووقف الإعتداءات الجنسية الجماعية التي غدت شائعةً في المنطقة آنذاك، واستخدام العنف حينما يلزم الأمر. ولهذا الغرض، إعتمدت المبادرة على عددٍ متزايدٍ من المتطوّعين/ات من الشابّات والشبّان الذين/اللواتي كانوا/كنّ ناشطين/ات في التظاهرات أو في مجموعاتٍ تعمل على مسائل التحرّش والإعتداء الجنسي في المكان العام، مثل “نظرة للدراسات النسوية” أو “خريطة التحرّش” (HarassMap). وكما تلحظ دالية عبد الحميد، مسؤولة الجندر وحقوق النساء في “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” (EIPR) والمتطوّعة في “قوّة ضد التحرّش”، فإنّ “قوّة ضد التحرّش” تحدّت “التقسيم النمطيّ للعمل” الذي ينصّ على وجوب مشاركة الرجال فقط في فرق التدخّل التي كانت تنقذ النساء المُعتدى عليهنّ، إذ رفضت المجموعة منذ البداية حصر دور المتطوّعات في المهمّات والدّعم اللّوجستي (مقابلة 16 مارس، 2015).
 +
 +
وعرّفت مبادرة “قوّة ضد التحرّش” عن نفسها كمشروعٍ “يساري-نسوي-ثوري”، رافضةً السرديّات التي فعّلت مفاهيم الشرف لإدانة العنف الجنسي في المكان العام، أو تلك التي خاطبت المنطق الذكوري الحمائي مطالبةً الرجال بمعاملة الناشطات كما يعاملون أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم (المرجع السابق). وبالنسبة إلى الصحافية والمتطوّعة في “قوّة ضد التحرّش” ياسمين الرفاعي، فإنّ العمل التعاوني والنقاشات التي نتجت عن الجهود الذاتية للتنظيم الذاتي، كانت “تحويليّة بشدّةٍ” ومثّلت تجربةً تعلّميةً لمئات المتطوّعين/ات الذين/اللواتي شاركوا/شاركن فيها، ما سمح بمزيدٍ من التفاعلات النقديّة مع مسألة العنف الجنسي في المكان العام في مصر (مقابلة 28 مارس، 2015). وفي الوقت الذي توقّفت فيه “قوّة ضد التحرّش” عن العمل في ميدان التحرير في إثر الإنقلاب العسكري في 3 يوليو من العام 2013، كانت المجموعة وضعت نظامًا بالغ الدقّة لمجابهة العنف ضد النساء في التظاهرات. وإلى جانب الفرق التي كانت تتدخّل مباشرةً لوقف الإعتداءات، كانت هناك فرق حمايةٍ تنقل الناجيات إلى مكانٍ آمنٍ أو إلى المستشفى، و”فرق الميدان” التي كانت توزّع الرقم الساخن في الميدان، وفرق الكشّافة التي كانت تراقب المنطقة من على سطوح المباني والشرفات، بالإضافة إلى غرفة العمليّات التي كانت تنسّق ما بين الفرق المختلفة. كذلك تعاونت المبادرة مع كلٍّ من “نظرة” و”مركز النديم” لتوفير الدعم الطبّي والقانوني والنفسي للناجيات.
 +
 +
وبعيدًا عن ميدان التحرير، برزت أمثلةٌ أخرى من الدفاع النسوي عن النفس منذ العام 2013 في القاهرة وفي غيرها من المدن، كمبادرة “ويندو مصر” (WenDo Egypt) التي تقدّم ورش عملٍ للدفاع عن النفس، يمكن فيها للنساء تعلّم كيفية الردّ باستخدام تعابير الوجه والصّوت ولغة الجسد عندما يتجاوز أحدٌ ما حدودهنّ، وكيفية تطوير التقنيات الجسدية للدفاع عن أنفسهنّ ضدّ معتدٍ ما. وهذا الصفّ الذي تعلّمه نساءٌ وتحضره نساءٌ فقط، يوفّر مساحةً آمنةً تمكّن المشارِكات من كافّة الأعمار، والأشكال، والأحجام، والقدرات ومستويات اللّياقة البدنية من اكتساب مهاراتٍ عمليّةٍ يمكنهنّ استخدامها في المواقف الخطرة، ويتيح لهنّ في الوقت عينه استكشاف جذور مخاوفهنّ وتردّدهن في الردّ على التطفّلات الجنسية، عبر الدفاع عن النفس باستخدام الأدوات اللفظيّة والجسديّة. وبحسب مدرّبة ويندو فاطمة عاطف، فإنّ نقص الثقة بالنفس لدى النساء وتصوّرهن بأنهنّ “لسن قادراتٍ كفايةً للدفاع عن أنفسهنّ” هما السبب وراء هذه الممانعة (مقابلة 18 أبريل، 2015).
 +
 +
ومن أجل تعزيز الإصرار لدى النساء، يمنح المقرّر وقتًا وافيًا للنقاشات بما يمكّن المشارِكات من معاينة تمثيلاتهنّ وسلوكهنّ في المكان العام ضمن بيئةٍ غير حُكْميّةٍ، ويتيح لهنّ تطوير تصرّفاتٍ بديلةٍ بدعمٍ من زميلات الصفّ، ومن خلال لعب الأدوار الذي يعيد خلق مواقف التحرّش في الأماكن العامة. وكما تشير مدرّبة ويندو كاميليا القاضي، فقد جرى تعليم النساء أن يكنّ “فتياتٍ صالحاتٍ”، وأن يمشين خافضاتٍ أبصارهنّ وأن يتحدّثن بصوتٍ منخفض (مقابلة 4 أبريل، 2015). ومن خلال التحديق بتحدٍّ في عينَي المدرّبة التي تؤدّي دور المتحرّش، والصّراخ “كفاية” أو “خلاص”، أو الدّفع “به” جانبًا، تبدأ المتدرّبات بالتخلّص من هذه العادات عبر تفعيل الحركات التي تنحرف عن مسرد التصرّفات الجسمانيّة التي تنصّ عليها معاييرُ الأنوثة المهيمِنة. كمجموعةٍ، تتعلّم النساء معًا أنهنّ قادراتٌ ولهنّ الحقّ في الدفاع عن أنفسهنّ.
 +
 +
وعلى نحوٍ لا يشابه صفوف الدفاع عن النفس التي تصفها لاتشينال (2014)، لا يستهدف ويندو بالضرورة الشخص الغريب المختبئ في الظلام. وكما تشير مدرّبة ويندو أخرى، فإنّ معظم المشارِكات يواجهن بعض أشكال التحرّش “الأكثر دوامًا” في أماكن العمل، وهو جانبٌ يتطرّق إليه الصف بطريقةٍ غير مباشرة (مقابلة 27 أبريل، 2015)<ref>فضّلت هذه المدرّبة البقاء مجهولة الهويّة.</ref>. وبحسب شيرين سالم، مؤسّسة “ويندو مصر”، فإنّ أثر هذا التدريب في ثقة النساء بأنفسهنّ واحترامهنّ لذواتهنّ “يتسرّب إلى مجالات الحياة الأخرى”، ما يساعدهنّ في مواجهة مواقف التحرّش اليومية (مقابلة 19 مايو، 2015). وعلى نحوٍ مماثلٍ، تشير القاضي إلى أنّ ويندو هو “نمط حياةٍ” يمكن استخدامه كوسيلةٍ لتعزيز الحدود العاطفية والجسدية، ولحماية الذات من الإنتهاك على يد الغرباء أو الزملاء أو الأقرباء.
 +
 +
 +
وبرز في كافّة المقابلات التي أجريتها مع مدرّبات ويندو، الأثرُ الذي تركه تعلّم الدفاع عن النفس في حيواتهنّ: “كنت أشعر بعدم الإرتياح وبالخجل عندما كان أحدٌ ما ينظر إليّ، كأنما كنت أسير عاريةً”، تستذكر مدرّبة ويندو ياسمين ناصف، التي تعبّر اليوم عن شعورها بالـ”أمان” في الأماكن العامة (مقابلة 2 أبريل، 2015). كذلك تشدّد عاطف على تعزيز التدريب حسّ التضامن بين النساء اللواتي يشعرن بضرورة “الدفاع عن الفتيات الأخريات” في الشوارع وفي غيرها من الأماكن. ولهذا الأثر المضاعف تبعاتٌ هامّةٌ يمكنها المساهمة في الحدّ من انتشار العنف الجنسي في المكان العام في مصر، إذ كما تجادل سالم، لو ازداد دعم النساء لبعضهن البعض في الردّ على التحرّش الجنسي، فإنّ الرجال “سيفكّرون مرّتين” قبل الإقدام على التحرّش بهنّ.
 +
 +
تختلف تعبيرات الدفاع عن النفس المذكورة أعلاه عن الأمثلة الواردة في القسم السابق، نظرًا لكونها تهدف إلى قلب النظام الجندري القائم. والأبرز، أنّ الأنماط الراديكاليّة في الدفاع عن النفس لا تنتقي “الآخر” كتجسيدٍ للخطر، بل تتطرّق إلى الأسس البنيوية للعنف الجنسي في المكان العام. وفي ممارسات كلٍّ من “قوّة ضد التحرّش” و”ويندو مصر”، يظهر الدفاع عن النفس كفعل تمرّدٍ ورفضٍ للمنطق الجندري للحماية الذكورية. ووفق هذا المنطق، يوضع الرجال في موقع السيطرة بموجب دورهم كحماةٍ للنساء والأطفال، اللواتي/الذين يشغلون “موقعًا خاضعًا يتّسم بالإتكاليّة والطّاعة” (Young 2003: 2). ويدور خطاب الذكورة الحامية حول التمييز بين الرجال السيئين أو “المعتدين الأنانيين” من جهةٍ – كالمتحرّش وساكن العشوائيّات والبلطجي من الشخصيّات المذكورة أعلاه – ومن جهةٍ أخرى الرجال الصّالحين أو الحماة “ناكري الذات”، الذين يدافعون عن الضعيفات والضعفاء ضدّ تهديد أولئك (المرجع السابق: 4، راجع/ي أيضًا Griffin 1971: 30). وعلى نحوٍ مماثلٍ، تُبنى هذه السرديّة على التمييز بين “النساء الصّالحات” اللواتي يحسنّ التصرّف وبالتالي يستأهلن الحماية، والنساء “السيئات” أو “الساقطات” اللواتي يرفضن حسن التصرّف ويستأهلن بالتالي القصاص العلني المتمثّل بالتحرّش الجنسي أو الإغتصاب (Griffin 1971: 30; Peterson 1977: 361). وفي هذا الإطار، يعمل التحرّش الجنسي في المكان العام كتذكيرٍ مستمرٍّ بهشاشة النساء وحاجتهنّ إلى الحماية، في الوقت الذي يجبر فيه الخوفُ من الإغتصاب النساءَ على الإمتثال ويساهم في حفظ الخضوع الجندري (Griffin 1971: 33; Card 1996: 105).
 +
 +
يعمل منطق الحماية الذكورية على مستوى الدولة أيضًا، إذ يوثّق المؤرّخون/ات على نطاقٍ واسعٍ السيطرة على سلوكيّات وجنسانيّة النساء كأمرٍ محوريٍ في عمليّة بناء الدولة والأمّة في مصر (Baron 2006; Kozma 2011). إنّ التعدّي التدريجيّ للدولة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على المجالات المُدارة سابقًا من قبل الأسرة والمجتمع مثل شرف العائلة، أدّى إلى استبدال الأنماط التقليدية من التحكّم الإجتماعي ببيروقراطيّةٍ طبيّةٍ وقانونيّةٍ وقضائيّةٍ مشكّلةٍ حديثًا، حاولت فرض احتكارها على حماية النساء ومعاقبتهنّ (Baron 2006: 2). وهذا الدور الذي أوكلته الدولة لنفسها كـ”حاميةٍ ومعزّزةٍ” للشرف، هو دورٌ مقدّسٌ في القانون الجزائي (المرجع السابق: 15)<ref>أُعلن قانون العقوبات المصري في العام 1937 بعد الإستقلال الشكليّ لمصر عن بريطانيا في العام 1922. ويمثّل القانون المُصاغ بحسب المبادئ النابوليونية مراجعةً جذريةً لقانون العقوبات من العام 1904، والذي شكّل بدوره تحديثًا لقانون العام 1833 المُستوحى من القانون الفرنسي (Reza 2011: 180; Baron 2006: 7). وعلى نحوٍ مغايرٍ للقانون السّلطاني للعام 1855، جرّمت الأحكام الجديدة الإغتصاب بدلًا من فضّ البكارة السّابق للزواج (Kozma 2011: 120). وللمفارقة، ترك هذا التطوّر أثرًا ضارًا على النساء اللواتي لم يعد يُسمح لهنّ بتقديم الشّكاوى في المحكمة كما كان الحال سابقًا (المرجع السابق: 8). وفي السياق الجديد، صارت الشرطة تلعب دورًا محوريًا في التحقيق في قضايا الإغتصاب، مشكّلةً بالتالي “حائلًا” بين النساء والنظام القضائي (Sonbol 1997: 230). نتيجةً لذلك، باتت الشرطة ببساطةٍ تردّ كثيرًا من دعاوى الإغتصاب وهو وضعٌ مستمرٌّ حتى اليوم (المرجع السابق).</ref> وتحديدًا في المادّة 267 من قانون العقوبات التي تمنع “مواقعة الأنثى بغير رضاها”، لكنّها تعرّف الإغتصاب على أنّه اختراق القضيب للمهبل حصرًا، كما أنها لا تنطبق على الحالات التي تكون فيها المرأة زوجةً للمُعتدي (Reza 2011: 198; Sonbol 1996: 287). وتغطّي المادّتان 268 و269 أيّ نوعٍ آخرٍ من الإتصال الجنسي الذي لا يتمّ بالرّضى، لكن تسمية “هتك العرض” لا تشجّع النساء على تقديم الشكاوى القانونية نظرًا إلى دلالتها الضمنية على أنّ الناجية جرى “تلويثها”<ref> نظرًا للتعريف المحدود للإغتصاب في المادّة 267، يقع الإغتصاب الشرجيّ أو الفمويّ أو الإغتصاب بالأصابع والأغراض ضمن نطاق المادّة 268 (FIDH et al. 2014: 38).</ref> (FIDH et al. 2014: 19). بالإضافة إلى هذا، إنّ تركيز هاتين المادّتين على الرّضى يضع سلوك المرأة وموقعها الأخلاقي موضع سؤال. أخيرًا، وبينما لم يتضمّن قانون العقوبات أيّ أحكامٍ بشأن التحرّش الجنسي حتى العام 2014، فإنّ المادة 306 التي تجرّم أيّ فعلٍ أو قولٍ “يتضمّن بأيّ وجهٍ من الوجوه خدشًا للشرف أو الإعتبار” (خدش الحياء) إستُخدمت عمومًا في هذه الحالات، ما عزّز المفهوم القائل بأنّ الإعتداء الجنسي يضرّ بشرف المرأة (Abdelmonem 2015: 26).
 +
 +
في تأمّلها في “الأخلاقيّة مزدوجة المعايير” التي تُرسي قواعد سلوكيّةً مختلفةً للرجال وللنساء في القانون وفي الممارسة، تورد بيترسون (Peterson 1977: 360) وصفها الشّهير للدّولة بأنّها مضربُ حمايةٍ للذّكور، مجادلةً بأنّ النساء يصبحن “زبائن ضحيّاتٍ وغير راغباتٍ” لخدمات الحماية من الدولة نظرًا لعدم قدرتهنّ على الإعتماد على بعضهنّ البعض (المرجع السابق: 368). وبصفتها نوعًا من نقابة لتنظيم الجريمة، توفّر الدولة الحمايةَ للنساء في مقابل قيودٍ معيّنةٍ على سلوكهنّ، فالنساء اللواتي يرفضن صفقة حماية الدولة يُحمّلن مسؤوليّة أيّ عنفٍ يواجهنه كنتيجةٍ لإثبات ذواتهنّ، بما في ذلك العنف الذي ترتكبه الدولة بحقّهن (Card 1996: 105). في هذه الحال، وكما في أشكال الحماية الذكورية الواردة أعلاه، يغدو الخطر الأكبر على النساء هو ذاك المتمثّل بحماتهنّ (Stiehm 1982: 373). وتلحظ الباحثات النسويات أنّ علاقة التبعيّة هذه تتفاقم نتيجة الأنوثة المهيمِنة الموصوفة بالهشاشة، والإنهزاميّة والأجساد الضعيفة بدنيًا التي تقع فريسةً سهلةً للإعتداء الجنسي (Griffin 1971: 33; McCaughey 1997: 37). وهذه الحاجة المتصاعدة إلى الحماية تقود إلى القبول بـ”قوّةٍ أكثر أبويّةً واستبدادًا للدولة” (Young 2003: 2).
 +
 +
وتتجسّد صفقة الحماية هذه في اعتماد السّيسي مؤخرًا سلسلةً من التدابير القانونية والسياسية ضدّ التحرّش الجنسي التي تصادر وتقصي عقودًا من النضال ضد التحرّش في المكان العام. ومن بين هذه التدابير تفعيل وحدةٍ مسؤولةٍ عن مراقبة العنف ضد النساء، وتعديل قانون العقوبات في يونيو من العام 2014 لتجريم التحرّش الجنسي، وإنشاء قوّةٍ نسائيّةٍ من الشرطة لمكافحة التحرّش (Ahram Online 2014; Hassanein 2014). كذلك قام “المجلس القومي للمرأة” التابع للدولة بوضع “الإستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف ضد النساء” التي عُرضت بفخرٍ في مايو من العام 2015، بصفتها المقاربة المتكاملة للدولة لمكافحة العنف ضد النساء في المجالَين العام والخاص (NCW 2015). وعلى الرغم من أنّ الإستراتيجيّة تطرح مسألةً هامّةً وعاجلةً، إلا أنها تبقي على تعريفٍ محدودٍ للإغتصاب لا يشمل الإغتصاب بالأصابع والأغراض، أو الإغتصاب الشرجيّ والقمويّ بغضّ النظر عن الجندر، كما تستمرّ باستخدام “اللغة المشحونة أخلاقيًا” المتّصلة بشرف المرأة، لاسيما في ما يتعلّق بالإعتداء الجنسي الذي لازال يُشار إليه كـ”هتك عرض” (EIPR 2015، راجع/ي أيضًا “نظرة للدراسات النسوية” 2015). بالإضافة إلى ذلك، إنّ التركيز على التجريم يضع التعامل مع هذه القضية الحسّاسة في يد الشرطة المعروفة باستخدامها العنف المفرط (والشهيرة أيضًا بالتحرش بالنساء في أوقات الخدمة). إنها بالتحديد المعايير المزدوجة المذكورة أعلاه، تلك التي تسمح للنظام بإعلان نفسه حاميًا للنساء، في الوقت الذي يكثّف فيه ممارسة العنف والتعذيب الجنسي بحقّ المعتقلين/ات من الرجال والنساء في مراكز الشرطة (FIDH 2015). وفي ما يبدو تكرارًا للخطاب المُصاغ في العام 2011 لتبرير فحوص العذريّة، بنى السّيسي على خطاب الرجال “الأشرار” والنساء “الساقطات” لتقديم نفسه كبطريركٍ خيّرٍ، ولاستدعاء حقّه (وبالتالي حقّ مصر) في الدفاع عن النفس بإسم الأمن ضدّ أعداء الداخل الأخلاقيين/ات والسياسيين/ات.
 +
 +
من أجل تصحيح هذا الوضع، دعت ستيهم (Stiehm 1982: 374) إلى نشوء مجتمعٍ من المدافعين/ات “لا توجد فيه أدوار الحامي والمحميّة”. وعلى هذا النحو، أجادل أنّ الأنماط الراديكاليّة من الدفاع عن النفس كتلك التي روّجت لها “قوّة ضد التحرّش” و”ويندو”، تساهم بشكلٍ هامٍّ في تفكيك منطق الحماية الذكورية وحماية الدولة، وكذلك معايير الأنوثة المهيمِنة التي تكمن في صلب تواطؤ الدولة لتكريس العنف الجنسي ضد النساء. وعبر العمل المباشر وخلق مجتمعاتٍ تضامنيّة، تحوّل هاتان المبادرتان تجارب النساء مع أجسادهنّ والمكان العام وعلاقاتهنّ بالآخرين والأخريات، وتساهم من خلال هذا في خلق بنًى أفقيّة من العناية التي تمتدّ عبر الروابط الأسريّة والإجتماعيّة. وتمثّل طرق التنظيم المستقلّة ذاتيًا شكلًا من أشكال مقاومة المقاربات النزوليّة للتحرّش الجنسي في المكان العام، والمفضّلة لدى الدّولة. بهذا المعنى، تسجّل هذه المشاربع وجودها ضمن صراعاتٍ أكبر من الدفاع عن النفس المستقلّ ذاتيًا ضدّ عنف الدولة (Üstündağ 2015).
       
==هوامش==
 
==هوامش==
staff
2٬186

تعديل

قائمة التصفح