تغييرات

ط
تنسيق
سطر 24: سطر 24:     
[[ملف:كحل مجلد ٦.png|تصغير]]
 
[[ملف:كحل مجلد ٦.png|تصغير]]
تقديم
+
==تقديم==
    
ينبغي أن تُفهَم حوادث العنف الجنسي، كالتحرش والاغتصاب على سبيل المثال، بوصفها كذلك، كي يَتسنّى اتّخاذ ما يَلزَم لمجابهتها. لأجل هذا الغرض، تُحاول المجتمعات، رسمية أو غير رسمية، تطوير نظم مختلفة للاستجابة لهذا النوع من العنف. لكن، ماذا لو لم تتمكّن الإجراءات المتّبعة في تلك النظم من التعرّف على العنف الجنسي، ومن ثمّ اتخاذ ما يلزم لمنعه؟ يحاول هذا البحث طرح العدالة الانتقالية كمقاربةٍ بديلةٍ حيال العنف الجنسي. كذلك فإنه يفتح الباب للنقد الذاتي وتحليل كيف تعاملت كلّ من الحركة [[نسوية|النسوية]] المصرية ومنظمات المجتمع المدني والمجموعات غير المنتظمة مع قضية "فتاة الإيميل" على وجه الخصوص، وقضايا العنف الجنسي إجمالًا. هذا البحث هو وقتٌ مستقطع أو فسحةُ للتأمل في كَنَه وأسباب ما حدث، وكيف تفاعلنا معه كنسويات مصريات. وإن لم يكن بوسعنا التخلص من العنف الجنسي بين عشيةٍ وضحاها، لم يزل بالإمكان النظر بعين النقد لتفاعلاتنا معه أملًا في مستقبل أكثر عدلًا.
 
ينبغي أن تُفهَم حوادث العنف الجنسي، كالتحرش والاغتصاب على سبيل المثال، بوصفها كذلك، كي يَتسنّى اتّخاذ ما يَلزَم لمجابهتها. لأجل هذا الغرض، تُحاول المجتمعات، رسمية أو غير رسمية، تطوير نظم مختلفة للاستجابة لهذا النوع من العنف. لكن، ماذا لو لم تتمكّن الإجراءات المتّبعة في تلك النظم من التعرّف على العنف الجنسي، ومن ثمّ اتخاذ ما يلزم لمنعه؟ يحاول هذا البحث طرح العدالة الانتقالية كمقاربةٍ بديلةٍ حيال العنف الجنسي. كذلك فإنه يفتح الباب للنقد الذاتي وتحليل كيف تعاملت كلّ من الحركة [[نسوية|النسوية]] المصرية ومنظمات المجتمع المدني والمجموعات غير المنتظمة مع قضية "فتاة الإيميل" على وجه الخصوص، وقضايا العنف الجنسي إجمالًا. هذا البحث هو وقتٌ مستقطع أو فسحةُ للتأمل في كَنَه وأسباب ما حدث، وكيف تفاعلنا معه كنسويات مصريات. وإن لم يكن بوسعنا التخلص من العنف الجنسي بين عشيةٍ وضحاها، لم يزل بالإمكان النظر بعين النقد لتفاعلاتنا معه أملًا في مستقبل أكثر عدلًا.
سطر 36: سطر 36:  
ومن الجدير الإشارة إلى أن هذه الورقة ليست بصدد مناقشة الإلغائية، فذلك يتطلّب ما لا يتسع له المقام هنا. ما أحاول طرحه هو نُظُم عدالةٍ بديلةٍ ورديفة كقنوات تختار الضحية/الناجي/ـة من بينها. أتحدّث من موقعي كنسوية مصرية شابة وكعضوة غير فاعلة في حزب "العيش والحرية" وكباحثة مستقلّة. وأعي محدِّدات عملي البحثي: بشكلٍ متعمّد لم ألتمس أي سبيل للتواصل مع الضحيّة / الناجية بغرض البحث، بُغية احترام قرارها بالانسحاب من المشهد والعملية برمّتها. كما لم يكن لدي اطلاع على تفريغ التحقيقات نظرًا لسريّة الملفات، ولم يتسن لي مقابلة المجموعات التي انخرطت ضمن مفاعيل القضية بسبب ضيق الوقت. عوضًا عن ذلك، أحاول من خلال تحليلي هذا أن أطرح تبنّي العدالة الانتقالية في السياق المصري، ضمن مساعينا الجمعية للتغلّب على المشاكل التي ظهرت لدى مجابهة العنف الجنسي بالوسائل غير الرسمية.
 
ومن الجدير الإشارة إلى أن هذه الورقة ليست بصدد مناقشة الإلغائية، فذلك يتطلّب ما لا يتسع له المقام هنا. ما أحاول طرحه هو نُظُم عدالةٍ بديلةٍ ورديفة كقنوات تختار الضحية/الناجي/ـة من بينها. أتحدّث من موقعي كنسوية مصرية شابة وكعضوة غير فاعلة في حزب "العيش والحرية" وكباحثة مستقلّة. وأعي محدِّدات عملي البحثي: بشكلٍ متعمّد لم ألتمس أي سبيل للتواصل مع الضحيّة / الناجية بغرض البحث، بُغية احترام قرارها بالانسحاب من المشهد والعملية برمّتها. كما لم يكن لدي اطلاع على تفريغ التحقيقات نظرًا لسريّة الملفات، ولم يتسن لي مقابلة المجموعات التي انخرطت ضمن مفاعيل القضية بسبب ضيق الوقت. عوضًا عن ذلك، أحاول من خلال تحليلي هذا أن أطرح تبنّي العدالة الانتقالية في السياق المصري، ضمن مساعينا الجمعية للتغلّب على المشاكل التي ظهرت لدى مجابهة العنف الجنسي بالوسائل غير الرسمية.
   −
ما هي العدالة الانتقالية؟
+
==ما هي العدالة الانتقالية؟==
    
كمنهجيةٍ لمعالجة العنف من منظورٍ اجتماعي، تُقدّم العدالة الانتقالية الغايات بعيدة الأمد على الحلول الآنيّة. وتُركّز على ضرورة العمل المنتظم والمتسق لتطوير سبل التصدّي للعنف الجنسي من خلال الوقت والتحالفات (العدالة الانتقالية والمساءلة المجتمعية، 2013) خلافًا للمنهجيات العقابيّة التي تعتمد على التقارير الرسمية وتدخل الدولة وتنتهي بالاعتقال، تعمل العدالة الانتقالية عبر مقاربة مجتمعية بحيث يُعزّز أحدهما الآخر (العدالة الانتقالية والمقاربة المجتمعية) (روسو، 2019: 89)، فالعنف ليس حدثاً فردياً وإنما هو فعلٌ نظاميٌ هيكلي يتجذّر في الماضي ويُمارَس في الحاضر. التحوّل من اليومي إلى الهيكلي يسمح لنا بفهم العوامل التي تُمكّن وتُغذّي العنف عبر إعادة إنتاج أنساقه.
 
كمنهجيةٍ لمعالجة العنف من منظورٍ اجتماعي، تُقدّم العدالة الانتقالية الغايات بعيدة الأمد على الحلول الآنيّة. وتُركّز على ضرورة العمل المنتظم والمتسق لتطوير سبل التصدّي للعنف الجنسي من خلال الوقت والتحالفات (العدالة الانتقالية والمساءلة المجتمعية، 2013) خلافًا للمنهجيات العقابيّة التي تعتمد على التقارير الرسمية وتدخل الدولة وتنتهي بالاعتقال، تعمل العدالة الانتقالية عبر مقاربة مجتمعية بحيث يُعزّز أحدهما الآخر (العدالة الانتقالية والمقاربة المجتمعية) (روسو، 2019: 89)، فالعنف ليس حدثاً فردياً وإنما هو فعلٌ نظاميٌ هيكلي يتجذّر في الماضي ويُمارَس في الحاضر. التحوّل من اليومي إلى الهيكلي يسمح لنا بفهم العوامل التي تُمكّن وتُغذّي العنف عبر إعادة إنتاج أنساقه.
سطر 52: سطر 52:  
   
 
   
   −
ملخّص عن الحالة الدراسيّة
+
==ملخّص عن الحالة الدراسيّة==
    
في 31 تشرين أول/أكتوبر 2017 تلقّت مجموعةٌ من النسويات المصريات رسالةً إلكترونية من سيّدة تروي فيها تفاصيل واقعتين للعنف الجنسي تعرّضت لهما خلال عملها لدى "المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية". في الواقعة الأولى قام أحد المحامين العاملين بالمركز، وهو محامٍ حقوقي ذائع الصيت، باغتصابها في العام 2014 تحت تأثير ثمالتها وغيابها عن الوعي. في الواقعة الثانية حاول مُرشّح رئاسي سابق مبادرتها بفعلٍ جنسي، كان بحسب وصفها أحد أكثر التجارب تقزّزًا في حياتها. دفع ذلك بالمرشح الرئاسي والمحامي الحقوقي6 المذكورين إلى الاستقالة من حزب "العيش والحرية" (سمير، 2018، مدى مصر، 2018). في كانون أول/ ديسمبر 2017، اتّفقت الحملة الانتخابية للمرشح المذكور مع الحزب على تشكيل لجنة تحقيق مستقلّة. وقرّرت اللجنة المُشكّلة عدم الحديث مع أيّ من الأطراف والإبقاء على مجريات التحقيق طيّ الكتمان تجنبًا للضغوط الخارجية. بالإضافة لذلك لم يَطرَح الحزب أو الحملة الانتخابية على الحلفاء7 من المجتمع النسوي مسألة دعم المرشح من عدمه أثناء "الادعاء"8 عليه بالتحرش.
 
في 31 تشرين أول/أكتوبر 2017 تلقّت مجموعةٌ من النسويات المصريات رسالةً إلكترونية من سيّدة تروي فيها تفاصيل واقعتين للعنف الجنسي تعرّضت لهما خلال عملها لدى "المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية". في الواقعة الأولى قام أحد المحامين العاملين بالمركز، وهو محامٍ حقوقي ذائع الصيت، باغتصابها في العام 2014 تحت تأثير ثمالتها وغيابها عن الوعي. في الواقعة الثانية حاول مُرشّح رئاسي سابق مبادرتها بفعلٍ جنسي، كان بحسب وصفها أحد أكثر التجارب تقزّزًا في حياتها. دفع ذلك بالمرشح الرئاسي والمحامي الحقوقي6 المذكورين إلى الاستقالة من حزب "العيش والحرية" (سمير، 2018، مدى مصر، 2018). في كانون أول/ ديسمبر 2017، اتّفقت الحملة الانتخابية للمرشح المذكور مع الحزب على تشكيل لجنة تحقيق مستقلّة. وقرّرت اللجنة المُشكّلة عدم الحديث مع أيّ من الأطراف والإبقاء على مجريات التحقيق طيّ الكتمان تجنبًا للضغوط الخارجية. بالإضافة لذلك لم يَطرَح الحزب أو الحملة الانتخابية على الحلفاء7 من المجتمع النسوي مسألة دعم المرشح من عدمه أثناء "الادعاء"8 عليه بالتحرش.
سطر 69: سطر 69:  
عُرِفَت القضية إعلاميًّا باسم "فتاة الإيميل" إلّا أنني قررتُ عمدًا استعمال اسمي خالد علي ومحمود بلال للإشارة لها. فمع الوقت، توارى الأشخاص المفترض بهم الخضوع للمساءلة وبقيت وحدها "فتاة الإيميل". يعكس هذا، في تصوّري، كيف تهجس حوادث العنف الجنسي الضحية/الناجي/ـة وتختزله/ـها في أن يُـ/تُعرف بدلالتها. في الوقت ذاته، يُخلي الرجال ساحتهم وتنجلي أسماؤهم مع الوقت مستفيدةً من المحو الاجتماعي للذاكرة.
 
عُرِفَت القضية إعلاميًّا باسم "فتاة الإيميل" إلّا أنني قررتُ عمدًا استعمال اسمي خالد علي ومحمود بلال للإشارة لها. فمع الوقت، توارى الأشخاص المفترض بهم الخضوع للمساءلة وبقيت وحدها "فتاة الإيميل". يعكس هذا، في تصوّري، كيف تهجس حوادث العنف الجنسي الضحية/الناجي/ـة وتختزله/ـها في أن يُـ/تُعرف بدلالتها. في الوقت ذاته، يُخلي الرجال ساحتهم وتنجلي أسماؤهم مع الوقت مستفيدةً من المحو الاجتماعي للذاكرة.
   −
أ- المقاربات والمنهجيات: ما المصادر التي يمكن الرجوع إليها؟ ومن يشترك في التخطيط ووضع الرؤى؟
+
===أ- المقاربات والمنهجيات: ما المصادر التي يمكن الرجوع إليها؟ ومن يشترك في التخطيط ووضع الرؤى؟===
    
من الحري الإشارة إلى أن اللجنة لم تنطلق من مفهوم العدالة الانتقالية، بل من محاكاة لمفهوم دولتيّ عن العدالة. لذا يحاول هذا التحليل توضيح كيف يمكن أن تكون العدالة الانتقالية ذات نفع فيما يستجد من قضايا، وليس قياس مدى التزام التحقيق بمفهوم العدالة الانتقالية. اعتمدت اللجنة على التعريفات القانونية لمفاهيم التراضي والعدالة والأعراف القانونية المُتّبعة في بناء الاتهام.13 واعتبر التقرير الختامي أن غياب الضحية / الناجية عن التحقيق قد أثّر بالسلب على سير التحقيق، إذ لم تتمكن اللجنة من التحقّق ممّا إذا كانت الضحية / الناجية ثملةً أو قادرةً على إبداء الموافقة على فعل جنسي رضائي. ورغم إخبار الضحية لقصّتها عبر رسالة بريد إلكتروني، لم تنظر اللجنة لتلك الرسالة بوصفها شهادة لأنها لم تقع ضمن ترتيب يحاكي مجريات التقاضي الرسمي في قاعة المحكمة: لم تتقدم الضحية / الناجية إلى اللجنة ولم تقم بإعادة سرد شهادتها بشكل "رسمي". وبالتالي، لجأت اللجنة لاستشارة طبيب مختصّ حول تأثير الكحول على قدرة الضحية / الناجية على إبداء الموافقة. فبرغم أن قرار اللجنة لم يأت مدعومًا "بحشد الافتراضات والتوقّعات المحتملة لكيفية سير العلاقات الجنسية الاجتماعية "العاديّة" في عصرنا الحالي" (إليسون ومونرو، 2009: 307) – على النقيض كانت اللجنة منفتحةً على تجاوز مثل هذه التوقّعات14 – لم تستطع اللجنة التحرّر من أسر تصوّرها عن سير المحاكمات التقليدية. بالمقابل من هذا، تلتفت العدالة الانتقالية إلى السلامة النفسية كأولوية خلال عملها. يعني ذلك أن حماية الضحية / الناجية من تذكّر واختبار الصدمة مُجدّدًا يجب أن يكون البوصلة التي تهتدي بها أي عمليةٍ للمساءلة. وفي هذه الحالة يُمكِن لرسالة البريد الإلكتروني أن تكون شهادة، أو كما حدث في حالةٍ سابقة في مجموعة كريساليس، يمكن لمجموعة من النساء و/أو الرجال ممّن يحظون/ـين بثقة الضحية/الناجية أن يلعبن/ـوا دور الوسيط بينها وبين اللجنة. على المقلب الآخر، لم تتضمّن عملية وضع الرؤى أي تعصيفٍ ذهني جماعي أو استعانة برأي أيّ من المجموعات النسوية. لم يكن ثمّة توضيح أو تواصل داخل الحزب أو الحملة الانتخابية أو حتى داخل الدوائر النسوية على اتساعها. أشاع هذا التعتيم مناخًا انقساميًّا دفع المجموعات النسوية للإسراع بإصدار بياناتٍ سياسية عوضًا عن العمل التشاركي.
 
من الحري الإشارة إلى أن اللجنة لم تنطلق من مفهوم العدالة الانتقالية، بل من محاكاة لمفهوم دولتيّ عن العدالة. لذا يحاول هذا التحليل توضيح كيف يمكن أن تكون العدالة الانتقالية ذات نفع فيما يستجد من قضايا، وليس قياس مدى التزام التحقيق بمفهوم العدالة الانتقالية. اعتمدت اللجنة على التعريفات القانونية لمفاهيم التراضي والعدالة والأعراف القانونية المُتّبعة في بناء الاتهام.13 واعتبر التقرير الختامي أن غياب الضحية / الناجية عن التحقيق قد أثّر بالسلب على سير التحقيق، إذ لم تتمكن اللجنة من التحقّق ممّا إذا كانت الضحية / الناجية ثملةً أو قادرةً على إبداء الموافقة على فعل جنسي رضائي. ورغم إخبار الضحية لقصّتها عبر رسالة بريد إلكتروني، لم تنظر اللجنة لتلك الرسالة بوصفها شهادة لأنها لم تقع ضمن ترتيب يحاكي مجريات التقاضي الرسمي في قاعة المحكمة: لم تتقدم الضحية / الناجية إلى اللجنة ولم تقم بإعادة سرد شهادتها بشكل "رسمي". وبالتالي، لجأت اللجنة لاستشارة طبيب مختصّ حول تأثير الكحول على قدرة الضحية / الناجية على إبداء الموافقة. فبرغم أن قرار اللجنة لم يأت مدعومًا "بحشد الافتراضات والتوقّعات المحتملة لكيفية سير العلاقات الجنسية الاجتماعية "العاديّة" في عصرنا الحالي" (إليسون ومونرو، 2009: 307) – على النقيض كانت اللجنة منفتحةً على تجاوز مثل هذه التوقّعات14 – لم تستطع اللجنة التحرّر من أسر تصوّرها عن سير المحاكمات التقليدية. بالمقابل من هذا، تلتفت العدالة الانتقالية إلى السلامة النفسية كأولوية خلال عملها. يعني ذلك أن حماية الضحية / الناجية من تذكّر واختبار الصدمة مُجدّدًا يجب أن يكون البوصلة التي تهتدي بها أي عمليةٍ للمساءلة. وفي هذه الحالة يُمكِن لرسالة البريد الإلكتروني أن تكون شهادة، أو كما حدث في حالةٍ سابقة في مجموعة كريساليس، يمكن لمجموعة من النساء و/أو الرجال ممّن يحظون/ـين بثقة الضحية/الناجية أن يلعبن/ـوا دور الوسيط بينها وبين اللجنة. على المقلب الآخر، لم تتضمّن عملية وضع الرؤى أي تعصيفٍ ذهني جماعي أو استعانة برأي أيّ من المجموعات النسوية. لم يكن ثمّة توضيح أو تواصل داخل الحزب أو الحملة الانتخابية أو حتى داخل الدوائر النسوية على اتساعها. أشاع هذا التعتيم مناخًا انقساميًّا دفع المجموعات النسوية للإسراع بإصدار بياناتٍ سياسية عوضًا عن العمل التشاركي.
سطر 79: سطر 79:  
الحالة الدراسية التي نحن بصددها يُمكنها أن تدلّل على المحددات التي تقف بوجه هكذا إطار. فالعدالة الانتقالية هي عمليةٌ متسقةٌ من التجربة والخطأ، لذا يلزمها الوقت والموارد وغيرها ممّا قد لا يتوافر لمجتمعات النشطاء/الناشطات. بالإضافة لذلك، يَلزَم أولًا استعداد المجتمع لتقبّل العدالة الانتقالية، فالسعي للعدالة خارج إطار النظم العقابية المقيّدة للحرية وفي الوقت عينه تعهّدُ الجراح المجتمعية الدامية بالرعاية وتنفيس الغضب المكتوم والسماع للقصص غير المروية ليس أمرًا هيّنًا بالنسبة لنساءٍ ومجتمعاتٍ ترزحُ تحت سنين من العنف. كما أن الالتزام بإنهاء الأسباب الجذرية للعنف الجنسي ليس دائمًا مضمونًا، فتغيير الأفكار والسلوكيات قد لا يكون دائمًا صادقًا. ويحثّ ذلك الأطراف المعنية على الوثوق ببعضها البعض والوثوق بسير العملية واستمرار النقد والإبداع، رغم صعوبة ذلك، ورغم ما ينتج عنه من خروقٍ تُفتح دون حسم. على سبيل المثال، كما هو الحال مع القضية قيد الدرس، يمكن أن ترفضَ الضحية/الناجية أو الأطراف التي تسبّبت في الأذى – أفرادًا وأجسادًا – الاشتراك في العملية. فضلًا عن ذلك، فالثقة بين الأطراف تلك قد يعوّقها تاريخٌ من الوقائع الجنسية غير المحسومة، ما يخلق مزيدًا من الخصومات السقيمة. تُظهِر القضية قيد الدرس أيضًا التوتّر بين المجموعات النسوية حول أفضل الطرق لمعالجة القضية ومنهجية تناولها من قبل حزب "العيش والحرية" أو من قبل لجنة التحقيق، كما تُظهِر التوتّر حول الأسباب التي دفعت بنشر النتائج النهائية للتحقيق. ففي حين يُعطى مزيدٌ من الوقت لقضايا العنف الجنسي، استغرق إصدار التقرير النهائي أربعة أشهر، وهو إطارٌ زمني وجدته مجموعات نسوية عدّة مقلقًا، بالنظر لكون رسالة البريد الإلكتروني "دليلًا" يُعتَد به في حالات الاغتصاب والتحرش. جاءت تلك التوتّرات كنتيجةٍ لتراكم الإحباطات من قضايا سابقة لم تحصلُ النساء فيها على الدعم المناسب، أو من قضايا لم تَتمكّن النساء فيها من إثبات "جُرم" الرجال. تَتفهّم العدالة الانتقالية الصدمة والإحباط والتوتّر المتراكم والفشل. كان ليكون مشجّعاً لنا الاعتراف بقصورنا والحشد انطلاقًا مما يمتلكه كل منّا من قوى. كانت العدالة الانتقالية ستُوّفر الوقت اللازم للتعافي الجمعي وتصفية تَرِكة سنوات من الظلم.
 
الحالة الدراسية التي نحن بصددها يُمكنها أن تدلّل على المحددات التي تقف بوجه هكذا إطار. فالعدالة الانتقالية هي عمليةٌ متسقةٌ من التجربة والخطأ، لذا يلزمها الوقت والموارد وغيرها ممّا قد لا يتوافر لمجتمعات النشطاء/الناشطات. بالإضافة لذلك، يَلزَم أولًا استعداد المجتمع لتقبّل العدالة الانتقالية، فالسعي للعدالة خارج إطار النظم العقابية المقيّدة للحرية وفي الوقت عينه تعهّدُ الجراح المجتمعية الدامية بالرعاية وتنفيس الغضب المكتوم والسماع للقصص غير المروية ليس أمرًا هيّنًا بالنسبة لنساءٍ ومجتمعاتٍ ترزحُ تحت سنين من العنف. كما أن الالتزام بإنهاء الأسباب الجذرية للعنف الجنسي ليس دائمًا مضمونًا، فتغيير الأفكار والسلوكيات قد لا يكون دائمًا صادقًا. ويحثّ ذلك الأطراف المعنية على الوثوق ببعضها البعض والوثوق بسير العملية واستمرار النقد والإبداع، رغم صعوبة ذلك، ورغم ما ينتج عنه من خروقٍ تُفتح دون حسم. على سبيل المثال، كما هو الحال مع القضية قيد الدرس، يمكن أن ترفضَ الضحية/الناجية أو الأطراف التي تسبّبت في الأذى – أفرادًا وأجسادًا – الاشتراك في العملية. فضلًا عن ذلك، فالثقة بين الأطراف تلك قد يعوّقها تاريخٌ من الوقائع الجنسية غير المحسومة، ما يخلق مزيدًا من الخصومات السقيمة. تُظهِر القضية قيد الدرس أيضًا التوتّر بين المجموعات النسوية حول أفضل الطرق لمعالجة القضية ومنهجية تناولها من قبل حزب "العيش والحرية" أو من قبل لجنة التحقيق، كما تُظهِر التوتّر حول الأسباب التي دفعت بنشر النتائج النهائية للتحقيق. ففي حين يُعطى مزيدٌ من الوقت لقضايا العنف الجنسي، استغرق إصدار التقرير النهائي أربعة أشهر، وهو إطارٌ زمني وجدته مجموعات نسوية عدّة مقلقًا، بالنظر لكون رسالة البريد الإلكتروني "دليلًا" يُعتَد به في حالات الاغتصاب والتحرش. جاءت تلك التوتّرات كنتيجةٍ لتراكم الإحباطات من قضايا سابقة لم تحصلُ النساء فيها على الدعم المناسب، أو من قضايا لم تَتمكّن النساء فيها من إثبات "جُرم" الرجال. تَتفهّم العدالة الانتقالية الصدمة والإحباط والتوتّر المتراكم والفشل. كان ليكون مشجّعاً لنا الاعتراف بقصورنا والحشد انطلاقًا مما يمتلكه كل منّا من قوى. كانت العدالة الانتقالية ستُوّفر الوقت اللازم للتعافي الجمعي وتصفية تَرِكة سنوات من الظلم.
   −
ب- على من يقع الأذى؟
+
===ب- على من يقع الأذى؟===
    
تضع العدالة الانتقالية الأولوية لدعم الناجي/ـة. فضلًا عن الجانب النفسي، قد يأتي الدعم كاحترامٍ لرغبة الناجي/ـة في اختيار السبيل والمدى الأمثل للانخراط في العملية. تضع هذه المقاربة الناجي/ـة في المركز من كل شيء لتَبنّي عملية للمساءلة التشاركية تُمكّن أوسعَ تنوّع من أشكال التعافي. ربما في الحالة قيد الدرس، لم يكن الدعم النفسي هو الجواب المناسب، إذ أن الناجية لم تطلبه، كما أنها تلقّت بالفعل علاجًا نفسيًّا متخصصًا. غياب الدعم المباشر بالمقابل أدّى إلى افتراض غياب كل أشكال الدعم، أو افتراض أن السبيل الوحيد للدعم هو إثبات "جُرميّة" الفعل ومعاقبة الفاعل. إلا أن الدعم كان من الممكن أن يشمل أيضًا التواصل بشأن سير التحقيق، إذ أشارت في رسالتها الإلكترونية إلى انعدام ثقتها فيما قد يتمخّض عن أي رد فعل مجتمعي.16 كان من الممكن أن يأتي الدعم في صيغة تقديم استشارة وتكوين تحالف أو تفهّم لنفورها من مجريات تُحاكي عمل المحاكم التقليدية.
 
تضع العدالة الانتقالية الأولوية لدعم الناجي/ـة. فضلًا عن الجانب النفسي، قد يأتي الدعم كاحترامٍ لرغبة الناجي/ـة في اختيار السبيل والمدى الأمثل للانخراط في العملية. تضع هذه المقاربة الناجي/ـة في المركز من كل شيء لتَبنّي عملية للمساءلة التشاركية تُمكّن أوسعَ تنوّع من أشكال التعافي. ربما في الحالة قيد الدرس، لم يكن الدعم النفسي هو الجواب المناسب، إذ أن الناجية لم تطلبه، كما أنها تلقّت بالفعل علاجًا نفسيًّا متخصصًا. غياب الدعم المباشر بالمقابل أدّى إلى افتراض غياب كل أشكال الدعم، أو افتراض أن السبيل الوحيد للدعم هو إثبات "جُرميّة" الفعل ومعاقبة الفاعل. إلا أن الدعم كان من الممكن أن يشمل أيضًا التواصل بشأن سير التحقيق، إذ أشارت في رسالتها الإلكترونية إلى انعدام ثقتها فيما قد يتمخّض عن أي رد فعل مجتمعي.16 كان من الممكن أن يأتي الدعم في صيغة تقديم استشارة وتكوين تحالف أو تفهّم لنفورها من مجريات تُحاكي عمل المحاكم التقليدية.
سطر 86: سطر 86:     
   
 
   
ج- من المتسبب بالأذى؟
+
===ج- من المتسبب بالأذى؟===
    
رغم توصية اللجنة باتخاذ المزيد من الخطوات،17 فإنها لم تَتَمكّن من تحديد كلّ الأطراف المعنيّة بوقائع العنف الجنسي المتكرّرة في دوائر المجتمع المدني. لم يشترك "المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" في سير التحقيق، رغم كون المتّهمَين جزءًا من فريقه في حينه أو سابقًا. ولا تقع مسؤولية محاسبة المركز على اللجنة، فالقضاء على العنف الجنسي يتطلّب تدخّلًا جمعيًا. لم تُسائل المجموعات النسوية غياب المركز عن المشهد، كما لم تُتّخذ أي خطوات حيالَ ذلك أثناء أو بعد التحقيق.
 
رغم توصية اللجنة باتخاذ المزيد من الخطوات،17 فإنها لم تَتَمكّن من تحديد كلّ الأطراف المعنيّة بوقائع العنف الجنسي المتكرّرة في دوائر المجتمع المدني. لم يشترك "المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" في سير التحقيق، رغم كون المتّهمَين جزءًا من فريقه في حينه أو سابقًا. ولا تقع مسؤولية محاسبة المركز على اللجنة، فالقضاء على العنف الجنسي يتطلّب تدخّلًا جمعيًا. لم تُسائل المجموعات النسوية غياب المركز عن المشهد، كما لم تُتّخذ أي خطوات حيالَ ذلك أثناء أو بعد التحقيق.
سطر 94: سطر 94:  
   
 
   
   −
د- التدخل النسوي الجمعي: "نحن" وليس "أنا"
+
==د- التدخل النسوي الجمعي: "نحن" وليس "أنا"===
    
العدالة الانتقالية هي قرارٌ جمعي يُتّخذُ بالجهود الجمعية، وتعتمد على بناء التحالفات والتخطيط الجماعي بالنظر إلى تموضع كل مجموعة ضمن الحراك. هذا المجتمع ليس طوباويًا، بل هو مجتمعٌ يؤمن بأهمية توفير بيئة للتعلّم والازدهار للجميع. لذا يجب أن تنتبه كل مجموعةٍ نسوية في هذا النموذج لما لديها من امتيازاتٍ ومحدّدات بحكم تموضعها وعليها أن تتعاون مع المجموعات الأخرى نحو هدفٍ مشترك. وبرغم توظيف كلّ مجموعةٍ لأدواتٍ مختلفة، إلا أن هذه المجموعات يجب أن تحفَظَ تناسق واتساق الجهد الرامي إلى الهدف المذكور. كما أنها يجب أن تَتَفهّم تبعات العمل تحت تأثير الصدمة في سعيها للتعافي الجمعي وبناء مرونة تَضمَن مواصلة المقاومة.
 
العدالة الانتقالية هي قرارٌ جمعي يُتّخذُ بالجهود الجمعية، وتعتمد على بناء التحالفات والتخطيط الجماعي بالنظر إلى تموضع كل مجموعة ضمن الحراك. هذا المجتمع ليس طوباويًا، بل هو مجتمعٌ يؤمن بأهمية توفير بيئة للتعلّم والازدهار للجميع. لذا يجب أن تنتبه كل مجموعةٍ نسوية في هذا النموذج لما لديها من امتيازاتٍ ومحدّدات بحكم تموضعها وعليها أن تتعاون مع المجموعات الأخرى نحو هدفٍ مشترك. وبرغم توظيف كلّ مجموعةٍ لأدواتٍ مختلفة، إلا أن هذه المجموعات يجب أن تحفَظَ تناسق واتساق الجهد الرامي إلى الهدف المذكور. كما أنها يجب أن تَتَفهّم تبعات العمل تحت تأثير الصدمة في سعيها للتعافي الجمعي وبناء مرونة تَضمَن مواصلة المقاومة.
سطر 108: سطر 108:  
   
 
   
   −
خاتمة
+
==خاتمة==
    
حاول تحليلي تسليط الضوء على كيف يمكن لاعتماد نهج العدالة الانتقالية في معالجة العنف الجنسي أن يؤدّي إلى آلياتٍ أكثر شمولية. تُقدّم العدالة الانتقالية منظورًا لما وراء انتساب العنف الجنسي للأفراد كضحايا أو جناة. تُوفّر العدالة الانتقالية مساحةً يكون فيها الخيال والإبداع حرًا بدلًا من الاستمرار بذات النهج الذي أثبت عدم كفايته مرارًا. لقد رسمت صورة تخيلية لكيف يمكن لقضية نسوية مصرية أن تبدو حال تناولها من منظور العدالة الانتقالية.
 
حاول تحليلي تسليط الضوء على كيف يمكن لاعتماد نهج العدالة الانتقالية في معالجة العنف الجنسي أن يؤدّي إلى آلياتٍ أكثر شمولية. تُقدّم العدالة الانتقالية منظورًا لما وراء انتساب العنف الجنسي للأفراد كضحايا أو جناة. تُوفّر العدالة الانتقالية مساحةً يكون فيها الخيال والإبداع حرًا بدلًا من الاستمرار بذات النهج الذي أثبت عدم كفايته مرارًا. لقد رسمت صورة تخيلية لكيف يمكن لقضية نسوية مصرية أن تبدو حال تناولها من منظور العدالة الانتقالية.
staff
2٬186

تعديل