تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ط
تنسيق
سطر 24: سطر 24:  
لم يستطع كمال، بطل رواية السّراب لنجيب محفوظ، أن يهرب من وجه أمّه الذي يراه في كلّ مكان. كان وجهها مَبعَث آلامه ومَلاذَه الوحيد. حاصرته أمومتها الفيّاضة والعنيفة والعطوفة، وشوّهت عالمه الداخليّ وعلاقته بجسده وبالآخر. كمال مرتبك أبدي، يقف على فوّهة الواقع دون أن يسقط. كان طفلاً حزيناً ومراهقاً خجولاً ورجلاً جباناً. حاول الانتحار كي يرحل بعيداً عنها، ولكن خوفه من حزنها أكبر من إغراءات الموت؛ تلك النهاية السعيدة - كما يراها - لحياته الطافحة بالهموم والتبعيّة والتعلّق المرضي. يمشي أينما تمشي، وينام أينما تنام. يُمسك براحة يديها ليُقبّلها، ويستجدي عطفها المُكابِر عندما تغضب. رضاها علّته ودواؤه. في المقابل، كانت والدته نُسخة لآلاف الأمّهات اللاّتي يُردن من أبنائهنّ وبناتهنّ أن يدفعن دَين الأمومة الأبديّ. طليقها سِكّير عربيد، أذاقها الويلات، فاتّخذت كمال قرباناً لمشاعرها المكتومة وجعلته زوجها وحبيبها وابنها المدلّل والمُعذَّب بعاطفتها المتطرّفة. ترفض أن يُمسك يداً غير يدها، أو يُعانق جسداً غير جسدها، أو يمشي فوق أرض دون أن يتبع خُطاها. أمومة سامّة وأليمة، لخّصها كمال في بداية الرواية كما يلي:  
 
لم يستطع كمال، بطل رواية السّراب لنجيب محفوظ، أن يهرب من وجه أمّه الذي يراه في كلّ مكان. كان وجهها مَبعَث آلامه ومَلاذَه الوحيد. حاصرته أمومتها الفيّاضة والعنيفة والعطوفة، وشوّهت عالمه الداخليّ وعلاقته بجسده وبالآخر. كمال مرتبك أبدي، يقف على فوّهة الواقع دون أن يسقط. كان طفلاً حزيناً ومراهقاً خجولاً ورجلاً جباناً. حاول الانتحار كي يرحل بعيداً عنها، ولكن خوفه من حزنها أكبر من إغراءات الموت؛ تلك النهاية السعيدة - كما يراها - لحياته الطافحة بالهموم والتبعيّة والتعلّق المرضي. يمشي أينما تمشي، وينام أينما تنام. يُمسك براحة يديها ليُقبّلها، ويستجدي عطفها المُكابِر عندما تغضب. رضاها علّته ودواؤه. في المقابل، كانت والدته نُسخة لآلاف الأمّهات اللاّتي يُردن من أبنائهنّ وبناتهنّ أن يدفعن دَين الأمومة الأبديّ. طليقها سِكّير عربيد، أذاقها الويلات، فاتّخذت كمال قرباناً لمشاعرها المكتومة وجعلته زوجها وحبيبها وابنها المدلّل والمُعذَّب بعاطفتها المتطرّفة. ترفض أن يُمسك يداً غير يدها، أو يُعانق جسداً غير جسدها، أو يمشي فوق أرض دون أن يتبع خُطاها. أمومة سامّة وأليمة، لخّصها كمال في بداية الرواية كما يلي:  
   −
''كانت أمّي وحياتي شيئاً واحداً، وقد خُتمت حياة أمّي في هذه الدنيا، ولكنّها ما زالت كامنة في أعماق حياتي، مستمرّة باستمرارها. لا أكاد أذكر وجهاً من وجوه حياتي حتى يتراءى لي وجهها الجميل الحنون، فهي دائماً أبداً وراء آمالي وآلامي. وراء حبّي وكراهيّتي. أسعدتني فوق ما أطمع، وأشقتني فوق ما أتصوّر، وكأنّي لم أحبّ أكثر منها، وكأنّي لم أكره أكثر منها.''  
+
<blockquote>'''كانت أمّي وحياتي شيئاً واحداً، وقد خُتمت حياة أمّي في هذه الدنيا، ولكنّها ما زالت كامنة في أعماق حياتي، مستمرّة باستمرارها. لا أكاد أذكر وجهاً من وجوه حياتي حتى يتراءى لي وجهها الجميل الحنون، فهي دائماً أبداً وراء آمالي وآلامي. وراء حبّي وكراهيّتي. أسعدتني فوق ما أطمع، وأشقتني فوق ما أتصوّر، وكأنّي لم أحبّ أكثر منها، وكأنّي لم أكره أكثر منها.'''</blockquote>
    
قد تمنحنا الحياة بعبثيّتها المُبالَغ فيها فُرصاً للانعتاق والتحرّر؛ فُرصاً للنجاة من القهر والكبت، فكانت رباب فرصة كمال الوحيدة للخلاص من عذاب الأمّ المُشِطّة في أمومتها. ظلّ يُحبّها في صمت لمدّة سنتين، دون أن تجتاح خياله الجنسيّ المحصور في صورة نمطيّة لخادمات قادمات من أرياف مصر إلى العاصمة الكبيرة والمكتظة؛ نساء يرتدين العبايات السوداء ويَعصِبْن شعورهنّ بـ«منديل أبو أويا» الذي يميّز اللباس الشعبيّ المصريّ ويمثّل رمزاً للخفّة والطرافة والأنوثة، أردافهنّ ضخمة صلبة، وخصورهنّ نحيفة، وشفاههنّ الطريّة تُنْبئ بـ«الفجور» و«العهر». لم يستطع كمال - حتّى بعد زواجه من رباب - أن يتخلّص من وجه أمّه، فهي انبعاث جديد للنُّبْل والحياء والسموّ والطهرانيّة المقترِنة بالأمومة، لذلك لم يقدر على مضاجعتها، وكانت «العادة الجهنميّة»، كما يصفها محفوظ، سَلواه ومُبتغاه.
 
قد تمنحنا الحياة بعبثيّتها المُبالَغ فيها فُرصاً للانعتاق والتحرّر؛ فُرصاً للنجاة من القهر والكبت، فكانت رباب فرصة كمال الوحيدة للخلاص من عذاب الأمّ المُشِطّة في أمومتها. ظلّ يُحبّها في صمت لمدّة سنتين، دون أن تجتاح خياله الجنسيّ المحصور في صورة نمطيّة لخادمات قادمات من أرياف مصر إلى العاصمة الكبيرة والمكتظة؛ نساء يرتدين العبايات السوداء ويَعصِبْن شعورهنّ بـ«منديل أبو أويا» الذي يميّز اللباس الشعبيّ المصريّ ويمثّل رمزاً للخفّة والطرافة والأنوثة، أردافهنّ ضخمة صلبة، وخصورهنّ نحيفة، وشفاههنّ الطريّة تُنْبئ بـ«الفجور» و«العهر». لم يستطع كمال - حتّى بعد زواجه من رباب - أن يتخلّص من وجه أمّه، فهي انبعاث جديد للنُّبْل والحياء والسموّ والطهرانيّة المقترِنة بالأمومة، لذلك لم يقدر على مضاجعتها، وكانت «العادة الجهنميّة»، كما يصفها محفوظ، سَلواه ومُبتغاه.
staff
2٬193

تعديل

قائمة التصفح