أُضيف 37٬421 بايت
، قبل 3 سنوات
{{بيانات_وثيقة
|نوع الوثيقة=مقالة رأي
|العنوان=مصطلح "فرارات" التونسي: جمع مذكّر سالب
|مؤلف=خوخة ماكوير
|محرر=
|لغة=ar
|ترجمة=
|المصدر=جيم
|تاريخ النشر=2021-07-15
|تاريخ الاسترجاع=2021-0722
|مسار الاسترجاع=https://jeem.me/سلطة/خوخة-ماكوير/مصطلح-فرارات-التونسي-جمع-مذكّر-سالب
|نسخة أرشيفية=https://archive.is/BDxEn
|بالعربية=
|هل ترجمة=
|مترجم=
|لغة الأصل=
|العنوان الأصلي=
|تاريخ نشر الأصل=
|النص الأصلي=
|ملاحظة=هذا النص جزء من ملف حفريّات في اللّغة والجندر والجنسانيّة على جيم
|قوالب فرعية=
}}
''في هذا المقال، تتخذ خوخة ماكوير من مصطلح "فرارات" (مفرده "فرار" ويعني الأخ بالفرنسية) والخطابات التي صيغَت حوله منطَلقًا للتجوّل بين مفاهيم الذكورة والأنوثة، والمركز والهامش، وبعض الثنائيات والمفاهيم الأخرى المترابطة.''
مضى على احتكاكي الأول بلفظة "فرار" ما يزيد عن عشر سنوات، أي قبل شيوع المصطلح وتمخّضه عن باقةٍ من الاشتقاقات وانزلاقه نحو الاستعمالات التحقيرية. كان صديقي يُحَيّي أقرانه الذكور ويناديهم بـ "فرار"، ولم يكن يستثنيني. كان يُناديني بذلك بلَكنته الفحولية، رغم خنوثتي الصارخة، فكان يُرسي روحًا من الألفة ويصبغ علاقتنا بشيءٍ من الودّ.
في الأصل، تعني كلمة "فرار" بالفرنسية، الأخ. أما حديثًا، فراج تداولها للمناداة وإلقاء التحية بين "فئاتٍ" من الشبّان التونسيّين، كما في الجزائر الشقيقة وفي أحياء فرنسا المُعرقنة والشعبية. لكن سرعان ما انزلق اللفظ ليصبح "وصمًا" لتلك الفئات لدى عامّة الشعب التونسي. ما انفكّ مفهوم "الفرار"، وجمعه "فرارات"، يتمطط مذّاك وتتشعّب تأويلاته، حتى صار اليوم أصنافًا مصنفةً من التصوّرات. ومع أن التونسيّينـ/ـات لا يُجمعـ•و•ن على تعريفٍ توافقي للمصطلح، إلا أن معظم القراءات تصبّ في زجّ "فرار/ات" في نعتٍ تحقيري فضفاض، أضحى أداةً رائجةً للوصم.
في هذا المقال، أتخذُ من المصطلح والخطابات التي صيغَت حوله، منطلقًا للتجوّل بين مفاهيم [[الذكورة]] و[[أنوثة|الأنوثة]]، والمركز والهامش، وبعض الثنائيات والمفاهيم الأخرى المترابطة. ليس الهدف من مقالي هذا الانخراط في تصنيف الفرارات، أو المساهمة في تنميطهم أو حصر ملامحهم، بل الخوض في عملية التصنيف ذاتها وما قد تكشف عنه من ممارساتٍ خطابيةٍ ذات أبعادٍ جندريةٍ وطبقية.
=== مفاوضاتٌ فحولية ===
تتضارب الأوصاف الجندرية التي تُسند إلى الفرارات ويختلط فيها الأنثوي بالذكري. إذ تارةً ما يوصَمُون بالأُبنة والتأنّث لاستثمارهم في هندامهم؛ حيث يُشاع عن الفرارات ارتداؤهم السراويل والملابس الضيّقة، والتحلّي بالأقراط والعقود والخواتم والأكسسوارات، والاكتساء بالألوان الفاقعة والأقمشة المزخرفة والمرصّعة واللماعة، والإقبال على "أغرب" صيحات الموضة وقصّات الشعر المبتكرة، وصباغة الشعر والعناية به وترطيبه بالكيراتين. وتارةً يوصَمون بالرجولة المُبالغ بها (أو top rojla كما يُقال)، أي بالهمجية والخشونة، [[كره النساء|والميزوجينية]] السافرة، والعدائية، والهيمنة المباشرة والعضلية، والفحولة الاستعراضية، والعنف والتعصّب والنعرات البدائية.
للوهلة الأولى، تصعب مَوْضَعَة الفرارات على سلّم المعايير الجندرية السائدة. فالخطابات التي تُصاغ بشأنهم تتضارب إلى حدّ وضعهم عند أقصى طرفَي الأنوثة والذكورة. إلّا أن هذه المراوحة والتمازج لم ينجحا في منح الفرارات الطابع الأندروجيني (androgyne) المنشود الذي يكتنف صورة الرجل العصري المُرهف والمثقّف. فالفحولة البدائية التي أُسندت إلى الفرارات، مثلها مثل الهندام الأنثوي الذي أُلصق بهم، تعمل كلّها على إزاحتهم بعيدًا عن الذكورة المركزية المرموقة، والدفع بهم نحو الهامش.
تُعيدني هذه التجاذبات بشأن مفهوم الذكورة إلى حوارٍ يرِد في الشريط التونسي "صمت القصور" (1994) للمخرجة مفيدة التلاتلي، يعكس صراعًا بين فئتين من الذكور، تتنازع كلّ منهما لنيل الأحقية والاستحواذ على مكانةٍ أرفع في سلّم الذكورة.
يقول "سيدي البشير" متحسّرًا على تهافت نفوذ الباي:
- وفات (انتهت) الرجال الصحاح '''''(الرجال الأشدّاء أو "الحقيقيّين")''''' مالقصر!
فيجيبه "سيدي علي"، مشيرًا إلى بروز الثوريّين:
- الصحاح ظهروا في واجهة أخرى!
فيجيب "سيدي البشير":
- الصحاح اللّي تحكي عليهم ناقصتهم الوهرة، الوهرة '''''(الوقار)''''' ما تتفكّش وما تتشراش. يلزمهم أجيال وأجيال بش يوليوْ كبارات.
يكشف هذا الحوار عن الدور المحوري الذي تؤدّيه "الوهرة" في المفاوضات "الفحولية" بين صنفَين من الذكور، وهي سمةٌ ترتبط في المخيال التونسي بالرفعة والهيبة والوقار. عادت هذه الصفة - وإن لم تغب - لتظهر في صراع "الرجال الصحاح" ضدّ الفرارات؛ صراعٌ تجلّى إلكترونيًا عبر أكثر الهاشتاڨات الساخرة تداولًا على فيسبوك: "#موهّر_فرار". يؤدي هذا الهاشتاڨ وظيفةً تهكّميةً إنكارية، تنفي بديهيًا صفة الوهرة عن الفرارات. ففي وقتٍ يسخر فيه هذا الهاشتاڨ من "هوسهم الساذج" في تجسيد صفة "الوهرة"، يشير إلى فشلهم المحتوم وتصنيعهم نسخةً كاريكاتورية عنها، فتتعمّق بذلك الصورة النمطية عن أذواق الفرارات وسلوكهم وطرق تعبيرهم، كنقيضٍ بديهي للتحضّر والأصالة والرقي.
تخضع هذه المنزلة الدونية التي يحتلّها الفرارات في الخطابات للديناميّات والهرميّات التي تُنظّم الذكورات، حيث تصرّ عالمة الاجتماع الأسترالية رايوين كونيل (R. W. Connell) أنه "لا يكفي أن نقرّ بتنوع الذكورات. بل يجب علينا أيضًا الاعتراف بالعلاقات التي تربط مختلف أصناف الذكورة: كعلاقات التحالف والهيمنة والتهميش. تتشكل هذه الروابط من خلال ممارساتٍ تُقصي وتضمّ، تُرَهِّب وتستغّل، وما إلى ذلك".<ref>R. W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p. 37</ref> إن هذه الممارسات لا تسعى إلى تحقير الفرارات وحسب، "بل ترسم أيضًا حدودًا اجتماعية، تحدّد مفهوم الذكورة 'الحقيقية' وما يفصلها من مسافةٍ تنأى بها عن الذكورات المنبوذة".<ref>R. W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p. 40</ref>
=== الفرار البدائي الهجين ===
في اللسان التونسي، يُجمَعُ اللفظ الأعجمي "فرار" (frère) - المُذَكَّر في صيغته المفردة - جمعَ المؤنث السالم، فيغدو "فرارات". ولا يشذّ في ذلك اللسانُ التونسي عن اللغة العربية، صاحبة الباع في تأنيث المفردات الأعجمية المذكّرة عند جمعها. هذه الهجانة على مستوى [[الجندر]] تُضاف إليها هجانةٌ على مستوى اللغة، حيث تحمل لفظة "فرارات" مزيجًا، قد يبدو متناغمًا، بين اللغتين الأكثر هيمنةً في تونس: الفرنسية والعربية. لغتان لا يخلو تعايشهما من التجاذبات الهوياتية والسياسية والثقافية الطاحنة. أما على مستوى النطق، فلا تُلفظ عبارة "فرارات" - فرنسية المأتى - باستخدام الراء الفرنسية "الأصيلة"، أي ما يوافق صوتيًا لفظ الغين بالعربية. ولو كانت كلمة فرارات - المُتَوْنَسَة - وفيّةً للنطق الفرنسي الفخم (كما يصفه الفرنسيون/ـات)، لكانت تُلفظ على نحو "فغاغات"، ولربما كانت دلالاتها الثقافية والطبقية والجندرية لتختلف حينها.
تؤكّدُ عالمة الأنثروپولوجيا الجزائرية تساديت ياسين (Tassadit Yacine) أن "اللكنة مؤشرٌ للهوية، وهي دليل انتماءٍ لفئةٍ اجتماعية، لا بل أبعد من ذلك، إلى جنسٍ محدّد".<ref>Tassadit Yacine, “Langues et domination. Statut social et/ou mélange des genres”, Études littéraires, 33 (3), 2001, p. 67, https://doi.org/10.7202/501307ar</ref> وتضيف الباحثة بأن قدماء الأساتذة المغاربيّين كانوا يتفادون نطق الراء الفرنسية "الأصيلة" أو اعتماد النطق الفرنسي الفخم (prononciation de prestige). ويعود ذلك إلى خيارٍ فحولي "يُموضِع الرجال المغاربيّين على الطرف النقيض من النساء والمخنثين".<ref>Tassadit Yacine, “Langues et domination. Statut social et/ou mélange des genres”, Études littéraires, 33 (3), 2001, p. 67, https://doi.org/10.7202/501307ar</ref> أما الدكتورة الجزائرية وأستاذة اللسانيات دليلة مرسلي (Dalila Morsly)، فتعزو هذا الخيار إلى الصراع المغاربي ضد المستعمر الفرنسي، حيث ترى في رواج هذه الراء لدى صنفٍ من الرجال "تمظهرًا وطنيًا يُتيح الاختلاف عن المستعمِر. ذلك إذا ما أدركنا أهمية الظاهرة الوطنية ومقاومة الفَرنسَة".<ref>Dalila Morsly, “Diversité phonologique du français parlé en Algérie : réalisation de /r/”. In: Langue française, n°60, 1983, Phonologie des usages du français, p. 72</ref>
أما مؤخرًا وفي السياق الفرنسي، تعجّبَت صحيفة "لو باريزيان" متسائلة: "لماذا يُلقَّب جلّ مراهقينا بـ'فرار'!"، معتبرةً لفظة "فرار" دخيلةً على الواقع الفرنسي، في حين يحتوي شعار الثورة الفرنسية على مصدر الكلمة ذاتها! إذ بعيدًا عن معنى الأخوة (fraternité) كمبدأٍ يُفترض به توحيد جميع الفرنسيين/ـات، أصبحَت مفردة "فرار" تحمل صبغةً مُعرقنةً (racisée)، فصارت تَصِمُ قسمًا من الشعب الفرنسي من أفارقة ومغاربيّي الأحياء الشعبية. بهذا المعنى، يقول "پالمير"، ذو الخمس عشرة ربيعًا، للصحيفة: "في الأصل، لا يُفترض بهذا اللفظ أن يندرج في معجمنا لأنه محسوبٌ على الأحياء الشعبية".
عند ارتباطها بالبياض العرقي/الإثني، تحمل الأخوة قيمةً مُثلى تدل على المواطنة والحداثة الفرنسية، وتكون مرادفًا لـ"النحن" الأبيض المتجانس. أما إذا ما ارتبطت بالمجتمعات المُعرقَنة أو الملونة عرقيًا، فتصبح دليل انحدارٍ يشير إلى قصورٍ في الاندماج أو قلقٍ في الهوية. تنزلق إذن الأخوة من معنى القرابة والانتماء إلى الغرابة والعزل، ليصبح الفرار، في السياق الفرنسي والتونسي، مرادفًا لـ"الآخر" الهجين والمُستهجَن. "تستدعي هذه المواجهة بين الرجال المتحضّرين والبدائيّين وضعًا خاصًا، هو الوضع الكولونيالي"،<ref>Frantz Fanon, Peau Noire, Masques Blanc, Translated by Charles Lam Markmann, Originally published by Editions de Seuil, France, 1952, First published in the United Kingdom in 1986 by Pluto Press. This new edition was published in 2008. p. 62</ref> على حدّ تعبير المفكّر الفرنسي فرانز فانون (Frantz Fanon).
=== الرجل العصري الأندروجين ===
لئن صُوّرت الفرارات ككائناتٍ بدائيةٍ تقودها الغريزة والعاطفة، فهذا التنميط ليس بجديدٍ على مجتمعات الجنوب المستعمَرة. فقد دأبت دول الشمال الاستعمارية على اختزال الرجل المغاربي في صورة المتخلّف والمنحلّ أخلاقيًا. في هذا الصدد، يقول عالم الاجتماع الفرنسي دانيال ولزر-لانغ (Daniel Welzer-Lang): "كان المستعمِر فحلًا، بينما كان المستعمَرون متسخين، يُرَدّون إلى جوانبهم الحسيّة، وكانوا مُأنَّثين أو صبيانيّين".<ref>Daniel Welzer-Lang, “Virilité, et virilisme dans les quartiers populaires en France”, Diversité : ville école intégration, CNDP, 2002, Ville - école - intégration, pp.10-32, https://hal.archives-ouvertes.fr/hal-01527129</ref> ويضيف ولزر-لانغ، الباحث المتخصّص في هويّات الذكورة، أن "الاستعمار قد صدّر نظامه الجندري وقام بفرضه، مازجًا الأنماط الفحولية الصادرة عن القوى الكولونيالية بالنُظُم الفحولية المحلية".<ref>Daniel Welzer-Lang, “Virilité, et virilisme dans les quartiers populaires en France”, Diversité : ville école intégration, CNDP, 2002, Ville - école - intégration, pp.10-32, https://hal.archives-ouvertes.fr/hal-01527129</ref> ويمتد هذا الطرح إلى سياقنا المعاصر، حيث تشدّد كونيل بدورها على ضرورة "فهم البنى المحلية للذكورة المهيمِنة على أنها نتيجةٌ لتفاعل النُظُم الجندرية المحلية مع السيرورات العالمية".<ref>R. W. Connell and James W. Messerschmidt, “Hegemonic Masculinity: Rethinking the Concept”, Gender Society, 2005,19(6), 829-859, https://doi.org/10.1177/0891243205278639</ref> وعلى حدّ قولها، فإن "النموذج المعاصر والمهيمِن للرجل التنافسي والمُعولَم يُنشئ حتمًا نماذجه الهامشية".<ref>R.W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p. 197</ref>
إن الخطابات التي تُسوِّق للفرارات كنموذجٍ مُستهجَنٍ للذكورة، تُخبِر بالمقابل - وفي الوقت عينه - عن ملامح الذكورة المنشودة: ذكورةٌ عصريةٌ على المنوال الغربي، ذات نكهةٍ رأسماليةٍ ونيوليبرالية. ذكورةٌ تتسلّح برأسمالٍ ثقافي يوفّر لها قدرًا من الاحترام، ويتيح لها التنقل والصعود الاجتماعي. يصف عالِمَا الاجتماع الفرنسيَين، إيف شيابيلو (Eve Chiapello) ولوك بولتانسكي (Luc Boltanski)، هذا الرجل المعولَم بـ"رجل العلاقات أو الشبكات. من أولى ميزاته الحركة، أي قدرته على التنقل من دون أن تحدّه الحواجز - سواء كانت جغرافية أو بفعل الانتماءات المهنية أو الثقافية - ومن دون أن تحدّه الفروقات والتراتبيات".<ref>Luc Boltanski et Eve Chiapello, Le nouvel esprit du capitalisme, Paris, Ed. Gallimard, 1999, p. 123</ref> أما كونيل فتصفه بـ"الرجل الجديد مرهف الحسّ، الذي أضحى وجهًا إعلاميًا يوظفه المُشهِرون في دول العالم المتقدّم، لتسويق ملابس صنعَتها نساءُ العالم الثالث بأدنى الأجور".<ref>R. W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p.139</ref> أما في المقابل، فيقع تصدير فحولة الطبقة الكادحة ومغاربيّي الأحياء الشعبية الفرنسية كنموذجٍ سيءٍ يَرُوج تداوله في الإعلام الفرنسي.
هذه الصراعات الفحولية على نيل المنزلة الأرفع في عالم الذكور هي من الممارسات الممتدّة عبر الأزمنة. فقبل تصدّر "الفرارات" قائمة النماذج الرجالية السيئة، عملَت الذكورة المهيمنة في تونس لتحقير ذكورة الرجل "المثلي-السالب" (الميبون)، و"الزمڨري"<ref>نعت تحقيري يستعمل في تونس لوصف مهاجري/ات الطبقات الكادحة من شمال إفريقيا إلى أوروبا.</ref> (immigré) و"الجبري"،<ref>صفة تحقيرية تفيد نقيض التحضّر والتمدّن.</ref> ورجل المناطق الداخلية (من وراء البلايك،<ref>حرفيًا وراء اللافتات، أي من يقطنون خارج المدن التونسية الكبرى.</ref> كشطة وأربط)، والرجل الأسود (عبد، شوشان، وصيف)<ref>عبارات تستعمل في تونس لوصف ذوي البشرة السوداء، وهي عبارات مستمدّة من وظائف اقترنت في المخيال التونسي بالسود، ولها علاقة وثيقة بالعبودية.</ref> و"الزوفري"<ref>وصف تحقيري مستمّد من الكلمة الفرنسية (ouvrier) أي العامل اليدوي من الطبقات الكادحة. انزلق معناها فأصبح يفيد الصعلكة والانحراف.</ref> (ouvrier)... وما إلى ذلك من تصنيفاتٍ يُستعمل بعضها اليوم مرادفًا لـ "فرارات". بهذا المعنى، يصفُ أحد الروّاد الإلكترونيّين الفرارات بـ"الصعالكة الجدد لكن [ليس] بالمعنى النبيل للصعلكة بل بالمعنى القميء المقزّز ومرادفها التجوبير" '''''(تجوبير: مصدر من جبري، أي همجي)'''''.
وبغرض فهم هذه المفاوضات والتحولات التي تعتري خريطة الذكورة المعاصرة، تدعونا كونيل لاستحضار الأزمات التي عصفَت بالنُظُم الجندرية المهيمنة والتقليدية، ودفعَت بها لتعديل مسارها واستراتيجياتها؛ كتهافت نفوذ البطريركية وتنامي الحركات النسوية. تعرّف كونيل الذكورة المهيمِنة بأنها "صياغةٌ للممارسات الجندرية التي تحقّق ردًا مستساغًا على مأزق الشرعية الذي أصبحَت تعانيه البطريركية، بما يضمن للرجال مواصلة الهيمنة وفرض التبعية على النساء".<ref>R. W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p. 77</ref> كما تستبعد كونيل أن يكون العنف المباشر أو الهيمنة العضلية من صفات الذكورة المرموقة، بل من أهمّ خصالها "السّعي الموفق نحو السلطة"،<ref>R. W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p. 77</ref> حيث "تقترن الذكورة المهيمِنة ثقافيًا بالسلطة والعقل، وهي من الثيمات المفتاحية التي تشرّع للبطريركية".<ref>R. W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p. 90</ref>
=== فرارات، ناقصات عقلٍ ودين ===
من أبرز النعوت التي يوصَم بها الفرارات هي السذاجة والحمق، حتى صار يُحشر في خانة الفرارات كلّ من لم تظهر عليه علاماتُ التمكّن من المعرفة و"الانسجام الفكري". يقول سيف الحنّاشي، صاحب تدوينةٍ انتشرَت كثيرًا على فيسبوك: "أزمة الفرار فكرية، نابعة مما يعيشه من تناقض، نتيجة هوسه المرضي خاصةً بالدين والجنس [...] الفرار لا يقرأ طبعًا، ولا يكتب أيضًا! وإن كتب - على الفايسبوك حصرًا - فبحروفٍ لاتينيةٍ مع حدٍ أدنى من الـvoyelles" (الحروف المتحرّكة). ويعتبر آخرون أن كتابة العربية أو التونسية بأحرفٍ لاتينية، وبطرقٍ إملائيةٍ هجينةٍ أو مارقة، هي من علامات الإعاقة الفكرية والتخلّف الذهني." وكان الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي امتعض من طريقة الكتابة تلك، واصفًا إيّاها بـ"الهريسة اللغوية".
ألهمَت الشخصية "الفرارية"، بنمط عيشها وتفكيرها وتعبيرها، العديد من الأقلام الفيسبوكية، فدفعَت ببعض الكاتبات والكتّاب والجامعيات والجامعيّين للإدلاء بدلوهم/ن في الشأن "الفراري". على سبيل الذكر لا الحصر، التحقَت الكاتبة والباحثة ألفة يوسف بركب الحديث عن الفرارات، واختزلَت في تدوينةٍ أبرز ما تواتر من صفاتٍ تُعزى إليهم: "هم شبابٌ في جلّهم، خليطٌ بين ظاهرٍ متدينٍ وباطنٍ للدوافع الجنسية فيه موضعٌ كبير لاسيما أنها مكبوتة. معارفهم باللغات تحت حدود الصفر، ربما لم يفتح بعضهم كتابًا ورقيًا ولا إلكترونيًا ما عدا كتب سنوات الدراسة الأولى [...] تزعجهم الرقة والذكاء وإتقان اللغات ولا سيما الفرنسية، تحبطهم الثقافة بأنواعها".
يتواتر هذا الطرح في تدويناتٍ أخرى، حيث يوظَّف المستوى التعليمي واستعمال العامّية لمَوقَعة الفرارات على الجانب النقيض من التحضّر والفصاحة والذكاء. توضح الباحثة التونسية مريم ڨلوز (Mariem Guellouz) أن "استعمال العربية الفصحى أو الفرنسية يُمَوقِع المتحدّث في منزلةٍ ما مقارنةً بباقي اللغات. فاللغتان تتطلبان مستوًى دراسيًا هامًا، ولا تتقنهما سوى بعض الفئات الاجتماعية من المجتمع التونسي".<ref>Mariem Guellouz, “The Construction of ‘Tunisianity’ Through Sociolinguistic Practices from the Tunisian Independance to 2016”, Journal of Arabic and Islamic Studies, V16, 2016, p. 290-298</ref> وتضيف الباحثة أن استعمال الفرنسية على وجه التحديد "يضاهي الانضمام إلى البرجوازية، كفئةٍ اجتماعيةٍ وثقافية، وإلى النمط الغربي".<ref>
Mariem Guellouz, “The Construction of ‘Tunisianity’ Through Sociolinguistic Practices from the Tunisian Independance to 2016”, Journal of Arabic and Islamic Studies, V16, 2016, p. 290-298</ref> في الإطار عينه، لاحظَت الباحثة الجزائرية في الأنثروبولوجيا تساديت ياسين أن استعمال "اللغة المهيمِنة يخوّل الخروج والانشقاق عن الفئة الخاضعة للهيمنة"،<ref>Tassadit Yacine, “Langues et domination. Statut social et/ou mélange des genres”, Études littéraires, 33 (3), 2001, p. 68, https://doi.org/10.7202/501307ar</ref> مشيرةً إلى مفارقةٍ هامةٍ مفادها أن الفرنسية "مع كونها لغة الغزو، تودّ أن تكون لغةً للحضارة".<ref>Tassadit Yacine, “Langues et domination. Statut social et/ou mélange des genres”, Études littéraires, 33 (3), 2001, p. 68, https://doi.org/10.7202/501307ar</ref>
=== فرارات، جمع مؤنث ساذج ===
تمثّل الحضارة والعلم بدورهما صفاتٍ تميّز "الغرب"/الشمال عن "الشرق"/الجنوب، والذكور عن الإناث، عبر الثنائيات المتضادّة؛ الثقافة/الطبيعة، التجريدي/المادي، العقلاني/العاطفي، الرفيع/الوضيع، الفرد/القطيع. في هذا الصدد، تعتبر عالمة الاجتماع الأسترالية رايوين كونيل من الثيمات البطريركية المألوفة، الإقرار بأن "الرجال عقلانيون بينما النساء عاطفيات".<ref>R.W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p. 164</ref> وتوضح كونيل أن "الذكورة المهيمنة تُرسي هيمنتها، إلى حدّ ما، بادعائها تجسيد سلطة العقل".<ref>R.W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p. 164</ref> أما عن تعاضد الذكورة المهيمِنة والحضارة الغربية في احتكارهما صفة العقل، فتقول الباحثة: "عند تعريف الذكورة كبنيةٍ شخصية تتسم بالعقلانية، وتعريف الحضارة الغربية كحاملةٍ لواء العقل إلى العالم المتخلّف، يتشكّل رابطٌ ثقافي بين شرعَنة/تشريع البطريركية وشرعَنة/تشريع الأمبراطورية/الإمبريالية".<ref>R. W. Connell, Masculinities (Second Edition), University of California Press, 2005, p. 186</ref>
ليس من الغريب أن توضع لفظة "الفرارات" قطبًا سالبًا ضمن هذه الثنائيات، إذ عادةً ما تُحمّل معنى القطعان الساذجة، المحفوفة بالغريزة والهجانة والحمق، أي على الطرف النقيض من الرجال "الصحاح" والمثقفين والمتفرّدين (من ينظر إليهم كأفراد أو كذوات مستقلة وليس كجزء من كتلة متجانسة)، بما يمتازون به من محاكاةٍ لمظاهر الحداثة الغربية وأصالةٍ ورجاحة عقل. فالجندر بحسب كونيل هو "علائقي بالضرورة، ونماذج الذكورة تتحدّد اجتماعيًا بتقابُلها مع بعض أصناف الأنوثة (سواء كانت حقيقيةً أو مُتخيّلة)".<ref>R. W. Connell and James W. Messerschmidt, “Hegemonic Masculinity: Rethinking the Concept”, Gender Society, 2005,19(6), 829-859, https://doi.org/10.1177/0891243205278639</ref> إذن، يعود هذا التقابل إلى ما يقتضيه ارتقاءُ صنفٍ من الذكور من تأنيثٍ لذكوراتٍ أخرى، عبر سلبهم صفاتٍ تعكس جوهر الرجال وتبرّر رفعتهم بحسب المنطق المجتمعيّ السائد. إذ لا يقتصر تأنيث الفرارات - خطابيًا - على الصفات الخارجية فحسب، بل يعمل كذلك لسَلبهم صفة العقل، وهي صفةٌ شديدة الالتصاق بجوهر الرجال، تشرّع هيمنتهم واحتكارهم مبدأ الزعامة والقوامة.
في مقالها المُعنون "العلم ذكرٌ لا يحبه إلا الذّكران"،<ref>آمال قرامي، النساء والمعرفة والسلطة، سلسلة عدسات جندرية، العدد الأوّل، تونس، دار مسكلياني للنشر والتوزيع، 2019، ص 13.</ref> تنطلق الدكتورة أمال ڨرامي من مقولة ابن شهاب الزهري: "العلم ذكرٌ لا يحبه إلا ذكران الرجال، ويكرهه مؤنثهم"، رافدةً إيّاها بقولٍ لعباس بن محمد الخراساني: "لا يطلب العلم إلا بازل ذكر *** وليس يبغضه إلا المخانيث". وتعرض ڨرامي "من خلال هذه الشواهد التقابل بين الذكورة والأنوثة من جهة، والعلم والجهل من جهةٍ أخرى". وتضيف الأستاذة والباحثة في دراسات الجندر، أن "الرجال الأفذاذ هم وحدهم المتميّزون في مجال المعرفة في مقابل الرجال الذين عجزوا عن تحصيل العلوم لضعف المؤهلات [...] وغيرها من الأسباب التي تؤدي إلى خروجهم من خانة الرجولة الكاملة ليُحشروا في عداد المخانيث والسفلة والغوغاء والسوقة الدهماء".
=== فرارات، جمع مذكّر سالب ===
في تدوينةٍ على فيسبوك، يقول طارق لمّوشي، مستشارٌ لدى منظمات المجتمع المدني: "لنتفق أولًا أن الفرارات لا يتجوّلون فرادى بل في قطعان". ولعلّي أختم بهذه الصبغة القطعانية تحليل صورة الفرارات في خطابات التونسيين/ـات.
جُمعَت "فرارات" بالألف والتاء، أي وفق صيغة جمع المؤنث السالم. وليس هذا بأمرٍ غريبٍ على ألسنة العرب، فللمؤنث وظائف أخرى تُضاف إلى الجندرة، فقد عمَد عددٌ من اللغويين إلى تصنيف المؤنث السالم جمعَ قلّة، وهو ضربٌ من الجموع يفيد التقليل. كما يجد هذا التصنيف تأييدًا له في اللسان التونسي الذي يميّز بين: أيّام وأيامات، سوايع وساعات، قطايع وقطعات، كعب وكعبات، إلخ. وفضلًا عن وظيفة التقليل التي تضطلع بها الألف والتاء، يحقّق الجَمع بمعناه الأعمّ غرضَ الإيجاز والاختزال.
بحث عالم الاجتماع الفرنسي فابيو لورنزي-شيولدي (Fabio Lorenzi-Cioldi) في المدلولات الاجتماعية والجندرية والطبقية لصيغتَي المفرد والجمع، فلاحظ اقتران هذه الصبغة الجَمعية - مثل "الفرارات" - بالطبقات والفئات غير المحظية اجتماعيًا. فهي عادةً ما "تُصوَّر ككتلةٍ متماهية، أفرادها متشابهون يمكن اختزالهم أو استبدالهم، بينما تتمركز قيَم الفرادة والذاتية لدى الفئات الأكثر حظوة".<ref>Fabio Lorenzi-Cioldi, Les androgynes, 1ère édition, Presses Universitaires de France, 1994, p. 2</ref>
هذا التصوّر المبني على التعارض بين ذكورة الفرارات كقطعانٍ بدائيةٍ هجينةٍ تُمحى عنها قيَمُ الفرادة والذاتية، وذكورة الرجل العصري المُرهف والفريد والمثقف، يخدم مسعى تسويق النجاح والصعود الاجتماعي كاستحقاقٍ ذاتي، لا دخل فيه لعوامل هيكليةٍ وثقافيةٍ وطبقيةٍ تعزل وتهمّش أصنافًا من الذكور وفئاتٍ أوسع من النساء، وتحول دون وصولهمـ/ـن إلى رأس-المال الثقافي، أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
تصِفُ أستاذة الجندر والجنسانية سليا كتزنجر (Celia Kitzinger) التركيبة النفسية والاجتماعية للبطل المعاصر: هو "الذي يُقرن النجاح أو الفشل الفردي بالميزات الذاتية أو بعدم الجدارة، عوض البحث عن تفسيراتٍ تنحدر من البُنى الاجتماعية أو القوى الخارجية".<ref>
Celia Kitzinger, “The individuated self concept: A critical analysis of social-constructionist writing on individualism”, In Glynis M. Breakwell (Ed.), Social psychology of identity and the self-concept, London, Surrey University Press, 1992, p. 232</ref> نتيجةً لذلك، يرى فابيو لورنزي-شيولدي أن الفئات الأكثر حظوة تفسّر "المنزلة الدونية التي تحتلها المجموعات الأسفل في سلم التراتبيات، كنتاجٍ طبيعي للإخفاق والقصور الشخصي لأفرادها".<ref>Fabio Lorenzi-Cioldi, “Group status and individual differentiation”, In Tom Postmes & Jolanda Jetten (Eds.), Individuality and the group: Advances in social identity, 2006, p. 106</ref>
******
في ختام محاولتي الأولى لقراءة الخطابات المتعلقة بالفرارات، أودّ الإفصاح عن أمرَين، أوّلهما منهجي وثانيهما وجداني. أقرّ أولًا بأنّي لا أشذّ في هذا المقال عن الكتابة المُتمَوقِعة. فبالرغم من التواري أحيانًا خلف الاقتباسات، إلا أني لم أترجّل عن موقعي كذاتٍ كويرية، فارتحلتُ في النص حاملةً معي معيشي "الخنثوي" وما يقتضيه من تفاعلٍ دائمٍ مع مفاهيم الذكورة والأنوثة، وما راكمَته لديّ تلك التفاعلات من حساسيةٍ جندرية. كما ارتحلتُ متأثرةً بخلفياتي وقراءاتي الكويرية والنسوية والتقاطعية، فحاولتُ التشبيك والانتقال بين المركّبات الجندرية والثقافية والطبقية والإثنية، محاوِلةً ربط تلك الأبعاد بتعاضد بُنى الهيمنة.
ثانيًا، أقرّ بانحيازي المُسبَق إلى صفوف الفرارات، انحيازًا يبلغ حدّ التماهي أحيانًا. فأنا لا تستهويني المعلبّات الجندرية الباردة، بل يستهويني الرقص على حبال الفحولة المتآكلة. ربما لكلّ منا - أنا والفرار - طريقته في الانقلاب على المعايير، إمّا بالرفض والتقويض، أو بالمبالغة والتكثيف، لكن حتمًا يجمعنا ذاتُ القعر والهامش و"الحُڨرة" (من التحقير) والمسافة التي تفصلنا عن المركز، أي عن الذكورة المُهيمِنة والمرموقة التي ترى في كلَينا انحرافًا عن النُظُم الجندرية السائدة أو خللًا في المصفوفة يستوجب تشخيصًا وتصنيفًا وتطويقًا وإعادة ضبط.
==هوامش==