تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
أرشفة وثيقة من موقع جييم
سطر 30: سطر 30:  
وضعَت الرضاعة الثنائية التي افترضَت أنّ الأدوار الجنسية طبيعيةٌ والأدوار الاجتماعية ثقافية، في موقعٍ حرج، وأظهرَت أن من المناسب أكثر التفكير فيها وفق طرح المفكرة والكاتبة في مجال دراسات الجندر [[جوديث بتلر]] (Judith Butler) التي أكدَت أنّ الجنس البيولوجي نفسه فئةٌ مُجندَرة، فلا ينبغي أن يُرى الجندر باعتباره المعنى المنقوش ثقافيًا لسطحٍ مُعطًى ومُعرّفٍ مسبقًا، بل ينبغي أن يُرى الجندر أيضًا بوصفه نظام الإنتاج الذي ينشأ بواسطته الجنسَان (البيولوجيّان). ونتيجةً لذلك، الجندر ليس ثقافيًا والجنس البيولوجيّ ليس طبيعيًا؛ بل الجندر هو الوسيلة الخطابية/الثقافية التي تُنتج "الطبيعة المُجَنَّسة" أو "الجنس الطبيعي".1
 
وضعَت الرضاعة الثنائية التي افترضَت أنّ الأدوار الجنسية طبيعيةٌ والأدوار الاجتماعية ثقافية، في موقعٍ حرج، وأظهرَت أن من المناسب أكثر التفكير فيها وفق طرح المفكرة والكاتبة في مجال دراسات الجندر [[جوديث بتلر]] (Judith Butler) التي أكدَت أنّ الجنس البيولوجي نفسه فئةٌ مُجندَرة، فلا ينبغي أن يُرى الجندر باعتباره المعنى المنقوش ثقافيًا لسطحٍ مُعطًى ومُعرّفٍ مسبقًا، بل ينبغي أن يُرى الجندر أيضًا بوصفه نظام الإنتاج الذي ينشأ بواسطته الجنسَان (البيولوجيّان). ونتيجةً لذلك، الجندر ليس ثقافيًا والجنس البيولوجيّ ليس طبيعيًا؛ بل الجندر هو الوسيلة الخطابية/الثقافية التي تُنتج "الطبيعة المُجَنَّسة" أو "الجنس الطبيعي".1
   −
للوهلة الأولى، يُنظر إلى الرضاعة على أنها بديهيةٌ تاليةٌ للإنجاب، دورٌ بيولوجي مسندٌ للأمهات. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك حتى وإن التزمَت به أغلب النساء تاريخيًا، فهناك قلّةٌ غير نادرةٍ لم تستطع أو لم تشأ الالتزام به، ما أفرز حاجةً إلى وجود مُرضِعاتٍ يقدّمن الرضاعة عملًا مقابل أجرٍ منذ قديم الزمان، ودفع بالأديان إلى تنظيم الرضاعة بوصفها مسألةً فقهيةً تتحدّد صلاتُ القرابة والزواج بناءً عليها. ففي الإسلام، يُحرّم زواج الإخوة في الرضاعة بنصٍّ قرآني2 وحديثٍ سنّي،3 وللمطلّقة نفقةٌ عن رضاعة أبنائها.
+
للوهلة الأولى، يُنظر إلى [[الرضاعة]] على أنها بديهيةٌ تاليةٌ للإنجاب، [[دورٌ بيولوجي]] مسندٌ للأمهات. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك حتى وإن التزمَت به أغلب النساء تاريخيًا، فهناك قلّةٌ غير نادرةٍ لم تستطع أو لم تشأ الالتزام به، ما أفرز حاجةً إلى وجود مُرضِعاتٍ يقدّمن الرضاعة عملًا مقابل أجرٍ منذ قديم الزمان، ودفع بالأديان إلى تنظيم الرضاعة بوصفها مسألةً فقهيةً تتحدّد صلاتُ القرابة والزواج بناءً عليها. ففي الإسلام، يُحرّم زواج الإخوة في الرضاعة بنصٍّ قرآني2 وحديثٍ سنّي،3 وللمطلّقة نفقةٌ عن رضاعة أبنائها.
    
للوهلة الأولى، يُنظر إلى الرضاعة على أنها بديهيةٌ تاليةٌ للإنجاب، دورٌ بيولوجي مسندٌ للأمهات. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك حتى وإن التزمَت به أغلب النساء تاريخيًا، فهناك قلّةٌ غير نادرةٍ لم تستطع أو لم تشأ الالتزام به
 
للوهلة الأولى، يُنظر إلى الرضاعة على أنها بديهيةٌ تاليةٌ للإنجاب، دورٌ بيولوجي مسندٌ للأمهات. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك حتى وإن التزمَت به أغلب النساء تاريخيًا، فهناك قلّةٌ غير نادرةٍ لم تستطع أو لم تشأ الالتزام به
 
أتصوّر أن المجتمعات التقليدية مهّدَت نسبيًا مهمّة الإرضاع للنساء غير الراغبات أو فاقدات القدرة على تحمّل أعباء الرضاعة، فإتاحة الوصول لدوائر القريبات أو الجيران أو حتى المُرضِعات المأجورات داخل العائلة الممتدة، سهّلَت لبعض النساء البوحَ بالعجز عن الإرضاع. لا أقول إنها خلّصَتهن تمامًا من دورهنّ كمُرضِعاتٍ أو تفهّمَت الرضاعة بصفتها دورًا اجتماعيًا، لكنّ وجود بدائل داعمةً وممكّنةً خلّص بعض النساء من ضغط "إما أن تُرضِعي أو يموت طفلك".
 
أتصوّر أن المجتمعات التقليدية مهّدَت نسبيًا مهمّة الإرضاع للنساء غير الراغبات أو فاقدات القدرة على تحمّل أعباء الرضاعة، فإتاحة الوصول لدوائر القريبات أو الجيران أو حتى المُرضِعات المأجورات داخل العائلة الممتدة، سهّلَت لبعض النساء البوحَ بالعجز عن الإرضاع. لا أقول إنها خلّصَتهن تمامًا من دورهنّ كمُرضِعاتٍ أو تفهّمَت الرضاعة بصفتها دورًا اجتماعيًا، لكنّ وجود بدائل داعمةً وممكّنةً خلّص بعض النساء من ضغط "إما أن تُرضِعي أو يموت طفلك".
   −
هل حرّر اللبنُ الصناعي النساءَ من الإرضاع؟
+
==هل حرّر اللبنُ الصناعي النساءَ من الإرضاع؟==
 
حين تشكّلَت المجتمعاتُ الأوروبية الحديثة إبّان الثورة الصناعية في فترة 1750-1850 التي انتهَت بمشاركة النساء في سوق العمل مدفوع الأجر، زادت حدّة أزمة الإرضاع، وأصبحَ عدم القدرة أو الرغبة في الإرضاع مرتبطًا بعمل النساء في مؤسّساتٍ مختلفة. وسواء كانت الأسباب طبقيةً أو نفسيةً أو عملية، لم تستمع تلك المؤسّسات لحاجات النساء ورؤاهنّ لحلّ الأزمة، ولم يتمّ البحث في تعديل نظام العمل على نحوٍ يمكّن النساء الراغبات من إرضاع أولادهنّ، لأنّ أيّ تعديلٍ في النظام يعني تهديدًا لكثافة الإنتاج.
 
حين تشكّلَت المجتمعاتُ الأوروبية الحديثة إبّان الثورة الصناعية في فترة 1750-1850 التي انتهَت بمشاركة النساء في سوق العمل مدفوع الأجر، زادت حدّة أزمة الإرضاع، وأصبحَ عدم القدرة أو الرغبة في الإرضاع مرتبطًا بعمل النساء في مؤسّساتٍ مختلفة. وسواء كانت الأسباب طبقيةً أو نفسيةً أو عملية، لم تستمع تلك المؤسّسات لحاجات النساء ورؤاهنّ لحلّ الأزمة، ولم يتمّ البحث في تعديل نظام العمل على نحوٍ يمكّن النساء الراغبات من إرضاع أولادهنّ، لأنّ أيّ تعديلٍ في النظام يعني تهديدًا لكثافة الإنتاج.
   سطر 47: سطر 47:  
تشتري الأمهات التركيبة السحرية البيضاء وكذلك الببرونات، والمعقّمات، والحلمات، وفرشاة التنظيف ليضمنّ تحرير المؤسّسات من "تهديد" تأثر دورهنّ الإنتاجي بدورهنّ الإنجابي والرعائي. وسواء كان ذلك باختيارهنّ اللبن الصناعي أو عبر رمي اللبن في حمّام مكان العمل، تُتهم النساء بالتقصير تحت سطوة خطاب أهمية الرضاعة الطبيعية للطفل والأم، الذي رغم صحّته أقلّه من الناحية العلمية، تحوّل إلى خطابٍ قاهرٍ وإلزامي وشموليّ لا يُسمح للنساء بالخروج عن طوعه.
 
تشتري الأمهات التركيبة السحرية البيضاء وكذلك الببرونات، والمعقّمات، والحلمات، وفرشاة التنظيف ليضمنّ تحرير المؤسّسات من "تهديد" تأثر دورهنّ الإنتاجي بدورهنّ الإنجابي والرعائي. وسواء كان ذلك باختيارهنّ اللبن الصناعي أو عبر رمي اللبن في حمّام مكان العمل، تُتهم النساء بالتقصير تحت سطوة خطاب أهمية الرضاعة الطبيعية للطفل والأم، الذي رغم صحّته أقلّه من الناحية العلمية، تحوّل إلى خطابٍ قاهرٍ وإلزامي وشموليّ لا يُسمح للنساء بالخروج عن طوعه.
   −
بِكَم الرضاعة الطبيعية اليوم؟
+
==بِكَم الرضاعة الطبيعية اليوم؟==
 
انطلاقًا من منطقٍ اقتصادي رأسمالي بحت، يتبادر إلى ذهني السؤال: إذا كان اللبن الصناعي بديلًا للبن الأم، وتتم عمليات شرائه وبيعه مع أدواته بسلام، فلماذا إذًا تستمرّ خطابات إلزام النساء بالرضاعة الطبيعية؟
 
انطلاقًا من منطقٍ اقتصادي رأسمالي بحت، يتبادر إلى ذهني السؤال: إذا كان اللبن الصناعي بديلًا للبن الأم، وتتم عمليات شرائه وبيعه مع أدواته بسلام، فلماذا إذًا تستمرّ خطابات إلزام النساء بالرضاعة الطبيعية؟
   سطر 63: سطر 63:  
أما عندما اجترّ الخطابُ الإسناداتِ العلميّة المؤكّدة على أهمية لبن الأم، وبينما انحازَ أغلب النساء له، طوّرَت شركاتُ منتجات الرعاية بالرضّع أدواتها مستندةً إلى جملٍ تسويقيةٍ تربط شراء منتجاتها بالراحة، والسعادة، وتحقيق الأمان، وتسهيل المهمّة على الأم والطفل.   
 
أما عندما اجترّ الخطابُ الإسناداتِ العلميّة المؤكّدة على أهمية لبن الأم، وبينما انحازَ أغلب النساء له، طوّرَت شركاتُ منتجات الرعاية بالرضّع أدواتها مستندةً إلى جملٍ تسويقيةٍ تربط شراء منتجاتها بالراحة، والسعادة، وتحقيق الأمان، وتسهيل المهمّة على الأم والطفل.   
   −
الذنب يمنع البوح
+
==الذنب يمنع البوح==
 
طرحَت شبكةُ الإنترنت مساحةً للنساء ليَبُحن ويتحدّثن عن قضاياهنّ، سواء عبر النشر الفردي أو التحرّك الجماعي، وأقصد هنا الحملات الدعائية التي تنشر فيها النساء مشاركاتهنّ تحت هاشتاج موحّدٍ في شأن قضيةٍ محدّدة. منذ حوالي شهر، اطلقَت الصفحة النسوية Superwomen حملةً دعائيةً بعنوان "غدي النونة". وعنها تقول آية منير، المسؤولة عن المبادرة والصفحة: "أطلقنا الحملة حين صرّحَت نهاد أبو القمصان (مديرة المركز المصري لحقوق المرأة) أنّ المرأة غير ملزمةٍ شرعًا بالرضاعة، ورغم استنادها إلى الآراء الفقهية، إلا أنها هوجمَت من كُثُرٍ بالسّباب والتهجّم وحتى السخرية. أظهرَت تعليقاتٌ مثل "الرضاعة فطرة/ ستات بتدلّع/ ربّنا حطّ اللبن في صدر السّت عشان تعمل كابتشينو" جهلًا وإخفاقًا في تقدير الكثيرين متاعب الرضاعة وآلامها، فدعَينا عبر صفحتنا النساء لكتابة تجاربهنّ مع الرضاعة، سواء اخترنَ أن يرضعن طبيعيًا أو صناعيًا لأيّ سببٍ كان. توقّعنا أن تصِلنا عشراتُ القصص، لكن فوجئنا بتلقّينا عشر قصصٍ فقط، خمسٌ منها رفضَت كاتباتُها النشر أساسًا لكن شاركنَ من باب دعم العمل على القضية، والخمس الأخريات وافقنَ على النشر من دون أسماء".
 
طرحَت شبكةُ الإنترنت مساحةً للنساء ليَبُحن ويتحدّثن عن قضاياهنّ، سواء عبر النشر الفردي أو التحرّك الجماعي، وأقصد هنا الحملات الدعائية التي تنشر فيها النساء مشاركاتهنّ تحت هاشتاج موحّدٍ في شأن قضيةٍ محدّدة. منذ حوالي شهر، اطلقَت الصفحة النسوية Superwomen حملةً دعائيةً بعنوان "غدي النونة". وعنها تقول آية منير، المسؤولة عن المبادرة والصفحة: "أطلقنا الحملة حين صرّحَت نهاد أبو القمصان (مديرة المركز المصري لحقوق المرأة) أنّ المرأة غير ملزمةٍ شرعًا بالرضاعة، ورغم استنادها إلى الآراء الفقهية، إلا أنها هوجمَت من كُثُرٍ بالسّباب والتهجّم وحتى السخرية. أظهرَت تعليقاتٌ مثل "الرضاعة فطرة/ ستات بتدلّع/ ربّنا حطّ اللبن في صدر السّت عشان تعمل كابتشينو" جهلًا وإخفاقًا في تقدير الكثيرين متاعب الرضاعة وآلامها، فدعَينا عبر صفحتنا النساء لكتابة تجاربهنّ مع الرضاعة، سواء اخترنَ أن يرضعن طبيعيًا أو صناعيًا لأيّ سببٍ كان. توقّعنا أن تصِلنا عشراتُ القصص، لكن فوجئنا بتلقّينا عشر قصصٍ فقط، خمسٌ منها رفضَت كاتباتُها النشر أساسًا لكن شاركنَ من باب دعم العمل على القضية، والخمس الأخريات وافقنَ على النشر من دون أسماء".
   سطر 71: سطر 71:  
تجد آية منير أن المجتمع يتعامل مع الرضاعة باعتبارها من المسلّمات، ويُشعِر الأمهات بالذنب إن لم يلتزمن بالصورة المتخيّلة عن الأمومة المقدّسة المرتبطة بالتحمّل والتضحية والإيثار، ولو لم يكُن ذلك هو الحال، لكانت مئات النساء عبّرن وشاركنَ تجاربهنّ مع الرضاعة بكلّ جوانبها الحسّية.
 
تجد آية منير أن المجتمع يتعامل مع الرضاعة باعتبارها من المسلّمات، ويُشعِر الأمهات بالذنب إن لم يلتزمن بالصورة المتخيّلة عن الأمومة المقدّسة المرتبطة بالتحمّل والتضحية والإيثار، ولو لم يكُن ذلك هو الحال، لكانت مئات النساء عبّرن وشاركنَ تجاربهنّ مع الرضاعة بكلّ جوانبها الحسّية.
   −
تقول إيمان مرسال في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها": "يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحّد الأمهات على اختلافهنّ. إنه يكمن في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوّة والحب والعمل والصداقة، هو أيضًا نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصية".4
+
تقول [[إيمان مرسال]] في كتابها "كيف تلتئم: عن [[الأمومة]] وأشباحها": "يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحّد الأمهات على اختلافهنّ. إنه يكمن في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوّة والحب والعمل والصداقة، هو أيضًا نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصية".4
   −
إنّ الخطاب الرومانسي في شأن الرضاعة وتعاظم التخيّلات عن الامومة، يوقع بالنساء في فوهات الذنب، والذنب كفيلٌ بأن يُبقيهنّ معزولاتٍ ومنكبّاتٍ على تأدية أدوارهنّ من دون السماح لهنّ بمجرّد التفكير فيها. الشعور بالذنب يُخجلنا من ألمِنا، ويمنعنا من التعبير عنه، ويُنسينا صوتنا.
+
إنّ الخطاب الرومانسي في شأن [[الرضاعة]] وتعاظم التخيّلات عن الامومة، يوقع بالنساء في فوهات الذنب، والذنب كفيلٌ بأن يُبقيهنّ معزولاتٍ ومنكبّاتٍ على تأدية أدوارهنّ من دون السماح لهنّ بمجرّد التفكير فيها. الشعور بالذنب يُخجلنا من ألمِنا، ويمنعنا من التعبير عنه، ويُنسينا صوتنا.
80

تعديل

قائمة التصفح