تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مراجعة وتنسيق وإضافة روابط
سطر 19: سطر 19:  
===تاريخ تطور النظرية===
 
===تاريخ تطور النظرية===
   −
برزت نسويّة ما بعد الاستعمار كتيارٍ فكْري نتيجةً لاستخدام ما أنتجه مُفكري نظرية ما بعد الاستعمارية من معرفة وأساليب بحث في التحليل النسوي، ودراسة تقاطعاتهما.  تطورت هذه النظريّة كنقد لكلٍ من النسوية الغربية ونظرية ما بعد الاستعمارية السائدة، وتهتم بإعادة تعريف وتشكيل فهمٍ أكثر شمولاً للتقاطعات المُعقدة الرابطة بين الجندر والعرق والاستعمار وهياكل السلطة. يعود تطور نسوية ما بعد الاستعمار إلى أعمال مُفكري ما بعد الاستعمار مِمّن درسوا الكيفية التي تؤثر بها العلاقات الاستعمارية والإمبريالية خلال القرن التاسع عشر على الإدراك الذاتي للثقافات المختلفة. أمّا نسويّات ما بعد الاستعمار، فأدركن قصور نظرية ما بعد الاستعمارية السائدة في ذلك الوقت في معالجة قضايا النوع الاجتماعي وتقاطعها مع أشكال أُخرى من الاضطهاد والعُنف، الأمر الذي ساهم في تهميش تجارب النساء في هذه المُجتمعات. بينما ركزت نظرية ما بعد الاستعمارية في الغالب على ما خلّفه الاستعمار من آثار على المؤسسات الاقتصادية والسياسية، أثارت مفكرات نسوية ما بعد الاستعمار أسئلةً هامّة حول تهميش قضايا الجندر في هذه التحليلات. كما سعَيْن إلى  نقد ميل المدارس والحركات النسويّة الغربية لتعميم مبادئها وتطبيقها على النساء من جميع أنحاء العالم دونَ مراعاة اختلافاتهن الثقافية وتجاربهن المتنوعة.  
+
برزت نسويّة ما بعد الاستعمار كتيارٍ فكْري نتيجةً لاستخدام ما أنتجه مُفكري نظرية ما بعد الاستعمارية من معرفة وأساليب بحث في التحليل النسوي، ودراسة تقاطعاتهما.  تطورت هذه النظريّة كنقد لكلٍ من النسوية الغربية ونظرية ما بعد الاستعمارية السائدة، وتهتم بإعادة تعريف وتشكيل فهمٍ أكثر شمولاً للتقاطعات المُعقدة الرابطة بين [[الجندر]] والعرق والاستعمار وهياكل السلطة. يعود تطور نسوية ما بعد الاستعمار إلى أعمال مُفكري ما بعد الاستعمار مِمّن درسوا الكيفية التي تؤثر بها العلاقات الاستعمارية والإمبريالية خلال القرن التاسع عشر على الإدراك الذاتي للثقافات المختلفة. أمّا نسويّات ما بعد الاستعمار، فأدركن قصور نظرية ما بعد الاستعمارية السائدة في ذلك الوقت في معالجة قضايا [[النوع الاجتماعي]] وتقاطعها مع أشكال أُخرى من الاضطهاد والعُنف، الأمر الذي ساهم في تهميش تجارب النساء في هذه المُجتمعات. بينما ركزت نظرية ما بعد الاستعمارية في الغالب على ما خلّفه الاستعمار من آثار على المؤسسات الاقتصادية والسياسية، أثارت مفكرات نسوية ما بعد الاستعمار أسئلةً هامّة حول تهميش قضايا الجندر في هذه التحليلات. كما سعَيْن إلى  نقد ميل المدارس والحركات النسويّة الغربية لتعميم مبادئها وتطبيقها على النساء من جميع أنحاء العالم دونَ مراعاة اختلافاتهن الثقافية وتجاربهن المتنوعة.  
   −
اهتّم [https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%AF_%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF إدوارد سعيد]، مُفكّر فلسطيني-أمريكي، في كتابه "الاستشراق" بتمثيل "الشرق" في سياق الخطاب الاستعماري  في المقام الأول، ولم يتطرق بشكلٍ مباشر إلى قضايا النوع الاجتماعي. ركز تحليله على بناء "الآخر" وديناميكيات القوة المُسيطرة على إنتاج المعرفة في السياق الاستعماري. بينما يُعتبر عمل سعيد رائدًا في كشف التحيزات الاستشراقية والقوالب النمطية التي يُرسّخها عُلماء ومُفكري الغرب الامبريالي، إلا أنه لم يتعمق في دراسة الأبعاد الجندرية للاستعمار وآثاره على نساءِ مجتمعات ما بعد الاستعمار. اعترفت نسويّات ما بعد الاستعمار بقصور سعيد هذا، وبناءً على الإطار المعرفي التأسيسي له، بحثن في الدور المحوري الذي لعبته العلاقات الجندرية في المشروع الاستعماري وتأثيراته على النساء في مجتمعات ما بعد الاستعمار. إذ سلّطت هذه النسويات الضوء على الآثار المؤذية التي تسبّبت بها المفاهيم الغربية عن الأنوثة على تجارب النساء في المناطق المستعمرة، حيثُ فشل الفكر النسوي الغربي في تحليل الصراعات والنضالات المُختلفة والفريدة لهذه النساء مُوديًا لمحو تاريخٍِ ضخم من حركات الشعوب الأصلية النسوية. كشفت أبحاث وتحليلات نسويّات ما بعد الاستعمار عن كيفية تعزيز الاستعمار للهيكليّة الأبوية داخل المجتمعات المُستعمَرة عن علاقة متشابكة بين الاضطهاد الجندري والمساعي الاستعمارية. لطالما كان إخضاع النساء وتهميشها وسيلة تستخدمها الأنظمة الاستعمارية لتوسيع مساعيها، الأمر الذي ترتّب عليه استمرار الأعراف والممارسات القمعية. أمّا النسويّات الغربيات، فصوّرن النساء المُستعَمرات على أنهن ضحايا خاضعات لا حول لهُّون ولا قُوّة. استخدمت القوى الاستعمارية الهياكل الأبوية للحفاظ على السيطرة على المجتمعات المستعمرة، حادّةً بذلك من مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية بشكلٍ كبير، وأعاقت هذه التبعية البُنيويّة وصول المرأة إلى الفرص التعليمية والاقتصادية، ومدّدت بذلك اعتمادها على أصحاب السلطة الذكورية. ونتيجةً لذلك، قوبلت حركات المقاومة النسائية والجهود المبذولة لتحدي الهياكل القمعية بمُعاندة من القوى الاستعمارية والأبويّة داخل مجتمعاتهن.
+
اهتّم [https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%AF_%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF إدوارد سعيد]، مُفكّر فلسطيني-أمريكي، في كتابه "الاستشراق" بتمثيل "الشرق" في سياق الخطاب الاستعماري  في المقام الأول، ولم يتطرق بشكلٍ مباشر إلى قضايا النوع الاجتماعي. ركز تحليله على بناء "الآخر" وديناميكيات القوة المُسيطرة على إنتاج المعرفة في السياق الاستعماري. بينما يُعتبر عمل سعيد رائدًا في كشف التحيزات الاستشراقية والقوالب النمطية التي يُرسّخها عُلماء ومُفكري الغرب الامبريالي، إلا أنه لم يتعمق في دراسة الأبعاد الجندرية للاستعمار وآثاره على نساءِ مجتمعات ما بعد الاستعمار. اعترفت نسويّات ما بعد الاستعمار بقصور سعيد هذا، وبناءً على الإطار المعرفي التأسيسي له، بحثن في الدور المحوري الذي لعبته العلاقات الجندرية في المشروع الاستعماري وتأثيراته على النساء في مجتمعات ما بعد الاستعمار. إذ سلّطت هذه النسويات الضوء على الآثار المؤذية التي تسبّبت بها المفاهيم الغربية عن [[أنوثة|الأنوثة]] على تجارب النساء في المناطق المستعمرة، حيثُ فشل الفكر النسوي الغربي في تحليل الصراعات والنضالات المُختلفة والفريدة لهذه النساء مُوديًا لمحو تاريخٍِ ضخم من حركات الشعوب الأصلية النسوية.  
   −
كما كان ل[[غاياتري سبيفاك|غاياتري شاكرافورتي سبيفاك]]، مفُكرة نسوية بارزة في فترة ما بعد الاستعمار، تأثيرٌ كبير على تطور حركة نسويّة ما بعد الاستعمار. إذ بحثت سبيفاك في مقالها "[http://cup.columbia.edu/book/can-the-subaltern-speak/9780231143851#:~:text=Gayatri%20Chakravorty%20Spivak's%20original%20essay,division%20of%20labor%20and%20capitalism's%20%22 هل يستطيع التابع أن يتكلم؟]", وهو أحدّ أهم المصادر البحثية التي تُحلّل نقديًا موضوع تهميش الأصوات المُصنفة على أنها تابعة أو من درجةٍ دُنيا، ولا سيما أصوات النساء في المجتمعات الاستعمارية وما بعد الاستعمار. يشير مصطلح "التابع" هُنا إلى الأفراد أو الجماعات المهمشة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وغالبًا ما يتم استبعاد مُشاركتهم في الخطابات السائدة. يدرُس مقال سبيفاك بعمق الطرق التي أُسكِتت بها أصوات النساء التابعات، ومُحيت بها تجاربهن من قِبل السلطات الاستعمارية والأنظمة الأبوية. تتحدى سبيفاك في مقالها هذا وجهات النظر الأوروبية التي لطالما هيمنت على الخطاب النسوي، وتدعو إلى تحليل نسوي أكثر شمولًا وتقاطعية. كما تُسلط الضوء على قيود الأطر النسوية الغربية التي تميل إلى مُجانسة تجارب النساء من خلفيات ثقافية وجغرافية متنوعة، متجاهلةً بذلك الخصوصيات المُحيطة بمُختلف النضالات التي تخوضها النساء في جنوب الكرة الأرضية. تتطرّق سبيفاك هُنا إلى تعقيدات التمثيل ومدى قُدرة النساء التابعات في السياقات الاستعمارية وما بعد الاستعمار على إعلاء أصواتهن، وتطرحُ أسئلةً مهمة حول من يملك السلطة للتحدُث نيابةً عن الجماعات المُهمشة، وكيف قد يكون لذلك أثرًا سلبيًا يُساهم في إستمرار ذلك التهميش. إذ أنّ تحدُث أصحاب الامتيازات من أفرادٍ وجماعات -وهم غالبًا من أوساطٍ ثقافية أو أكاديمية نخبوية- باسم التابع الأضعف، فإنّهم بذلك قد يعززون عن غير قصد ديناميكيات السُلطة الحالية. وبالتالي، قد يُصبح فعل التمثيل هذا وسيلةً للسيطرة كونه يسمح لأصحاب القوّة بالتحكم في روايات وتجارب أولئك مِمّن أُسكِتوا واضطُهِدوا على مرّ التاريخ. لذلك، فإنّ سبيفاك تُجادل بأهميّة السماح للمرأة التابعة بالتحدّث عن نفسها بنفسها، مُستعيدًة بذلك حقها في استرداد قُدرتها المسلوبة على سرد روايتها التي لطالما هُمشت وشُوّهت. شكّلت أفكار سبيفاك الأجيال اللاحقة من مُفكرات نسويّة ما بعد الاستعمار، دافعةً إيّاهم لمواجهة موروثات الاستعمار والإمبريالية في مجالات الممارسات البحثية والأكاديمية والنسوية، حيث تدعو لتحليلٍ نسوي مُتحرّر من آثار الاستعمار عليه، والتعرّف على التحيزات الاستعمارية والأُطر التي تتمركز حول التجربة والتي غالبًا ما شكّلت الخطابات النسوية السائدة وتفكيكها. تستمر مساهمات [سبيفاك في تلقي صدى عميق عند حركات نسويّة ما بعد الاستعمار، مُلهمةً بذلك المفكرات والناشطات -على حدٍ سواء- لدراسة هياكل السلطة بشكلٍ نقدي والتشكّيك في الروايات السائدة وتحدي محو الأصوات المهمشة، جاعلةً بذلك من أعمالها بوصلة تُوجههن نحو السعي من أجل عالمٍ أكثر إنصافًا لجميع النساء.
+
كشفت أبحاث وتحليلات نسويّات ما بعد الاستعمار عن كيفية تعزيز الاستعمار للهيكليّة الأبوية داخل المجتمعات المُستعمَرة عن علاقة متشابكة بين الاضطهاد الجندري والمساعي الاستعمارية. لطالما كان إخضاع النساء وتهميشهن وسيلة تستخدمها الأنظمة الاستعمارية لتوسيع مساعيها، الأمر الذي ترتّب عليه استمرار الأعراف والممارسات القمعية. أمّا النسويّات الغربيات، فصوّرن النساء المُستعَمرات على أنهن ضحايا خاضعات لا حول لهُّون ولا قُوّة. استخدمت القوى الاستعمارية الهياكل الأبوية للحفاظ على السيطرة على المجتمعات المستعمرة، حادّةً بذلك من مشاركة النساء في الحياة العامة والسياسية بشكلٍ كبير، وأعاقت هذه التبعية البُنيويّة وصول النساء إلى الفرص التعليمية والاقتصادية، ومدّدت بذلك اعتمادها على أصحاب السلطة الذكورية. ونتيجةً لذلك، قوبلت حركات المقاومة النسائية والجهود المبذولة لتحدي الهياكل القمعية بمُعاندة من القوى الاستعمارية والأبويّة داخل مجتمعاتهن.
   −
تتسّم مساهمات [[أودري لورد]] في تطور نظرية نسويّة ما بعد الاستعمار بنقدها الذي لا يلين للنسوية الغربية، حيث واجهت بصراحة فشلها في معالجة تجارب ونضالات نساء العالم الثالث. جادلت في مقالها المُؤثر "[[وثيقة:لا يمكن لأدوات السيد أن تهدم منزله|لا يمكن لأدوات السيد أن تهدم منزلها]]" بأنّ محاولة تفكيك الهياكل القمعية باستخدام نفس الأدوات التي اتبّعها النظام الأبوي في فرض هيمنته لن تؤدّي إلى تحريرٍ فِعلي للنساء على مستوى العالم. دافعت لورد عن الاعتراف بالتحّديات المُتنوعة التي تواجهها النساء من مُختلف الخلفيات الثقافية والعرقية والاجتماعية والاقتصادية، وبدلاً من رفض أو محو هذه الفروقات حثّت النسويات على الاحتفال بها باعتبارها نقاط قوة مُعزّزاتٍ بذلك جسور التضامن التي تربطهن في مُجتمعٍ نسوّي مُتحد.
+
كما كان ل[[غاياتري سبيفاك|غاياتري شاكرافورتي سبيفاك]]، مفُكرة نسوية بارزة في فترة ما بعد الاستعمار، تأثيرٌ كبير على تطور حركة نسويّة ما بعد الاستعمار. إذ بحثت سبيفاك في مقالها "[http://cup.columbia.edu/book/can-the-subaltern-speak/9780231143851#:~:text=Gayatri%20Chakravorty%20Spivak's%20original%20essay,division%20of%20labor%20and%20capitalism's%20%22 هل يستطيع التابع أن يتكلم؟]"، وهو أحدّ أهم المصادر البحثية التي تُحلّل نقديًا موضوع تهميش الأصوات المُصنفة على أنها تابعة أو من درجةٍ دُنيا، ولا سيما أصوات النساء في المجتمعات الاستعمارية وما بعد الاستعمار.
 +
 
 +
يشير مصطلح "التابع" هُنا إلى الأفراد أو الجماعات المهمشة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وغالبًا ما يتم استبعاد مُشاركتهم في الخطابات السائدة. يدرُس مقال سبيفاك بعمق الوسائل التي أُسكِتت بها أصوات النساء التابعات، ومُحيت بها تجاربهن من قِبل السلطات الاستعمارية والأنظمة الأبوية. تتحدى سبيفاك في مقالها هذا وجهات النظر الأوروبية التي لطالما هيمنت على الخطاب النسوي، وتدعو إلى تحليل نسوي أكثر شمولًا وتقاطعية. كما تُسلط الضوء على قيود الأطر النسوية الغربية التي تميل إلى مُجانسة تجارب النساء من خلفيات ثقافية وجغرافية متنوعة، متجاهلةً بذلك الخصوصيات المُحيطة بمُختلف النضالات التي تخوضها النساء في جنوب الكرة الأرضية. تتطرّق سبيفاك هُنا إلى تعقيدات التمثيل ومدى قُدرة النساء التابعات في السياقات الاستعمارية وما بعد الاستعمار على إعلاء أصواتهن، وتطرحُ أسئلةً مهمة حول من يملك السلطة للتحدُث نيابةً عن الجماعات المُهمشة، وكيف قد يكون لذلك أثرًا سلبيًا يُساهم في إستمرار ذلك التهميش. إذ أنّ تحدُث أصحاب [[امتياز|الامتيازات]] من أفرادٍ وجماعات -وهم غالبًا من أوساطٍ ثقافية أو أكاديمية نخبوية- باسم التابع الأضعف، فإنّهم بذلك قد يعززون عن غير قصد ديناميكيات السُلطة الحالية. وبالتالي، قد يُصبح فعل التمثيل هذا وسيلةً للسيطرة كونه يسمح لأصحاب القوّة بالتحكم في روايات وتجارب أولئك مِمّن أُسكِتوا واضطُهِدوا على مرّ التاريخ. لذلك، فإنّ سبيفاك تُجادل بأهميّة السماح للمرأة التابعة بالتحدّث عن نفسها بنفسها، مُستعيدًة بذلك حقها في استرداد قُدرتها المسلوبة على سرد روايتها التي لطالما هُمشت وشُوّهت.
 +
 
 +
شكّلت أفكار سبيفاك الأجيال اللاحقة من مُفكرات نسويّة ما بعد الاستعمار، دافعةً إيّاهم لمواجهة موروثات الاستعمار والإمبريالية في مجالات الممارسات البحثية والأكاديمية والنسوية، حيث تدعو لتحليلٍ نسوي مُتحرّر من آثار الاستعمار عليه، والتعرّف على التحيزات الاستعمارية والأُطر التي تتمركز حول التجربة والتي غالبًا ما شكّلت الخطابات النسوية السائدة وتفكيكها. تستمر مساهمات [سبيفاك في تلقي صدى عميق عند حركات نسويّة ما بعد الاستعمار، مُلهمةً بذلك المفكرات والناشطات -على حدٍ سواء- لدراسة هياكل السلطة بشكلٍ نقدي والتشكّيك في الروايات السائدة وتحدي محو الأصوات المهمشة، جاعلةً بذلك من أعمالها بوصلة تُوجههن نحو السعي من أجل عالمٍ أكثر إنصافًا لجميع النساء.
 +
 
 +
تتسّم مساهمات [[أودري لورد]] في تطور نظرية نسويّة ما بعد الاستعمار بنقدها الذي لا يلين للنسوية الغربية، حيث واجهت بصراحة فشلها في معالجة تجارب ونضالات نساء العالم الثالث. جادلت في مقالها المُؤثر "[[وثيقة:لا يمكن لأدوات السيد أن تهدم منزله|لا يمكن لأدوات السيد أن تهدم منزلها]]" بأنّ محاولة تفكيك الهياكل القمعية باستخدام نفس الأدوات التي اتبّعها [[نظام أبوي|النظام الأبوي]] في فرض هيمنته لن تؤدّي إلى تحريرٍ فِعلي للنساء على مستوى العالم. دافعت لورد عن الاعتراف بالتحّديات المُتنوعة التي تواجهها النساء من مُختلف الخلفيات الثقافية والعرقية والاجتماعية والاقتصادية، وبدلاً من رفض أو محو هذه الفروقات حثّت النسويات على الاحتفال بها باعتبارها نقاط قوة مُعزّزاتٍ بذلك جسور التضامن التي تربطهن في مُجتمعٍ نسوّي مُتحد.
    
===الأحداث والحركات والممارسات===  
 
===الأحداث والحركات والممارسات===  
   −
تكتب الباحثة والكاتبة النسوية [[سارة سالم]] في مقالتها "التضامن النسوي العابر للحدود في عالم ما بعد الاستعمار" <ref>#[https://thesociologicalreview.org/collections/politics-of-representation/transnational-feminist-solidarity-in-a-postcolonial-world/ Transnational Feminist Solidarity in a Postcolonial World]. تأليف سارة سالم. نشر the sociological review. في 2019/07/03.</ref> عن أحداث تاريخية مثلت لحظات انفصال ولحظات توافق بين نسويات ما بعد الاستعمار عبر الحدود في القرن العشرين.
+
تكتب الباحثة والكاتبة النسوية [[سارة سالم]] في مقالتها "التضامن النسوي العابر للحدود في عالم ما بعد الاستعمار" <ref>#[https://thesociologicalreview.org/collections/politics-of-representation/transnational-feminist-solidarity-in-a-postcolonial-world/ Transnational Feminist Solidarity in a Postcolonial World]. تأليف سارة سالم. نشر the sociological review. في 2019/07/03.</ref> عن أحداث تاريخية مثلت لحظات انفصال ولحظات توافق بين نسويات ما بعد الاستعمار عبر الحدود في القرن العشرين. ومما تذكره سالم في مقالها مؤتمرات واتحادات ساهمت في التضامن والالتقاء منها:
   −
* مؤتمر التحالف الدولي للمرأة في كوبنهاجن 1939
+
* مؤتمر التحالف الدولي للمرأة في كوبنهاجن سنة 1939
كان هذا المؤتمر لحظة مهمة تاريخياً لانفصال وخلاف بين نسويات العالم الأول ونسويات العالم الثالث. كانت نقطة الخلاف الأساسية عدم اعتراف نسويات العالم الأول بتأثير الاستعمار الدائم بسبب حكوماتهمن على القضايا النسوية التي يتم مناقشتها في المؤتمر، على الأخص دور بريطانيا في  قضية الاستعمار في فلسطين. طرحت النسوية المصرية [[مذكرات هدى شعراوي|هدى شعراوي]] في هذا المؤتمر على نسويات من العالم الثالث أهمية تكوين "اتحاد نسوي شرقي" يهتم بالتقاطع بين القضايا النسوية وقضايا التحرر من ومناهضة الاستعمار. أدت هذه المحادثات والإحباطات والمقترحات بين نسويات العالم الثالث في تلك المؤتمرات الدولية إلى نمو رغبتهمن في خلق مؤتمرات منفصلة خاصة بهمن.
+
كان هذا المؤتمر لحظة مهمة تاريخياً لانفصال وخلاف بين نسويات العالم الأول ونسويات العالم الثالث. كانت نقطة الخلاف الأساسية عدم اعتراف نسويات العالم الأول بتأثير الاستعمار الدائم بسبب حكوماتهمن على القضايا النسوية التي نُوقشت في المؤتمر، على الأخص دور بريطانيا في  قضية الاستعمار في فلسطين. طرحت النسوية المصرية [[مذكرات هدى شعراوي|هدى شعراوي]] في هذا المؤتمر على نسويات من العالم الثالث أهمية تكوين "اتحاد نسوي شرقي" يهتم بالتقاطع بين القضايا النسوية وقضايا التحرر من ومناهضة الاستعمار. أدت هذه المحادثات والإحباطات والمقترحات بين نسويات العالم الثالث في تلك المؤتمرات الدولية إلى نمو رغبتهمن في خلق مؤتمرات منفصلة خاصة بهن.
   −
* مؤتمر نساء آسيا في بكين 1947
+
* مؤتمر نساء آسيا في بكين سنة 1947
في عام ١٩٤٧، عقد الاتحاد النسائي الديمقراطي الدولي (WIDF) مؤتمر نساء آسيا في بكين. شارك في المؤتمر نسويات من أفريقيا وآسيا وكان تركيزهمن الأساسي تعزيز التضامن النسوي المناهض للإمبريالية في بلاد الجنوب العالمي.  
+
في عام ١٩٤٧، عقد الاتحاد النسائي الديمقراطي الدولي (WIDF) مؤتمر نساء آسيا في بكين. شارك في المؤتمر نسويات من أفريقيا وآسيا وكان تركيزهن الأساسي تعزيز التضامن النسوي المناهض للإمبريالية في بلاد الجنوب العالمي.  
   −
* مؤتمر باندونغ الأفرو-آسيوي 1955
+
* مؤتمر باندونغ الأفرو-آسيوي سنة 1955
مثل مؤتمر باندونغ لحظة مهمة في تاريخ التضامن بين الدول المستقلة وكان تأثيره الأساسي إنشاء حركة عدم الانحياز.بالرغم من عدم تركيز مؤتمر باندونغ بشكل رئيسي على قضايا نسوية، ولكنه أتاح مساحة لنسويات من العالم الثالث للالتقاء والتشبيك مع بعضهمن.
+
مثّل مؤتمر باندونغ لحظة مهمة في تاريخ التضامن بين الدول المستقلة وكان تأثيره الأساسي إنشاء حركة عدم الانحياز. بالرغم من عدم تركيز مؤتمر باندونغ بشكل رئيسي على قضايا نسوية، ولكنه أتاح مساحة لنسويات ونسويين من العالم الثالث للالتقاء والتشبيك مع بعضهم.
   −
* الاتحاد النسائي العربي 1944  
+
* الاتحاد النسائي العربي سنة 1944  
 
تشكل الاتحاد النسائي العربي في عام 1944 بعد انعقاد المؤتمر النسائي العربي في القاهرة في العام نفسه. عُقد المؤتمر في مقر جمعية الاتحاد النسائي المصري برئاسة هدى شعراوي. حضر المؤتمر ووفود من فلسطين ولبنان وسوريا وشرق الأردن والعراق، وتبلور الهدف الرئيسي للاتحاد حول الحقوق السياسية والقانونية والاقتصادية للنساء في المنطقة العربية.<ref>[[ماريا نجار]]؛ [https://kohljournal.press/ar/node/237 إعادة إحياء العروبة في الحركة النسويّة في الشرق الأوسط]؛ [[كحل]]؛ صيف 2020.
 
تشكل الاتحاد النسائي العربي في عام 1944 بعد انعقاد المؤتمر النسائي العربي في القاهرة في العام نفسه. عُقد المؤتمر في مقر جمعية الاتحاد النسائي المصري برئاسة هدى شعراوي. حضر المؤتمر ووفود من فلسطين ولبنان وسوريا وشرق الأردن والعراق، وتبلور الهدف الرئيسي للاتحاد حول الحقوق السياسية والقانونية والاقتصادية للنساء في المنطقة العربية.<ref>[[ماريا نجار]]؛ [https://kohljournal.press/ar/node/237 إعادة إحياء العروبة في الحركة النسويّة في الشرق الأوسط]؛ [[كحل]]؛ صيف 2020.
 
</ref>
 
</ref>
سطر 48: سطر 54:  
===الإنتاج المعرفي ونزع الاستعمار===
 
===الإنتاج المعرفي ونزع الاستعمار===
   −
لطالما تمركزت عمليات الإنتاج المعرفي في إطار المؤسسات الجامعية والمراكز البحثية والمؤسسات الاعلامية التي لا تأخذ بالضرورة بعين الاعتبار دورها في المساهمة في خلق شكل من أشكال مشروعية الهيمنة الثقافية. والهيمنة الثقافية مفهوم يُستخدم في سياق دراسات ما بعد الاستعمار، ويعود إلى غرامشي، فيلسوفًا وسياسيًا ومنظرًا ماركسيًا إيطاليًا عاش من عام 1891 إلى عام 1937؛ اشتهر بإسهاماته في فهم الهيمنة الثقافية في سياق النظرية الماركسية. ويرى غرامشي أن الهيمنة الثقافية تعمل من خلال تقديم صالح الطبقة الحاكمة كقيم معيارية ومقبولة عالميًا للمجتمع، وبالتالي جعل هذه القيم تبدو طبيعية وأفضل ما يمكن القبول به. نتيجة لذلك، يميل الأفراد من الطبقات التابعة إلى استيعاب هذه المعتقدات والقيم، مما يساهم في الحفاظ على هياكل السلطة الحالية. ويتم ذلك من خلال التعليم والمعارف المنتشرة التي تخلق سردية واحدة؛ وفي سياق الاستعمار، تصبح الطبقة الحاكمة، بالضرورة، الجهة المستعمرة، وهذا يعني تبني ثقافة هذه الجهة، بما في ذلك لغتها، وهذا ما يفسر تمركز اللغتين الإنكليزية والفرنسية مثلًا في سياق المنطقة، وذلك بحسب التقسيم الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا في خلال بداية العشرينات من القرن الماضي.
+
لطالما تمركزت عمليات الإنتاج المعرفي في إطار المؤسسات الجامعية والمراكز البحثية والمؤسسات الاعلامية التي لا تأخذ بالضرورة بعين الاعتبار دورها في المساهمة في خلق شكل من أشكال مشروعية الهيمنة الثقافية. والهيمنة الثقافية مفهوم يُستخدم في سياق دراسات ما بعد الاستعمار، ويعود إلى غرامشي، فيلسوف وسياسي ومنظر ماركسي إيطالي عاش بين 1891 و1937؛ واشتهر بإسهاماته في فهم الهيمنة الثقافية في سياق النظرية الماركسية.  
 +
 
 +
ويرى غرامشي أن الهيمنة الثقافية تعمل من خلال تقديم صالح الطبقة الحاكمة كقيم معيارية ومقبولة عالميًا للمجتمع، وبالتالي جعل هذه القيم تبدو طبيعية وأفضل ما يمكن القبول به. نتيجة لذلك، يميل الأفراد من الطبقات التابعة إلى استيعاب هذه المعتقدات والقيم، مما يساهم في الحفاظ على هياكل السلطة الحالية. ويحصل ذلك من خلال التعليم والمعارف المنتشرة التي تخلق سردية واحدة؛ وفي سياق الاستعمار، تصبح الطبقة الحاكمة، بالضرورة، الجهة المستعمرة، وهذا يعني تبني ثقافة هذه الجهة، بما في ذلك لغتها، وهذا ما يفسر تمركز اللغتين الإنكليزية والفرنسية مثلًا في سياق المنطقة، وذلك بحسب التقسيم الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا في خلال بداية العشرينيات من القرن الماضي.
    
لتحدي الهيمنة الثقافية، ركزت مدارس ما بعد الاستعمار، بما في ذلك نسوية ما بعد الاستعمار، على أهمية الانتاج المعرفة المناهض للاستعمار نفسه. وعند فحص الهيمنة الثقافية من منظور نسوية ما بعد الاستعمار، يمكننا استكشاف كيف تتقاطع الأيديولوجيات الأبوية، جنبًا إلى جنب مع الهياكل الاستعمارية والإمبريالية. في سياق نسوية ما بعد الاستعمار، تعمل الهيمنة الثقافية من خلال تمثيل وفرض المعايير والقيم للجهة المستعمرة وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى محو المعرفة الأصلية.
 
لتحدي الهيمنة الثقافية، ركزت مدارس ما بعد الاستعمار، بما في ذلك نسوية ما بعد الاستعمار، على أهمية الانتاج المعرفة المناهض للاستعمار نفسه. وعند فحص الهيمنة الثقافية من منظور نسوية ما بعد الاستعمار، يمكننا استكشاف كيف تتقاطع الأيديولوجيات الأبوية، جنبًا إلى جنب مع الهياكل الاستعمارية والإمبريالية. في سياق نسوية ما بعد الاستعمار، تعمل الهيمنة الثقافية من خلال تمثيل وفرض المعايير والقيم للجهة المستعمرة وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى محو المعرفة الأصلية.
   −
تتناول المنظرة غاياتري شاكرافورتي سبيفاك  في عملها "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" كيف أن الروايات الثقافية المهيمنة وإنتاج المعرفة يستبعدان أصوات وتجارب الفئات المهمشة ، ولا سيما النساء ذوات البشرة الملونة كما تتناول تواطؤ النسوية الغربية في إدامة الهيمنة الثقافية وتدعو إلى ممارسة نسوية أكثر شمولاً. كما تناولت ترينه ت. مينه ها، مخرجة وكاتبة فيتنامية، في عملها "امرأة، أصلية، أخرى: كتابة ما بعد الاستعمار والنسوية" ، تتحدى مينها التمثيلات الثقافية السائدة للنساء ذوات البشرة الملونة وتدافع عن فهم أكثر دقة لتجاربهن في إطار الهيمنة الثقافية. وكان لعمل بيل هوكس، كاتبة اميركية واحدى عواميد المدرسة النسوية السوداء، تاثير على فهم كيف تعمل الهيمنة الثقافية عند تقاطع العرق والجنس والطبقة وتدعو إلى إنهاء استعمار المعرفة والممارسات. كما تناولت ليلى أحمد "المرأة والنوع الاجتماعي في الإسلام: الجذور التاريخية لنقاش حديث"، تاثير الهيمنة الثقافية على النظرة الغربية للمرأة المسلمة، وعززت الصور النمطية وتبرير التدخلات الإمبريالية في المناطق ذات الأغلبية المسلمة. وتشكل هذه بعض من الرؤى النقدية للطرق المعقدة التي تتقاطع بها الهيمنة الثقافية مع الموروثات الاستعمارية والنضالات النسوية.  
+
تتناول المنظرة غاياتري شاكرافورتي سبيفاك  في عملها "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" كيف أن الروايات الثقافية المهيمنة وإنتاج المعرفة يستبعدان أصوات وتجارب الفئات المهمشة ، ولا سيما النساء ذوات البشرة الملونة كما تتناول تواطؤ النسوية الغربية في إدامة الهيمنة الثقافية وتدعو إلى ممارسة نسوية أكثر شمولاً.  
 +
 
 +
كذلك، في عملها "امرأة، أصلية، أخرى: كتابة ما بعد الاستعمار والنسوية" ، تتحدى ترينه ت. مينه-ها، مخرجة وكاتبة فيتنامية،التمثيلات الثقافية السائدة للنساء ذوات البشرة الملونة وتدافع عن فهم أكثر دقة لتجاربهن في إطار الهيمنة الثقافية. وكان لعمل [[بيل هوكس]]، كاتبة أميركية وأحد أعمدة المدرسة النسوية السوداء، تأثير على فهم كيفية عمل الهيمنة الثقافية عند تقاطع العرق والجنس والطبقة وتدعو إلى إنهاء استعمار المعرفة والممارسات.  
 +
 
 +
أيضًا تناولت ليلى أحمد "المرأة والنوع الاجتماعي في الإسلام: الجذور التاريخية لنقاش حديث"، تأثير الهيمنة الثقافية على النظرة الغربية للمرأة المسلمة، وعززت الصور النمطية وتبرير التدخلات الإمبريالية في المناطق ذات الأغلبية المسلمة. وتشكل هذه بعض من الرؤى النقدية للطرق المعقدة التي تتقاطع بها الهيمنة الثقافية مع الموروثات الاستعمارية والنضالات النسوية.  
    
===العلاقة بنسوية العالم الثالت===
 
===العلاقة بنسوية العالم الثالت===
staff
2٬193

تعديل

قائمة التصفح