تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تعديل قالب بيانات وثيقة واضافة محتوى
سطر 5: سطر 5:  
|لغة=ar
 
|لغة=ar
 
|ترجمة=
 
|ترجمة=
|المصدر=الحوار المتمدن
+
|المصدر=مساواة
 
|تاريخ النشر=5/3/2016
 
|تاريخ النشر=5/3/2016
 
|تاريخ الاسترجاع=23/7/2018
 
|تاريخ الاسترجاع=23/7/2018
|مسار الاسترجاع=www.m.ahewar.org/s.asp?aid=479028&r=0&cid=0&u=&i=0&q=
+
|مسار الاسترجاع=http://musawasyr.org/?p=16554
 
|نسخة أرشيفية=
 
|نسخة أرشيفية=
 
|هل ترجمة=نعم
 
|هل ترجمة=نعم
سطر 143: سطر 143:     
قد يبدو في بادئ الأمر أنّ نظريّة التقاطعيّة تتجاوز حدود سياسات الهويّة، ولكنّها في الواقع تعجز عن ذلك. سيبيّن الجزء القادم كيف أنّ نظريّة التقاطعيّة هي بالفعل أيديولوجيا بورجوازية.
 
قد يبدو في بادئ الأمر أنّ نظريّة التقاطعيّة تتجاوز حدود سياسات الهويّة، ولكنّها في الواقع تعجز عن ذلك. سيبيّن الجزء القادم كيف أنّ نظريّة التقاطعيّة هي بالفعل أيديولوجيا بورجوازية.
 +
 +
==نقد ماركسي لسياسات الهويّة ونظريّة التقاطعية==
 +
 +
 +
سياساتُ الهويّة هي سياساتٌ متجذّرة في تمظُهرٍ أحاديّ الجانب للرأسماليّة، وهي بالتالي ليست سياساتٍ ثوريّة. كما أُشيرَ آنفًا، بالإمكان مساواة «الهويّة» مع العمل المغترب؛ فهي تعبيرٌ أحاديّ الجانب لمجموع إمكانيّاتِ الجنس البشريّ.
 +
 +
ناقَش فرانز فانون شيئًا مماثلًا في خلاصة كتابة «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، حيث كتب: «الرّجل الأسود، مهما كان بليغًا، هو عبدٌ للماضي. ولكنّني رجل أيضًا، ومن هذه الناحية فالحرب البيلوبونيسية مُلكي بقدر ما هو اختراع البوصلة» (ص: 200). يشيرُ فانون – من ناحية – لتمظهرٍ خاصٍّ أحاديّ الجانب ألا وهو «السواد»، ومن ناحية أخرى، يُشير للجوانب المتعددة لإنسانٍ يتّصف بعالميّةٍ مُمكنة. إذًا، فانون هو كلٌ من هذين الشيئين في وقتٍ واحد: رجلٌ أسود، ورجل (أو – بشكلٍ أعم – إنسان)، فَلَهُ تصنيفٌ خاصّ وتصنيفٌ عالميّ. تحت الرأسماليّة، نكونُ نحنُ كلًا مِن العامِل المغترب والعَمَل نفسِه، ولكن الاختلاف هو أنّ التصنيف العالميّ لم يتمّ تحقيقه بكليّته.
 +
تخلط سياساتُ الهويّة التي نتجت في الستينات والسبعينات لحظةً معيّنة – أو نُقطةً حاسمة – في علاقاتِ الرأسماليّة مع العالميّ المُحتمَل. وهي علاوة على ذلك تعمل على إعادة إنتاج الشِقاق ما بين المظهر والجوهر. تحت الرأسماليّة، هنالك تناقضٌ ما بين الخاص والعالميّ؛ المظهر والجوهر. فنحن نَظْهَرُ كأفرادٍ مغتربين (سائق حافلةٍ، مصفّف شعر، امرأة، إلخ)، مع أننا في الجوهر أفرادٌ متعدّدو الجوانب قادِرون على أشكالٍ متعدّدة مِنَ العمل. ولكنّ سياسات الهويّة تضخّم جاِنبًا واحد من هذا التناقُض، داعيةً لأجل نضالٍ جماعيّ مبنيٍ على أساس «الأنوثة» أو «السواد» أو الهويّة «السحاقيّة السوداء» وما إلى ذلك. ولكي نستعير مِن فانون، إنّ سياساتُ الهويّة تصرّح بالآتي: «أنا رجلٌ أسود» أو «أنا امرأة» أو «أنا امرأة سوداء سحاقيّة» وما إلى ذلك، وهذه هي الخطوة الأولى. ونضيف على ذلك ما كتبه في الفصل النقديّ من الكتاب نفسه، «التجربة الحيّة للرّجل الأسود»: «أخيرًا اتّخذت قراري؛ لقد قررتُ إن أطلق صرختي الزنجية» (ص:101)، مُتبِعًا ذلك قائلًا: «في نهاية الجهة المقابلة من عالم الإنسان الأبيض وجدتُ عالم السّود السحري يدعوني مُرحّبًا. تمثالًا زنجيًا! لقد بدأتُ وجنتاي تتورّد فخرًا، هل هذا هو خلاصنا؟» (ص: 102) وقال:
 +
 +
<Blockquote>
 +
«يقفُ الزنجي – بعد إعادة تأهيله – على سدّة الحكم، حاكِمًا العالم بحدسه، معادًا اكتشافُه، مُمتلِكًا لذاتِه، تحت الطّلب، ومقبولًا، ولكنّه ليس أيّ زنجي، إنه “الزنجي”. إنه الزنجي الذي يُثير قرون الاستشعار الخصبة للعالم، ويُوضع تحت الأضواء العالمية، ويُمطر العالم بقوّته الشعريّة، “منفتحًا على كل أنفاس العالم”، صارِخًا: أنا أحتضن العالم! أنا العالم! الرجل الأبيض لم يفهم في عمره مثل هذا البديل السحري.
 +
 +
الرجل الأبيض يريد العالم، يريده لنفسه فقط. يرى في نفسه الزعيمَ القدريّ للعالم؛ هو يستعبدُ هذا العالم. علاقتهُ بالعالم علاقة استيلاء. ولكن هناك قيمٌ أخرى تناسب من هم مثلي أنا فقط. لقد سلبتُ كالساحر، من الرجل الأبيض نوعًا معينًا من العالم، بعدَما كنت فقدتُه وأخذه الرجل الأبيضُ وأبناء جِلدته مني. وحين سلبتُ هذا العالم، شَعَرَ الرجل الأبيض بضربة قاصمة لا يعلم من أين أتته، ولا كيف يردّها لأنه في الأصل لم يَعْتد على هذا النوع من الضربات». (ص: 106-107)
 +
</Blockquote>
 +
 +
وفي عدّة صفحات، يجادل فانون داعيًا لوجوبِ اعتناق السّود لسوادِهم، وأن يناضِلوا على أساسِ كونِهم سودًا وذلك من أجل إبطال العلاقات الاجتماعيّة المُتّصفة بالتفوّقية البيضاء (white supremacist social relations). ولكن إن توقّفنا هنا فذلك سيعيد إنتاج وجودِنا أحاديّ الجانب وسيعيد إنتاج أنواع المظهر في الرأسماليّة، حيث أنّ سياساتُ الهويّة تجادِلُ قائلة: «أنا رجلٌ أسود» أو «أنا امرأة»، دونَ أن تملأ الجانب الآخر من هذا التناقض: «وأنا إنسانٌ أيضًا». فحين تكون نقطة البداية ونقطة النهاية هي ذاتُها، لن تكون هنالك إمكانيّة لإلغاء العلاقات الاجتماعية ذات الطبيعة الجندريّة والعرقيّة. وبالنسبة لمؤيدي سياساتِ الهويّة (على الرّغم من زعمهم وزعمهنّ عكس ذلك) فالأنوثة – وهي نوعٌ من أنواع المظاهر في المجتمع – تُختَزل لـ«هويّة» ثابتة وطبيعيّة، وتصبحُ العلاقات الاجتماعيّة مثل «الأنوثة» – أو الجندر – أشياءً ثابتة أو «مؤسسات»، وبذا يُصنّف المجتمع وينظّم كمجموعةِ أفراد، أو فئاتٍ سوسيولوجيّة بخصائص طبيعيّة. وبالتالي، تُبنى الإمكانيّة الوحيدة للنضال تحت سياسات الهويّة على التوزيع المتساوي أو الفردانيّة (والتي سأسهب في شرحها لاحقًا)، وبالتالي هي إيديولوجيا بورجوازية لكونها تستنسخ الفرد المُغترب الذي اخترعه المنظّرون والعلماء البورجوازيون ودافعوا عنه (وفَرَضوه بالقوّة الماديّة) منذ ولادة الرأسمالية.
 +
 +
بل وأنّ هذه الفردانية هي سِمة اللحظة الاجتماعيّة الحاليّة، كما أشارت المنظّرة الشيوعيّة اليساريّة لورين غولدنر، لقد كانت الرأسماليّة في أزمةٍ دائمة خلال الأربعين عامًا الماضية، وهي أزمةٌ تمّ امتصاصها ظاهريًا من خلال الاستراتيجيات النيوليبراليّة (من ضمن استراتيجياتٍ أخرى)، ومع مرور الوقت، ستُجبر الرأسماليّة على الاستثمارِ في الآلات عوضًا عن العمّال من أجل مواكبة عمليّة الإنتاج التنافسيّة، ونتيجةً لذلك يتمّ طرد العمال من عمليّة الإنتاج. وبإمكاننا رؤية ذلك بوضوح في أماكن مثل «ديترويت»، حيث أدّت الأتمتة مُدمجةً مع تقويض الصناعة لبطالة مئات الألوف من الناس. وآثارُ هذا التناقض في الرأسماليّة هو أنّ العمّال يُجبرون على العمل في أوضاعٍ متأرجحة، مُجبرين على الانتقال من وظيفةٍ لأخرى كَي يكسبون قدرًا كافيًا من المال ليُعيدوا إنتاج أنفسهم. تسمّي غولدنر هذه الحالة بـ«العامل الفرديّ المفتّت»، وهذه الزيادة في الفردانية – كما كتبت غولدنر في مقالةٍ أخرى – قادت لسياسات الاختلاف، حيث النساء والـ«كوير» والأقليّات العرقيّة وغيرهم لا يملكون أمرًا مشتركًا فيما بينهم.
 +
 +
شخّص منظّرو ومنظِّرَات التقاطعيّة هذه المشكلة في سياسات الهويّة وانتقدوها بشكلٍ صحيح. على سبيل المثال، كتبت بيل هوكس في نصّها السجاليّ ضدّ النسويّة الليبراليّة بيتي فريدان:
 +
 +
«كانت فريدان إحدى المقولِبات الرئيسيّات للفكر النسوي الحديث. وقد أصبح المنظور أحاديّ البُعد عن واقع النساء المُقدّم في كِتابها سِمةً رئيسيّة في الحركة النسويّة الحديثة. والنساء البِيض المهيمنات على الخطاب النسويّ اليوم – مِثل سابِقتهم فريدان – نادرًا ما يشكّكن فيما إذا كان منظورهن عن واقع النساء ينطبق على التجارب المعيشيّة للنساء كفئة جمعيّة أم لا، ولسن واعياتٍ بمقدار انعكاسِ انحيازاتهنّ الطبقيّة والعرقيّة على هذا المنظور…». (ص: 3)
 +
هوكس محقّة في قولها إن بناء سياساتٍ كاملة على أساسِ تجربة محدّدة واحدة – أو حزمةٍ محدّدة من الاختلافات – تحت الرأسماليّة هو أمرٌ إشكاليّ. مع ذلك، فنظريّة التقاطعيّة تستنسخ هذه المشكلة ببساطة عن طريق إضافة لحظاتٍ محدّدة أو نقاطٍ حاسمة؛ إذ أنّ هوكس تدعو لشملِ العرق والطبقة في تحليلٍ نسويّ. وليس ذلك فحسب، بل إن نظريّات «المصفوفة الاضطهادات المتشابكة» تصنعُ بشكلٍ مماثل وببساطة قائمة من الهويّات المُطبّعة، والمجردة من سياقها المادّي والتاريخيّ، وهذه المنهجيّة مساوية في لا تاريخيّتها ولا اجتماعيّتها لمنهجيّة بيتي فريدان.
 +
 +
نعيدُ القول بأنّ الأبويّة والتفوّقية البيضاء ليستا أشياءً أو «مؤسسات» وُجدِت على مرّ التاريخ، بل هي تمظهراتٌ محدّدة لعملنا لنشاطنا الحياتيّ، وهي مرهونة بنمطنا الإنتاجيّ، ونمطُنا الإنتاجيّ مرهونٌ بها أيضًا. يصف كارل ماركس في «رأس المال» العمل بـ«عمليّة الأيض» ما بين البشر والعالم الخارجيّ؛ فالأبويّة والتفوقيّة البيضاء – كمنتجاتٍ لعملنا – هي أيضًا أوضاعٌ نعملُ في وسطها. نحن نتفاعل مع العالم بشكلٍ مستمرّ، مغيّرين العالم ومغيّرين أنفسنا من خلال عملنا «الأيضي». فالأبويّة والتفوقيّة البيضاء إذًا – مثلهما مثل بقيّة علاقات العمل الاجتماعيّة – تتغيّران وتتحوّلان.
 +
 +
تتّخذ الأبويّة قالبًا محدّدة تحت الرأسماليّة يختلف عن العلاقات المجندرة تحت النظام الإقطاعي والقبلي وغيرهما، وهنالك تداخلٌ وتشابه في كيفيّة تمظهر الأبويّة تحت أنماط الإنتاج المختلفة، فالظروف الموضوعيّة للإقطاع أسّست قواعد نشوء الرأسماليّة المُبكّرة، والتّي أسست قواعد نشوء الرأسماليّة الصناعيّة وما بعدها. ولكنّ هذا التشابه والتداخل لا يعني أنّ كلّ علاقةٍ أبويّة محدّدة ستسمو على وتتجاوز نمط الإنتاج. فعلى سبيل المثال، تحت كلٍ من الإقطاع والرأسماليّة كانت هنالك علاقاتٌ مُجندرة في وسط العائلة النووية، ولكنّ هذه العلاقات اتّخذت أشكالًا مُختلفة جدًا مختصّة بنمطِ الإنتاج الذي وُجِدت في إطاره. فداخل العائلة النووية تحت النظام الإقطاعيّ – كما تصف سيلفيا فيديريشي – لم تكن هنالك مُفاضَلة كبيرة بين الرّجال والنساء، إذ كتبت:
 +
 +
«بما أنّ مزارع السَخَرَة كانت مُنظّمة حول أساسٍ كفافيّ، فالتقسيم الجندريّ للعمل لم يكن متجليًا وتمييزيًا بمستوى نوعِه الرأسماليّ…عمِلت النساء في الحقل، بالإضافة لتربيّة الأطفال والطبخ والغسيل والغزل ورعاية حدائق الأعشاب. ولكنّ أعمالهنّ المنزليّة لم يحطّ من قيمتها ولم تتضمّن علاقاتٍ اجتماعيّة مختلفة عن تلك المرتبطة بالرجال كما أصبح الأمرُ عليه في الاقتصاد الماليّ حين لم يعد يُنظر للعمل المنزليّ كعملٍ حقيقيّ». (ص: 25)
 +
يتطلّبُ الفهم التاريخيّ للأبويّة فهمَها ضِمن حُزمةٍ من العلاقات الاجتماعيّة المبنية على نوعِ العمل. أي، بتعبيرٍ آخر، ليس بإمكاننا فهم نوعِ المظهر – ألا وهو «الأنوثة» – بشكلٍ مُنفصِل عن الجوهر، ألا وهو الإنسان العالميّ.
 +
 +
==تصوّرٌ ماركسيّ للنسويّة==
 +
يجدر بي الإشارة هنا والتوضيح جليًا أنّ حدود سياسات الهويّة ونظريّة التقاطعيّة هذه هي نتاجُ زمنها. لم تكن هنالك ثورة في الولايات المتحدة عام 1968، وتقدّمات حركة «القوة السوداء»، وتحرّر النساء وتحرّر المثليين، وحركاتهنّ بذاتها تمّ امتصاصها داخل رأس المال. ومنذ سبعينات القرن الماضي، كانت الدوائر الأكاديمية مُحكِمةً قبضتها على النظريّات، وانعدام وجود صراعٍ طبقيّ ترك فجوةً في الإنتاج النظريّ، والمثقفون الأكاديميّون لم يكن لديهم ما يستسقون مِنه سوى سياسات الهويّة الناشئة قبل عدّة عقودٍ مضت. ونحن الآن بحاجة مُلحّة لسياساتٍ جديدة تتوافق مع أنواعٍ جديدة من النضال. مع ذلك، فالمنهجيّة الماركسيّة بإمكانها أن توفّر رؤية ما لكيفية خلق سياساتٍ تتجاوز حدود سياسات الهويّة.
 +
 +
يوفّر ماركس طريقةً تضع الخاصّ في جدلٍ مع كليّ العلاقات الاجتماعيّة؛ حيث المظهر متّصل بالجوهر. فلنأخذ استخدامه لمفهوم «اللحظات»: يستخدم ماركس هذا المفهوم في «الإيديولوجيا الألمانيّة» ليصف تطوّر التاريخ البشريّ ويصِفُ اللحظات الثلاث التالية بـ«العلاقات الاجتماعيّة الرئيسيّة، أو الجوانب الأساسيّة للنشاط البشريّ»: أولًا، إنتاج وسائل تلبية الحاجات، وثانيًا، نشوء حاجاتٍ جديدة، وثالثًا، إعادة إنتاج [ولادة] بشرٍ جديدين وبالتالي حاجاتٍ جديدة ووسائل جديدة لتلبية الحاجات الجديدة. جوهرُ هذا الفكرة هو أنّ ماركس يميّز ما بين «اللحظة» و«المرحلة»، إذ كتب: «هذه الجوانب الثلاث من النشاط الاجتماعيّة يجب بالطّبع ألّا تُفهَم كمراحل ثلاثٍ مختلفة، وإنما كثلاثة جوانبٍ فقط، أو كَي نوضّح ذلك للألمانيين، كثلاث «لحظات» تواجدت معًا منذ بداية التاريخ والإنسان الأوّل، واللاتي لا تزلن تفرضن أنفسهنّ على التاريخ اليوم». (ص: 48). وتفاصيل هذه الدعوى ذاتها غير مهمّة، ما هو مهمّ هو استخدام ماركس لـ«اللحظات» المحاذي لـ«المراحل»، ويقوم ماركس بهذه التفرقة ليُبعِد نفسه عن نوعٍ من الحتميّة يَنْظرُ للتطوّر التاريخيّ بطريقة سكونيّة خطّية، على عكس نظرته للتطوّر التاريخيّ كتطوّرٍ سَلِس وديالكتيكي. يرجع ماركس في كتاباته العديدة لهذا المصطلح – أي مصطلح «اللحظات» – ليصف العلاقات الاجتماعيّة المخصوصة في التاريخ، أو – لنكون أدق – لتمظهرات العمل المحدّدة. ومفهوم «اللحظات» هذا يساعدنا أيضًا على ملئ فكرة ماركس حول أنماط الإنتاج السلِسة. فكما أُشيرَ آنِفًا، بالنسبة لماركس، لا يوجَد نمطٌ إنتاجٍ إقطاعيّ نقيّ أو نمطُ إنتاجٍ رأسماليّ نقيّ، بل كلّ علاقات الإنتاج متحرّكة ويجب أن تُفهم تاريخيًا.
 +
 +
يساعدنا هذا المفهوم على إدراك أنواع وجودنا المغتربة المتنوّعة تحت الرأسماليّة، حيث يكتب ماركس – على سبيل المثال – في «نقد الاقتصاد السياسي» (Grundrisse):
 +
 +
<Blockquote>
 +
«حين ننظر للمجتمع البورجوازي نظرةً بعيدةَ المدى وننظر له بِكُليّته، حينها تظهر النتيجة النهائية لعمليّة الإنتاج الاجتماعي دائمًا كالمُجتمع ذاته، أي الكائن البشريّ ذاته في علاقاته الاجتماعيّة. كلّ ما له صيغة ثابتة، مثل المنتوج وما إلى ذلك، يبدو كمجرّد لحظة، كلحظةٍ زائلة في هذه الحركة. والأفراد الآنيّون، وهم ليسوا سوى أفرادٍ في علاقة متبادلة يقومون بإعادة إنتاجها وإنتاجها مُجددًا بشكلٍ متساوي. هذا العمليّة المستمرّة لتحرّكاتهم الخاصة يقومون فيها بتجديد أنفسهم حتى مع تجديدهم لعالم الثروة التي يخلقون». (ص: 712)
 +
</Blockquote>
 +
 +
أن تكوني «امرأة» تحت المنظومة الرأسماليّة لهُ معنىً خاصٌ جدًا، وما يزيده خصوصيّة هو أن تكوني امرأةً في الولايات المتحدة الأمريكيّة عام 2013، وما يزيده خصوصيّةً أكثر هو أن تكوني امرأة سوداء سحاقيّة في الولايات المتّحدة عام 2013، ويزداد ذلك خصوصيّةً أيضًا لكلّ امرأة. ولكن، بالمعنى العالميّ، أن تكوني «امرأة» يعني أن تُنتجي وتعيدي إنتاج حزمةٍ من العلاقات الاجتماعيّة من خلال عملِك أو نشاطِك الذاتيّ. كي نحذو حذو فانون، يجب أن تدعو طريقتنا للتالي: أنا امرأةٌ وإنسان. يجب أن نُدرِك الخصوصيّ في جدلٍ مع الكلّي، يجب أن ننظر للحظة، أو للتمظهر الفرديّ للعمل في علاقةٍ مع العمل ذاته.
 +
 +
ومن المهمّ أن نشير لكون منظّرات ومنظّري سياسات الهويّة والتقاطعيّة لم يكونوا مُخطئين بِلْ إن ما قالوه ناقِص، فالعلاقات الاجتماعيّة ذات الطابع الأبويّ والعرقيّ هي علاقاتٌ حقيقيّة ومحسوسة وماديّة، كما هي التناقضات ما بين الخاصّ والعالميّ، وما بين المظهر والجهور. ويستوجب أن يُبنى الحلّ على هذه التناقضات ويستوجب أن نمضي بِها قُدمًا. نرجع للاستعارة من فانون، إذ بإمكاننا القول «أنا امرأة وإنسان» أو «أنا إنسانٌ أسود وإنسان»، فالمهمّ هو أنّ نشدّد على جانبيّ التناقضين. أن نعتنق الأنوثة، وأن ننظّم على أساسِ السّواد، وأن نبني سياساتٍ خاصّة بـ«الكوير» لهو جانبٌ جوهريّ من تحرّرنا، وهو نقطة الانطلاق الماديّة لنضالنا. يصف فرانز فانون – كما أسلفت – هذه الحركة في فصل «التجربة الحيّة للرجل الأسود” من كتاب «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء»، ومع ذلك، وفي نهاية الفصل، يترك فانون هذا التناقض دونَ حلٍّ ويتركنا باحثين عمّا هو أكثر، قائلًا: «بدونِ ماضٍ “أسود”، وبدون مستقبلٍ “أسود”، كان من المستحيل لي أن أعيش سوادي. فلست أبيضًا بَعْد ولم أعد أسودًا بالكامل، فقد حُكِمَ عليّ باللعنة»، (ص: 117) ومِنْ ثمّ أضاف: «حين فتحت عيني بالأمس رأيت السماء في تقلّبٍ تام، حاولت أن أنهض ولكنّ الصمت المحروم اندفع نحوي بأجنحة مشلولة، إذ لم أعُدْ مسؤولًا عن أفعالي، وفي مفترقِ طرق ما بين العدم واللا تناهي، بدأت بالنحيب». (ص: 119) إذ يُشير فانون هنا للتناقض ما بين الشكل الخاص للمظهر، ألا وهو سوادُه، والجوهر العالميّ، ألا وهي إنسانيّته.
 +
 +
يحلّ فانون في خلاصة الكتاب هذا التناقض داعيًا لتحرّكٍ نحو العالميّ، أي لمحوِ الأعراق التّام. إذ يكتُب:
 +
 +
«لا يتوجّب على الإطلاق أن تُستخلَص رِسالتي الأساسيّة مِن ماضي الشّعوب المُلوّنة، ولا يتوجّب عليّ أن أكرّس حياتي لإعادة إحياء حضارةٍ سوداء تمّ تجاهُلها ظُلمًا. لن أجعل مِنْ نفسي إنسانً مُكرّسًا لأيّ ماضي، ولا أريد أن أغنّي للماضي على حساب حاضِري ومُستقبلي». (ص: 201)
 +
إذًا، فبالنسبة لفانون وبالنسبة لماركس، النضال لأجل التحرر يجب أن يتضمّن كلًا مِنً الخصوصيّ والعالميّ، كلًا مِنَ المظهر والجوهر. يجب أن نُبني على طرفيّ هذا التناقُض ونمضي بِهما قُدمًا.
 +
 +
==بعض النتائج العمليّة==
 +
بما أنّ سياساتِ الهويّة – وبالتالي نظريّة التقاطعيّة – هي سياساتٌ بورجوازيّة، فإمكانيّات النضال هيَ أيضًا بورجوازيّة. تعيد سياسات الهويّة إنتاج مظهر الفرد المغترب تحت الرأسماليّة وبذلك يتّخذ النضال شكل السعي نحو المساواة ما بين الفئات المختلفة في أفضل الأحوال، أو أنواعًا مُفردَنة (individualized) مِن النضال في أسوئها.
 +
 +
من ناحية، تناضل فئاتٌ «سوسيولوجية» مجرّدة أو أفرادٌ مِنْ أجلِ صوتٍ متساوي، أو «تمثيلٍ» (representation) متساوي، أو موارد متساوية. مرّ الكثيرُ منّا بهذه التجربة في الفضاءات التنظيميّة حيث يجادل أحدهم حول عدم وجودِ عددٍ كافي من النّساء مِن غير البِيض أو الأفراد المعاقين، أو الأفراد الترانس* وغيرهم وأنّ ذلك يكبح من تقدّم الحملة. أحد الأمثلة المعاصرة لذلك هو نقدُ حركةِ «SlutWalk»[+] قائلين بأن أغلبيّتا نساءٌ بِيض، فهي بالتالي تتّسم بالتفوّقية البيضاء أو يُقال أنّها حركةٌ باطِلة اجتماعيًا. وأحد الأمثلة الأخرى هي أفرادٌ أو مجموعاتٌ تطالب بأنّ كلّ الحركات يجب أن تخضع لقيادات الأفراد الـ«كوير» من غير البِيض، بغضّ النظر عن مقدار رجعيّة سياسات هؤلاء الأفراد. نكرّر مرةً أخرى أنّ منظّرات ومنظّري التقاطعيّة شخّصوا المشكلة الموضوعيّة بحق، فهذه التقسيمات والعداوات في وسط الطبقة العاملة يجب معالجتها ماديًا مِن خلال النضال، ولكنّ اختزال هذا النضال ببساطة في مجرّد أعدادٍ ومساواةٍ في توزيع الموارد أو في «التمثيل»، يعزّز من الهويّات كتصنيفاتٍ ساكِنة مُطبّعة.
 +
 +
ومن ناحية أخرى، من الممكن لسياساتِ الهويّة أن تتخذ شكل نضالاتٍ مُفردنة ضدّ الأبويّة الغيريّة والعنصريّة العرقيّة وما إلى ذلك في داخل الطبقة العاملة. كان أغلب عمل «جماعة نهر كومباهي» – وِفقًا لـباربرا سميث – متمحورًا حول تعليم النّساء البيض كيف لا يكونوا عنصريّات عن طريق عقد ورشات عمل مناهضة للعنصريّة. (ص: 95) قد نرى اليوم مجموعاتٍ نِضالُها الوحيد هو تشخيص وسحق العناصر المجندرة، والفحوليّة، والشوفينيّة الذكوريّة، والعانصر الكارهة للنساء والأبويّة في الأوساط اليساريّة. ومِثالٌ آخر لذلك هو تذكير مستخدمي «Tumblr» المستمرّ للنّاس بأن «يراجعوا امتيازاتِهم» (privilege checking). نكرّر مرةً أخرى أنّه من المُهمّ أن نعالج هذه العناصر ونصحّحها، ولكنّ التناقضات والخصومات في وسط الطبقة العاملة لا يمكن تجاوُزها بمعزل عن النضال الأوسع، ومن المستحيل تجاوز التمظهرات الفرديّة للأبويّة بدون نضالٍ أوسع لتحرّر عملِنا. ولن نتمكّن أن نحرّر أنفسنا أبدًا مِنَ الفحوليّة في وسط الحركة بدون محو الجندر بأكمله، وبالتالي محو العمل المستغرب ذاته.
 +
 +
سيقوم أيّ نضالٍ نسويٍّ ثوريٍّ حق بالاهتمام بالمسائل التي تضع الخاصّ ونوع المظهر في جدلٍ مع العالميّ والجهور. عرضتُ في مقالٍ آخر هذه الأمثلة لمجالاتٍ ستقوم بهذا العمل:
 +
 +
الاضطلاع بالدفاع الشعبيّ عن عيادات الإجهاض و/أو لجنات عمّالية لا ربحيّة تبني تضامنًا ما بين العمّال و«زبائن» هذه العيادات.
 +
تكوين مجموعات أحيائيّة تنخرط في نضالات المستأجرين وتحمل القدرة على التعامل مباشرةً مع العُنف ضدّ النساء في المجتمع.
 +
إنشاء تحالفات ما بين الآباء والأمّهات والمدرّسين والطّلاب تناضِل ضدّ إغلاق المدارس أو خصخصتها ومع تغيير المدارس كيَ تنعكس عليها احتياجات الأطفال والآباء بشكلٍ أدقّ، على سبيل المثال: مراكز عناية بالأطفال في أماكن العمل، مناطق وفصول تتصّف بديموقراطيّة مباشرة، وتصغير حجم الفصول الدراسيّة وما إلى ذلك.
 +
تكوين تعاونيّات لعامِلات الجنس تحمي النّساء من المعتدين عليهم ومن أفرادِ المجتمع الآخرين، وإنشاء مواخير مُدارةَ ديموقراطيًا مِن قِبل النساء والـ«كوير» بظروفِ عملٍ آمنة.
 +
إنشاء منظّمات مقرّات عمل في أماكن العمل المؤنّثة (feminized workplaces) مثل المنظمات غير الربحية وقطاع الخدمات والصناعات ذات الأغلبيّة العمّالية النسائية وما إلى ذلك، أو مراكز عمل مختصّة بمقرّات العمل المؤنّثة والتعرّض للمسائل والتحدّيات التي تواجهها النساء بالخصوص.
 +
هنالك العديد العديد من الأمثلة التي لا يسعني تنظيرها، وكما أسلفت، لا يمكن أن نُسقط أنواع النضال والنظريّات المقابلة لها بدون النشاط الجمعيّ والجماهيريّ للطبقة العاملة، ولكنّ عملنا كثورياتٍ وثوريين هو توفير الأدوات التي تساعد على إسقاط الحالة الراهنة، ومِن أجل القيام بذلك، يجب أن نعود لماركس والمنهج المادّي التاريخيّ، فلم يعد بإمكاننا الاتّكال على نظريّات بورجوازية لا تاريخية مِنَ الماضي لتفسير وظائف اليوم. وبالنسبة للنسويات، معنى ذلك أن نناضل ليس فقط كنِساء وإنما كبشرٍ أيضًا.
    
[[تصنيف:نظرية التقاطعية]]
 
[[تصنيف:نظرية التقاطعية]]
 
[[تصنيف:نسوية ماركسية]]
 
[[تصنيف:نسوية ماركسية]]
264

تعديل

قائمة التصفح