وثيقة:المهاجرات والعاملات والسجينات في زمن الأوبئة

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

جيم.jpg
مقالة رأي
تأليف هيفاء ذويب
تحرير غير معيّن
المصدر جيم
اللغة العربية
تاريخ النشر 2020-05-06
مسار الاسترجاع https://jeem.me/ سلطة/هيفاء-ذويب/المهاجرات-والعاملات-والسجينات-في-زمن-الأوبئة
تاريخ الاسترجاع 2020-11-19
نسخة أرشيفية https://archive.is/I8lpr



قد توجد وثائق أخرى مصدرها جيم



شاهدت البارحة وثائقيّ المخرجة الأمريكية جوهانا ديميتراكاس "نسويّات: فيمَ كنّ يفكرّن؟". يعود الفيلم على المسار الشخصي والجماعي لناشطات من الموجة النسوية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ينتهي الفيلم بكلام كاثرين ستمبسون التي تقول: "حتى في بلاد "تمثال الحرية" تواجه النساء أمورًا صعبة. ولهذا نعم! ما نزال بحاجة إلى الحركة النسوية، ولا بدّ أن نقوم بحركة نسوية اليوم". ظلّت هذه الجملة راسخة في ذهني منذ بداية الأزمة.

كتبت إحدى صديقاتي مقالًا يتناول موضوع العنف المسلّط على النساء خلال فترة الحجر الصحي وصعوبة شعورهنّ بالأمان. اطّلعت على المقال في نسخته الأولى قبل النشر ثم طالعته مجددًا بعد النشر. لقد عبثوا بروحه وصار مقالًا إخباريًا. لم أنزعج كثيرًا من الصيغة الخبرية التي أُخرج فيها المقال والتي تبحث عنها الصحف لتبرير المواضيع وزوايا الطرح، فيمكنني تفهّم حاجة الصحافة إلى تقصّي الأخبار من الواقع وتطويع المقالات وفق خطّها التحريري. ما أزعجني فعلًا هو تنميق الكلام ومحاولة التلطيف من خلال تحويرات - قد تبدو طفيفة - على بعض الشهادات، لكنّها أخرجت خطاب صديقتي عن المقاربة الراديكالية التي تتبنّاها ضدّ العنف. تواترت هذه المحاولات بشكل مفرط منذ بداية تسليط الضوء على مدى خطورة وجود العديد من النساء تحت الحجر الصحي مع معنّفيهنّ ليس فقط في تونس وإنما حول العالم. طوال الأسابيع المنقضية ركزت كلّ المداخلات الصحفية والإعلامية التي توجهت لي على سرد التفاصيل المؤلمة للعنف المسلّط على النساء، حتى أنّه طُلب مني في أحد الحوارات أن أُزوّر بعض الشهادات على لسان الضحايا "حسب ما أعرفه عن العنف وعن النساء".

تأكدت طوال متابعتي للتغطية الإعلامية حول الموضوع من عدم اكتراث الإعلام والخطاب السائد بإحداث تغيير جذري أو بقلب المعايير التي تتحكّم فيها هذه المنظومة كـ"دمية معلّقة". فلا ينفكّ الخطاب السائد يصوّر معاناة النساء كـ"حالة شاذة" نتعاطى معها بالتلطيف والتنميق ويتعاطى معها الإعلام لإثارة الغرائز والعواطف قصد إسالة المزيد من الحبر لا أكثر.

فكرت في سيناريوهات عديدة، وتخيلت أنني تلك المرأة الحامل التي لم تتمكّن من إجهاض آمن جرّاء التعطل الكلّي لهذه الخدمات لأسابيع متواصلة منذ انتشار الوباء. تخيلت نفسي مهاجرة من الكوت-ديفوار هربتُ إثر تعرضي للاغتصاب في بلدي، أعمل هنا في إحدى محلات الأكل السريع، أقوم بغسل الأطباق في الضفة الشمالية البحرية بتونس الكبرى، هنا على الأقل لا أتعرض للاغتصاب وأجني ما يكفي لأسدّ به الرمق. تخيلت نفسي إحدى السجينات المُفرج عنهن إثر العفو التشريعي العام الأخير ولا أجد مأوى ولا المرافقة النفسية أو الصحية اللاّزمة وأتساءل في يأس عن سبب الإفراج عنّي خلال الوباء. يمكنني أن أكون أيضًا إحدى العاملات في القطاع الفلاحي التي لم ينجح الإعلان عن الحجر الصحي الشامل سوى في تجويع أطفالي وتقليص أجري اليومي بثلاثة دنانير إضافية. تخيلت الكثير من السيناريوهات مُجملها خارج بناء العائلة التقليدي الذي يحتجزنا الخطاب الرسمي والإعلام العمومي داخله. وكلما تفحّصت الإجراءات الاستثنائية المرصودة خلال أزمة الكورونا وتصفّحت ردود الأفعال حولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي كلما بدا لي الوصم الاجتماعي أكثر حدّة، بشكل يفضح فشل هذه الإجراءات الحكومية في احتواء الأزمة وتغطية احتياجات الأفراد دون هضم حقوق الكثير منهن وتعميق عزلتهن داخل المجتمع.

يتعمّد الخطاب الرسمي عدم تسمية الأشياء بمسمّياتها. كما يتعمد اختزالنا داخل أُسرنا وفي منظومة العائلة الخاضعة لسلطة الأب، غير عابئٍ بعدد النساء المعطّلات عن العمل طوال هذه الأزمة نتيجة تهميشهنّ الاقتصادي منذ عقود. المعيلات لأسرهن هنّ الأكثر عرضة للخطر بالضرورة. تقدّر نسبة الأجيرات في بلادنا بأكثر من 75 بالمائة، تعمل أغلبهن في أطر غير مهيكلة على غرار العمل الفلاحي والمساعدة المنزلية أو بالمصانع الصغرى وغيرها، وهنّ مسؤولات عن تأمين إنتاج الخضر والغلال بنسبة 90 بالمائة. كما تشكل المرأة النسبة الأكبر من اليد العاملة في قطاع النسيج والملابس بـ 90 بالمائة و45 بالمائة في قطاعات الأدوية والصيدلة، وفق ما وثّقته آخر منشورات مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة بتونس (الكريديف) تحت عنوان "المساواة في الميراث". حول العالم، يضمّ الإطار الطبي وشبه الطبّي أكثر من 70 بالمائة من النساء أغلبهن في الصف الأول في مواجهة الوباء ورعاية المرضى. لا يُعرّض هذا الوباء النساء في تونس فقط للموت بطرق شتّى، ولا يفهم عقلي كيف يسدّ العالم آذانه عن معاناتهن بهذا الشكل، أو كيف تساهم السلطة بسياساتها في إدارة هذه الأزمة في تعزيز الفوارق الاجتماعية ومواصلة تأنيث الموت خلالها.

استمعتُ إلى رئيس الحكومة يُعدّد بالأرقام والحجج احتياجات الفئات الهشة اجتماعيًا والإجراءات الاستثنائية التي ترصدها الدولة لفائدتها، لكن من بين كلّ أرقامه لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى القمع "متعدّد الأبعاد" الذي تتعرّض له الأجيرات والعاملات. لم تشمل الأرقام سوى الأسر والمؤسسات. ووجدت في هذا تجنٍّ واضح من جهة على 52,5 بالمائة من العائلات المعوزة نفسها التي تُعيلها إمرأة، ومن جهة أخرى على الأفراد المعزولين والمستقلّين وفاقدي السند من خارج خطاب الرعاية الاجتماعية الموجّه أساسًا للأسر محدودة الدخل وأصحاب المهن الحرة والمؤسسات الصغرى. الأمر لا يتعلّق بالرعاية الاجتماعية وحدها، بل بتداخل أنظمة القهر المختلفة لتؤثّر مباشرة في واقع النساء أو تتركهن للمعاناة.

وجدت صعوبةً في الوصول إلى نجاة وسعاد، مساعدتان منزليّتان إحداهما لا يمكنها الرد على الهاتف لأن زوجها بالبيت فانتظرنا أيامًا لتحديد موعد فور مغادرته. أمّا سعاد فلا تجد الوقت لنفسها برفقة ابنة مصابة بالتوحّد تُفقد الأب صوابه طوال بقائه محجوزًا بالمنزل. يتحوّل بيت نجاة وسعاد إلى جحيم يوميًا بنشوب أقلّ مشكل، لكنّهما لم تشتكيا من العنف بقدر ما اشتكتا من الجوع ومن عدم تمكّنهما على غير العادة من توفير اللقمة لأطفالهما. هذا ما تعمل من أجله نجاة منذ ثلاثين سنة "لم أشكُ يومًا من شقاء العمل المنزلي ولا من تردّي المواصلات ولا من الأجر الزهيد. منذ الإعلان عن الحجر الصحي، أخبرتني مُشغّلتي بعدم رغبتها في قدومي للعمل كما رفضت خلاص تسبقة مالية قائلة أنها لا تضمن رجوعي يومًا ما للعمل معها، مع العلم أنني أنظّف بيتها منذ ثلاث سنوات". سعاد تحدّثت بلوعة عن ابنتها المتوحّدة واستحالة كلّ السبل لخروجها للبحث عن القوت "الكورونا أرحم ممّا نتعرّض له أنا وابنتي خلال الحجر".

كتب الصديق فؤاد غربالي مقالًا بعنوان "تونس في زمن كورونا: مجتمع المخاطر وزمن اللايقين" لخّص ما أفكّر فيه بخصوص طبقية الوباء حيث قال: "هنا يظهر أن كورونا ليس وباءً يساوي بين الجميع وأنه عابر للطبقات مثلما تدّعي الخرافة الإعلامية السخيفة التي تروّج في تونس خلال هذه الأزمة ومفادها أننا "نركب المركب نفسه"، العكس تمامًا هو الذي يحدث. كورونا يُضعف مداخيل الدولة، ويعيد من ناحية أخرى إنتاج اللامساواة على نحو سيساهم في خلق فجوات جديدة بين الفئات الاجتماعية". نحن بحاجة بالتأكيد إلى مقاربة نسوية خلال تعاطينا مع هذه الأزمة، كما على الدولة أن تقدّر الضرر الكبير الذي تعاني منه النساء وهنّ الأكثر هشاشة اقتصاديًا والأكثر إنتاجًا مع ذلك، وأن تستجيب للأزمة دون تعريضهن إلى خطرٍ مضاعفٍ كخطر الجوع وخطر العنف أو كذلك خطر الموت نتيجة أحدهما.

لم تكن الأمور مُطمئنة بالنسبة للمهاجرات الأفريقيات فكلّ المعطيات تشير إلى أنّهن الأكثر تضررًا من الحجر الصحي الشامل والأكثر عزلة. انتظرن أسابيع عديدة قبل أن تستجيب الدولة نسبيًا لاحتياجاتهن، فقد حظي "أبناء البلد" بالأولوية ضمن حزمة الإجراءات الاستثنائية لشهر مارس وبداية شهر أفريل ولم تهتمّ الدولة بوضع المهاجرين غير النظاميّين. حاولت الاتصال بعدد من الجمعيات المحلية التي تتدخّل لفائدتهم، وأكّد لي علي بوسالمي، المدير التنفيذي لجمعية "موجودين"، أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى المعطيات الكمية الكافية التي قد تُساعد في توجيه المساعدات لمستحقّيها. ووضح أن جمعيته اختارت التدخل بتشكيل حلقة لا تتجاوز ثلاثين شخصًا من المستفيدات والمستفيدين لتوزيع المساعدات عليهنّ. من بين الجمعيات التي تحاول تقديم يد المساعدة للمهاجرات والمهاجرين جمعية "Bye الحوم" التي تعمل كلجنة وساطة داخل الأحياء الشعبية المتاخمة للضواحي الشمالية لتونس الكبرى وتحديدًا في البحر الأزرق وحي السلامة والعوينة. توثّق هذه اللجنة الانتهاكات وتتدخّل بشكل مباشر من أجل حماية المهاجرين والمهاجرات من جنوب الصحراء الأفريقية والاستجابة للوضعيات الاستعجالية كعدم خلاص أجورهنّ أو طردهم من محلّ السكنى. ولتوزيع المساعدات، تُنسّق هذه الجمعيات المحلية مع بلدية المرسى التي تحوّلت منذ أسابيع إلى نقطة تجميع للمساعدات العينية لفائدة المهاجرين والمهاجرات القاطنات بالضاحية الشمالية بتونس.

أعتقد أنّ الأمر لا يتعلّق بحجم المساعدات ولا بمجال توزيعها ولا بالإجراءات الحكومية الظرفيّة. فالمخاطر التي تواجهها بعض المهاجرات غير النظاميات شديدة التعقيد. "أندريا"، وحيدة في تونس من الكوت ديفوار (ساحل العاج) تعمل بأحد محلات بيع المرطبات وتتشارك السكن مع صديقات لها مهاجرات أيضًا من جنوب الصحراء الأفريقية، لم تشكُ لي من وضعها بالتحديد وإنما نبّهت وبشدة لما تعانيه الأمهات العازبات رفيقاتها قائلة: "بوجود أطفال معهن، لم تتمكّن أغلب صديقاتي من الوصول إلى أبسط الاحتياجات كما ليس لهن الحق في العلاج وقد أغلق مستشفى المنجي السليم أبوابه تمامًا في وجهنا في هذا الظرف. أصبحن مجبرات على تدبّر أمورهن بمفردهن". أما، "أنيماتا" التي وصلتها المساعدات العينية هي ورفيقاتها في السكن فتحفّظت في البداية قبل أن تفسّر: "تكمن المشكلة في تعطّل وصول المساعدات لبعض المهاجرات والمهاجرين غير النظاميين، حيث يطلبون رقم جواز السفر وفي حال عدم توفر الأوراق الثبوتية إمّا لا تتحصّل على المساعدات أو يتحصّل عليها البعض أكثر من مرة". اتصلت برئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر روضة العبيدي للاستفسار حول مشكل توزيع المساعدات على المهاجرات فأجابتني بأنّ الهيئة انطلقت في توزيع المساعدات على أكثر من 500 شخص وعائلة وأنها تحترم الوضع الإنساني الراهن والذي "لا يمكن أن نفرّق فيه بين المهاجرات النظاميات وغير النظاميات فالوضع يحتّم علينا التضامن وتقديم يد المساعدة للجميع دون تمييز أو إقصاء". كما أشارت إلى صعوبة الوضع الذي تعاني منه الأمهات الأفريقيات في تونس قائلة: "نحرص على وصول المساعدات للأطفال حديثي الولادة وأمهاتهم، فهنّ الأكثر هشاشة من بين الضحايا".

لا تبدو لي المساعدات الإنسانية وحدها كفيلة بدرء الخطر وهو خطر متعدّد الأبعاد يشمل الفقر والعطالة والوصم الاجتماعي والتمييز العنصري والحرمان من الحقوق الأساسية كالحق في الصحة. ولمواجهتها نحن بحاجة إلى قرارات نوعية وأكثر جرأة تقوم بها الهيئة والمنظمات الدولية المتدخّلة وخاصة السلطة التنفيذية. وهنا لا يجب أن تستند كلّ القرارات التي ستتمخّض عن هذه الأزمة إلى أي شكل من أشكال التمييز. فالأوضاع الاستثنائية المماثلة هي مواعيد سياسية، هي حروب- ولو أنّني لا أحب هذه الكلمة التي يستعملها الرؤساء- هي مواعيد تُدار فيها الملفّات العاجلة، وهي كذلك لحظات من تاريخنا الإنساني الحاسمة التي لا تستلزم الصمت بقدر ما تتطلّب منّا التفكير وقلب المعايير السائدة والسلطوية.

تابعتُ الإجراءات الاستثنائية المتعلّقة بالمساجين أيضًا، ولم تسعفني أيّة معطيات حول عدد النساء السجينات وظروف إقامتهن في عدد من الجهات التونسية. كما لا نعرف إن شمل العفوان التشريعيان العامّان الأخيران النساء وكم كان عددهن. اكتفى الناطق الرسمي باسم إدارة السجون بالإشارة إلى دور السجينات في توفير الأقنعة الواقية من خلال ورشات الخياطة والتي أصبح عددها حسب آخر الأرقام 7 في كلّ من سجن المرناقية ومنوبة والمهدية وبرج الرومي وسوسة وجندوبة والقصرين والهوارب، بمعدّل 4600 قناع كلّ يوم توفّره السجينات تحت إشراف وزارة الصحة وإدارة السجون. ولم يخل الثناء الذي جاء على لسان وزير الصحّة معتبرًا ما تقدّمه النساء السجينات "خدمة تاريخية" من التنميط. فتلك نفس الصورة، صورة المرأة التي يريدها الخطاب الرسمي والإعلام السائد، وهي نتاج لتاريخ طويل من تقسيم العمل الاجتماعي والأدوار تتكبّد فيه المرأة الأعمال اليومية المتراكمة بدقّة وتفان وتضحية وصبر لا ينضب، في الأسرة أو داخل السجن ستواصل النساء توفير الغذاء والحياكة دون مقابل.

علينا إذن أن نستثمر هذه الأزمة لندافع بشراسة عن قضايانا العادلة، حيث أن كلّ القضايا العادلة هي اليوم ملفّات سياسية على طاولة المفاوضات أو هي ملفّات يجب تسييسها. تأنيث الفقر والموت وتقسيم الأدوار داخل الأسرة وخارجها لن ينتج خلال أزمة كورونا سوى مزيدًا من العنف، ولن ينتج عند هدوء العاصفة سوى مزيدٌ من الوصم والتنميط. أن نطالب كنسويات بتبنّي مقاربة مبنية على النوع الاجتماعي أو أن نُطالب بطرح بيئي شامل هي أولويات لا يمكن التراجع عنها لمواجهة نظام عالميّ غير عادل.