تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
تنسيق عناوين فرعية، وتعديل رابط داخلي
سطر 27: سطر 27:       −
<big>'''هبطت إليكم من المحلّ الأرفع (من الذّكر والأنثى)، وأظنّني نسيتُ عهوداً في الحِمى!'''</big>
+
===هبطت إليكم من المحلّ الأرفع (من الذّكر والأنثى)، وأظنّني نسيتُ عهوداً في الحِمى!===
      سطر 33: سطر 33:       −
<big>'''الهند: تعايشٌ مخادع'''</big>
+
===الهند: تعايشٌ مخادع===
    
يظن كلّ من لم ينشأ في الهند أنّ الأخيرة هي موطن للتنوع والتقبّل والتعايش. غير أن النشأة في الهند ليست بالأمر الهيّن لامرئ لا يندرج بسهولة ضمن تصنيف مُحدّد. فالمجتمع الهنديّ بحكم عراقة نظام «الكاست» الطبقيّ- العرقيّ يميل إلى التصنيف الدقيق لكلّ مجموعة من المجموعات أو فرد من الأفراد، وهو بذلك يستهجن التهجين ويرتاب أمام الضبابيّة في الأصول والمكانة. وتنوّعُ البلاد الهنديّة في الواقع هو عبارة عن فرز دقيق ومتواصل بين المجموعات والأفراد داخل كل مجموعة، لذا فأنا منذ أن تعرَّفَ والدي الذي وفد من الهند إلى بوسطن بهدف الدراسة، على والدتي الأميركيّة، أي منذ تشكّلَ فكرة وجودي في هذا العالم، أمثّلُ مصدر حيرة وارتياب. وأذكرُ وأنا ألعبُ في حديقة الحارة مع أقراني في حيّ من أحياء الطبقة الوسطى في نيودلهي كيف كان هؤلاء الأقران يتهامسون في ما بينهم عن هذا الشخص الذي يلعب معهم، ويتساءلون عن أصوله وعن سبب وجوده بينهم. كنتُ أعرفُ أنّني أنتمي إلى هذا المكان، لكنّني كنتُ في الوقت ذاته أشعر بغربة حقيقيّة عنه.  
 
يظن كلّ من لم ينشأ في الهند أنّ الأخيرة هي موطن للتنوع والتقبّل والتعايش. غير أن النشأة في الهند ليست بالأمر الهيّن لامرئ لا يندرج بسهولة ضمن تصنيف مُحدّد. فالمجتمع الهنديّ بحكم عراقة نظام «الكاست» الطبقيّ- العرقيّ يميل إلى التصنيف الدقيق لكلّ مجموعة من المجموعات أو فرد من الأفراد، وهو بذلك يستهجن التهجين ويرتاب أمام الضبابيّة في الأصول والمكانة. وتنوّعُ البلاد الهنديّة في الواقع هو عبارة عن فرز دقيق ومتواصل بين المجموعات والأفراد داخل كل مجموعة، لذا فأنا منذ أن تعرَّفَ والدي الذي وفد من الهند إلى بوسطن بهدف الدراسة، على والدتي الأميركيّة، أي منذ تشكّلَ فكرة وجودي في هذا العالم، أمثّلُ مصدر حيرة وارتياب. وأذكرُ وأنا ألعبُ في حديقة الحارة مع أقراني في حيّ من أحياء الطبقة الوسطى في نيودلهي كيف كان هؤلاء الأقران يتهامسون في ما بينهم عن هذا الشخص الذي يلعب معهم، ويتساءلون عن أصوله وعن سبب وجوده بينهم. كنتُ أعرفُ أنّني أنتمي إلى هذا المكان، لكنّني كنتُ في الوقت ذاته أشعر بغربة حقيقيّة عنه.  
سطر 48: سطر 48:       −
<big>'''قفصُ جسدي لن يفارقني'''</big>
+
===قفصُ جسدي لن يفارقني===
    
مع الوقت توصّلتُ إلى قناعة بأنّي لا أحتلّ هذا الجسد، بل هو يحتلّني ويُحيط أناي، الكائنة القادمة من كوكب آخر لا ذكور وإناث فيه. إنّ عيني الداخليّة ترى في جسدي هذا تجسيداً لجدران سجن متنقل لا يفارقني.  
 
مع الوقت توصّلتُ إلى قناعة بأنّي لا أحتلّ هذا الجسد، بل هو يحتلّني ويُحيط أناي، الكائنة القادمة من كوكب آخر لا ذكور وإناث فيه. إنّ عيني الداخليّة ترى في جسدي هذا تجسيداً لجدران سجن متنقل لا يفارقني.  
سطر 57: سطر 57:       −
<big>'''الذبح على تشوّش الهويّة، أو فقدان الذكورة'''</big>
+
===الذبح على تشوّش الهويّة، أو فقدان الذكورة===
    
وصلتُ إلى الجامعة في نيويورك في سن السابعة عشر مهاجرة ومواطنة في آن واحد. كنتُ في ذلك الوقت مراهقاً أغرّاً وساخطاً على كل شيء، ويلازمني شعور قويّ بالظلم جرّاء كل ما عشته ويعيشه العالم. كانت لدي رغبة عارمة في ترك المدرسة بعد اجتياز المرحلة المعادلة للبريفيه، وذلك لتكريس حياتي لقراءة وكتابة ما يحلو لي خارج المناهج الرسميّة ومن دون بلورة أي فكرة بديلة تتناول أمر تنظيم حياتي. قوبل طلبي تركَ المدرسة بالرفض، طبعاً، فظللتُ أصارع نفسي لتكملة مسار التقدم العلميّ المرسوم لي في البيت والمدرسة. لكن ذاك لم يُجدِ، بل فاقم ما كنت أحياه من تناقض بين ولعي بالعلم والكتب والتعبير عن نفسي، وبين نفوري من الامتثال للمعلّمين والانصياع لهم.
 
وصلتُ إلى الجامعة في نيويورك في سن السابعة عشر مهاجرة ومواطنة في آن واحد. كنتُ في ذلك الوقت مراهقاً أغرّاً وساخطاً على كل شيء، ويلازمني شعور قويّ بالظلم جرّاء كل ما عشته ويعيشه العالم. كانت لدي رغبة عارمة في ترك المدرسة بعد اجتياز المرحلة المعادلة للبريفيه، وذلك لتكريس حياتي لقراءة وكتابة ما يحلو لي خارج المناهج الرسميّة ومن دون بلورة أي فكرة بديلة تتناول أمر تنظيم حياتي. قوبل طلبي تركَ المدرسة بالرفض، طبعاً، فظللتُ أصارع نفسي لتكملة مسار التقدم العلميّ المرسوم لي في البيت والمدرسة. لكن ذاك لم يُجدِ، بل فاقم ما كنت أحياه من تناقض بين ولعي بالعلم والكتب والتعبير عن نفسي، وبين نفوري من الامتثال للمعلّمين والانصياع لهم.
سطر 66: سطر 66:       −
<big>'''أنثى «على ذوقي»'''</big>
+
===أنثى «على ذوقي»===
    
'''أو كوكتيل اغتراب جسديّ مع جندرات «شقف»'''
 
'''أو كوكتيل اغتراب جسديّ مع جندرات «شقف»'''
سطر 72: سطر 72:  
وبعد أن صرتُ أُعرِّفُ نفسي كمتحوّلة على نحوٍ واعٍ وعلني، طال بي الوقت كي أدرك أن سعادتي لم تزدد في أداء الأنوثة بصيغتها المُتعارف عليها. كانت إزالة شعر إبطيَّ وساقيَّ بالنسبة لي عمليّة غير مريحة ومتكلّفة، فلم ألبث أن اكتشفتُ أنّ تحوّلي مختلف ويقع في حيّز آخر ولو كان قريباً، وهو أشبه بتخلٍّ مزدوج: تخلٍّ عن الرجولة المفروضة عليَّ في الصغر، وتخلٍّ عن الأنوثة المُتعارف عليها. وقررت أن أكون أنثى «على ذوقي». أنثى لا تتنكر لبعض الصفات الرجوليّة عندها، بل على العكس، تتعايش معها. فغدوتُ حسن – صبي وبنت، في آن!
 
وبعد أن صرتُ أُعرِّفُ نفسي كمتحوّلة على نحوٍ واعٍ وعلني، طال بي الوقت كي أدرك أن سعادتي لم تزدد في أداء الأنوثة بصيغتها المُتعارف عليها. كانت إزالة شعر إبطيَّ وساقيَّ بالنسبة لي عمليّة غير مريحة ومتكلّفة، فلم ألبث أن اكتشفتُ أنّ تحوّلي مختلف ويقع في حيّز آخر ولو كان قريباً، وهو أشبه بتخلٍّ مزدوج: تخلٍّ عن الرجولة المفروضة عليَّ في الصغر، وتخلٍّ عن الأنوثة المُتعارف عليها. وقررت أن أكون أنثى «على ذوقي». أنثى لا تتنكر لبعض الصفات الرجوليّة عندها، بل على العكس، تتعايش معها. فغدوتُ حسن – صبي وبنت، في آن!
   −
وقد قام تطابق غريب بين الاغتراب عن الوطن داخل الوطن، الذي خبرتُه، وبين الاغتراب عن جسدي الذي لطالما شعرت به كمتحوّلة، إذ تزامن الوعي على هذا «الخيار الثالث» مع تعمقي في اللغة العربيّة وتفتح تعابيرها ومفرداتها الجنسيّة الزاخرة أمامي. وغذّى أحد العنصرين الآخر. وجاءت دراسة العربيّة بمثابة خيار ثالث غير الخيارين المتوقّعين منّي. ففي جامعات الغرب عموماً، يُتوقَّعُ من كل من هو غير أبيض في حقل الانسانيّات إمّا أن يختصّ في موضوع يتعلق بثقافة الغرب، وإما بموضوع يرتبط بأصوله (أي أن يدرس نفسَه). كنت أعرف منذ الصغر أن الشعر يجري في دمي حتى قبل وعيي لهويّتي الجندريّة. لذلك ظننت أنّ خيارَيْ الاختصاصين الأساسيين أمامي هما الكتابة الإبداعيّة، أو الدراسات [[نسوية | النسويّة]] و[[دراسات الجندر | الجندريّة]]. إلّا أنّني لم أجد ضالتي في أيّ منهما. إذ في ما يخصّ الدراسات النِسويّة، فإنّني لم ألقَ في الصفوف التي أخذتها أيّ صدى لتجربتي المُعاشة بكلّ ما أمرّ به يوميّاً من تجارب إيجابيّة وسلبيّة، ومضحكة ومحزنة. فتلك الدراسات إمّا متمركزة في التجربة الأميركيّة (البيضاء أو غير البيضاء)، والتي لم تكن إلا جزءاً صغيراً من تكويني الأساسيّ حتى سن البلوغ، ولم تُشعرني يوماً (خاصة وأنّي من أصول مختلطة) بانتمائي إلى هذه الفئة المصطنعة المسمّاة «ملوّنين» (POC)، أو أنّها غارقة في التنظير والمناظرات الفلسفيّة التي (على أهميتها) تُشعِرُ من يقرأها، أن المتحوّلين، وهم بشرٌ وقضيّة، ليسوا سوى موضوع عرضيّ في النقاش. أقول هذا مع احترامي لجهود منظرين أمثال [[جوديت بتلر]]، التي بكتاباتها عن ال[[جندر]] باعتباره [[أدائية الجندر | أداءً وليس فطرة]]، على أهمّيتها، لم تُفِدني في فهمي لهويتي، ولا في صراعي لنيل الاحترام والمساواة. هل تحوُّلي يأتي في حكم الفطرة أم أنّه أداءٌ اخترتُ أن أؤديه؟ قد يكون مزيجاً من الأمرين عندي، إذ يطيب لي اعتبار هويتي هلاميّة مُتغيّرة من يوم إلى آخر، مع تفاوت نسب الأنوثة والذكورة فيها. وهذا عند آخرين قد يكون أداءً واعياً في سبيل اختيار الاصطفاف خارج سطوة الثنائيّة، وقد يكون عند غيرهم فطرة طُبعوا عليها، ومن المؤذي بحقّهم التحدّث عن طوعيّة في الأمر، كون ذاك يجعلهم عُرضة للإلغاء والمساءلة في خياراتهم. وسرعان ما اعتذرتُ عن هذا النقاش لأني مللته، ولأنّه لا يُخرجنا من قاعة التدريس إلى الكفاح من أجل نيل الاعتراف بالمتحوّلين، في كافة أشكالهم، باعتبارهم بشراً كبقيّة البشر في حقوقهم وكرامتهم الفرديّة والجماعيّة. هذا ناهيك عن أن صفوف الدراسات النِسويّة كانت تفرض علينا أضعاف مواد القراءة والكتابة المقررة في اختصاصات أخرى، وذلك لبرهنة جدّيتها كحقل دراسيّ أكاديمي!
+
وقد قام تطابق غريب بين الاغتراب عن الوطن داخل الوطن، الذي خبرتُه، وبين الاغتراب عن جسدي الذي لطالما شعرت به كمتحوّلة، إذ تزامن الوعي على هذا «الخيار الثالث» مع تعمقي في اللغة العربيّة وتفتح تعابيرها ومفرداتها الجنسيّة الزاخرة أمامي. وغذّى أحد العنصرين الآخر. وجاءت دراسة العربيّة بمثابة خيار ثالث غير الخيارين المتوقّعين منّي. ففي جامعات الغرب عموماً، يُتوقَّعُ من كل من هو غير أبيض في حقل الانسانيّات إمّا أن يختصّ في موضوع يتعلق بثقافة الغرب، وإما بموضوع يرتبط بأصوله (أي أن يدرس نفسَه). كنت أعرف منذ الصغر أن الشعر يجري في دمي حتى قبل وعيي لهويّتي الجندريّة. لذلك ظننت أنّ خيارَيْ الاختصاصين الأساسيين أمامي هما الكتابة الإبداعيّة، أو الدراسات [[نسوية | النسويّة]] و[[دراسات الجندر | الجندريّة]]. إلّا أنّني لم أجد ضالتي في أيّ منهما. إذ في ما يخصّ الدراسات النِسويّة، فإنّني لم ألقَ في الصفوف التي أخذتها أيّ صدى لتجربتي المُعاشة بكلّ ما أمرّ به يوميّاً من تجارب إيجابيّة وسلبيّة، ومضحكة ومحزنة. فتلك الدراسات إمّا متمركزة في التجربة الأميركيّة (البيضاء أو غير البيضاء)، والتي لم تكن إلا جزءاً صغيراً من تكويني الأساسيّ حتى سن البلوغ، ولم تُشعرني يوماً (خاصة وأنّي من أصول مختلطة) بانتمائي إلى هذه الفئة المصطنعة المسمّاة «ملوّنين» (POC)، أو أنّها غارقة في التنظير والمناظرات الفلسفيّة التي (على أهميتها) تُشعِرُ من يقرأها، أن المتحوّلين، وهم بشرٌ وقضيّة، ليسوا سوى موضوع عرضيّ في النقاش. أقول هذا مع احترامي لجهود منظرين أمثال [[جوديث بتلر]]، التي بكتاباتها عن ال[[جندر]] باعتباره [[أدائية الجندر | أداءً وليس فطرة]]، على أهمّيتها، لم تُفِدني في فهمي لهويتي، ولا في صراعي لنيل الاحترام والمساواة. هل تحوُّلي يأتي في حكم الفطرة أم أنّه أداءٌ اخترتُ أن أؤديه؟ قد يكون مزيجاً من الأمرين عندي، إذ يطيب لي اعتبار هويتي هلاميّة مُتغيّرة من يوم إلى آخر، مع تفاوت نسب الأنوثة والذكورة فيها. وهذا عند آخرين قد يكون أداءً واعياً في سبيل اختيار الاصطفاف خارج سطوة الثنائيّة، وقد يكون عند غيرهم فطرة طُبعوا عليها، ومن المؤذي بحقّهم التحدّث عن طوعيّة في الأمر، كون ذاك يجعلهم عُرضة للإلغاء والمساءلة في خياراتهم. وسرعان ما اعتذرتُ عن هذا النقاش لأني مللته، ولأنّه لا يُخرجنا من قاعة التدريس إلى الكفاح من أجل نيل الاعتراف بالمتحوّلين، في كافة أشكالهم، باعتبارهم بشراً كبقيّة البشر في حقوقهم وكرامتهم الفرديّة والجماعيّة. هذا ناهيك عن أن صفوف الدراسات النِسويّة كانت تفرض علينا أضعاف مواد القراءة والكتابة المقررة في اختصاصات أخرى، وذلك لبرهنة جدّيتها كحقل دراسيّ أكاديمي!
    
ومن ناحية أخرى، لم تَرُقْ لي كثيراً طريقة «تعليم» الكتابة الإبداعيّة بصيغة الورشة، حيث يتناوب الطلّاب على تحليل وانتقاد نصوص بعضهم بعضاً تحت إشراف أساتذة، إذ لم أرتَحْ للاحتكام إلى آراء أشخاص لا أعرفهم ولا عهد لي بذائقتهم أو مبادئهم الفنيّة أو السياسيّة. وكانت مع كل فصل دراسي وكل ورشة جديدة تتكرر الأسطوانة مجدّداً وبوجوه مختلفة، الأمر الذي أرهقني ولم يُطوّر تقنيّاتي الإبداعيّة. وصادف في ذلك الوقت أن قرأتُ ذاكرة للنسيان، مذكرات محمود درويش في حصار بيروت عام 1982. وقد أغرمتُ بالنص، وبالأخصّ (من بين مقاطع عدّة) وصفه لعمليّة إعداد القهوة على الرغم من الذكوريّة البيّنة في هذا المقطع، وذاك جعلني أفكر جدّياً بدراسة العربيّة. ووجدت أنّ قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا هو من أخفِّ الاختصاصات من حيث المقرّرات، ويمنحني حريّة اختيار الصفوف التي تثير اهتمامي. إذ أنّ المقرّر الإجباري الوحيد كان اللغة. هذا وإنّني لم أرد الالتحاق بالذين «يدرسون أنفسهم»، وبالتالي استبعدتُ دراسة الهنديّة، فكان عليَّ أن أختار بين اللغة الفارسيّة واللغة العربيّة. وبما أنّني كنتُ مولعة بنص درويش، وبما أنّ برنامج تدريس الفارسيّة كان الأضعف، وقع اختياري على العربيّة مع أنّ الفارسيّة أقرب إلى الهنديّة نحواً. وفي السنة نفسها، في الصيف الذي سبق أول درس في العربيّة، تمكنتُ من تغيير خانة الجنس على هويتي وجواز سفري من ذكر إلى أنثى. وهكذا بدأت رحلتي مع العربيّة على نحوٍ جدّي ومتعمّد.
 
ومن ناحية أخرى، لم تَرُقْ لي كثيراً طريقة «تعليم» الكتابة الإبداعيّة بصيغة الورشة، حيث يتناوب الطلّاب على تحليل وانتقاد نصوص بعضهم بعضاً تحت إشراف أساتذة، إذ لم أرتَحْ للاحتكام إلى آراء أشخاص لا أعرفهم ولا عهد لي بذائقتهم أو مبادئهم الفنيّة أو السياسيّة. وكانت مع كل فصل دراسي وكل ورشة جديدة تتكرر الأسطوانة مجدّداً وبوجوه مختلفة، الأمر الذي أرهقني ولم يُطوّر تقنيّاتي الإبداعيّة. وصادف في ذلك الوقت أن قرأتُ ذاكرة للنسيان، مذكرات محمود درويش في حصار بيروت عام 1982. وقد أغرمتُ بالنص، وبالأخصّ (من بين مقاطع عدّة) وصفه لعمليّة إعداد القهوة على الرغم من الذكوريّة البيّنة في هذا المقطع، وذاك جعلني أفكر جدّياً بدراسة العربيّة. ووجدت أنّ قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا هو من أخفِّ الاختصاصات من حيث المقرّرات، ويمنحني حريّة اختيار الصفوف التي تثير اهتمامي. إذ أنّ المقرّر الإجباري الوحيد كان اللغة. هذا وإنّني لم أرد الالتحاق بالذين «يدرسون أنفسهم»، وبالتالي استبعدتُ دراسة الهنديّة، فكان عليَّ أن أختار بين اللغة الفارسيّة واللغة العربيّة. وبما أنّني كنتُ مولعة بنص درويش، وبما أنّ برنامج تدريس الفارسيّة كان الأضعف، وقع اختياري على العربيّة مع أنّ الفارسيّة أقرب إلى الهنديّة نحواً. وفي السنة نفسها، في الصيف الذي سبق أول درس في العربيّة، تمكنتُ من تغيير خانة الجنس على هويتي وجواز سفري من ذكر إلى أنثى. وهكذا بدأت رحلتي مع العربيّة على نحوٍ جدّي ومتعمّد.
سطر 78: سطر 78:       −
<big>'''لا فرقَ بين عربيّ وأعجميّ إلّا في إجادة الفصحى: الخضوع للتشكيك الأمنيّ'''</big>
+
===لا فرقَ بين عربيّ وأعجميّ إلّا في إجادة الفصحى: الخضوع للتشكيك الأمنيّ===
    
لم تكن عزيمتي في أيّ أمر من الأمور بالقوة التي كانت عليها رغبتي في إجادة العربيّة. كل من درس اللغة وآدابها يعرف مدى هيمنة حراس البوابة، الذين لا يرفّ لهم جفن وهم يسهرون على حراسة «لغتهم» (إذ يُخيَّل إليهم أنّها ملكهم) من اختراق الغريب والأعجميّ، فلا يبخلون في «التشبيح» عليك، وفي تخويفك من صعوبة القواعد واستحالة التوصل إلى إجادتها. وهم يتربصون بأصغر خطأ أو زلة نطق كي يلغوا حق مُحدثتهم في الكلام. وعندما لا يوافقهم قولٌ يقولون إنَّ هذه ليست لغة عربيّة، وعندما لا تعجبهم قصيدة يطعنون في شعريّتها من الأساس.  
 
لم تكن عزيمتي في أيّ أمر من الأمور بالقوة التي كانت عليها رغبتي في إجادة العربيّة. كل من درس اللغة وآدابها يعرف مدى هيمنة حراس البوابة، الذين لا يرفّ لهم جفن وهم يسهرون على حراسة «لغتهم» (إذ يُخيَّل إليهم أنّها ملكهم) من اختراق الغريب والأعجميّ، فلا يبخلون في «التشبيح» عليك، وفي تخويفك من صعوبة القواعد واستحالة التوصل إلى إجادتها. وهم يتربصون بأصغر خطأ أو زلة نطق كي يلغوا حق مُحدثتهم في الكلام. وعندما لا يوافقهم قولٌ يقولون إنَّ هذه ليست لغة عربيّة، وعندما لا تعجبهم قصيدة يطعنون في شعريّتها من الأساس.  
سطر 90: سطر 90:       −
<big>'''الظنون الأمنيّة والعقليّة الممانعاتيّة - الطعن في جندري وجنسي وجنسيّتي'''</big>
+
===الظنون الأمنيّة والعقليّة الممانعاتيّة - الطعن في جندري وجنسي وجنسيّتي===
    
كما سبق وقلت، إنّ ثنائيّة الذكر- الأنثى متجذرة في كل مجتمع، لكن الاختلاف ومساحة الحرّية تكمن في حدّة العواقب المترتبة على التفعيل الواقعيّ لهذه الثنائيّة على أرض الواقع، واحتمال وقوع العنف إذا وجدت إحدانا نفسها على الطرف الخطأ.
 
كما سبق وقلت، إنّ ثنائيّة الذكر- الأنثى متجذرة في كل مجتمع، لكن الاختلاف ومساحة الحرّية تكمن في حدّة العواقب المترتبة على التفعيل الواقعيّ لهذه الثنائيّة على أرض الواقع، واحتمال وقوع العنف إذا وجدت إحدانا نفسها على الطرف الخطأ.
سطر 105: سطر 105:       −
<big>
+
===بيروت ذات الهويّة الملتبسة مكانٌ أمثل لهويّة ملتبسة (خاصّة بجندرها)===
'''بيروت ذات الهويّة الملتبسة مكانٌ أمثل لهويّة ملتبسة (خاصّة بجندرها)'''</big>
      
خلال دراستي عشتُ في فلسطين، فَالقاهرة، فَدمشق، فَفلسطين مرة أخرى، ثم عدتُ إلى نيويورك كي ألتحق ببرنامج الدكتوراه (وشاءت الصدف أن تتوفى والدتي إثر صراع طويل مع السرطان بعد بداية الفصل الدراسيّ الأول بأسبوع). بطبيعة الحال كانت بيروت المحطّة القادمة لاكتمال الدائرة في تجربتي الشاميّة، فأنا لم أنظر إليها في يوم من الأيّام بمعزل عن تجربتي الفلسطينيّة أو الدمشقيّة، ولا يمكنني كتابة تجربتي الفلسطينيّة بمعزل عن تجربتي البيروتيّة والدمشقيّة.
 
خلال دراستي عشتُ في فلسطين، فَالقاهرة، فَدمشق، فَفلسطين مرة أخرى، ثم عدتُ إلى نيويورك كي ألتحق ببرنامج الدكتوراه (وشاءت الصدف أن تتوفى والدتي إثر صراع طويل مع السرطان بعد بداية الفصل الدراسيّ الأول بأسبوع). بطبيعة الحال كانت بيروت المحطّة القادمة لاكتمال الدائرة في تجربتي الشاميّة، فأنا لم أنظر إليها في يوم من الأيّام بمعزل عن تجربتي الفلسطينيّة أو الدمشقيّة، ولا يمكنني كتابة تجربتي الفلسطينيّة بمعزل عن تجربتي البيروتيّة والدمشقيّة.
سطر 115: سطر 114:       −
 
+
===المبتسرون جندراً وانتماءاً أو «...كل غريب للغريب نسيب»===
 
  −
<big>'''المبتسرون جندراً وانتماءاً أو «...كل غريب للغريب نسيب»'''</big>
        سطر 125: سطر 122:       −
<big>
+
===اصطناعيّة الهويّات كحلٍّ للاقتتالات المُصطنعة===
'''اصطناعيّة الهويّات كحلٍّ للاقتتالات المُصطنعة'''</big>
      
ليس لديّ مشكلة في الأساس مع فكرة اصطناع الهويات. ففي نهاية المطاف هناك قسطٌ من الاصطناعيّة أو الصناعة في جميع الهويّات على مرّ التاريخ. لكنّ المريع في الأمر هو أن توضع هذه الهويّات، كما حصل مراراً، في حالة تصادم يتمّ تصويره وكأنّه وضع طبيعي مُسلَّم به.
 
ليس لديّ مشكلة في الأساس مع فكرة اصطناع الهويات. ففي نهاية المطاف هناك قسطٌ من الاصطناعيّة أو الصناعة في جميع الهويّات على مرّ التاريخ. لكنّ المريع في الأمر هو أن توضع هذه الهويّات، كما حصل مراراً، في حالة تصادم يتمّ تصويره وكأنّه وضع طبيعي مُسلَّم به.
سطر 136: سطر 132:       −
<big>
+
===استدلالاً على الجندر في العربيّة===
'''استدلالاً على الجندر في العربيّة'''</big>
+
 
'''
+
'''لانتشال اللغة العربيّة من الحداثة الطهرانيّة المفروضة عليها، ومن قبضة الملتحين في آن'''
لانتشال اللغة العربيّة من الحداثة الطهرانيّة المفروضة عليها، ومن قبضة الملتحين في آن'''
      
"''الإنسان العربي، ذكراً كان أم أنثى، يصرّح بألفاظ الجنس على مسمع من الآخرين، من دون مواربة ولا حياء، إذ لا حياء في اللغة كما لا حياء في الدين.''"
 
"''الإنسان العربي، ذكراً كان أم أنثى، يصرّح بألفاظ الجنس على مسمع من الآخرين، من دون مواربة ولا حياء، إذ لا حياء في اللغة كما لا حياء في الدين.''"
سطر 173: سطر 168:       −
 
+
===فلنواصل الدقّ على جدران الفصل الجندري===
'''فلنواصل الدقّ على جدران الفصل الجندري'''
      
لنتذكر أن تفشي [[تمييز على أساس الجندر | التمييز على أساس الجندر]] في اللغة لا يتماشى طردياً مع نسبة التحرّر الجندريّ أو الجنسيّ في المجتمع الناطق بها. فهناك لغات كالفارسيّة والتركيّة لا يوجد في نحوها ذكر أو أنثى، لكن الثنائيّة الجندريّة قائمة وصارمة في المجتمعات الناطقة بها، التي تظل تعاني من الذكوريّة والتمييز على أساس الهويّة الجندريّة. وكذلك لغات أخرى كالألمانيّة التي يوجد فيها جنس ثالث محايد (وهي لغة فيها إعراب بالمناسبة وعدد الناطقين بها أقل بكثير من الناطقين بالعربيّة لكن لا أحد «ينقّ» على صعوبة تعلمها؟ يا ترى لماذا؟)
 
لنتذكر أن تفشي [[تمييز على أساس الجندر | التمييز على أساس الجندر]] في اللغة لا يتماشى طردياً مع نسبة التحرّر الجندريّ أو الجنسيّ في المجتمع الناطق بها. فهناك لغات كالفارسيّة والتركيّة لا يوجد في نحوها ذكر أو أنثى، لكن الثنائيّة الجندريّة قائمة وصارمة في المجتمعات الناطقة بها، التي تظل تعاني من الذكوريّة والتمييز على أساس الهويّة الجندريّة. وكذلك لغات أخرى كالألمانيّة التي يوجد فيها جنس ثالث محايد (وهي لغة فيها إعراب بالمناسبة وعدد الناطقين بها أقل بكثير من الناطقين بالعربيّة لكن لا أحد «ينقّ» على صعوبة تعلمها؟ يا ترى لماذا؟)
سطر 209: سطر 203:       −
 
+
===وبعد... ماذا يبقى؟===
'''وبعد... ماذا يبقى؟'''
      
أشعر بالإرهاق وأنا أخطّ هذه الكلمات الأخيرة، إرهاقٌ ناجمٌ عن إحساس بالتعري الكامل، الناجم بدوره عن كتابة هذه المكاشفة. أتساءل مع عنترة بن شدّاد عمّا تبقى لنا أن نقوله، أم هل بالفعل غادرت المتحوّلات بعد أن استنفذنَ كل المتردّمات<ref>إحالة إلى مطلع معلّقة عنترة بن شدّاد «هل غادرَ الشعراءُ من متردَّمِ... أم هل عرفتَ الدارَ بعدَ توهُّمِ» الذي يتساءل فيه عمّا إذا كان قد بقي ما لم يتطرّق إليه شعراء زمنه ولم يستنفذوه كلياً</ref>.
 
أشعر بالإرهاق وأنا أخطّ هذه الكلمات الأخيرة، إرهاقٌ ناجمٌ عن إحساس بالتعري الكامل، الناجم بدوره عن كتابة هذه المكاشفة. أتساءل مع عنترة بن شدّاد عمّا تبقى لنا أن نقوله، أم هل بالفعل غادرت المتحوّلات بعد أن استنفذنَ كل المتردّمات<ref>إحالة إلى مطلع معلّقة عنترة بن شدّاد «هل غادرَ الشعراءُ من متردَّمِ... أم هل عرفتَ الدارَ بعدَ توهُّمِ» الذي يتساءل فيه عمّا إذا كان قد بقي ما لم يتطرّق إليه شعراء زمنه ولم يستنفذوه كلياً</ref>.
1٬327

تعديل

قائمة التصفح