سطر 16: |
سطر 16: |
| | | |
| وقد برهنت على ذلك بتحليل بعض التوصيفات النظرية المتصلة بفعل الترجمة وعلاقة النص الأصلي بالمترجم، ومنها: الخيانة والإخلاص، واللغة الأم، والترجمة باعتبارها غزوا نصيّا واختراقا ثقافيا، وما إلى غير ذلك من تعبيرات مجازية. ثم شهدت التسعينيات طفرة ملحوظة في دمج المنظور الجندري في دراسات الترجمة، وذلك بصدور كتاب [[شيري سايمون]] عن "الجندر في الترجمة: الهوية | | وقد برهنت على ذلك بتحليل بعض التوصيفات النظرية المتصلة بفعل الترجمة وعلاقة النص الأصلي بالمترجم، ومنها: الخيانة والإخلاص، واللغة الأم، والترجمة باعتبارها غزوا نصيّا واختراقا ثقافيا، وما إلى غير ذلك من تعبيرات مجازية. ثم شهدت التسعينيات طفرة ملحوظة في دمج المنظور الجندري في دراسات الترجمة، وذلك بصدور كتاب [[شيري سايمون]] عن "الجندر في الترجمة: الهوية |
− | الثقافية وسياسات الإرسال" (1996)، ثم كتاب [[لويز فون فلوتو]] عن "الترجمة والجندر: الترجمةفي ’عصر النسوية‘" (1997) والذي التفتت فيه المؤلفتان إلى مسألة الموقف الجندري في الترجمة، نظرية وممارسة، وتسليط الضوء على بعض النساء المترجمات منذ العصور الوسطى فصاعدا، مع الربط بين قضايا اللغة والترجمة والثقافة و[[نسوية | النسوية]]. ولعل من آخر وأهم الكتب الصادرة في هذا المجال هو كتاب يضم عددا من الدراسات بعنوان "ترجمة النساء" (2011)، تتطرق إلى قضايا الصوت والوساطة والتأويل والذاتية، مع تطبيقات على ترجمات و[[كتابة نسائية | كتابات نسائية]] متنوعة. | + | الثقافية وسياسات الإرسال" (1996)، ثم كتاب [[لويز فون فلوتو]] عن "الترجمة والجندر: الترجمة في "عصر النسوية" (1997) والذي التفتت فيه المؤلفتان إلى مسألة الموقف الجندري في الترجمة، نظرية وممارسة، وتسليط الضوء على بعض النساء المترجمات منذ العصور الوسطى فصاعدا، مع الربط بين قضايا اللغة والترجمة والثقافة و[[نسوية | النسوية]]. ولعل من آخر وأهم الكتب الصادرة في هذا المجال هو كتاب يضم عددا من الدراسات بعنوان "ترجمة النساء" (2011)، تتطرق إلى قضايا الصوت والوساطة والتأويل والذاتية، مع تطبيقات على ترجمات و[[كتابة نسائية | كتابات نسائية]] متنوعة. |
| | | |
− | وأود فيما يلي أن أوضح ما أقصده بالترجمة النسوية، وهو مصطلح تبلور في ذهني من واقع انتمائي للفكر النسوي وممارستي للترجمة، فأتوقف أمام العلاقة بين [[نظرية نسوية | النظرية النسوية]] ودراسات الترجمة، وأتأملها في سياق ترجمة النص النسوي إلى اللغة العربية، وهو فعل يستدعي في رأيي عدة شروط أساسية لضمان دقة الترجمة لغويا وصحة نقل الفكر معرفيا، وهي شروط يمكن إيجازها في | + | وأود فيما يلي أن أوضح ما أقصده بالترجمة النسوية، وهو مصطلح تبلور في ذهني من واقع انتمائي للفكر النسوي وممارستي للترجمة، فأتوقف أمام العلاقة بين [[نظرية نسوية | النظرية النسوية]] ودراسات الترجمة، وأتأملها في سياق ترجمة النص النسوي إلى اللغة العربية، وهو فعل يستدعي في رأيي عدة شروط أساسية لضمان دقة الترجمة لغويا وصحة نقل الفكر معرفيا، وهي شروط يمكن إيجازها في الآتي: لا يكفي لترجمة النص النسوي امتلاك زمام اللغتين المعنيتين، وإنما يتطلب الأمر إدراكا للمفاهيم الفكرية الواردة والكامنة في النص النسوي بل ولتطور النظرية النسوية ومصطلحاتها، وما قد تتضمنه الترجمة من ضرورة صياغة مصطلحات جديدة. ولابد من وجود وعي [[علاقات القوى | بعلاقات القوى]] الكامنة في فعل الترجمة، والترجمة باعتبارها فعلا تأويليا تقوم فيه المترجمة أو المترجم بدور الوساطة بين النص الأصلي والنص المترجم، وتداعيات الموقف من النص على ترجمة النص. كما يجب إدراك خصوصية [[خطاب نسوية | الخطاب النسوي]] من حيث كونه في الأساس خطابا سياسيا يستهدف [[تمكين النساء]] معرفيا، وهو خطاب وإن لم يكن موجها إلى النساء فحسب، إلا أنه يخاطب القارئات بشكل خاص ضمن عموم القراء. وأخيرا، التعامل مع ترجمة النص النسوي باعتبارها فعلا سياسيا لا يقتصر على نقل المعرفة والثقافة والفكر، بل يسعى إلى بناء معرفة جديدة نسوية باللغة العربية، بما يساهم على المدى البعيد في إحداث تغيير اجتماعي من خلال رفع الوعي وتمكين النساء معرفيا. ومن هنا سأتناول فيما يلي بعض المفاهيم الراسخة في نظرية الترجمة وأتأمل تجلياتها عند ممارسة الترجمة من منظور نسوي. |
− | الآتي: لا يكفي لترجمة النص النسوي امتلاك زمام اللغتين المعنيتين، وإنما يتطلب الأمر إدراكا للمفاهيم الفكرية الواردة والكامنة في النص النسوي بل ولتطور النظرية النسوية ومصطلحاتها، وما قد تتضمنه الترجمة من ضرورة صياغة مصطلحات جديدة. ولابد من وجود وعي [[علاقات القوى | بعلاقات القوى]] الكامنة في فعل الترجمة، والترجمة باعتبارها فعلا تأويليا تقوم فيه المترجمة أو المترجم بدور الوساطة بين النص الأصلي والنص المترجم، وتداعيات الموقف من النص على ترجمة النص. كما يجب إدراك خصوصية [[خطاب نسوية | الخطاب النسوي]] من حيث كونه في الأساس خطابا سياسا يستهدف [[تمكين النساء]] معرفيا، وهو خطاب وإن لم يكن موجها إلى النساء فحسب، إلا أنه يخاطب القارئات بشكل خاص ضمن عموم القراء. وأخيرا، التعامل مع ترجمة النص النسوي باعتبارها فعلا سياسيا لا يقتصر على | |
− | نقل المعرفة والثقافة والفكر، بل يسعى إلى بناء معرفة جديدة نسوية باللغة العربية، بما يساهم على المدى البعيد في إحداث تغيير اجتماعي من خلال رفع الوعي وتمكين النساء معرفيا. ومن هنا سأتناول فيما يلي بعض المفاهيم الراسخة في نظرية الترجمة وأتأمل تجلياتها عند ممارسة الترجمة من منظور نسوي. | |
| | | |
| == أولا: الترويض أم التغريب == | | == أولا: الترويض أم التغريب == |
سطر 27: |
سطر 25: |
| أما التغريب (foreiginization) كاستراتيجية في الترجمة فيشير إلى نقل النص من لغة إلى لغة مع الحفاظ على ملامحه اللغوية والأسلوبية والثقافية عند ترجمته، دون تطويعه وترويضه بما يساير اللغة والثقافة المنقول إليها. وتقوم على فكرة نقل القارئ إلى النص، أي الحفاظ على خصائص النص الأصلي وإتاحتها لغويا للقراء من خلال الترجمة، مع تطويع اللغة المترجم إليها وقواعدها الأسلوبية بما يتناسب مع النص الأصلي وسياقه اللغوي وتاريخه الثقافي. | | أما التغريب (foreiginization) كاستراتيجية في الترجمة فيشير إلى نقل النص من لغة إلى لغة مع الحفاظ على ملامحه اللغوية والأسلوبية والثقافية عند ترجمته، دون تطويعه وترويضه بما يساير اللغة والثقافة المنقول إليها. وتقوم على فكرة نقل القارئ إلى النص، أي الحفاظ على خصائص النص الأصلي وإتاحتها لغويا للقراء من خلال الترجمة، مع تطويع اللغة المترجم إليها وقواعدها الأسلوبية بما يتناسب مع النص الأصلي وسياقه اللغوي وتاريخه الثقافي. |
| | | |
− | ويرى فينوتي أن التغريب في الترجمة يتضمن قدرا من "المقاومة" (resistancy) لما في الترويض من "عنف" تجاه النص الأصلي. وفي سياق | + | ويرى فينوتي أن التغريب في الترجمة يتضمن قدرا من "المقاومة" (resistancy) لما في الترويض من "عنف" تجاه النص الأصلي. وفي سياق ترجمة النصوص إلى اللغة الإنجليزية، يكتسب التغريب قيمة إضافية ممثلة في عدم إخضاع السياقات اللغوية والثقافية للنص المترجم إلى اللغة الإنجليزية بما تتمتع به من سيادة وهيمنة لغوية وثقافية في عصرنا الحالي. بل يذهب فينوتي إلى أن "التغريب عند الترجمة إلى اللغة الإنجليزية يمكن أن يكون شكلا من أشكال مقاومة الاستعلاء العرقي والعنصرية والنرجسية الثقافية والإمبريالية." |
− | ترجمة النصوص إلى اللغة الإنجليزية، يكتسب التغريب قيمة إضافية ممثلة في عدم إخضاع السياقات اللغوية والثقافية للنص المترجم إلى اللغة الإنجليزية بما تتمتع به من سيادة وهيمنة لغوية وثقافية في عصرنا الحالي. بل يذهب فينوتي إلى أن "التغريب عند الترجمة إلى اللغة الإنجليزية يمكن أن يكون شكلا من أشكال مقاومة الاستعلاء العرقي والعنصرية والنرجسية الثقافية والإمبريالية." | |
| | | |
− | وعند تأمل مفهومي الترويض والتغريب في سياق الترجمة النسوية، أجد أن الفكر النسوي بشكل عام يميل إلى تأكيد الخصوصية والتعددية ويقاوم أشكال [[هيمنة | الهيمنة]] على تنوعها. وبالتالي فإن الترجمة النسوية هي بالضرورة أقرب إلى اتباع استراتيجية التغريب، لما فيها من عدم محو للسمات اللغوية والأسلوبية والثقافية للنص المنقول، وعدم إخضاع النص المترجم إلى منظومة اللغة المترجم إليها حتى بعيدا عن سياق الهيمنة. فإذا كانت الترجمة تتم أساسا بين نصين ينتميان إلى منظومة تختل فيها علاقات القوى، فإن الترجمة النسوية باستنادها إلى الفكر النسوي تستدعي منح الطرف [[تهميش | المهمش]] صوتا، ومقاومة كافة أشكال [[عنف ضد الرأمة | | + | وعند تأمل مفهومي الترويض والتغريب في سياق الترجمة النسوية، أجد أن الفكر النسوي بشكل عام يميل إلى تأكيد الخصوصية والتعددية ويقاوم أشكال [[هيمنة | الهيمنة]] على تنوعها. وبالتالي فإن الترجمة النسوية هي بالضرورة أقرب إلى اتباع استراتيجية التغريب، لما فيها من عدم محو للسمات اللغوية والأسلوبية والثقافية للنص المنقول، وعدم إخضاع النص المترجم إلى منظومة اللغة المترجم إليها حتى بعيدا عن سياق الهيمنة. فإذا كانت الترجمة تتم أساسا بين نصين ينتميان إلى منظومة تختل فيها علاقات القوى، فإن الترجمة النسوية باستنادها إلى الفكر النسوي تستدعي منح الطرف [[تهميش | المهمش]] صوتا، ومقاومة كافة أشكال [[عنف ضد المرأة | العنف]] و[[تمييز جنسي | التمييز]] والهيمنة على مستوى الفعل – أي عند ممارسة الترجمة. ولكن اللافت للنظر أنه في حالة الترجمة النسوية يصبح التغريب مضاعفا، إذ لا يقتصر الأمر على الجوانب اللغوية والأسلوبية والأنواع الأدبية والنصوص المعتمدة، وإنما يتمثل التغريب أيضا في الموضوع والمضمون، إذ لا تكتفي الترجمة النسوية بالتعامل مع إشكاليات الترجمة بتفاصيلها وأبعادها، وإنما تمثل ترجمة النص النسوي تحديا على مستوى غربة وغرابة المضمون. فعند ترجمة النص النسوي ترجمة نسوية إلى اللغة العربية تواجه المترجمة والمترجم إشكالية الاختيار بين الترويض والتغريب، بما قد يحققه الترويض من طلاقة وتقريب لمضمون النص النسوي من جانب، وبين التغريب المتسق منهجيا مع الفكر النسوي وإن كان قد يؤدي اتباعه كاستراتيجية في الترجمة إلى مزيد من إبعاد القارئة والقارئ عن الفكر والنص النسوي. وهي مسألة تتفاقم مع عدم إلمام المترجم بسياق النص النسوي وتاريخ الفكر النسوي محليا وعالميا، وربما تتجسد أكثر ما تتجسد عند ترجمة المصطلحات المنتمية إلى مجال الدراسات النسوية والجندرية، بما يتطلبه الأمر هنا من قدر من المعرفة والتخصص في الترجمة بل وفي القدرة على صياغة مصطلحات جديدة. |
− | العنف]] و[[تمييز جنسي | التمييز]] والهيمنة على مستوى الفعل – أي عند ممارسة الترجمة. ولكن اللافت للنظر أنه في حالة الترجمة النسوية يصبح التغريب مضاعفا، إذ لا يقتصر الأمر على الجوانب اللغوية والأسلوبية والأنواع الأدبية والنصوص المعتمدة، وإنما يتمثل التغريب أيضا في الموضوع والمضمون، إذ لا تكتفي الترجمة النسوية بالتعامل مع إشكاليات الترجمة بتفاصيلها وأبعادها، وإنما تمثل ترجمة النص النسوي تحديا على مستوى غربة وغرابة المضمون. فعند ترجمة النص النسوي ترجمة نسوية إلى اللغة العربية تواجه المترجمة والمترجم إشكالية الاختيار بين الترويض والتغريب، بما قد يحققه الترويض من طلاقة وتقريب لمضمون النص النسوي من جانب، وبين التغريب المتسق منهجيا مع الفكر النسوي وإن كان قد يؤدي اتباعه كاستراتيجية في الترجمة إلى مزيد من إبعاد القارئة والقارئ عن الفكر والنص النسوي. وهي مسألة تتفاقم مع عدم إلمام المترجم بسياق النص النسوي وتاريخ الفكر النسوي محليا وعالميا، وربما تتجسد أكثر ما تتجسد عند ترجمة المصطلحات المنتمية إلى مجال الدراسات النسوية والجندرية، بما يتطلبه الأمر هنا من قدر من المعرفة والتخصص في الترجمة بل وفي القدرة على صياغة مصطلحات جديدة.
| |
| | | |
| == ثانيا: الترجمة الحميمية والمتخصصة == | | == ثانيا: الترجمة الحميمية والمتخصصة == |