وثيقة:التابع يتكلم عبر الموت
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | فرانسيس ويد و غاياتري سبيفاك |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | باب الواد |
اللغة | غير معيّنة |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://babelwad.com/ar/نصوص/التابع-يتكلّم-عبر-الموت/
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها باب الواد
نقدّم إليكم نصّ المقابلة التي أجراها فرانيس ويد مع غاياتري سبيفاك، وترجمها إلى العربية، وقدَّم لها، عبد الرحيم الشيخ ورنا بركات. تلقي سبيفاك الضوء على عملها في مدارس ريف البنغال الغربيّة، ورؤيتها لطبيعة التغيير السياسي الذي تتطلَّع إلى التحضير له عبر الفعل التربويّ.
مقدِّمة الترجمة: سبيفاك في فلسطين
على الرغم من الخلط المعتاد بين مظلوميّة “التابعين” في السياق مابعد-الاستعماريّ في شبه-القارة الهنديّة، ومظلومّية المستعمَرين في أمكنةٍ أخرى من العالم، كفلسطين، إلا أنّ ثمة تقاطعاتٍ كثيرةً ما بين المظلوميَّتين من حيث أثر التحوُّلات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة الناتجة عن العنف الاستعماري، بوصفة بنيةً دائمة التَّنَاتُج في صورٍ جديدةٍ، على الشعوب الأصلانيّة. وبغض النظر عن شكل السلطة السياسيّة التي تستمدّ شرعيّتها من “الخطاب الوطني”، الذي تصادق عليه للمفارقة القوى الاستعمارية، إلا أنّ التعرُّف على المظلومية المستمرة لا يزال ممكناً عبر قراءة أنظمة النبذ، والتهميش، والعزل، والحصار… التي تمارسها السلطة المحلية، والتي بدورها تنتحل صفة “الوطنيّة” وتحظى بمباركة “الاستعمار” في آنٍ معاً، بحقّ مجموعاتٍ معيّنةٍ من شعبها.
وإذا كانت المظاهر السياديّة (Sovereign) للحقلَيْن السياسي والاقتصادي، المحروسَيْن بالبنى الأمنيّة المدجّجة بالموازنات وعقائد الوكلاء، سافرةً ولا تحتاج إلى بحثٍ عسيرٍ عن الدلائل، فإنّ المظاهر التأديبيّة (Disciplinary) للحقلَيْن الاجتماعي والثقافي أكثر خفاءً وتحتاج إلى قراءةٍ أكثر عمقاً لتمظهرات العنف الاستعماريّ في إهاب السلطة المحليّة. وفي هذا السياق، يشكِّل النظام التربويّ حقلاً بينيّاً تتداخل فيه السلطاتُ السياديّة والتأديبيّة لصناعة “الفرد المُشتهى” سياسياً عبر المنظومة التعليميّة، إنْ لم تحظَ تلك المنظومة بفاعلين عارفين بأنماط التعليم التحرريّ وغاياته.
في هذه المقابلة (التي أُجريت مؤخّراً مع أبرز منظِّرات مجموعة دراسات التابع التي ظهرت إلى الوجود في مطلع ثمانينيات القرن الماضي كإحدى أهمّ الروافد النظريّة لدراسات ما بعد الاستعمار)، تلقي غاياتري سبيفاك الضوء على عملها في مدارس ريف البنغال الغربيّة، ورؤيتها لطبيعة التغيير السياسي الذي تتطلَّع إلى التحضير له عبر الفعل التربويّ في المؤسسات التعليميّة الابتدائيّة. لقد قضت سبيفاك وقتها في الهند مُركِّزةً على نمطٍ من التعليم ليس مُتمحوراً فقط حول طرائق التدريس وحسب، بل حول تعلُّم الديمقراطيّة أيضاً، أو ما تصفه بأنه “طقوس الاعتياد.” كما تتحدّث سبيفاك عن عدم-تعليم العنف كطريقةٍ في الوجود. ما تقوله سبيفاك هنا حول العنف-بالوكالة، والذكاء، والمثقفيّة يمكن أن يكون درساً مفيداً لنا في فلسطين؛ ذلك أنّ ثمّة ترجيعاً للصدى في ما يتعلّق بتفكيك عقيدة القيادة في لحظتنا الفلسطينيّة الراهنة.
وفيما تبدو استعراضيّة العنف في فلسطين اليوم كليَّةَ الحضور والشمول والقدرة، وبلا مسوَّغٍ سياسيٍّ أو منطقٍ معقولٍ، فإنّ ثمّة طبقاتٍ واضحةً من الاضطهاد التاريخيّ تكمُن خلفها. إنّ العنف الاستعماريّ يولِّد عنفاً مستعمَريّاً، وهذه المعادلة لا تتجلّى في فلسطين وحسب، ولا تقتصر عليها؛ ذلك أنّ ما تُنظِّر له سبيفاك يفيد بأنه حين لا يتمّ تفكيك الاضطهاد، فإنّه يتحوَّل، عادةً، إلى عنفٍ لدى المضطَّهَدين أنفسهم وعلى أنفسهم. لكنّ سبيفاك، التي أنشأت، ونشأت في كنف، مجموعة دراسات التابع التي قدَّمت نقداً هائلاً لمختلف وكلاء الاستعمار، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، تأخذ الدولة المستعمَريّة بوصفها أمراً واقعاً، وتطرح طرقاً لعلاج عوراها، لا يحتلّ العنف فيها أيّ مركز. وهي بذلك لا تدعو للعنف الثوري، رغم أنّها تقتبس ممن ينظِّرون للزمن الثوري، وتحتفي بمن يبشِّرون بنجاح الثورات (ولربما إجهاضها)، من محمد البوعزيزي إلى جورج فلويد. فالتابعون الذين لا يتكلَّمون إلا عبر الموت، لأنّهم فقدوا القدرة على مهابة الموت، لا يمكن، من وجهة نظرها، أن ينجزوا حياةً في كنف الدولة التي ترغب في أن تنال منهم بأكثر مما تنيلهم من عطاياها، إلا إنْ مارسوا “طقوس الاعتياد.”
مُنطلِقةً من موقعيّة المثقفة العالم-ثالثيّة التي تحظى بامتيازات رأس المال الثقافي والاجتماعي، اللذين لا تخفيهما أبداً، توضح سبيفاك في هذه المقابلة محدّدات التفكير في “المواطنة” كمقولةٍ تحرريّةٍ، أو انعتاقيّةٍ، وتستفزُّ فينا السؤال مجدّداً: كيف تبدو مقولة “التابع” أكثرَ محدوديّةً في السياق الفلسطيني؟ وعلى الرغم من ذلك، فإنّ تحديات العام 2021 في فلسطين هي تحدياتٌ كاشفةٌ بشكلٍ مذهلٍ، أو مدمِّرةٌ بشكلٍ مذهلٍ، أو لعلّها الأمران في آنٍ معاً. هل يمكننا التفكير في الكيفيّة التي نصير فيها أحراراً دون استخدام العنف الثوري؟ وهل يعني ذلك الإقرار بنهاية الحلم عند علامات التعجُّب في الصياغة الشعريّة الشهيرة: “ما أوسع الثورة! ما أضيق الرحلة! ما أكبر الفكرة! ما أصغر الدولة!”؟
بينما لا يبدو التركيز على المواطنة ضمن ديناميّتنا التحرريّة الراهنة، إلا أنّ هكذا فهم من شأنه مساعدتنا على فهم التلاعب بمفهوم الفلسطنة الذي يجري الصراع عليه، حرفياً، في شوارع فلسطين الآن. إننا إذ نقدِّم هذه الترجمة كمساهمةٍ في تعميق سجالنا الجماعيّ نحو الخلاص والحرية، وفيما لا نتفق جميعاً على فاعلية “الوطنيّة” أو عدم فاعليتها في ظلّ وجود الدولة-الوطنية أو غيابها، أو الكيفيّة التي نختار عبرها قراءة عنف الاستعمار الاستيطانيّ عبر هذه الديناميات، فإنّنا نعتقد أنّ تعميق السجال وتوسيعه هو أمرٌ في غاية الأهمية. فبدلاً من التركيز على القتال من أجل القيادة، ينبغي التركيز على غاية القيادة: أهي التحرّر من الاستعمار وعنفه، أم المزيد من عنف الاستعمار في إهابٍ وطنيٍّ؟ وهل نتساجل حول “عداوة الدولة لمواطنيها”، و”أكل الثورة لأبنائها”، أم نتباحث في طرق امتثال المواطنين لسلطة الدولة والأبناء لسلطة الثورة وهم يعلمون علم اليقين أنّ السلطة لم تَصِرْ دولةً، وأنّ الثورة لم تعد ثورةً؟
[المترجمان]
مقدِّمة المقابلة: سبيفاك في البنغال الغربية
منذ منتصف عقد الثمانينيات في القرن العشرين، قسَّمت غاياتري شاكرافورتي سبيفاك Gayatri Chakravorty Spivak معظم وقتها بين جامعة كولومبيا في نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تشغل منصب أستاذة جامعة في الإنسانيات، ومجموعة من القرى في ولاية البنغال الغربية في الهند. هناك، تسافر سبيفاك بالقطار والدرَّاجة مسيرة يومٍ تقريباً من كالكوتا، لتدير أربع مدارس ابتدائية، حيث يطوِّر أساتذة المدارس الأساسية للأطفال، الذين كان نمط تدريسهم تقليدياً ويتمحور حول التكرار والاستظهار، قدراتِ التفكير النقدي.
يشتمل عمل سبيفاك الفكري الواسع والمؤثِّر على الماركسيّة، والتفكيكيّة، والنسويّة، وما بعد الاستعمار. وُلدت سبيفاك في كالكوتا في العام 1942، وانتقلت إلى الولايات المتحدة في العام 1961 لاستكمال دراساتها العليا في جامعة كورنيل. في العام 1967 ترجمت سبيفاك إلى الإنجليزية كتاب جاك دريدا Jacques Derrida “في علم الكتابة”، والذي تضمّن مقدّمةً مطوَّلةً للمترجمة، صارت نفسها، لاحقاً، موضعاً للبحث والنقاش. تفحص مقالة سبيفاك، الموسومة “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟” 1988، الانتحار النسوي وإساءة فهمه في العائلة. فبعد تقديمها كمداخلةٍ في مؤتمر في العام 1983، أصبحت نصّاً أساسياً في دراسات ما بعد الاستعمار، وساعدت على تطوير وتعميم مفهوم “التابع” الذي سكَّه أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci في كتابه “دفاتر السجن” لوصف “المجموعات الاجتماعيّة على هامش التاريخ.”
حاورتُ سبيفاك بُعَيْدَ عودتها من رحلةٍ إلى البنغال الغربيّة في نيسان 2021. خلال زيارتها، كانت التحضيرات على أشدِّها لإجراء انتخابات مجلس الولاية. تحدَّثنا عن المدارس الابتدائيّة، وكتاباتها السابقة عن التربية، وكذلك عن كيفيّة تطوير الأساتذة والطلبة لفهم أنَّهم، هم، بوصفهم مواطنين، من يملكون الدولة. منذ حواريَّتنا، أصبحت البنغال الغربية ساحةً للعنف بين مؤيدي حزب بهاراتيا جاناتاBharatiya Janata Party [BGP]، الذي يتزعَّمه ناريندا مودي Narendra Modi، وحزب المعارضة-مجلس عموم ترينامول الهند All India Trinamool Congress. وقد فاز حزب المعارضة في 30 نيسان بانتصارٍ ساحقٍ. [فرانيس ويد]
نصّ المقابلة: التابع يتكلَّم عبر الموت
ويد: في قرى البنغال الغربية، وكما قلتِ من قبل، ترشدين طلبة المدارس الأساسية في “طقوس الاعتياد الديمقراطيّة.” ماذا تعنين بذلك؟
سبيفاك: تتجلّى المشكلة الفكريّة التي أشتغل عليها في القرى في الكيفيّة التي يمكن للعقول التي حُرمت من حق استقلالية التفكير لآلاف السنين، أن تتعلَّم نمطاً من التفكير النقدي المبني على الفعالية التخيُّليّة. أنا لا أحاضر في الطلبة عن الديمقراطية، ولكنني أعلِّم منهاج الدولة في البنغال الغربية: الإنجليزية، والبنغالية، والحساب، والجغرافيا. إنّ الطريقة التي ندرِّس فيها هذه المواد هي المهمة، ولعلّ أحد الأشياء التي أحاول القيام بها يتمثّل في جعلهم يشعرون أنّ الأذكياء حقَّاً لا يجيبون دائماً على الأسئلة التي يطرحها الأساتذة. إذا قرأ المرء فرانز فانون Frantz Fanon، فإنه يعرف أنّ إحدى المشاكل الأساسية في حالة ما بعد الاستعمار هي وجود القادة، والطموح في أن يكون قائداً. إن ما تحدَّث عنه فانون، وما تحدَّث عنه غرامشي، وما أتحدَّث أنا عنه، هو أنّه في البنية اليوميّة العادية للحكومة، كما هو الحال في الولايات المتحدة، ثمّة عقدةُ قيادةٍ، وهي عقدةٌ ضارةٌ جداً، وليست ديمقراطيةً أبداً.
هناك في القرى، حيث النوعية السيئة من القيادة وحيث القادة في معظم الأحيان فاسدون، يعتبر السوء جزءاً من السياسة. ولذا، كيف تشكِّل أذهانَ الطلبة الغضَّة دون المحاضرة فيهم؟ كيف تَحملهم على الاعتياد على ثقافة متى لا ينبغي القتال من أجل النصر؟ أحاول أن أجعل الطلبة يشعرون أنه فقط إنْ كنت أحمقَ بعض الشيء، فإنك تكون راغباً في قيادة الصف، وإجابة الأسئلة كلها، طيلة الوقت. أقوم بذلك عبر جعلهم يرون أنني لا أجيب على الأسئلة، حتى وإن كنت أعرف الإجابات. ولذا، فإنّ تلك عادةٌ ديمقراطيةٌ: إنك تمارس الاعتياد معي على عدم الرغبة في أن تقود، أو معرفة أنّ الرغبة في القيادة هي حمقٌ بحدّ ذاتها.
ويد: هل الطلبة عموماً متجاوبون مع هذا النمط من التدريس، وهل هم متصالحون حتى مع وجودك أنت هناك؟ فأنتِ في المحصلة النهائيّة براهميّةٌ تعملين في صفوف الجماعات الفقيرة جداً والمهمَّشة، حيث ثمّة بونٌ شاسعُ بين منشئك أنت ومنشئهم هم؟
سبيفاك: ما أقوم به هناك هو فعلُ ممارسةٍ، حيث أرغب في معرفة إنْ كان بالإمكان استدراكُ الجريمة التاريخيّة المقتَرَفَة من قبل منبوذيَّتي الخاصة (البراهامية)، والتي هي من صنيع اللا-مساسيَّة ومن صنيع المنطقة كلّها حول ما تعتقده جماعات المنبوذيّة العليا عمّن هم دونهم. فنحن [البراهميّون] لا نلمس هؤلاء الناس، ولا نشرب الماء معهم حتى في الطقس الأكثر حرارةً، حتى أننا نحرم أصغر الأطفال من شرب الماء من الترع التي يفترض أن تكون لنا. إن هذه الأشياء [التي أقوم بها لمحاولة استدراك الجريمة] مريحةٌ، لكنّ الإحساس الداخلي لم يبرح مكانه، فالتمييز النابذ لا يزال فعَّالاً. إذا أخذ المرء نظام المنبوذيّة على محمل الجد، كما ينبغي، فإنّه يدرك أنّ المشكلة الحقيقيّة هي أنّ [المنبوذين] يعتقدون أنّ من الطبيعي أنّهم مضطهدون، لأن نظام المنبوذيّة هو من صنع الآلهة، وليس من صنع البشر. أمّا في ما يتعلّق بالمفاهيم، مثل “الديمقراطية،” فإننا نتحدّث عن أفكارٍ قائمةٍ منذ زمنٍ طويلٍ، ولكن ليس لهؤلاء الناس، الذين هم ضحايا نظام المنبوذيّة والذين يعتقدون أنّ الأفكار الجيدة إنما نسيطر عليها نحن، [النابذون].
ويد: في أحيانٍ كثيرةٍ يشعر المرء، في ظل مودي، أنّ استخدام العنف، بوصفه أداةً سياسيّةً، هو أكثر حريةٍ من ذي قبل. كيف يفهم الطلبة الذين تتعاملين معهم الصلةَ بين العنف والسياسة؟
سبيفاك: عادةً ما أبدأ الدروس باختيار حدثٍ قريب.ٍ هذه المرة، كانت الانتخابات، والتلاميذ الأكبر سناً في الصف، وأعمارهم تقارب عشر سنواتٍ، سوف يصوِّتون بعد ثماني سنواتٍ. ولذا، سألتهم ماذا يعتقدون بخصوص الانتخابات، فأجاب واحدٌ من أذكى الطلبة، واسمه رام بهانداري لوهار Ram Bhandari Lohar، وعمره تسع سنواتٍ، بالإنجليزية، لأنني، على الدوام، أبداً بالحديث معهم بالإنجليزية: “الانتخابات لعبة.” قلت: “حسناً، جيد. اشرح لي بالبنغالية ماذا تعني بقولك: “الانتخابات لعبة”، وأيّ نوعٍ من اللعب؟” كنت أتحدَّث معه ببطء،ٍ فقال لي بالبنغالية: “القتال.” كما ترى، ثمّة الكثير من العنف الذي تستحيل معه عدم رؤية السياسات الحزبية. هؤلاء الفتية لا يبقون فتيةً كما هو الحال في الولايات المتحدة.
لكنّ هذا هو أحد أمثلة نجاحنا في القرى. لقد كان الفتى قادراً على الحديث حول شيءٍ يحمل تبعاتٍ أكثرَ اتساعاً؛ تبعاتٍ نفهمها هنا في الولايات المتحدة. إن بعض النوَّاب ومن هم في السلطة يحمون أنفسهم من الحقيقة التي أدركها هذا الفتى، وهي أنّ وجود العنف في السياسات الانتخابيّة هو حقيقةٌ عالميةٌ، وليس محصوراً في هذه القرى. لقد رأينا ذلك في السادس من كانون الثاني 2021 [الهجوم على مبنى الكونغرس الأمريكي من قبل مؤيدي ترامب]. إننا نتعلم من إجابة التلميذ أكثر ممّا يمكن أن نتعلمه من التشخيص بأن ثمّة عنفاً فقط في القرى الهندية.
ويد: في مقالتك المنشورة في العام 2004، بعنوان: “تصحيح الأخطاء،” تبدين موقفك من السجال الطويل بين بوكر ت. واشنطن Booker T. Washington و و.ي.ب دي بويس W.E.B. Du Bois، منذ أكثر من قرنٍ، حول كيف أن على جماعات التابع تحقيقَ انعتاقٍ اجتماعيٍّ واقتصاديٍّ. لقد كتبتِ: “أميل إلى و.ي.ب دي بويس أكثر من بوكر ت. واشنطن: إنّ تطوير الفكر النقدي أكثر أهميةً من تأمين استقرار مادي فوري.” كيف تفسرين استثمارك في هذا الموقف؟
سبيفاك: لقد عملتُ كثيراً في الصين، وقبل عامين كنت أتحدَّث إلى مجموعاتٍ نسائيّةٍ في عدّة نواحٍ حول مقاطعة يونَّان. كلّ الإصلاحات التي حدَّثنني عنها استهدفت تحسين الدخل. ما كنت أحاول قوله في مقالة “تصحيح الأخطاء،” هو أن دي بويس أكدَّ أنه بدلاً من التركيز على التعليم كوسيلةٍ لتحسين الدخل، فإنّه من الأفضل تنمية الذهن في الأشخاص بحيث يمكنهم اتخاذ القرار فيما إذا كان من الأفضل لهم تحسين الدخل، على سبيل المثال، أو تطوير الإرادة لعمل الخير. الجملة التي تسبق ذلك في مقالة “تصحيح الأخطاء” هي الموضع الذي أنتقد فيه الولايات المتحدة: “إن مكافأة المتبرع الأمريكي هي الجانب الحاد من الإسفين الذي ينتج الإرادة العامة للاستغلال في التابع.” وعليه، حين قال باولو فريري Paolo Freire إنّه دون بيداغوجيا المضطهَدين، فإنّ المضطهَدين سوف يرغبون في أن يكونوا مضطهِدين أصغر، وأنت تعلم أنّ ذلك الرجل يعرف تماماً ما الذي يتحدّث عنه. إنه لا يرمنسُ المضطهَد. وهذا ما أحاول أنا قوله أيضاً. وذلك هو موضع الخلاف بين بوكر ت. واشنطن و و.ي.ب دي بويس.
ويد: في المقالة نفسها، وبعد فقرةٍ تفصِّلين فيها المحاولات الفاشلة للحصول على أنبوبٍ أسطوانيٍّ [لاستخراج الماء من البئر] للقرية من الإدارة المحلية، وحيث رفضتِ أيّ عرضٍ محتملٍ لنفس المعدَّة من “مصدر خيري دولي خارجي”، تكتبين: “نريد للأطفال أن يتعلموا عن الإدارات البلا-قلب دون خطاب مقاومةٍ قصير المدى.” لماذا من الضروري لهم تعلُّم ذلك؟
سبيفاك: حسناً، لقد كنت على خطأٍ في تلك المقالة. إنّ الدليل الذي حصلت عليه من [القرى التي عملت فيها والتي وردت في تلك المقالة] كان ذا قيمةٍ عاطفيّةٍ. مع انتقالي إلى المنطقة حيث المدارس التي أعمل فيها الآن، والتي تبدو أكثر قرباً من الهند الفقيرة الحديثة مقارنةً بالجيوب “القبليّة” المحفوظة أنثروبولوجياً حيث تم الحفاظ عليها من قبل المالك الإقطاعي السابق، تغيَّرت طبيعة الدليل على نحوٍ كاملٍ. إنّ مقاربتي الآخذة في التطوّر للإجابة على هذا السؤال تتطلّب الإشارة إلى مفهوم روزا لوكسمبورغ Rosa Luxembourg لـ”لديمقراطية الاشتراكية،” حيث تستخدم، فعلياً، الدولة، بأكثر من التفكير بالدولة بوصفها بلا-قلب، وإخبار الأطفال بأنها كذلك. أعتقد أّن ذلك كان خطأ. وحين أذهب إلى العالم العمليّ، فإن هذا هو منهجي الأساسي: التعلُّم من الأخطاء. هنا، كانت غلطتي الكبيرة، الاعتقاد أنه ليس علينا إلا القول: “نعم، إن الدولة هي العدو.” لقد اعتقد كلٌّ من لوكسمبورغ وغرامشي أنّ الدولة هي الترياق والسم. ولذا، فإن عليك أن تتعلَّم استخدامها لئلا تصير سُمَّاً، حتى وإنْ كان العقاب تبعةً لذلك: إنك تصير مواطناً، وتواجه المخاطر.
ولكنني أعلِّمهم حقيقة أنّ الدولة إنما تقدِّم لهم بعض الخدمات بسببي، ذلك أنني أعرف بعض المسؤولين في ولاية البنغال الغربية. ولكن، ما أقوله للمشرفين [في المدارس] هو أن [المسؤولين الحكوميين] يُفترض أن يعملوا لأجلكم أنتم، لأنكم مواطنون. أقول لهم: “أنا عدوَّتكم. أنا مليحة! أهلي ملاح! لكن جيلَيْن لن يتمكَّنا من استدراك آلاف السنوات من الاضطهاد. عليكم أن تتدبَّروا أموركم بدوني.” وذلك [فعلياً] هو استعادةٌ للدولة. بطبيعة الحال، ومرَّةً تلو الأخرى، فإنّ الأمور لا تجري على هذا النحو، ولكنّني أواصل التأكيد على ذلك باستمرار، وتوجّبَ عليَّ القول إنَّ المشرفَيْن اللذين عملتُ معهما للفترة الأطول، يحاولان فعلاً مواجهة الدولة على عاتقهما.
ويد: هل تعتقدين أن قلَّة الدعم الحكومي للتعليم في الهند، أو في أماكن أخرى، هي نتيجةٌ للا-مبالاة الدولة تجاه نجاح الطلبة الفقراء أو فشلهم، أم تعتقدين أن ثمة شيئاً أكثر قصديَّةً: أن الدولة تسعى بحثاثةٍ إلى إدامة الأبارتهايد الطبقيّ؟
سبيفاك: إن الرغبة في إبقاء الطبقة الحاكمة حاكمةً تصدق على كلّ البنى الاجتماعيّة. لا يمكنني تقديم سببٍ محدّدٍ للفجوة في جودة التعليم؛ ذلك أنّ لكلّ حالةٍ عواملَ فرديةً، لكن يمكن للمرء القول إنّ هدف ذلك هو الإبقاء على القسم الأكبر ممّن يحقّ لهم التصويت دون ذلك النوع من الحكم النقدي الذي من شأنه أن يمكِّنهم من فهم الانتخاب، وفهم أن الدولة ليست العدو، بل بأكثر من ذلك، أن الدولة هي إنتاج-هم. إنّ امتلاك المواطنين للدولة ينبغي أن يظلّ أمراً لا يعرفونه. الدولة ليست عدوَّتهم، إنها وسيلتهم التي ينبغي أن تظلّ نظيفةً حتى تتمكّن من العمل.
يمكن للفكرة أن تسير على النحو التالي: من الأفضل منحُ الوسط الأكبر من الناخبين منافعَ ماديّةً من الأعلى إلى الأسفل. سوف يصبحون سعداء بهذا الإحسان الإقطاعي من الأعلى، وبعدئذٍ، ينتخبون الطغاة. أقول للمشرفين، الذين أعمل معهم في المدارس، إنهم سيعطَوْنَ منحاً لكرة القدم، لكنّ الدولة لا، ولن، تسمح بأيّ شيءٍ من شأنه أن يمكِّنهم من التفكير المستقلّ. لا يمكنهم التفكير بشكلٍ مُستقلٍّ لأنه تمّ حرمانهم من ذلك من قبل الفئة النابذة لآلاف السنوات، وكذلك الآن من قبل الحكَّام الحاليين. ولعل هذا شيءٌ مهمٌ للنقاش معهم: كيف يمكن التفكير بشكلٍ مُستقلٍ؟ وكيف يمكن التوصّل إلى حلولٍ للمشاكل؟ وهكذا دواليك… لأنّ ذلك هو كلّ ما أريد تعليمه.
ويد: هل تمّ هجر القرى من قبل الدولة؟ إنّه لِمن السهل افتراضُ ذلك، آخذاً بعين الاعتبار مستوياتٍ من الإهمال على هذه الشاكلة، حيث تغيب الدولة بشكلٍ كاملٍ.
سبيفاك: إنّ هؤلاء التابعين ليسوا جميعاً معزولين عن الدولة. فالدولة بحاجة إليهم، والدولة تستخدمهم. الدولة في كلّ مكانٍ، وهي دائماً تتدخّل في كل شؤونهم. في القرى، وبغية عدم التصويت للحزب الحاكم (BJP)، فإنّ حزب المعارضة (Trinamool) قام بتطعيم كل القرويين. وعلى الرغم من أن برنامج التطعيم في كالكوتا ليس بتلك الجودة، إلا أنّني ذُهلتْ من رؤية أفقر الفقراء، في القرى، قد حصلوا على تطعيمهم. إذن، الدولة في كلّ مكانٍ. الفقراء لا يتمكّنون من نيل امتيازات المواطن، لكن الدولة تنال دوماً منهم.
ويد: لقد تحدَّثتِ بقوةٍ حول العنف الجماعيّ في مانيمار على امتداد السنوات السابقة. أما الآن، فثمّة حركةٌ على امتداد البلاد تتصاعد ضد الجيش الذي يبدو وكأنه يدفع باستمرار باتجاه العصيان. ماذا يستدعي ذلك بالنسبة لك؟
سبيفاك: إنّ ما يحدث في مانيمار هو ما وصفته لوكسبمبورغ بـ”التلقائيّة.” إنها ليست تلقائيةً نفسيّةً، إنّما دافعيّةٌ اجتماعيّةٌ ينتجها الاضطهاد المُنفلت من عقاله، طولاً وعرضاً. لقد كان ثمّة الكثير من العنف، والكثير من الاستغلال، والكثير من الاضطهاد لردحٍ طويلٍ من الزمن. لقد كَبُرَ هؤلاء الناس على ذلك، ليتبدّد لديهم الخوفُ من الموت. إنّهم فعلاً لا يخشون الموت. وهذا أمرٌ غريبٌ. لقد قال فانون، كطبيبٍ نفسيٍّ: حين تصل إلى درجةٍ تُحْرَم فيها من المساواة في الحياة، تلك المساواة الأساسية التي تجعل منّا بشراً، فإنّ ذلك يولِّد عنفاً حدَّ الموت. لكنّ ذلك يُنْتِجُ، أيضاً، حالةً لا تعود فيها آبهاً بالموت. والتابع يتكلَّم عبر الموت، مثل محمد البوعزيزي، وجورج فلويد.
مع ذلك، فإنّ هذا الأمر لا يدوم طويلاً. في هذا السياق، يمتلك ديفيد روديغر David Roediger فكرةً ممتازةً، وهي ما يدعوها “الزمن الثوري.” يقترح روديغر أنّه خلال أزمنة الطوارئ السياسيّة الكبرى، كما في مانيمار اليوم، يقوم الناس بأشياء طارئةٍ، وربما يفقدون القدرة على الخوف من الموت. وعلى الرغم من كثافة الزمن الثوري، فإنّه لا يمتلك القدرة على الاستمرار، كما لا يمكنك تثبيت بنيةٍ سياسيّةٍ دائمةٍ للتغيّر في هذا الزمن الـمُعَزَّز [ثورياً]. وكما قال غرامشي، فإنّه لا يمكنك استخدام الحماسة السياسيّة الفوَّارة لإنتاج بنُىً سياسيّةٍ دائمةٍ. ولذا، بينما تحدث أشياء غير معهودةٍ في مانيمار، لا يمكننا بالضرورة الاعتقاد أنها ستستمر. تذكّر أنّ ذلك لم يدم في تونس، ولم يدم في مصر. ربما لا يجدر بنا أن نأمل بشيءٍ قريبٍ، لكنّ ما يحدث [في مانيمار] شيءٌ مذهلٌ. إنّ دورنا ليس في مراقبة ذلك، بل في المشاركة فيه، إنْ استطعنا، كصوتٍ عالميٍّ.