وثيقة:الملحفة: سرد شخصي بأصواتنا
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | منة اسويلم |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | نحو وعي نسوي |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://feministconsciousnessrevolution.wordpress.com/2020/04/24/الملحفة-سرد-شخصي-بأصواتنا/
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | http://archive.is/1QVTm
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها نحو وعي نسوي
كنا نخشى دوما كنساء فُرض عليهن زي موحد أن نفكر بصوت عالٍ حيال شعورنا بالسطو على أكثر الأشياء ارتباطا والتصاقا بنا عن أجسادنا وأشكالنا وكيف يجب أن نظهر.
لوقت طويل كنا نخشى أن نقترب بالحديث عن كيف هو الإحساس أن تولدي كإمرأة لتجدي كتيب القواعد الأبوية وآليات الضبط أمامك، عن الإحساس بأن يكون اختيارك مُصادر، جسدك مُصادر، وصوتك مُصادر. لقد رافقنا الخوف أو ولدنا به. لا فرق، الخوف من هدم الانصياع والخوف من الانصياع، الخوف من الحديث والخوف من الصمت.
لقد قررت اليوم رفقة الكثيرات أن نواجه الخوف بأصواتنا، أن نواجه حقيقة أن العنف لم يكن يوما غريبا علينا لكن صمتنا كان يغذيه دائما ليصبح غولًا جاثمًا على مصائرنا يعدنا بالنبذ والوصم إن تجرأنا وقلنا لا.
اليوم وأنا استعيد سرديتنا الخاصة عن “الملحفة” أعي تماما أنها تخصني كما تخص أخريات الجانب الشخصي لآلام ومعاناة النساء تحت سلطة أبوية تخنق أصواتهنّ وتسرق وعيهنّ، ذلك الشخصي الذي لطالما سحق في بعبع القضايا “المهمة” و “الأولويات” والتي تدور دائما حول المهيمنين.
الملحفة تعريف جديد
في التعريف الوصفي تعتبر الملحفة زي تقليدي تتشارك في ارتدائه النساء من الصحراء الغربية، وموريتانيا. مصنوع من أقمشة مختلفة يتراوح طولها من خمسة إلى ستة أمتار،نرتديه بلفه على الجسد بشكل كامل. يعتبر السن المناسب لإرتداء الملحفة هو سن “البلوغ”، ولا نعني به هنا الوصول لسن الرشد بل بداية الدورة الشهرية بالنسبة للفتاة بغض النظر عن سنها. إذ تعتبر أغلب المجتمعات المسلمة بلوغ الفتاة مرتبط بإمكانية حملها، حتى إن كانت في سن التاسعة. في البداية كان هذا الزي يتكون من أقمشة سميكة ولون واحد كالأسود والأبيض والنيلي وكان ذلك منطقيا في سياق مقاومة المناخ القاسي الذي اتسمت به البوادي و تخطي عائق ندرة الموارد و الأقمشة. فكانت وظيفة اللباس عملية أكثر من أي شيء آخر وذلك لا يستبعد بالطبع أنه حتى في ظروف صعبة كتلك كان يجب أن تلاءم ملابس النساء التصورات الذكورية عن الجسد الأنثوي.
على مدى عقود استفاد هذا الزي من توافد التجارة و الأقمشة المختلفة من العالم للمنطقة و تطور لأشكال و ألوان متنوعة. التطوير السريع والمستمر للملحفة عبر بشكل واضح عن ميل النساء لإضافة شيء يترجم توقهنّ المستمر للاختيار، فليست الألوان والقماش الرقيق في الأخير سوى إضاءة على واقع أن الأبوية يمكن أن تنجح في سلب المرأة حق اختيار مظهرها أو التحكم فيه لكنها تعجز عن كبح ميلها المستمر لإمتلاك شيء يخصها داخل حيز يمحي وجودها وتفردها ويصر على خلق امرأة واحدة ضمن نموذج مثالي يلبي شروط الانصياع لسلطة الحجب والإخفاء.
وقد نتوهم أن اختيار ألوانها أو إضافة لمساتنا الخاصة عليها يعني أننا نتحكم بشكل ما في مظهرنا، لكن تلك ليست إلا حيلة ممنهجة لإخفاء أو تمويه طابع السلطة الذي يسود حياتنا. فكلما أصرت النساء على إضافة طابع يخصهن في الملحفة، زادت الضوابط المتعلقة بها وزاد ارتباطها بالتصور الذكوري عن أجسادنا المسلح بخطاب ديني يُستخدم ضد النساء و يحول دون أي تواجد لهنّ خارج قيدها وهو بذلك يعبر جيدًا عن ما تمثله. لم تعد الملحفة الزي الذي خلق من معاناة العيش في مناخ الصحراء، بل أصبح لبسها و لفها على أجسادنا كلفّ أحبال الأبوية علينا و على حرياتنا وحقنا في الاختيار. هذا الزي اليوم لا يمثل تقليدًا أو هويةً فقط، بل أصبح بشكل واضح يكشف عن دلالات و تمثلات تتخطى مايصور لنا. فالملحفة يُنظر لها كزي ديني يمثل الحجاب والستر والعفة وعلى نساء هذه المجتمعات الإلتزام بها كأمر إلهي. وأكثر من هذا هي اليوم ورقة الضغط المفضلة للأبوية، إذ تحارب من لا ترتديها حتى وإن كانت في مكان آخر خارج المجتمع و يتم إقصاؤها وعزلها واعتبارها خارجة عن القيم الدينية والاجتماعية. لا تجد النساء هنا فرصةً للتفكير في اختيار مظهرهنّ فمنذ سنوات حياتهنّ الأولى يبدأ مسلسل التنشئة الاجتماعية، أو الإعداد الأبوي بتحضيرهنّ للدخول في عالم “المرأة” وهو عالم يبدأ أول ما يبدأ بتقليص خيارات الفتيات وتصوير أن الوجود الوحيد والممكن هو ما سيتم تعليمهنّ إياه وهنا يبدأ تصوير “الملحفة” كامتياز يسمح لهنّ بالعبور نحو عالم الكبار وبسذاجة الطفولة نعتقد جميعا أنه بذلك ستنتهي الأوامر وتختفي “لا تفعلي هذا” لكن في تلك اللحظة بالضبط سيبدأ العد التنازلي للدخول في لعبة اجتماعية تمثل فيها المرأة دائما دور المطيعة والمنضبطة.
سرديات خارج الإطار
في هذا الجزء سنأخذ مساحة خارج الإطار الأبوي لنتحدث عن تجاربنا مع إحدى أدواته “الملحفة” وذلك تطلّب من العديدات منا أن تكون المساحة التي ناقشنا فيها الموضوع آمنة لاتعرضنا لخطر التصادم المباشر مع حراس الذكورية، وصحية بما يكفي لتسرد كل واحدة قصتها الشخصية دون أن تكون هنالك ضوابط ونواهي أو أحكام، ودون أن تحس بالسمومية التي تطبع عادة الأحاديث عن “المقدسات”. لكن تطلّب ذلك أيضا امتياز الوعي بأن هناك خلل فكما نعلم الأبوية لم تسيطر علينا وتُخضعنا عبر آلياتها وبِناها المتعددة لكنها أيضا سرقت وعينا وشكلته حسب مصالح المهيمنين وارتبط ذلك بتاريخ من الوصم والتهديد والخوف لايزالُ مستمرًا لليوم. ومع ذلك نؤمن أن بداية استعادة مساحاتنا وأصواتنا تبدأ هنا بتحدي ثوابتها ومسلماتها.
بدأت قصتي مع الملحفة بأيام بعد حيضي الأول، لم أحتج لضغط مباشر لأرتديها فالتحضير يبدأ قبل ذلك بكثير وبأسلوب تجميلي يخفف قسريتها وماستكون عليه حياتك بعدها. لم يكن ارتداؤها بالنسبة لي أكبر المشاكل وإنما كيف يجدر بجسمي أن يكون تحتها، فهي عبارة عن ستارة شاسعة على الفتاة أن تكون ممتلئة القوام لكي تناسبها، في حالتي كنت نحيفة وهذا سبب لي مشاكل كبيرة بدأت بالضغط المستمر عليّ لزيادة الوزن وصولا للتنمر والعنف الرمزي الذي تعيشه أي فتاة لتندمج في المعايير السائدة، وانتهت بالضغط على عائلتي بخطاب أنني “مريضة” ونحافتي ستتسبب في موتي مما دفعني ودفعهم لمحاولات لا منتهية ومؤلمة لكي أكتسب الوزن. كانت تلك المرحلة الأصعب في حياتي كرهت جسمي وشكلي وانعدمت ثقتي بنفسي أحسست بثقل القيود التي تلف جسمي لكنها تطوق وجودي أيضا وتطمسني.
المرة الأولى التي أكتشف فيها أنني لا أكره جسمي أو شكلي وإنما أكره القواعد التي أنشئت لتطوّقه، كانت عندما التحقت بالجامعة في مدينة بعيدة ونزعت الملحفة واخترت مظهري. بدأت رحلة التعافي والتصالح مع نفسي. عندها أيضا بدأ الغضب؛ لأنني كنت أعرف أن هذا الحيز مشروط وسينتهي فور عودتي لمدينتي(الداخلة). وعند العودة اتخذت قرار الخروج بدونها في البداية كانت الصدمة كفيلة بعدم التعليق على قراري سواء داخل العائلة أو في الخارج. لكن بعد ذلك بدأ الضغط من أبي وأمي ووصل لحد إصدار أمر قاطع بعدم الخروج بدونها وكان لهم ذلك. الآن أراوغ أحيانا وأنصاع أحيانا أخرى الثابت أني أدرك أنها تتخطى أن تكون مجرد زي هي خنقٌ لذواتنا ووضعنا في قالب واحد كالمعلبات نولد بنشرة تعليمات وتاريخ صلاحية.
في المجتمعات الأبوية يكون جسد المرأة منذ الطفولة سيفا مُسلطًا على مصيرها كما هو الحال مع “ع.م” التي تصف تجربتها مع الملحفة بالقول: “بدأت دورتي و أنا في السادس ابتدائي، بعد الصيف وبداية الدراسة قامت أمي بحضي على لبس الملحفة بالقول “لقد أصبحتِ بالغة يجب أن تستري شعرك، أردافك ومؤخرتك أصبحت بارزة و يجب أن تستري نفسك” بعدها بسنة ارتديتها تحت الضغط وحتى وأنا بعيدة عليّ الإلتزام بها أو بالحجاب”.
هنا قد لا تبدأ رحلتك نحو سجن الملحفة بها بل في حالات كثيرة تبدأ بالحجاب مثل قصة “أ.س” التي تقول “بدأت قصتي مع الملحفة عندما قام أهلي بإلباسي الحجاب بعمر ال 9 سنوات، لأن أختي التي تصغرني بسنوات، ارتدت الحجاب فطلب مني والدي أن أرتديه أيضا لأنه سيكون من العيب أن تكون أختي الصغيرة “مستورة” و أنا لا… بقيت على تلك الحالة لمدة سنتين، حتى السنة الأخيرة من الابتدائي، تحليت بالشجاعة الكافية لأطلب منهم أن يسمحوا لي بخلع الحجاب، و بالفعل تحقق ذلك. لكن بعدها بأسبوع أو اثنين جاءتني الدورة لأول مرة، و بهذا عدت إلى الحجاب. كانت أمي تطلب مني أن أرتدي الملحفة في المنزل وفي المشاوير نحو البقالة لكي أتدرب على طريقة لبسها، وكان والدي يمنع عليّ الذهاب للمدرسة بدون حجاب. بعد سنة ونصف ارتديت الملحفة بشكل رسمي. السنوات التي قضيتها في الجامعة كنت أرتدي الحجاب خوفا من أن يراني أحد معارفنا بدونه ويخبر أهلي، كنت أرى كوابيس أنني خرجت بدونه وأصحو فزعة.عشت الكثير من التناقضات بسبب ما أنا عليه داخليا و طريقة تفكيري ومايبدو عليه مظهري الخارجي. الآن أحاول أن أكون أنا وأرتدي ما أريده وطبعا كل ذلك مشروط بمسافة بعدي عن مدينتي وأهلي، لايمكن أن أكون كما أريد دون أن يرتبط ذلك بالخوف”.
بالنسبة حنان (اسم مستعار) فقد ارتدت الحجاب في سن الثالثة عشر هي وأختها “كان الجميع يثني على قرار أهلي بتعليمنا “الستر” في هذه السن، لكن هذا ارتبط بالنسبة لي بالتخويف من أن ظهور خصلات صغيرة من شعري سيُدخل أهلي النار هكذا أخبروني. كنت أبكي كثيرا كلما ظهرت خصلة بالخطأ وازداد ارتباطي به فأنا لا أريد لعائلتي أن تتعذب. ارتديت بعدها الملحفة خلال دراستي بالثانوية لم يكن هنالك فرق بينها وبين الحجاب، لكن الآن شعوري مختلف أحس بأنها تخنقني وتعيدني للوراء دائما”.
الاختيار بين الحجاب أو الملحفة كان مطروحا كمساومة على الكثيرات منا ومع ذلك كانت كل واحدة تجد طريقتها للمقاومة أيضا لكن ماذا لو اصطدم ذلك بفكرة أنك لن تكوني مرغوبة دون أن تنصاعي؟ هذا ما عاشته “مريم” (اسم مستعار) : التي تقول “في الثامنة إعدادي أخبرتني ماما أن اختار بين الحجاب أو الملحفة، وافقت على الحجاب لكني قاومته بطريقتي ما إن أخرج من البيت وأصل مفترق الطرق أنزعه وأخبئه في حقيبتي المدرسية، عندما التحقت بالثانوية فرضت علي أمي و عمي ارتداء الملحفة وقاموا بتحريض والدي أيضا، بالقول بأنني “عارية” وأن الناس ستتحدث عني. كان لدي شغف بالرياضة و الجري،قالوا لي بأنني أصبحت امرأة وأن الناس ستظن بأني مجنونة إذا مارست الجري بالملحفة. لم انصاع كليا وواصلت نفس البرنامج عند خروجي من المنزل أتخلص منها. لكن صديقاتي أخبروني أن الرجال لن ينظروا لي إن كنت بدون ملحفة وعندها ارتديتها بشكل كامل”.
من المناسب جدًا أن تقتنع الفتيات بأن الملحفة مرتبطة بالاستحقاق هذا يزيح عنها طابع القسرية ويحيلها لشيء يناسب فكرة أن تطلعات النساء المتمركزة حول الرجل، وبذلك أيضا يسهل مواجهة أي خطاب ضدها، فنحن من نختارها لكي نلفت انتباه الرجال لأن هذا مايشغل اهتمامنا دائما لكن من زرع تلك الأفكار في وعينا منذ البداية؟ لاشك أن النظام الأبوي لن يكون موضع اتهام هنا. لكن رغم ذلك لا يمكن حجب بِنى السلطة المسؤولة عن حراسة أجسادنا ففي النهاية نحن وجدنا لكي نحافظ على صورة/شرف/سمعة العائلة تقول أميمة: “انتقلت مع عائلتي نحو مدينة صغيرة وكنت حينها لا أرتدي الملحفة كنت مراهقة لكن ذلك لم يمنع الناس من الانتباه لملابسي وتقييمها بأنها غير “ساترة” فرض عليّ والدي ارتدائها لأن المدينة صغيرة ومعارفنا يثرثرون طوال الوقت قال أن هذا مؤقت وأنه بإمكاني أنزعها فور عودتي لمدينتنا (العيون) استخدم الخطاب الديني المعتاد أنني أصبحت امرأة وعلي أن أستتر ثم اعتدت عليها. لكن قبل سنة أو أكثر عند عودتي لمدينتي بدون أهلي قمت بنزعها وارتداء ملابس عصرية، قام أخوالي بإبلاغ أهلي وتشاجرت كثيرا مع أحدهم لدرجة أنه كسر أنفي. لازلت أرتدي الملحفة لكني مصممة على التمرد عليها”.
بالنسبة ل “م.م” كان الاجبار على الملحفة محفزًا على التمرد على ضوابطها لكنه أيضا خلق لديها إحساسًا غريبًا عند أول فرصة أُتيحت لها لنزعها “فرضت علي الملحفة وأنا أدرس في السنة الخامسة ابتدائية بسبب كوني طويلة، عدت يومها من المدرسة وسمعت والدي يقول لوالدتي “ذي الطفلة ما نبقي تيت نشوفها فاسخة الملحفة” أي أنه لايريد أن يراني بدونها أعطتني أمي ملحفة لونها أزرق simple، ارتديتها بعد نوبة من البكاء والشجار، لم تكن المشكلة بالنسبة لي في الملحفة بحد ذاتها بل ما أبكاني هي حزمة الأوامر والنواهي التي تأتي معها وما يليق وما لا يليق “بمنت ازواي” والقطيعة مع اللعب في الشارع والجري. في يوم أتى والدي ووجدني بدونها انهال عليّ بالضرب وحملني نحو والدتي وجدتي وخالتي وقام بالصراخ عليها بالقول بأنها مقصرة في الانتباه ومراقبة تصرفاتي لكنه أخذ ما يستحق وزيادة من التوبيخ من خالتي هو ووالدتي. عندما أيقنت أن قرارهم نهائي علمتني خالتي طريقة للتمرد على الملحفة وعليهم وهي أن لا ألتزم أبدا بارتدائها كحجاب وأن أخرج خصلات شعري وأتعمد أن أُسقطها عنه. انتبهت والدتي وغيرت القماش نحو آخر غير قابل للتمزيق ومع ذلك مزقته. بعدها توقفت عن المقاومة واستسلمت للأمر الواقع وانشغلت في أمور أخرى. عندما ذهبت للدراسة خارج موريتانيا أتيحت لي فرصة أن أنزعها، لكنني أمضيت فترة مترددة تقريبا 3 أشهر، قررت حينها أن أفعلها ارتديت الجينز ونزعت غطاء الشعر كنت أريد أن أعرف كيف هو الإحساس بأن أكون حرة في اختيار ملابسي، لم أحس بشيء وكأن الأمر ليس بجديد أو غريب علي. لكنني تخيلت أن جميع الناس تنظر إليّ. في الواقع لم يكن أحد ينظر كانت الأمور عادية. اكتشفت حينها أنه لو أتيح لي الاختيار في بلدي بارتدائها أو خلعها سأرتديها أغلب الوقت”. لم يكن الأمر مختلفا بالنسبة لنورة: “أنا أيضا ارتديتها في سن الحادية عشر لأنني طويلة. و كنت في الشارع أتعرض للتعليقات مثل : “گيسي أهلك يلبسولك الملحفة”! لكنني لم ألتزم بها تماماً إلا عند الثالثة عشر بعد أول رمضان لي ..أما قبل ذلك ظلت الملاحظات تتبعني في كل مكان خارج بيت أهلي .. أتذكر وقتها أستاذا كان يدرسنا التربية الإسلامية في الإعدادية كنا صغيرات جدا وعندما تأتي إحدانا بدون الملحفة يُجلسها في الصف الخلفي و يُسمعها وابلاً من الشتيمة وأن أهلها لا يحسنون تربيتها، وأنَّ عليها أن تذهب إليهم لترتديها. وفي المرة التالية يطردها من القسم. و حتى أولئك اللواتي كنّ يرتدينها كان يفرض عليهن وضع الخمار تحت الملحفة كي لا تسقط عن شعرهنّ فجأة فيتقابل مع حقيقة أن لهن شعر. بعد ذهابي للدراسة في أوروبا كان يتخيل إليّ أنني عارية كلما خرجت بدون ملحفة مع أنني كنت أضع خمارا على رأسي. شعور غريب حقا. أتذكر أيضا أني في مراهقتي كنت أحب لَبْس البنطلون تحت الملحفة كنت أحس بالحرية أكثر. يمكنني أن أركض وأن أقفز وأن أتسلق الجدران وأتذكر كم سبب لي ذلك من الملاحظات عند نساء عائلتي الكبيرات و حتى عند بعض رفيقاتي في الدراسة. فقد كان شيئا غريبا آنذاك أن تلبسي بنطلون تحت الملحفة. كما كنت دائما أترك خصلات شعري خارجة و كان ذلك أيضاً مدعاة للملاحظات لأنك تصنفين بأنك غير ملتزمة و ربما تفعلين ذلك لإغراء الرجال. مع ذلك كنت أفضل إخراج شعري ولم تهمني تلك الملاحظات. لكن أمام كبار السن كان يجب عليّ الالتزام التام بها”.
من ناحية أخرى يكون الوعي بماذا يمثل هذا الزي كيف يحدد قيمتنا وكيف نُصنف من خلاله حملًا آخر يُثقل أرواحنا تقول سعاد “ارتديت الملحفة مرتين،الأولى كانت تجريبية بسن عشر سنوات والثانية بشكل نهائي في عمر الرابعة عشرة،لم أحتج لضغط مباشر حيث أن التحضير لمراحل العبور نحو “المرأة” يجعل من ارتدائها آلية تلقائية مجرد أن تأتي دورتك الأولى “تصومي تلبسيها” هذا المتوقع والمفروض. طيلة السنوات الأولى ونتيجة لعدم وعيي بما تمثله لم أحس تجاهها بأي شيء، لكن فور تشكل نسويتي بدأ شعور النفور منها ظهرت أمامي بشكل واضح كالقيد على جسدي كنت أنظر في المرآة وأرى كل شيء إلا نفسي، كان يثقلني دوما هذا الجسد ومايمثله لهم لقد كان ومايزال يرهقني أن تكون أجسادنا مسرحا للدلالات والقيود، للمُصادرة، والضبط، للسيطرة، والتشيئ أن تكون حركتنا سلوكنا مظهرنا مشاعًا للنقد والتقويم”.
بالنسبة لكثيرات منا ارتبطت الملحفة أيضا بأشياء مؤلمة كالتحرش تحكي أميرة قصتها قائلة “شعوري تجاه الملحفة مثل أن تحملي أكياسا من الأسمدة الثقيلة وتجاهدي لكي لا تُسقطك، ترهقني كلما جمعتها تحت الابط لكي لا تسقطني. ارتديتها في سن الثامنة كانت أمي تربطها عند خصري، أرغمني والدي على ارتدائها، وكنت أتخلص منها فور أن أخرج وأذهب للمدرسة دونها إلى أن قام أستاذي بالتحرش بي أثناء تصحيح التمارين أحسست بيده وقمت بالصراخ قام بضربي واستدعى المديرة وقال لها بأنه ضربني لأني لا أرتدي الملحفة، اتصلت المديرة بوالدي وقالت له بأني يجب أن أرتدي ملحفتي وأجبرني مجددًا على ارتدائها. رغم ذلك لم اهدأ حتى انتقمت منه ضربته بحجر وتظاهرت بأنه قد أُغمي علي يومها ساندتني أمي وقالت له إذا لمستها مجددا سأقطع “قضيبك”.”
الهوية صخرة سيزيف الأبوية
سعى النظام الأبوي دوما لتجديد أدواته و سلطته وتضييق حيز تصرف النساء واختياراتهنّ و قراراتهنّ. واستخدم في ذلك خطابًا حادًا وعنيفًا يُسلط على أجساد النساء داخل المجتمع وخارجه مثل الحفاظ على الدين والعادات والتقاليد، ومقاومة الاحتلال والتغريب والحفاظ على الهوية. لا يقتصر العنف المرافق للملحفة والهجوم والسيطرة على النساء الصحراويات اللواتي يعشن في مدننا المحتلة أو في المخيمات، لكن يتعداه للنساء القاطنات بالمهجر خصوصا إسبانيا نظرًا لوجود مجتمع صحراوي مُصغّر هناك.
فضغط العائلات و الخوف من الانتقادات و الهجوم الذي لا يخجل المجتمع الصحراوي من ممارسته على النساء المهاجرات لا يترك لهنّ المجال للتصرف بحرية في أجسادهنّ أو حتى اختيار ما يردن ارتداؤه. يُرغمن على الملحفة أو الحجاب علهنّ يسلمنَ من الإقصاء و التشويه في حيز مجتمعنا المصغر في المهجر. تحكي لنا “ح.ع” وهي مهاجرة في إسبانيا عما تواجهه الصحراويات في المهجر بقولها “من الأمور التي تعاني منها النساء الصحراويات في المهجر هي كوننا مُلزمات بإرتداء الملحفة في أي مكان يتواجد فيه الصحراويون، وخلال زيارتنا لعائلاتنا وهذا بالنسبة لي يجعلني أحس بتناقض، فأنا لا أريد ارتدائها ولا أفعل ذلك مادمت بعيدة عنهم لكني ملزمة بذلك في الملتقيات و في المناسبات أو حتى الزيارات لأقاربنا، مفروض عليّ أن أرتديها لكي لا أهاجم بالخطاب المعهود أنتنّ “نصرانيات” فلكي أثبت أحقيتي بأن أكون صحراوية علي أن أرتدي الملحفة. أتطلع لليوم الذي تُصبح فيه الملحفة رمزًا ثقافيًا فقط و أن لا تفرض على النساء، و لا أريد أن تكون هي الهوية التي تعرف بها المرأة الصحراوية، ففرض الملحفة لا يختلف عن فرض النقاب أو الحجاب كرموز دينية استبدادية ووسيلة قمع لفرض السلطة الأبوية على المرأة، ولجعلنا نشكك في قيمتنا كنساء و في أجسادنا، وكأننا محتجزات”.
صخرة الهوية تحملها النساء فقط حتى وإن لم يصنعنها وكن في الغالب متلقيات لها على شكل أوامر تعمل المؤسسات الاجتماعية والسياسية على جعلها تبدو رومانسية كي تعطينا ذلك الإحساس بأن الهوية تعني أن نحمل على أجسادنا ندوب الصمت والإجبار. تتساءل فرحة لماذا تكون حماية الهوية والحفاظ عليها حكرا على النساء فقط ؟ “يجب أن تبقى الملحفة زيا ثقافيا فقط، مثل الدراعة (الملابس التقليدية للرجل) و أن يكون لدينا الخيار في ارتدائها متى شئنا، مثل ما هو حال الرجال الصحراويين الذين تخلو عن الدراعة لصعوبة التحكم فيها و استبدلوها باللباس العصري المواكب للحياة اليومية و العملية. فمن غير المنطقي ما نتعرض له كنساء صحراويات سواء في المخيمات أو المناطق المحتلة أو في المهجر عند خلعنا للملحفة حتى وإن كان ذلك من أجل العمل، ما نتعرض له من تعليقات مؤذية مثل “لقد تخليتي عن هويتك”، “لقد خرجتي عن العادات والدين”، “أنت لست صحراوية ولا تحافظي على تقاليدك وعاداتك”… لكن لماذا لا يحافظ الرجال على التقاليد أيضا؟ أم أن هذه التقاليد حكر على النساء فقط؟ “. هذا الوضع يجبر العديد من الصحراويات على العيش في مدن بعيدة عن مجتمعهن بل يشكل ضغطًا على النساء اللواتي يعملن ليل نهار من أجل هذا الشعب ومع ذلك عليهن أن يخضعن أو يُهمشن، حيث لا يتم الاحتفاء أو الإعتراف بأي إنجاز للمرأة الصحراوية إلا إذا كانت ترتدي الملحفة، إن لم تكن كذلك تعتبر منسلخة عن المجتمع والدين ولا تمثله وتصادر شرعيتها.
كما حدث مع الدكتورة والكاتبة الصحراوية لهدية دافا عام 2018 بعد تقديمها لأطروحة الدكتوراة في الطب بعنوان “تاثيرات اللجوء المؤبد على الصحة النفسية لللاجئين الصحراويين في مخيمات تيندوف.” في مؤتمر طبي في برشلونة،إسبانيا ولم ترتدي الكرت الرابح لإرضاء الأبوية و الذكوريين: الملحفة. تم تجاهل أهمية موضوع أطروحتها و تجاهل أهميته بالنسبة لشعبنا المنسي في اللجوء وتحت الاحتلال. و تركز الحديث و النقاش في اعتبارها “عارية” وغير “متسترة” ولا تمثل المرأة الصحراوية ولا الشعب الصحراوي مع صحن جانبي مليء بالسب و الشتم و التهديدات لشخصها. وصفت لهدية الأمر بأنه: “بالطبع كان الأمر محزن ومؤلم على المستوى الشخصي ألا يتم رؤيتي إلا من خلال ملابسي وماذا تمثل لهم محزن أن تكون الملحفة أهم منا كنساء نقاتل من أجل حرية شعبنا، لكن اعتدنا على الأمر فمنذ زمن بعيد ينظر للمرأة الصحراوية في المهجر والتي لا ترتدي الملحفة بنظرة تحقيرية وتعهيرية مع تعامل مليء بالإزدراء والكراهية، بالتالي لا تُعطى لها شرعية تمثيل القضية الصحراوية، بل وتحرم من ذلك حتى ولو كان ذلك بمبادرة شخصية كما فعلت أنا ليس فقط في تلك المرة، بل في الكثير من المناسبات. فالملحفة أصبحت مرادفًا للهوية الصحراوية، خاصة هنا في الغرب. وكل من تخلت عنها أو انتقدت اجبارية ارتدائها، تصنف في خانة العدوة للهوية الصحراوية بأكملها”.
هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها امرأة صحراوية للإساءة فقط لكونها بدون ملحفة، ولن تكون الأخيرة أيضا. حيث تواجه الناشطات الصحراويات في المنظمات و الأروقة الدولية هذا الإشكال، إذ لا يمكن لهنّ التفاوض أو العمل على إيصال القضية الصحراوية إلا إذا ارتدين الملحفة، لا يعترف أو يعتز بهنّ سوى بحضور الملحفة قبلهنّ. ولم تعد الملحفة تفرض من طرف الأبوية الصحراوية المسؤول الرئيسي عن كل هذا، بل إن تعاطي المثيرين من المجتمع الدولي و النشطاء لا يكون سوى مع الناشطات اللواتي يرتدينها. “أصدقاؤنا في اليسار الأوروبي لا يعترفون ولا يحسبون أنك امرأة صحراوية إذا لم ترتدي الملحفة. بل وينظرون لها برومانسية، exotic, ورمزا للمرأة الصحراوية.” تقول لهدية هذه النظرة الرومانسة والافتتان بهذا الزي من طرف الغرب أصبح ورقة ضغط تُضاف للائحة ما يجب أن تكون عليه الناشطات الصحراويات أيضا. إضافة إلى ما يمكن أو لا يمكن لهنّ الحديث عنه.
الهجوم ضد أي ظهور لإمرأة صحراوية بدون الملحفة حتى وإن كان ذلك في بوستر فقط أصبح يزداد يوما بعد يوم، ففي سبتمبر الماضي (2019) نظمت إحدى التمثيليات الدبلوماسية الصحراوية في إسبانيا أول ملتقى “للشابة الصحراوية في المهجر“ وكان إعلان هذا الملتقى يحمل صورة لثلاث نساء: بالملحفة و الحجاب و فتاة بدون حجاب و بدون ملحفة. ثار غضب الصحراويين ضد الإعلان و اعتبروه “مهين بشكل لا يحتمل” ولا يمثل الشعب الصحراوي ولا يمثل الشابة الصحراوية، ففي نظرهم المرأة الصحراوية ترتدي الملحفة فقط. اضطرت الجهة المنظمة لسحب الإعلان و تغييره. وهذا يؤكد على سوء الوضع، وسلطوية وذكورية هذا المجتمع الموجود في مجتمعات مختلفة كونه منقسم على ثلاث مناطق: مخيمات اللاجئين، المدن المحتلة و المهجر. وكشف كيف أن هذا الشعب غير قادر على الاعتراف باختلاف مظاهر النساء وملابسهن ولايستطيع تحمّل فكرة أن توجد امرأة حتى في “رسمة” بدون ما أرادوه لها أو ما يجب أن تكون عليه. غير قادر على مواجهة حقيقة أن وجود الملحفة من عدمه لا ينفي كوننا صحراويات نملك الحق في أن نكون مرئيات باختياراتنا المختلفة داخل المؤتمرات و الملتقيات التي تتحدث باسمنا.
الحق في الاختيار
في البدء والنهاية كان الاختيار هو كل ما نريد فرغم الوعد والوعيد والهجوم والنبذ لم تنل الأبوية من قدرتنا على قول لا ومن دفاعنا عن الحق في ارتداء ما يناسبنا وما نختاره لأنفسنا و ليس ما يختاره المجتمع و الأبوية. في الحرية في التصرف في أجسادنا وفي التواجد دون أن نكون مجرد تمثيليات للمجتمع والعادات والدولة ودون أن يكون اختيارنا مصادرة لحق الأخريات في الاختيار أيضا.
أذكر بعد الهجوم على الدكتورة لهدية دافا 2018 أطلقت على صفحتي هاشتاق “الملحفة ملحفتي أنا وماني لابستها” اعتراضًا على حفلة الوصم التي دشنها الذكوريون ضدها. بعد أن تعبوا من السب والشتم ورسائل التهديد استخدموا آلية الأبوية المفضلة جعل النساء دروع بشرية في معركتهم ضد من تقول لا وتصنيفنا إلى امرأة “جيدة” وامرأة “سيئة” وكان شعارنا ضد الإجبار يقابله خطاب آخر حرض النساء ضد بعضهن “ملحفتي عفتي” “ملحفتي فخري” كان هذا ولايزال الطريق الأسهل أمام الأبوية أن تقنع النساء أن خطابنا الذي نريد به هدم أي سلطة تأمرنا بالولاء لقيم تفرض علينا قبل أن نعي أي شيء ثم تخبرنا أن هذا ما يجب أن نكون عليه ولا بديل لأصواتنا هو خطاب جاء ليفرض عليهنّ شيء لم يخترنه. بدعوتنا لحق الاختيار أصبحنا نُرغم النساء على نزع الملحفة.
وهنا يظهر مكر الأبوية فلولا تسميم وعينا منذ الولادة لما رضينا بفرض زي موحد ونموذج مثالي وحزمة الأوامر والنواهي المرافقة له. هذا السرد الطويل ليس دعوة جماعية لخلع الملحفة ولا لإعطاء وصفة جاهزة لما يجب أن تكون عليه أشكالنا. هو تفكير ونضال خارج سلطة الأبوية وتحريض غير مأسوف عليه لإلغاء الأوامر الموجهة لجسد ووعي المرأة باعتبارها كائنًا يستحق الضبط ويجب أن يتسلط عليه، وهي محاولة لإيجاد مساحة تشملنا كنساء بأشكالنا المختلفة بالملحفة وبدونها.