وثيقة:الوعي النيوليبرالي والعمل العاطفي للتأقلم: حديث بين صديقتين
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | أميرة الوكيل و نادين النابلي |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مجلة كُحل لأبحاث الجسد والجندر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://kohljournal.press/ar/node/176
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | http://archive.is/hq3dR
|
هذه الوثيقة هي حوار نُشر في العدد الثاني من المجلد الخامس لمجلة كحل
سيرة المتحادثتين
أميرة الوكيل
أميرة الوكيل هي نسوية بريطانية مصرية مقيمة في لندن. لديها درجة الماجستير في دراسات الجندر من جامعة SOAS، جامعة لندن. اهتماماتها البحثية تشمل الذّكوريات، التحرش الجنسي، والهجرة، خصوصا عن مصر والجاليات المهاجرة من الشرق الأوسط. تعمل حاليا مع مجتمعات مهاجرة في لندن مدرّسة للغة الانجليزية باستعمال بيداغوجيا جذريّة، وتقوم بالحملات عن القضايا المؤثّرة في المجموعات التي تعمل معها.
نادين النابلي
نادين النابلي هي صديقة، أخت، ابنة، موظفة غير حكومية، باحثة، ومدرسة من القاهرة، مصر. وهي حاصلة على درجة الماجستير في الجندر والجنسانية من SOAS، وهي حاليًا مدربة في مصر. بالإضافة إلى ذلك، عملت في مختلف المنظمات غير الحكومية على القضايا المتعلقة بالجندر والجنسانية والمساواة والإنسانية والعنف. تدور اهتماماتها البحثية الرئيسية حول الجندر، والتربية البديلة وإنتاج المعرفة، والمقاومة، والجنسانيات، والذكوريات في الشرق الأوسط على نطاق واسع، وفي مصر على وجه التحديد. تقضي نادين وقتها في الرقص ومشاهدة البرامج التلفزيونية والعناية بأصدقائها وعائلتها.
مقدمة
هذه المحادثة هي جزء من سلسلة من التأملات في العمل والوعي النيوليبرالي والتأقلم/النجاة. عبر مشاركتها كمحادثة منسوخة، نود أن نوسع المساحة التي نناقش من خلالها تلك الصراعات ونبقيها بشكل وفيّ لاستخدامنا للأحاديث كنوع من الرعاية في صداقتنا.
تعمل نادين كمحاضرة مادة في المعهد الهولندي-الفلمنكي في القاهرة، كجزء من شغلها المدفوع، حيث تعد وتدرس مواد عن الجندر في مصر المعاصرة ضمن فصل دراسي في الخارج للتلاميذ القادمين من هولندا وبلجيكا. عمل أميرة المدفوع هو مع الراشدات/ين (خاصة النساء) من المجتمعات المهاجرة في لندن، حيث تدرس الإنجليزية للمتكلمات/ين بلغات أخرى متبعة بيداغوجيا جذرية. بالإضافة للتدريس، تنظم ضمن حملات إلى جانب طلّابها على القضايا التي يهتممن ويهتمون بشأنها.
العمل والعاطفية والعمل العاطفي
نادين: أشعر أن العمل العاطفي هو جزء من كل شيء في حياتي. لا يوجد وضع حيث العمل العاطفي والعاطفية غير مطلوبين. إنه أمر حتمي كوننا نحمل مشاعرنا معنا أينما ذهبنا، مهما فعلنا، وبغض النظر عمن نتعامل معهم. وأحياناً، نحن نقوم بأخذ قرارات واعية لإستهلاك الطاقة والمجهود في استخدام العمل العاطفي بطريقة معينة. وأحياناً نجد أنفسنا مضطرات على فعل ذلك أو أنّه من المتوقع منّا فعله أكثر من غيرنا، وهو أمر الواضح أنه مجندر وحاضر جداً في الكثير من علاقاتي. لذا من الصعب جداً الإبحار. كل علاقة هي شغل. عليّ أن أستخدم العمل العاطفي في عملي ولكن عليّ أيضاً أن أستخدمه في كل شي خارج "شغلي". ربما العيش بحد ذاته شاق.
أميرة: إنّي أفكّر. هل ما تقولينه هو أن العمل موجود في كل شي؟ هل هناك عمل في كل الأمور؟
ن: نعم، أعتقد ذلك. هناك عمل في الوحدة حتّى. يوجد عمل دائما في محاولات العيش في العالم. وأجد أنه في أي علاقة أو أي عمل، هناك بعض المشاعر التي عليك تمثيلها وهي مجندرة بشكل صريح. لذا العيش والبقاء على قيد الحياة شاق. يستهلك العمل العاطفي للبقاء على قيد الحياة وللإبحار عبر كل علاقاتنا. هناك بعض الأمور التي أجدها ضرورية، لكنها تؤكد على البنية جوهرياً. إذا ما انتهى العمل العاطفي أو تم ازعاجه، لن يستطيع النظام نفسه بالاستمرار. في الوقت نفسه، أشعر بأنه إذا تم الاعتراف به ورؤيته واحترامه وتقديره وادراجه بطريقة هادفة في كيفية فهمنا للعيش في مختلف الطرق، يمكن لهذا العمل بأن يصبح مقاومة لتلك البنى. قد بدأت النسويات تواً في تطوير وبناء المساحة واللغة لفهم الطبيعة متعددة الأوجه للعمل العاطفي وكيف يؤثر في حياتنا وكيف نستطيع استهلاكه في طرق ذات معنى وسياسية في الآن نفسه.
أ: أوافق على ذلك بشدة. أنا فعلاً أحب كيف تتكلمين عن العمل العاطفي بشكل عام بعيداً عن هذا الحديث، وكيف تقولين غالباً "كنت أتمنى لو كانت تلك وظيفتي. أريد الاهتمام بكل الناس الذين أحبهم". وهذا مجهود. إنه عمل. إنه وقت. إذا كان لديك وظيفة رسمية إلى جانبها، لن يكون عندك القدرة لفعل ذلك بالقدر الذي تريدينه. وأعتقد أن تأملاتك ساعدتني على فهم الكثير عن الأعمال المختلفة الخفية أو المخفية (كي أقتبس منك) التي أقوم بها – مع كون العمل العاطفي مجرد مثال واحد – ورغبتي في أن أكون هناك، بالمعنى العاطفي، من أجل كل الذين أحبهم. هذا جعلني أفكر أيضاً بالسياق النيوليبرالي الذي نعيش فيه وكيف يفرض تدمير الجماعة بعنف، حيث لا يوجد "تواجد من أجل الأخرين" للناس الذين نحبهم. لذا فالأمر كالتالي: "لنركز على الفرد الذي لديه المسؤولية الكاملة حيال الاعتناء بنفسه. العبء على الأفراد ليجدوا وظائف تدفع جيداً. وأولئك الأفراد عليهم الاعتناء بأنفسهم عاطفياً بينما يتعاملوا مع العمل بكل أشكاله، منها العديد التي لن نعترف بها". أشعر بأن مركزة فردية الوجود تأتي في صميم المشروع النيوليبرالي.
ن: أي وجود للعواطف والعاطفية كجزء من تركيبة عملنا هو أمر مؤنث، وبالتالي مبخوس القيمة. في الحقيقة، تلك العاطفية مسموح بها فقط في مساحات محددة وفي مهن محددة ومن قبل أشخاص محددين. أما في الحالات الأخرى، علينا ألّا نكون عاطفيات. إدراج العاطفية بشكل واعي في تركيبات عملنا التقليدية ينظر له على أنه سلبي و"غير منتج". وأعتقد أنّ هنالك العديد من الأسباب لذلك، منها النظرة الرومنسية للعمل العاطفي – حتى تسميته بـ "العمل" غالبا مثير للجدل. المفروض أن تكون الرعاية أمر لا يمكننا "وضع سعر له" ويتجاوز كل شيء لأنه متجذر في أفكارنا الرومنسية عن الحب. وبالطبع، تلك الأفكار الرومنسية مجندرة بشكل هائل، إن كانت في مكان العمل أو ضمن العائلات وفي المنازل.
أ: أنا في الحقيقة أعاني مع ذلك بشدة. في صفوفي، كلمّا نقوم في استكشاف موضوع "العمل"، غالباً ما تشارعني التلميذات بحدّة بأن ما يقمن به كأمهات وكمربيات غير دون مقابل مادي لا يجب تصنيفه كعمل. بالعكس، يشدّدن على ذلك التجاوز الذي تتكلمين عنه في الأدوار التي يقمن بها، وكيف أنّه يجب ألّا "نشوّبه" بتركيبات العمل التقليدية. لا أوافق مع ذلك شخصياً، لكني أشعر بأنه علينا أن نترك مجالاً لسردية التجاوز هذه عندما يتم الحجاج من أجلها من قبل الأشخاص اللواتي يعملن في صفوف هذه الأعمال الأولى، خاصة أنني أشعر أن وكالاتهن على أنفسهن وخياراتهن في هذا السياق يتم تهميشها تحت راية الوعي الزائف. ينتهي بنا الأمر دائما في مناقشة أهمية الاعتراف، بالرغم من ذلك، وهناك موافقة تامّة على أهميته.
ن: وأعتقد أنّ هناك فرق بين الاعتراف به وبين جعله رسمياً وبيروقراطياً. لا أريد بالضرورة أن يتم ابتلاع العمل العاطفي ضمن تركيبة العمل التقليدية. لا أريد أن يصبح هناك عقد وأجر بالساعة له. لا أتخيل الموضوع بهذا الشكل. لكن أملي أن نحاول، وألّا يكن العمل العاطفي فقط معترف به، بل مرافق بنوع من الأمان لمن يقوم به، كي لا يعتمد هذا الأمان على العلاقات الجندرية. شخصياً أتمنى أن أقضي وقتي أعتني بنفسي وبمجتمعاتي، لكن السؤال الذي أواجهه: كيف أنجو؟
التدريس كعمل عاطفي
أ: نعم، وهناك السؤال عن كيف يتم توزيع العمل العاطفي بشكل عام. أشعر بأن ذلك يجعلنا نشدد بسرعة على العواقب المادية التي يتركها ذلك العمل على عافيتنا، أليس كذلك؟
ن: أعتقد بأن الأسئلة المتعقلة بالصحة النفسية مرتبطة جوهرياَ بالأسئلة حول نجاتنا عاطفياً ومادياً. كامرأة، يتوقع مني أن أقوم بالعمل العاطفي في علاقاتي الشخصية والمهنية، وبما أنه لا يعترف به كعمل، عليّ أن أقوم بكل تلك المهام الإضافية التي تعتبر "عملا حقيقيّا" والتي سيتم التعويض عنها مالياً. لذا إذا أردت أن أميّز الوقت والطاقة التي أضعها عند قيامي بالعمل العاطفي في حياتي، يصبح من الأصعب أن أشارك كليّاً في تركيبة العمل التقليدية لأني مرهقة. لذا إذا عانى أحداً، أو لم يرد أن يأخذ كل تلك الأعباء والدرجات المختلفة من العمل، سيتم التعامل مع تصرفه كأنه مرضي. كونه لا يعتبر "عضوا/ة منتجا/ة في المجتمع" بالمعنى النيوليبرالي، لديه مشكلة يجب "إصلاحها".
أ: أوافقك من قلبي عمّا تقولينه عن الإرهاق؛ أجد الإرهاق عاملا ثابتا في حياتي، وأحياناً أفكر به من خلال "الإنتاجية"، مما أجده مقلقاً. يتم تشخيص الإرهاق كعارض مرضي بسرعة: توجد القليل فقط من المحاولات الموجهة لفهم أسباب الإرهاق وكم يمكن له أن يكون سياسياً. أجد الإبحار في كل هذا صعباً، بالرغم من ذلك، لأننا نريد أن نعترف بمشاكل الصحة النفسية كما هي، ولكن نريد أيضاَ أن نرى علاقتها بالهيكليات المختلفة التي نعيش ضمنها والتي تؤثر على صحتنا النفسية. أخشى أنّ هناك احتمال الوقوع في ثنائية: لديكِ حالة طبية وبالتالي لستِ بخير، أو تعانين من عنف من قبل البنى التي تعيشين فيها وبالتالي لستِ بخير. هناك تجريد من التسييس جائر بحق مشاكل الصحة النفسية، ولكن ربما هناك أيضاً تسييس زائد لها يقف بيننا وبين فهمنا لحالاتنا وأجسادنا. أريد أن أقدر على فعل الإثنتين، أن أفهم السياسي، وأن أفهم أيضاً كيف تعمل كآبتي، الحقيقية جداً والمؤلمة جداً، على المستوى الفيزيولوجي.
أريد التأمل بعض الشيء بنفسي وعملي كمدرسة وعلاقة ذلك بالذي نتحدث عنه والسياق النيوليبرالي الذي نعيش فيه. التدريس يتخلله الكثير من العمل العاطفي، وليس فقط عند الاستماع للطلبة. أخبرتني احدى الطالبات عن امتنانها لـ "إبتسامي الدائم" وكم يساهم ذلك في تعلّمها. لا أعتقد أنها قالت ذلك لتضغط عليّ كي أمارس عملي بتلك الطريقة، لكنها جعلتني أتأمل في "مسؤولياتي" كمعلمة خارج نطاق المواد التي نستكشفها في الصف. الكثير من التعليم في السياق الجذري والتشاركي يتضمن تأمين بيئة تسمح باحتمالات لنقاشات عديدة ممكن أن نخوضها. ضمن هذا السياق، تذرف الكثير من الدموع الي لا نتوقعها، خاصة أننا دائما نستكشف مشاكل من حياتنا تحمل درجات مختلفة من الألم. تصبحين واعية بشكل هائل للعنف الذي يتعرض له الجميع في الوقت نفسه، لذا، عندما يأتي الوقت لتسمية المشكلة، تكون التجربة مليئة بالمشاعر الهائلة، التي يمكن أن تكون علاجية وفي الوقت نفسه موجعة بشدّة. لذا، فالعمل العاطفي موجود في الصف وفي التحضير، ولكني أيضا أترك عملي غالباً مضطربة من تجارب العنف والألم التي تم مشاركتها. تمّ اختبار كلّا من العجز واليأس، والاثنين يزاولانك الى ما وراء حيطان الصف. ماذا أفعل بكل هذا الألم الفردي والجمعي؟ وبالطبع هناك سياسات العمل في قطاع متزعزع شديد التأنيث، موجود في قلب السرديات والسياسات العنصرية والمناهضة للمهاجرين. لا يمكنني فصل صحتي النفسية عن ذلك. لكل ذلك تأثير مباشر عليها. وهنا تحدثت عن العمل الرسمي فقط، لم أدخل حتى إلى باقي جوانب حياتي.
ن: أوافقك تماما بخصوص العمل العاطفي للتدريس. تريدين أن تخلقي مساحة يمكن للناس الكلام والانتقاد والشعور بالأمان فيها في الوقت نفسه. ما تقولينه جعلني أفكر في سياق تعليمي المختلف تماما عنك. بالإضافة الى العمل العاطفي الذي يأتي مع التعليم بشكل عام، أدرس تلاميذ غالبيتهم بيض/اوات وقادمون/ات من جامعات غربية. لذا أشعر بمسؤولية معيّنة كي أتحدّى وأعترض تفكيرهم/نّ حول مواضيع معيّنة، وأحاول التأكيد على فهمهم/نّ لجديّة وعنف الأمور التي نناقشها، مؤكدة في الوقت نفسه أنهم/نّ لا يتركـ/و/ن الصف يائسين/ات – بالرغم من أنّي أشعر باليأس أغلب الوقت. أتوقع منهم/نّ أن يتأملوا/ن في تورطهم/نّ وأدوارهم/نّ ضمن تلك البنى. دائما أترك صفي متسائلة: هل فعلت ما بوسعي لكي يكون لديهم/نّ نظرة نقدية عن ذلك؟ هل لديهم الأدوات لفهم تلك البنى؟ هل يفهمون مسؤوليتهم ضمن ذلك؟ والأهم من هذا، هل هم بخير؟ ودائما أشعر بإلحاح لو أنّه كان لدي المزيد من الوقت لأشرح وأناقش معهم/نّ، وفي الوقت نفسه أشعر بالإرهاق. لا أستطيع تخيل أنني أدرس كل ساعة من الأسبوع بهذه الطريقة. لا أعلم حتّى كيف يمكنني أن أنجو من ذلك. أحتاج إلى الكثير من الوقت لمعالجة ما حصل في صف واحد.
أ: لا أستطيع أن أتخيل نفسي أفعل ذلك أيضا! من المتعب أيضاً أنه ليس هناك أي اعتراف، أليس كذلك؟ لا يوجد اعتراف بالعمل العاطفي الموجود، والأكيد أنه لا يوجد اعتراف بتأثير ذلك على صحتنا النفسية. ماذا أفعل بالشعور الغامر باليأس الذي أشعر به ويتحدث عنه تلاميذي؟ ذلك اليأس موجود في باطن كآبتي، ويؤكد يوميا عبر أمثلة عدة. عندما تكونين ميّالة للكآبة، وتلك هي دلائلك، يرميك الأمر في هاوية. وأبقى أفكر: كيف يمكننا الاعتناء بأنفسنا؟
التأقلم والذنب واستيعاب الاعتناء بالذات
ن: أعلم أنّي أحاول تجنب المؤثرات لأنها في كل مكان. إنّها كل شيء. لكني لا أعلم إذا كانت هذه استراتيجية مستدامة و"مساعدة" بالنسبة لي للصراحة.
أ: أعتقد بأن الاعتراف بأن هناك الكثير من المؤثرات في هذا العالم، وتخفيف التعرض لها هي استراتيجية تأقلم استخدمها أنا أيضاً. لكنها تأتي على حساب أمور عدة: فالتعامل مع المؤثرات المختلفة يمكن أن يعني عزل الذات عمن أحب. بالعودة الى النقطة التي ذكرتيها في البدء عن العمل العاطفي الذي يرافق مجرّد الوجود، أنا أفضل العمل المستثمر في الاهتمام بنفسي وعمل التأقلم والذي يمكن اعتباره عملا عاطفياً، على العمل العاطفي المستثمر في التواجد من أجل الذين أحبهم، والذين يعانون في الوقت نفسه. لا يمكنني أن أفعل كل ذلك في آن معاً، ويبدو أنّي لا أستطيع القيام بها في أغلب الوقت الذي أشعر خلاله بأني أقضي حياتي محاولة تجنب الوقوع في الهاوية؛ لا يوجد ما هو "محايد". لذا ينتهي بي الأمر مفضّلةً بعض أشكال العمل فقط لكي أنجو – لا أتكلم عن أي أمر قريب حتى للرفاهية. هذا كله لأتأقلم وأنجو، حرفياً.
ن: أفكر، وأنتِ تتكلمين، عن كيف أتأقلم. أنا انتقائية جداً حيال الطرق التي أتعامل فيها مع العالم. وفي الوقت نفسه، ينتابني شعور بالذنب بسبب ذلك لأني أمتلك إمتياز تجنب تلك الأمور والاختفاء. يذكرني الموضوع بما كتبته دينا مكرم-عبيد على الفيسبوك[1] حول الاختفاء عند التواجد في القاهرة من أجل النجاة، والامتياز الواضح والذنب حيال القدرة على ذلك. وفي الآن نفسه، لم أجد طريقة أخرى للبقاء على قيد الحياة دون تقليل أو انتقاء طرق تعاملي مع العالم. ربما لن أجد ذلك أبداً.
أ: أجل. الذنب يسند الكثير مما أقوله فعلاً. وهو أمر صعب لأني أريد أن أخاطب مشاعر الذنب تلك؛ فهي مهمة ومرتبطة بسؤال سياسي أساسي لتفكيكنا للأذى الموجه علينا جمعياً وفردياً، وهذا يتضمن الأذى والعنف المتورطين به نحن. لكن في الوقت نفسه، أخاف أن يكون غرس الشعور بالذنب هذا نتيجة المشروع النيوليبرالي أيضاً. كم غريبة هذه الثنائية التي نعيشها.
الامتياز هو المصدر الأساسي للذنب على ما أعتقد: القدرة على المشاركة في هذه الأحاديث وامتلاك اللغة لتسمية هذه الأمور والقدرة على الوصول إلى هذه اللغة من الأماكن الامتيازية وامتلاك المساحات والوقت للاعتناء بنفسي والوصول للخدمات التي تساعدني على النجاة وامتلاك شبكات الأمان... هناك ذنب أيضاً فيما تحدثت عنه مسبقاً عن تفضيل الاعتناء بنفسي على الاهتمام بالآخرين، وهو أمر نيوليبرالي جداً حسبما أشعر. غالباً ما أجد نفسي عالقة في التفكير بـ "أنا أكرر الأمور الموجودة في النظام نفسها التي أوصلتني الى هذه الحالة. أستخدم مبادئه الأساسية كي أعتني بنفسي". يحمل ذلك الكثير من القلق ويذكرني باستخدام النيوليبرالية للرعاية بالذات الذي نتكلم عنه دائما.
ن: أعتقد بأن ابتلاع الرعاية بالذات من قبل النظام يرتبط بما كنتِ تقولينه عن الصراع وعمل التأقلم. الرعاية بالذات يتم استخدامها من قبل النيوليبرالية بطريقة تهدف بشكل صريح الى إدامة البنى الموجودة. المنتجات والخدمات الموجودة فرضياً من أجل عافيتك هي مجرد إعادة ترويج للإستهلاكية واستمرارية "الانتاجية" بالمعنى النيوليبرالي. إنها رعاية بالذات خادمة للرأسمالية النيوليبرالية. وينتهي بك الأمر تصارعي لكي تقومي بالرعاية بذاتك فعلاً دون خدمة هذه السردية وهذه الهيكلية.
أ: أفكر بالأمر بهذه الطريقة بالضبط. في لندن، أنتِ معرضة دائماً للوجود الكاسح للرعاية بالذات الاستهلاكية، ويتضمن ذلك نشأة "ثقافة العافية". تلك الأمور معلبة دائماً بطريقة تخدم الرأسمالية النيوليبرالية كما تقولين. "ارتاحي بعد يوم طويل في الشغل"، "خذي جرعة طاقة في طريقك إلى العمل"، أما تحدّي العمل نفسه، فهو ليس موجوداً.
غالباً ما أجد نفسي أقاوم ذلك بشدّة، وبالطبع ذلك يعكس علي سلبياً لأنه للأسف بعض الأمور الاستهلاكية تساعدني أحياناً. لذا فهو سؤال صعب: كيف أتجنب المشاركة في استهلاكية الرعاية بالذات وأضمن في الوقت نفسه أنني أعتني بذاتي؟
البحث عن بنى عمل بديلة
ن: مجدداً، تلك مفاوضات وصراعات تأتي مع محاولة فهم ما يعنيه الاعتناء بنفسك. ومجدداً، تظهر كل تلك الدرجات من الذنب المتعلقة بالرعاية بالذات. تشعرين بالذنب حيال امتلاك الوصول والوقت للاعتناء وحيال احتمال استهلاك تلك المنتجات والخدمات. ثم تشعرين بالذنب لشعورك بالذنب، لأن القدرة على الشعور بالذنب هي امتياز.
أعتقد بأن ذلك هو جانب آخر لعمل التأقلم؛ هناك عمل في القيام بممارسات الاعتناء بنفسك، يتطلب جهد ووقت. لكن هناك أيضاً عمل الإبحار في السياسات والمفاوضات محاولة للاعتناء بنفسك دون إدامة الأمور التي تحاولين مقاومتها والتي تساهم في صراعاتك مع الصحة النفسية أساساً. كما أنّه عليك السماح لنفسك بالاعتناء بذاتك في الوقت الذي تفضلين فيه المقاومة والإشتباك. مجدداً، الموضوع مرهق.
أ: بشدّة. إذا ما هي الطرق البديلة لكل هذا؟
ن: لم نتطرق حقاً لبنى الرعاية أو مجتمعات الرعاية التي تشكل جزء متمم لبدائل بنى العمل. أي محاولة لتحدي بنى العمل الحالية وبناء بدائل تتطلب طرق جديدة للتفكير حول كيفية تنظيمنا للمجتمعات وتوزيعنا للرعاية والأمان والحقوق والواجبات. أعتقد أنه من المهم محاولة إيجاد بدائل لمجتمعات الرعاية التي لا ترتكز على أفكار العائلة النواة أو تعمل في سبيل بناء عائلة جديدة متجذرة بالبنى النمطية-الغيرية. لكني لم أجد جواباً لكيف ستكون تلك المجتمعات واقعياً وبشكل مستدام. أجد الكثير من القيمة والدعم والرعاية في الصداقات، لكن حتى تلك غير آمنة كوننا نعيش ضمن بنى لا تدعم استمراريتها وأمنها.
أ: أوافق. وجود مقومات مجتمعات الرعاية التي تتخيلينها هنا في حياتي أساسيَ لقدرتي على التأقلم، إن كان في الصداقات أو الشراكات أو العمل الرسمي. أود العودة إلى عملي الرسمي لأدعم بعض ما نتحدث عنه هنا. أنا محظوظة كوني في سياق حيث يقف زملائي معي حيال هذه القضايا. غالباً ما نخوض نقاشات صادقة عن كيفية دعمنا لبعضنا البعض بشكل أفضل وكيف لذلك أن يكون جزء مما نفعل، ونمركز العاطفية في تدريسنا وأكثر. كما أن أساليبنا في التعليم مبنية على فرضية أن الصف هو مكان سياسي بطرق مختلفة وأنّ هناك الكثير مما يمكن إدخاله والخروج به من تلك المساحة مما يسمح لنا بالتنظيم والعمل إلى جانب تلاميذنا. ربما هناك ما يساعدنا في طبيعة ذلك الجمعية. أعتقد أنه من النادر والممكن في الوقت نفسه أن يتواجد الدعم بين المجموعات الصغيرة في سياق العمل الرسمي. أتسائل إذا كان سياق بعض الوظائف يجذب نوعاً معيناً من الناس بسبب طبيعتهم، وبالتالي يجذب أشخاصاً قادرين على خلق بيئة كتلك تسمح بالعمل معاً حول بناء مجتمعات الرعاية التي تحدثت عنها. أعتقد أن ذلك بحد ذاته مقاوم للفكرة النيوليبرالية بأن الفرد مسؤول عن العدد التالي من المهام ويحاسب عنها وحده. العمل العاطفي وغيره من الأعمال المخفية هي جزء أساسي من العمل، وتوضيح ذلك بقدر ما نستطيع هو خطوة أولى جيدة بالنظر إلى بنى العمل الرسمية الموجودة. أعتقد أن هنالك مجالاً لذلك.
ن: ويرتبط ذلك بالأسئلة التي كنا نناقشها في البداية. كيف تنجين عندما يكون وقتك مستثمراً في العمل العاطفي غير الرسمي؟ وكيف تنجين عندما يكون عليك الإعتناء بذاتك، عندما لا تتضمن العناية بالذات عدم القيام أو تقليل العمل المأجور؟ كيف تنجين بالمعنى المادي؟ أعتقد أنه ممكناً، كما كنت تقولين، أن نجد مقاربات جمعية بديلة لكيفية العمل. لا توجد العديد من الأماكن التي تقبل القيام بذلك، لكن ربما يمكننا التفكير بطرق نفعت معنا أو لم تنفع في أماكن العمل المأجور التي عملنا فيها.
أ: يساعدنا بالتأكيد العمل في سياق يتم تحدي الهرمية فيه بشكل دائم، وحيث إنتاجيتك وأجرك، وبالتالي نجاتك في السياق الرأسمالي، ليسا مرتبطين بشكل رئيسي. ما يساعد أيضاً هو الشعور بأن الثقة ممنوحة لي لأقوم بما أنا بحاجة للقيام به من مهام، وفي الوقت ذاته، هناك مجال لإيصال معاناة القيام ببعض الأمور إذا ما وجدت. أعتقد أن هذا هو ما يتم الإشارة إليه بـ "ثقافة العمل"، لذا فهو مجهود جمعي حيث يتم تشارك الرعاية كعمل. تتضمّن بنى العمل الجذرية المزيد من العمل العاطفي. وهي بالطبع تتضمن الإعتراف بالعمل العاطفي في كل ما نقوم به، ليلاً ونهاراً.