وثيقة:جاين لوميل (1976-2022).. حياة جديدة

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Mada Masr Logo.png
مقالة رأي
تأليف محمد كلفت
تحرير غير معيّن
المصدر مدى مصر
اللغة العربية
تاريخ النشر 2022-10-15
مسار الاسترجاع https://mada32.appspot.com/www.madamasr.com/ar/2022/10/15/feature/سياسة/جاين-لوميل-1976-2022-حياة-جديدة/?fbclid=IwAR0JJ45sJYeBCDOlPCr5NZtw5DswXFGutoqgb1MLKgFrZ3pvjyupOhRnjn4
تاريخ الاسترجاع 2022-10-16


هذه الوثيقة هي نعي للكاتبة والمدونة المصرية جاين لوميل (1976-2022)



قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر



لم يكن هذا هو السبب الذي أريد أن أكتب من أجله عنك يا جاين، ولا هو أحد الأشياء التي خططنا للتعاون فيها والكتابة عنها. استيقظت صباح الخميس 13 أكتوبر لأغرق في العمل وإنجاز التسليمات العاجلة، وهو حاجز واحد من الحواجز التي حالت منذ أغسطس دون أن أتابع لقاءاتنا والاستمتاع بصحبتك والمساهمة في دعمك ومؤانستك، ثم تعذر حتى التواصل معك تليفونيًا في الأسبوعين الأخيرين، على أمل اللقاء كما وعدتيني بحماس لنذهب إلى حديقة اكتشفتيها. الخروج من البيت الذي أصبح حدثًا نادرًا منذ العودة إلى القاهرة من ميانمار مع رفيق العمر بعد انقلاب فبراير 2021. وفي صباح الخميس جاءت الرسالة ودارت المكالمات وأزحت كل العمل جانبًا لأن المهمة العاجلة التي طرأت ونزلت من حيث لا ندري فرضت أولويتها القصوى. فليعاونني المسيح الذي آمنتِ به يا جاين إيمانًا من نوع خاص يصعب فهمه على المؤمنين، ولكن ليعاونني الشيطان أيضًا وأنا أكتب ما لم أرغب أبدا في كتابته لكنني لا أحتمل ألا يكتبه أحدنا على الأقل ليوزعه على من سيساهمون فيه ليُنشر على الناس. ولتعاوننا كل قوة في هذا العالم لكي نبقى فيه بدونك كما كنت تحبين لنا أن نكون.

هذه بحسب علمي هي آخر سيرة ذاتية موجزة كتبتها جاين عن نفسها:

Jane Lomil (also known as «Khin Khin», her Burmese name) was one of the earliest bloggers in Egypt during the beginnings of the anti-Mubarak movement. Her blogs dealt with a variety of political, social and cultural issues, particularly gender inequality. Holding a medical degree, she’s been an advocate for patients’ rights. She also contributed to terr.so, an Arabic-language film ezine. After moving to Myanmar she participated in education of underprivileged communities. She’s part of a network of expats supporting the peaceful movement in the country and abroad in a variety of ways.

[جاين لوميل (المعروفة أيضا باسمها البورمي، كِن كِن) كانت واحدة من المدونين المبكرين في مصر في بدايات الحركة المناهضة لمبارك. تناولت مدوناتها طائفة متنوعة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، وعلى الأخص اللامساواة الجندرية. وبعد إتمامها دراسة الطب، نشطت كمدافعة عن حقوق المرضى. كما ساهمت بالكتابة في موقع تِرْسُو، المجلة السينمائية الإلكترونية العربية. بعد انتقالها إلى ميانمار شاركت في تعليم المجتمعات المحرومة. وهي تنتمي إلى شبكة من المغتربين تدعم الحركة السلمية من داخل البلاد ومن خارجها بطرق متنوعة.]

جاين لوميل، التي كثيرًا ما سُئلنا من أين هي، إذ يظن السامع أنها أجنبية، ولدت في القاهرة لكنها قضت وقتًا طويلًا من طفولتها في أسيوط. وقضت معظم حياتها الباقية -باستثناء فترات السفر خارج مصر وفترة من الإقامة في المقطم- في أرض الجولف. عمل أبوها (الراحل في 2019) بالتربية والتعليم، وأمها جيولوجية متقاعدة.

ظل توقيع جاين على إيميلاتها حتى النهاية مذيلا باسم «Voices For Dignity» [أصوات من أجل الكرامة]. ولنفهم معنى هذا التوقيع فهذا ما يقوله محمد يحيى الذي شهد على التجربة: «كانت عايزة تأسس منظمة أهلية لمتابعة الخدمات الصحية وحقوق متلقي الخدمة، بس جا 30 يونيو والدنيا اتقلبت». شاركتها صديقتها وزميلتها ماريا (شيللو) في هذه التجربة، وقالت لي جاين إن شيللو كانت تقوم أيضا بدور المسيًطر على جاين عند ذهابها أبعد من اللازم في المخاطرة والاقتراب من تجاوز الخطوط الحمراء وعدم تقدير الحسابات وأولًا وأخيرًا عدم الرأفة بنفسها كعادتها من حيث الانفعال والتفكير وتوزيع الطاقة.

زاملتُ جاين كواحد من مجتمع المدونين الذين تشير إليهم، وقابلتها للمرة الأولى على سلالم نقابة الصحافيين في 2005 في وقفة احتجاجية على اعتداءات جنسية وقعت هناك قبلها على الصحافيات المعارضات. كثيرون ممن عرفوها لديهم قصص عن وقفاتها ومشاركاتها وجهودها في المتابعة والتوثيق والمقاومة في لحظات ومواقع شتى قبل ذلك التاريخ وبعده. ونشاطها بالكتابة والفعل والتحركات في مجال الحقوق الجندرية والصحية هو واحد فقط من تلك الخطوط الممتدة في حياة جاين.

ربما يعفينا رحيل جاين من الاستمرار في المحافظة على تفصيلة محددة من خصوصيتها: لقد دونت باسم مستعار هو سؤراطة (مدونة باسم عالقهوة)، وباسم زبيدة (في مدونة الحرملك) والذي نشرت به أيضًا في مجلة البوصلة. لكنها، وبعد سنوات من مقالها الطويل عن أفلام صلاح أبو سيف، وعمود في الحب ثقافة، نشرت مؤخرًا للمرة الثالثة باسمها في مجلة مرايا، بعد أن طلب منها المحرر المساهمة عندما لاحظ نشاطها على المواقع الاجتماعية في تغطية ما تراه حولها في ميانمار بعد الانقلاب، وكانت تنوي أن تواصل لتنشر سلسلة بعد رسالتها الأولى من هناك، لتعرِّف قراء العربية على تاريخ ما يحدث وآفاقه ومغزاه وفك شفراته. في ربيع العام نفسه، وبعد عودتها الاضطرارية إلى مصر، أشركتني جاين لأتابع معها مهرجانًا لأفلام بورما على الإنترنت. وبالرغم من أن هذا تخصصي بحكم عملي لم أقوَ إلا على مشاهدة القليل، ولم ألحق بجاين التي تمكنت من مشاهدة وتحليل الـ 41 فيلمًا كلها، وكتبت عنها مسودة غير كاملة من 3373 كلمة بعنوان «First There Was Light: Thoughts about Burma Spring Benefit Film Festival» [<أولا كان هناك ضوء: أفكار حول مهرجان الأفلام الربيعي لجمع المساهمات المالية لبورما»]، لكنها بالرغم من طرقها الأبواب وهي الخجولة وذات الطاقة المحدودة جدًا من هذه النواحي، عجزت عن أن تجد ناشرًا. وعدتها أن أحرره بنفسي وأترجمه وأبحث له عن ناشر.

كانت تيمة في الحديث مع جاين وعنها أن نشير إلى الحياة الأولى والثانية والثالثة لجاين لوميل. وهي حيوات متعاقبة وحيوات متوازية. من بين آخر ما قالته لي جاين إنها تعلم جيدا أنها لو لم تكن تتعرض منذ الصف الرابع الابتدائي إلى صداع شديد مزمن متنوع الأشكال لكانت قد أنجزت أشياء كثيرة مهمة. في الشهور الأخيرة عانت بشكل خاص مما شخصته بنفسها «صداعًا عنقوديًا» وكان بحسب وصفها بشعًا. وجاين التي كانت تقف في المواجهات والمواقف الشديدة مع غيرها وأمام الأقوياء والمتجبرين، وقوفًا لا يوحي إلا بامرأة خارقة، كانت تعود من كل مآثرها وجهادها في دعم الآخرين والزود عنهم وحمايتهم لتنهار وتعالج إرهاقها المزمن لترقد وتلجأ إلى فراشها وبيتها بالأيام بل والأسابيع والشهور وتختفي عن الأسماع والأنظار دون طلب مساعدة. وقد اجتمعت عليها تنويعة من الحساسيات والهشاشات المركبة والأحوال الغريبة جسديا ونفسيا. كانت كتلة عارية من الإحساس ومن ثم فالغريب حقًا هو كيف استطاعت تحمل كل آلام هذا العالم الذي كانت تحيا فيه بكل جوارحها كإنسانة تنتمي إلى كل أهله وكائناته وكل بقعة فيه وكل نضال. عندما قرَّرت منذ شهور أن ترحم كلبتها الطاعنة في السن من آلامها ومشاكلها المتفاقمة، فعلت بكل دقة وحب كل ما يمكن ألا يجعل راستي تعاني وهي تموت، دون أن تبخل بشيء مما يوفره البيطريون في حالات كهذه ومن ثم لم تلجأ إليهم. ثم قضت شهرين في حزن هائل لا تقوى على الاقتراب من المنطقة التي كانت راستي تأكل وتشرب وتتحرك فيها.

ومع ذلك فما أصبحته جاين رغم كل هذه الصعاب مذهل: عملت مضيفة طيران، وناشطة وباحثة في العفو الدولية والنديم لتأهيل ضحايا التعذيب والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومترجمة أفلام، ولها خبرة طويلة في الأنشطة الكشفية الكنسية حاولت خلالها تطوير بعض تقاليدها (ونحن في كنيسة مريم العذراء بأرض الجولف، قالت نرمين نزار: «أنا جيت الكنيسة دي معاها، هي اللي جابتني هنا سنة 94 عشان أعرض أفلام»)، وكانت تتحدث إنجليزية مَلكية وتتنقل بسهولة مثيرة بين اللهجتين البريطانية والأمريكية، أما غزارة معرفتها الطبية والعلمية واللغوية والثقافية والعامة، وإلمامها بفيض من الخبرات والمعارف والملاحظات والرؤى التي كونتها من كل ذلك فهو أمر شديد الإبهار. صحيح أن بموت كل إنسان تنتهي احتمالات يصعب إحصاؤها، أما بموت شخص مثل جاين فمن المستحيل أن نبدأ التفكير في إحصاء خسائرنا. مشكلة هذا المجتمع وهذا العالم تتضح تمامًا عندما نواجه حقيقة أنه لم يسمح ولم يرغب في أن يصل إلى الناس شيء يُذكر من قدرات ومهارات جاين ورغباتها في العطاء وفي المساهمة في جعلنا نعيش حياة ممكنة أفضل. ومن عبث الأقدار وقسوة وجنون العالم أنها هربت من مكان الآمال الجماعية المحطمة في مصر لتعيش مع رفيق حياتها في مكان أجمل بدأ في الخروج من نكبته الطويلة ليشم الحرية، فقط لينقض العسكر في ذلك المكان أيضًا على آمال وسلام شعب آخر، وتشهد جاين على القتل والمقاومة من شرفة بيتها في يانجون، حيث كانت قد بدأت تنطلق وتؤسس لحياة سعيدة وتعلم الأطفال المعاد تأهيلهم بعد استغلالهم كجنود في ميليشيات، بل وتتعلم المونتاج وصنع الأفلام.

في حياة واحدة فقط من حيوات جاين الكثيرة المحتملة كان يمكنها إتحاف الجماهير بما لديها لتقوله عن السينما المصرية والثقافة والميديا الأمريكية والدراما والكوميديا والإذاعة البريطانية. في كل مرة كنت أستمع إليها مع يسري وهي تشرح لنا باستفاضة ما تراه (ولا نراه نحن) في حلقة ما أو خط درامي معين في مسلسلها المصري المفضل سابع جار، كنا نصرخ بتجديد مطالبتنا بأن تبدأ في تسجيل حلقات لبودكاست، وهو وأحد المشاريع الكثيرة التي تحمست لها مؤخرًا، وللتخلص من كل ما يعيقها ومباشرة العمل. كما كانت بالتأكيد ستصنع ثروة لو كانت تريد أن تربح من متابعتها عن كثب للسياسة الغربية.

في منتصف عشرينياتها، قررت جاين دراسة الطب، وتخرجت بعد سنوات من الانتظام المتقطع. وفي هذا العام فقط، عام رحيلها، استأنفت دراستها للحصول على الماجستير. وهذه علامة واحدة فقط مما بشّرنا بأنها صامدة ومستمرة وستنهض وتفعل ما تريده، بعد كل الكوارث المتلاحقة عبر السنوات. في سنوات دراستها الجامعية الأولى تعرضت جاين في الأوتوبيس إلى واقعة عنيفة ضمن ما تتعرض له نساء بلدها كل يوم، جعلت من الصعب عليها بالتدريج ركوب المواصلات، وليس من المستبعد أن هذا هو ما تطور في السنوات الأخيرة إلى عدم احتمالها النزول إلى الشارع في القاهرة على الأخص بعد 2013. ومنذ تفشي الجائحة وهي تعاني على كل المستويات، كمقدمة رعاية، وكمصابة لم تخرج أبدًا من مرحلة الكوفيد الطويل وأهون أعراضه ضبابية الدماغ، وكمواطنة وطبيبة غير ممارِسة في جو من الفوضى والجهل والإهمال أشفقنا عليها من الهوة الرهيبة بينه وبين معاييرها الجادة والمسؤولة ومنطقها الذي لا يصح فيه إلا الصحيح. ووسط كل هذا فهي، التي أعارتني في زيارتي الأخيرة نسخة من كتاب صديقها المعتقل والمضرب عن الطعام، عاشت هذا العام مع كارثة مقيمة لم تغادر كيانها وهي تسألنا: كيف تتعامل مع قلقها الفظيع من أن تتلقى عنه خبرا أسوأ لا تدري كيف يمكن أن يكون الحال بعده؟

بالرغم من كل ما نعرفه عن إنسان، علينا عندما يرحل أحدنا أن نتذكر حقيقة مهمة: أننا في المقابل لا نعرف الكثير جدًا عنه. كل ما نجمعه من بعضنا البعض اليوم هو قطع من صورة جاين، صور جاين، ومن كل ما عاشته ومثلته. نحن لا نعلم مثلًا كيف مرت عليها «ذكرى ماسبيرو» هذا العام قبل ساعات من وفاتها.

عزاؤنا يا جاين أننا عرفناك، اقتربنا منك، وأنك استرحت، وأنك في سلام في مكان أفضل إنارة، وأن حيواتك الكثيرة ستتواصل، وأن الحوار بيننا لن ينقطع، وأنك اليوم ونحن نشيعك أخذتينا إلى أماكن في القاهرة لم يرها بعضنا من قبل، جعلتينا نلتقي ونتواصل وبعضنا صار لا يرى الآخر أو يسمع منه أو لا يعرفه، وعزاؤنا أننا ولو في غرف مغلقة بعيدة داخلنا نظل نهتف، وربما أيضًا في قبورنا سنظل نهتف: يسقط! يسقط!