وثيقة:رجل عابر في الغربة: كيف أصبحت هويتي الجندرية سيرتي الذاتية
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
العنوان | وثيقة: |
---|---|
تأليف | ورد زراع |
تحرير | غير معيّن |
المصدر | جيم |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.jeem.me/society/555
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها جيم
عندما كنتُ صغيرًا، كنتُ ضائعًا بين الأسئلة. أكتب اليوم كي لا يضيع طفلٌ آخر.
إن لم تكُن أنتَ أنتَ، فلن تكون قادرًا على السير في أي طريق، كل ما ستتقنهُ هو تجنّب المرايا!
مختلفًا وسط التشابه
بجانب الورقة التي أكتب عليها هذا المقال، قائمةٌ بالمهام التي عليّ أن أنجزها، وطلبات العمل التي أريد أن أرسلها، بالإضافة إلى السيرة الذاتية، رسالة الحوافز، ورسائل التوصية!
هذه هي المرة الأولى التي أجد نفسي فيها عالقًا وسط دوامة البحث عن عمل، ليس لأني كنتُ ميسور الحال، بل لأني كنتُ مختبئًا. نعم، مختبىء! ففي بداية حياتي، اخترتُ دراسة التدريس لكونه الفرع الوحيد الذي يضمن لي توظيفًا سريعًا. لكني لم أكن معلّمًا ناجحًا ولم أحصل سوى على راتبٍ يكفي الحدّ الأدنى من المعيشة. في الواقع، أردتُ في طفولتي أن أصبح ممثلًا، لكني حين كبرت كرجلٍ عابرٍ لم يخرج من "الخزانة" صار الأمر مستحيلًا. فأي دورٍ سأمثّل؟ وبما أنني كنتُ أعيش كممثلٍ في حياتي اليومية، أرتدي شخصية تناسب المحيط ولا تشبهني في الكثير من التفاصيل، لم أهتم كثيرًا بأن أدرس ما أحب، والهدف من العمل كان كسب المال لا غير. تفاصيل أخرى كثيرةٌ لم أكن أهتم بها كذلك، فكل ما كنتُ أفعله كان بغرض تمرير الوقت. لم أعرف ما الذّي كنت أنتظره، لكن هذا ما كنتُ أقوم به. عدم الالتزام بالمواعيد كانت مشكلتي الدائمة. لم يكن الوقت ثمينًا عندي، كأني كنتُ أحيا حياة غيري. فمن الذي سرق ذلك العمر مني؟
الخوف هو الجواب. أن تكون خائفًا يعني ألّا تتسع لشيء، أن تكون نحيلًا كإبرة خياطٍ أعمى! الخوف من كوني مختلفًا وسط كل ذلك التشابه هو ما دفعني لإخفاء هويتي ومنعني من السعي لتحقيق ما أحب. كنتُ فردًا في مجتمعٍ يتشابه في كل شيء ـ فإن أنت التقيتَ بواحدٍ أو واحدةٍ كأنك قابلتَ الجميع ـ للكل ذات الرغبات والمكروهات. للكل خطة الحياة ذاتها. الكل يسير في طريقٍ واحدةٍ مهما اختلفت الأحذية. كل ما كنتُ أريده هو أن أنتمي إليهم/ن، وهذا تمامًا ما فشلتُ فيه. أنت مقبولٌ في تلك البلاد طالما أنك تشبه ساكنيها، لذلك خبأتُ كل ما كنتُ عليه وأظهرتُ ما يسمح لي بالحياة من دون أن أتعرض للأذى. تصريحي بهويتي الجندرية كان يعني إقصائي على الفور. كانوا سيختزلونني بها فقط. هويةٌ من أقلية الميم-عين في مجتمعاتنا العربية هي هويةٌ تفتقر إلى بيئةٍ آمنةٍ تنمو داخلها، إذ لا أرضية علمية تُبنى عليها بيوتنا العربية. للعرف والدين صوت أعلى في شوارعنا من صوت العلم الذي يعترف بوجودي كأمر طبيعي.
يحملون خزائنهم معهم
اليوم، بعد كل تلك الأعوام، بعد أن سافرتُ وخرجتُ من "الخزانة"، أجلس بين أوراقي باحثًا عن عملٍ يشبهني. اليوم، ما أحياه هو عمري الذي لا أفرّط بلحظةٍ منه دون أن أحياها كما أريد. أفكر بكل صديقاتي/أصدقائي العابرات/العابرين ممّن لم تُتح لهم/ن فرصة "الخروج من الخزانة"، ولا يزالون عالقين في مسرحياتٍ لا تنتهي، كأن تقف صديقتي العابِرة لساعاتٍ في طابور الرجال في انتظار دورها لتشتري الخبز. تخبرني كم يؤلمها ذلك، لكن لا خيار أمامها لتقفَ في الطابور الصحيح. فأخبرها عن تجربةٍ خضتُها قبل عامَين كباحثٍ عن العمل هنا في الغربة.
كنتُ قد انتقلتُ إلى مدينتي الجديدة المفتوحة على البحر، والبحر كان أحد أهم أسباب انتقالي إليها. تشتهر هذه المدينة بكثرة اللاجئين فيها ومعظمهم من العرب. عرضَت عليّ إحدى الصديقات التواصل مع جمعيةٍ للأجانب تدرّس الموسيقى للأطفال كانت بحاجةٍ إلى فنانٍ متطوعٍ يعلّم الرسم. ترددتُ في البداية، لكن بعد أن فكرتُ في الأمر، قررتُ التخلي عن انطباعاتي القديمة والتحرر من مخاوف الاحتكاك بالمجتمع. أردتُ أن أفرض نفسي كرجلٍ عابر، فما سُرق مني طيلة تلك الأعوام من مشاعر وتجارب لم أعِشها أو فرص عملٍ لم أحظَ بها كان نتيجة محاولاتي تجنّب الزحام، لأنّني لم أستطع أن أكون كما أريد بينهم. لكن الأمر مختلف هنا، فأنا الآن في مكانٍ جديدٍ يحترم حقوقي كعابرٍ ويتيح لي فرصًا متساويةً مع الآخرين.
حضّرتُ نفسي للمقابلة، وأمام باب المكتب سألتُ نفسي: من أين أبدأ؟ لكن ما حدث هو أني زوّدتهم برقم هاتفي فقط! لم أفهم لِما لم يسألوني أيّ سؤال. لكني اكتشفتُ الجواب لاحقًا، عندما اتصلوا بي ليخبروني كم أعجبَتهم أعمالي الفنية التي رأوها على موقعي الإلكتروني المذكور في سيرتي الذاتية، وطلبوا أن يتغيّر نوع العمل بيننا، فأتولّى مسؤولية التصاميم الفنية للجمعية بدلًا من العمل مع الأطفال، وبذلك أتجنّب التواصل معهم فأحتمي من أسئلتهم وتطفّل ذويهم. يومها، رفضتُ العمل. مرةً أخرى، في بلادٍ أخرى تحترم حقوقي وتعترف بي كرجل، يجري تقييمي على أساس هويتي الجندرية فقط (التي هي أمرٌ شخصي بحت) بلا حسبانٍ لكفاياتي وخبراتي، بل من دون سؤالي حتى عن خططي للعمل. لكن ممّن؟ من المجتمع ذاته الذي أتيتُ منه.
هناك من يرفض الخروج من خزانته وإن تغيّر مكانه. الخزانة ليست حكرًا علينا نحن أفراد مجتمع الميم-عين. فمِن الناس من يختار خزانته بنفسه من دون أن تُفرض عليه، ومنهم من لا خزانة تسجنه، لكنه لا يهتم بتحرير غيره، فيجلس في برجه المعزول ينظّر على الآخرين.
أذكر أنّني بعد تلك المحادثة، خرجتُ للمشي في الغابة. احتجتُ أن أعود إلى الطبيعة حيث السلام الحقيقي، حيث كل عنصرٍ ينسجم في مكانه من غير قيودٍ ومن دون أن يجلده اختلافه.
حريتي الشخصية ليسَت شأنًا جماعيًا
لطالما منحني الرفض سببًا للاستمرار وزاد من إصراري على عدم توريث المعاناة للجيل الجديد. ليس على أطفالنا العيش خائفين/ات من هوياتهم/ن ولا مختبئين/ات من أنفسهم/ن. الهوية الجندرية أو الميول الجنسية المختلفة عن الأكثرية لا تختزل شخصية حاملها، ويجب احترامها كحريةٍ شخصيةٍ لا كشأنٍ عامٍ أو جماعي. في المجتمعات المحافظة، عندما تكون فردًا من مجتمع الميم-عين، تسقط تلقائيًا كل صفاتك الأخرى، وتوصَم بنوعك الجندري أو ميولك الجنسية، فتُرفض لأنك لستَ من النسيج المتعارف عليه. من حاك هذا النسيج هو فكرٌ دخيلٌ على تاريخنا، ووليد سنواتٍ استعماريةٍ طويلة، غذّته سياسات حكوماتٍ ديكتاتورية نفَت الاختلاف والتنوع وسعَت إلى تعزيز الأنماط والصّور الثابتة للناس كي تسهل السيطرة عليهم وتسييرهم. لهذا، نجد كل حكومةٍ استبداديةٍ تسعى جهدها لتجريم كل اختلاف. الفردانية هي العدو الأول للسلطات المهيمِنة، لأنها قائمةٌ في أساسها على مبدأ الحرية والخروج عن القطيع والتبعية. أتخيل دائمًا بأن للتبعية حذاءٌ من نوعٍ مختلف، تنتعله فتختفي وتذهب في طرقٍ بعيدةٍ غير تلك التي تريد.
أما أنا، فصرتُ أعرف قلوبًا تمارس الهرولة حافيةً فوق شوك الحياة، تسير مع الأحياء مبتعدةً عن التلقين. تقلم أظافر وحدتها فرِحةً برقصة الحرية. كثرٌ هم الحفاة في الثورات التي انطلقَت في شوارعنا، يوسّعون تلك الشوارع لتتّسع للجميع، ويكسرون الكثير من قيود الصّفة الواحدة والمعيار الواحد.