وثيقة:فنّانات غزّة وأديباتّها الشهيدات

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مقالة رأي
تأليف منى علي علاّم
تحرير غير معيّن
المصدر السفير العربي
اللغة العربية
تاريخ النشر 2023-11-27
مسار الاسترجاع https://assafirarabi.com/ar/56427/2023/11/27/فنّانات-غزّة-وأديباتّها-الشهيدات/
تاريخ الاسترجاع 2023-12-03



قد توجد وثائق أخرى مصدرها السفير العربي



"إذا متنا اعلموا أننا راضون وثابتون وبلِّغوا عنا أننا أصحاب حق". وقد استشهدنّ فعلاً، وحيدات أحياناً أو مع ابنائهن في الأغلب. يا للخسارات. هذا نص عن حليمة الكحلوت، هبة زقّوت، إيناس السقا، هبة المدهون، هبة أبوندى، ولعله، ويا للوعة، ليس إلا فصل أول. تقول هبة: لو، يا ضيا، ضاقت مجرّاتُ العوالمِ كلِّها، فقل ادخلوا قلبي، جميعاً، آمنين.


ثلاث هبات وحليمة وإيناس.

من أسمائهن وحدها، فضلاً عمّا تعكس أعمالُهن، تُستَخلص معانٍ.

فـهبةُ الفنّ التي وُهبنها، وأتاحت لهن، كما تتيح لغيرهن من الموهوبين، التعبير بإبداع ومهارة - رسماً وحرْفاً أو أداءً تمثيلياً - عن مشاعرَ وأفكار وقيم ورؤى عامّة وخاصة.. هي مقدرة تُميّز "الإنسان"، تصدر عن وتخاطب أرقى ما في البشر. الفنّ سمة للتحضّر، ونقيض الهمجية التي يجسّدها القتلة.

كما أنهن - كأيّ مبدع - كُنّ "هبة" لمجتمعهن، حُرِم منها. بل يخسر العالم الأوسع، مع هذا العدد الهائل من الشهداء وكذلك الناجين بإعاقات جسدية، ثروة بشرية في شتى المجالات.


والـحِلم - بمعنى الصبر- يبدو ملازماً للعيش في قطاع تحت حصار دائم، وعدوان عسكري مرّة بعد أخرى. وإذا كنتَ فناناً أو أديباً ستواجه تحديات خاصة: كنقص المواد والأدوات التي تحتاجها، وصعوبة السفر للمشاركة في مهرجانات أو فعاليات ثقافية تتطلع إليها، أو قصف مراكز ثقافية.. وللمرأة تحديات إضافية "لو أرادت أن تجعل لها مكاناً حقيقيا في هذا العالم" بتعبير هبة المدهون، من مسئوليات منزلية وتربوية واقتصادية.. وقد لخّصت "حليمة" هذا الوضع الخانق الذي يستنزف من يعيش فيه ببرّايتها الضخمة.

أما الإيناس، فمُفتقَد لدى الفلسطيني، الذي يُترك وحيداً في المواجهة، كما عبّرت هبة أبو ندى في إحدى قصائدها.

حليمة الكحلوت

درست "حليمة" التربية الفنية بجامعة الأقصى وتخرجت عام 2018. وقد استُشهدت خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023 مع عدد كبير من أفراد عائلتها: والدها، وشقيقتها سحر وزوجها محمد حنون وأبناؤهم الخمسة ناهض ووفاء وإيلين وسيلين وأحمد، وزوجة أخيها خلود أبو عوكل وأبناؤها الثلاثة إياس وسيليا وليليا.

كانت حليمة معتادة أن ترسم أفراد عائلتها في لوحاتها، خاصة أبناء أختها وأخيها.

شاركت "حليمة" في عدد من المعارض بغزّة مع فنانين وفنانات من شباب القطاع، منها معرض "مبني للمعزول" للفنون البصرية، حيث ركزت أعمال 12 فناناً وفنانة على العزلة التي يعيش فيها سكان غّزة، خاصة الشباب، جراء الحصار الإسرائيلي القائم منذ أكثر من 15 عاماً، وما ترتب على ذلك من أزمات وانتهاكات تطال حرية التنقل والسفر والتعليم والصحة والتجارة.. وانعاكاساتها على أحلام الشباب. أقيم المعرض في أيلول/ سبتمبر 2022 بمركز رشاد الشوا الثقافي بحي الرمال بمدينة غزة، ضمن حملة أطلقتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر تحت عنوان "شباب غزة: حياة عالقة وفرص متلاشية".

كان عمل "حليمة" في هذا المعرض بعنوان "قيد المتابعة"، وهو عبارة عن 3 مكانس يدوية، ولفائف ورقية كوصفات دوائية أو روشيتات. تشرح حليمة عملها بالقول: "لطالما أثار فضولي الارتباط بين الفن والحياة المنزلية.. لطالما كانت شعيرات المكنسة وسيلة مؤقتة لإزالة الغبار وسرعان ما تهترئ فيتم استبدالها. وهذا الحال مطابق تماماً للوصفة الطبية أو الروشيته" التي ما هي إلا ورقة يتفاءل بها المريض ثم يُصدم بعدم توفر العلاج. وتتساءل حليمة: "هل ستبقى الروشيته في قطاع غزة معلّقة بالمكنسة كما الشعيرات؟ هل سيبقى المريض معلقاً بأمل مؤقت، منتظراً علاجا لا وجود له بسبب الإغلاق؟"

كانت حليمة هي من تعتني بوالدتها وتصحبها في رحلتها العلاجية.

وفي معرض آخر أقيم قبل أشهر، قدّمت "حليمة" عملاً تمثّل في برّاية ذات حجم ضخم، تقول عن هذا العمل: "حاولتُ إنشاء رؤيتي الخاصة للواقع من خلال تحويل الأشياء اليومية إلى منحوتات ضخمة بقياس يوازي طول الإنسان العادي.. لتعمل كنوع من العدسات المكبرة التي تضع المشاهد في واقع جديد"، أشياء مثل مبشرة أو خلاّط أو سكين.. كلها تعطي معنى واحداً هو "الفرم أو التجزئة"، "لتدل على مدى قسوة الحياة الممارسة على الإنسان والتي تشبه فعل هذه الأدوات، مما يضع القضية تحت مجهر مختلف".

كما شاركت في معرض "في الفراغ" عام 2019 الذي ضم أعمالاً نحتية وتركيبية باستخدام أدوات ووسائط غير تقليدية تتوفر في البيئة، فمواد مثل البرونز أو النحاس أو الألومينوم غير متوفرة.. وفي معرض "شظايا المدينة" العام 2022، وهو نتاج ورشة في فنون الحفر والطباعة بمشاركة 28 فناناً وفنانة وكانت له عدة عروض، في مدينة غزة ودير البلح ورفح ومخيّم جباليا.. وتناولت أعمالهم معالم غزة الأثرية والطوابع البريدية التي كانت مستخدَمة في مراحل تاريخية سابقة في فلسطين ومظاهر من الحياة العامة قديماً .. وكانت الورشة بإشراف الفنان "محمد الحاج" الذي كتب في نعيه لحليمة: ".. كانت مشاكسة ومرحة ومحبوبة من المحيط.."، كما كانت تستعد للتدريس في قسم الجرافيك بكلية علوم الحاسوب بجامعة غزة مساق نظرية اللون.


هبة زقّوت

هبة غازي إبراهيم زقوت (38 عاماً). حاصلة على بكالوريوس الفنون من جامعة الأقصى عام 2007، ودبلوم جرافيك من كلية تدريب غزَّة. كانت تعمل معلمة تربية فنية بإحدى المدارس.. وتشكو كفنانة تشكيلية تعيش في غزة من صعوبة توفر الخامات والأدوات التي تحتاجها بسبب الحصار.

على حسابها على إنستجرام تنشر "هبة" وتسوِّق لوحاتها ومن عائدها تعيل أبناءها: لوحات لمدن وأحياء فلسطينية كحي الشيخ جرّاح بالقدس، المدينة التي تعطيها "هبة" اهتماماً خاصاً، لوحة لها مع قطتها.. عدة لوحات ضمن مشروعها "أطفالي في الحجر" الذي عملت عليه خلال جائحة كورونا لتعبّر عن تجربتها مع أولادها في تلك الفترة.

وفي لوحة أخرى لها تبرز امرأة جميلة مرتدية الزي الفلسطيني التقليدي وبجانبها حبّات برتقال متدليّة، وفي الخلفية مناظر من طبيعة فلسطين الخلّابة، وقد كتبت هبة - وهي من مخيم البريج - تعليقاً عليها:

"وُلدتُّ وانا أحمل معي كلمة لاجئة، لم أرَ بلدتي الأصلية أسدود، لكن كانت عمتي عليا تجمعنا وتحكي لنا عن أرض جدي وبيارات البرتقال، عن موسم الحصاد وبيت مليان حب وحياة، كنت أرى الشوق بعيون عمتي وهي تروي لنا حكايات عن أيام البلاد وأمنيات بعودة قريبة."

كانت "هبة" تستعد مع شقيقتها "ميساء"، وهي فنانة تشكيلية أيضاً، لتنظيم معرض لأعمالهما في الولايات المتحدة، وقد سجلت بالفعل لأجل ذلك فيديو قصيراً[1] قبل الحرب بأيام للتعريف بنفسها وموضوعات لوحاتها.. لكنها استشهدت مع اثنين من أبنائها (آدم 10 سنوات ومحمود 6 سنوات) يوم الجمعة 13 تشرين الأول / أكتوبر 2023. كانت قد أخلت بيتها ثم عادت مع ولديها فقُصف البيت واستشُهد ثلاثتهما.


إيناس السقا

وهي فنانة مسرحية أدّت العديد من الأدوار على خشبة المسرح، وفي السينما أيضاً، بالإضافة إلى إسهامها في تقديم ورش مسرحية للأطفال.

من أبرز أعمالها - كما أوردها الكاتب يوسف الشايب رئيس تحرير منصة فلسطين الثقافية في مقال عنها بعد استشهادها[2]-

  • في المسرح:

-"فيلم سينما" 2009 إخراج حسين الأسمر -"كل شي تمام" 2010 للمخرج نفسه ونص عاطف أبو سيف -"نساء غزة وصبر أيوب" (2009) إخراج سعيد البيطار -"كلهم أبنائي" 2011 إخراج ناهض حنونة عن نص إرثر ميللر وإعداد خالد جمعة -"في شي عم يصير" -"الدب"

  • في السينما:

- فيلم "عصفور الوطن" 2010 إخراج مصطفى النبيه - فيلم "سارة" 2014 إخراج خليل المزين، عن جرائم الشرف - وفيلم "ميلاد" للمخرجة أماني أبو رمضان الذي أنتج بعد عدوان 2008 – 2009 على غزة، أدّت فيه دور امرأة تأتيها آلام المخاض أثناء الحرب، لتضع مولودها في الوقت نفسه الذي يتعرض فيه أطفالها للموت. وقد مرّت "إيناس" بالفعل بهذه التجربة حيث كانت حاملاً ووضعت مولوداً خلال تلك الفترة..

في غزة حاليّاً، ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، حوالي 50 ألف امرأة حامل، بينهن 5500 امرأة على وشك الولادة. منهن من قُتلن مع أجنّتهن، ومن نجون لا يجدن الرعاية الصحية الضرورية لهن أو لأطفالهن المنتَظرين مع انهيار واقتحام المستشفيات في غزة، ويواجهن الجوع والعطش، وضغوطاً نفسية وجسدية هائلة جراء القصف والتهجير، وخطر العدوى في مراكز الإيواء المكتظة ودروات المياه حيث نقص المياه ومواد النظافة، وآلام الظهر من النوم على الأرض..


استشهدت إيناس يوم 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.. وكانت قد نزحت من منزلها - تحت تهديد القصف - مع أبنائها إلى المركز الثقافي الأرثوذكسي الذي تحول مع غيره إلى مركز إيواء للنازحين، ولكن المركز بدوره تلقّى تهديداً بالقصف - وقد قُصف بالفعل لاحقاً - لتضطر للنزوح مرة أخرى إلى منزل عائلة الوحيدي التي استضافتهم، لكن المنزل الواقع في حارة الريس بمنطقة الصناعة غرب مدينة غزة ما لبث أن قُصف بعد فترة وجيزة من وصول إيناس وأبنائها. استخرج الدفاع المدني [3] من تحت الركام جثامين إيناس وابنتيها لين وسارة، وأصيبت ابنتاها الأخريان، فرح، بكسور متعددة في الحوض والساقين وريتا، وأُدخلتا العناية المركزة.. بينما ابنها "إبراهيم" لا يزال تحت الأنقاض لاستحالة استخراج جثمانه وإزاحة قطعة الخراسانة الضخمة المتهدّمة عليه بما لا يُجدي معه القوة البدنية لأفراد الدفاع المدني مع عدم توافرالمعدات[4].

في فيلم "عصفور الوطن"[5] أدّت إيناس دور "أم خِضر" التي قُتلت برصاص قناص إسرائيلي كان قد تَرَاهَن مع زميله على نجاحه في القنص مقابل سيجارة، وأخذا يضحكان. وفي المشهد الافتتاحي لمسرحية "نساء غزة وصبر أيوب"[6]، التي أدت فيها إيناس أكثر من شخصية، دخلت تنادي على بناتها وتصرح بشكل هستيري: "يا ناس.. يا عالم.. ولادي تحت الحيطان.. حد يساعدني.. حد يسمعني يا عالم.. حد يوقف معي.."

هبة المدهون

درست "هبة" الهندسة المعمارية بالجامعة الإسلامية بغزة وتخرجت عام 2003، وعملت في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية في غزة بقسم المهن الهندسية حيث أسست برنامج الحرف اليدوية، وكانت - كما تحكي زميلتها إيمان إسماعيل - موهوبة بالأشغال اليدوية تتقن أعمال الكروشيه والتطريز والفنون الورقية وأعمال النسيج. على حسابها على إنستجرام كانت تنشر بعض هذه الأعمال. "كانت هادئة جداً دائمة الابتسام مثقفة وقارئة.. ومسالمة جداً".. وهذا بالإضافة إلى نشاطها الأدبي، فقد صدرت لها رواية "فإذا هم خامِدون" في كانون الاول/ ديسمبر 2019 وكانت هي الناشرة[7]، وقد صدّرتها بإهداء إلى أخيها "ضياء" الذي استُشهد قبل سنوات، كما نشرت ديوان شعر بعنوان "كوني عنقاء"، وضِمْنه هذه الأبيات التي كانت قد نشرتها على صفحتها على فيسبوك:

كما النجمات تحترق المعاني

أثبت ما استطعتُ بها جَناني

حروفي في الفضاء لها بريقٌ

كنجمِ سهيل والشعرى اليماني

كريحٍ تلتقيها في البراري

فتنسُم في هواها أقحواني

لها لحنٌ يثبّتُ ردم عمري

كصوت الصول في وتر الكمان

ولي قلبٌ كسيرٌ ذاب شوقاً

تخبّرنا القوافي ما يعاني

يئن صبابةً فتجيب روحي

على الشكوى ببحرٍ واتِّزان

ويجرحني الزمان ولا طبيبَ

سوى الإبحار جبرًا في المعاني

أنا العنقاء أولد كل حينٍ

وأجنحتي يرقّعها بياني

ويقضي الدهرُ في ناري ويخبو

فينبت من رماديَ سندياني

ويصفو القلبُ والأرزاء حبلى

فلا كَدَري يدوم ولا أساني

تزول الأرض من حولي وأبقى

أغني للدقائق والثواني

وتفنى كل نائحةٍ لحزنٍ

وأرفلُ في الخلود مدى الزمان


وفي نصّ كانت قد نشرته سابقاً على صفحتها أيضاً، كتبت هبة عن الموت تحت القصف، والنزوح من البيوت، والعودة إلى الديار، وعبور الحدود.. كتبته بطبيعة الحال أثناء أو بعد عدوان سابق على غزة عاشته، وربما كان ضمن عمل آخر بانتظار الاكتمال أو النشر:

"هل الموت مؤلم؟ أظنّه كذلك.. كان موت أمّي سريعاً فلم ألحظ ألماً على وجهها بعدما توقف قلبُها المنهك فجأة عن العمل، لكنّني رأيت الألم في وجه الحاج عبد الله عندما مات، ذلك الذي أسقطت الطائرات منزله المكون من ثلاثة طوابق على رؤوس عائلته، كان واقفاً عند مدخل بيته ينتظر خروجهم لإخلاء المنزل بسبب الغارات المكثفة للطيران على المنطقة، فجأة، رأيت جسده النحيل يطير حتى وصل إلى مدخل بيتنا واصطدم به بعنف، وجهه كان مصدوماً، وكان يتألم، خيط من الدماء يسيل من جانب رأسه وشفتاه ترتجفان، ثم إنه مات وما زالت الصدمة تحتل عينيه. تركنا كلنا حاراتنا، لم نغلق البيوت لأننا لا نعلم هل سنحيا لندخلها ثانية أم لا، كنا نركض من الموت شرقاً ونحن نعلم أنه يحيط بنا من كل جانب، لكن الموت شرقاً كان أكثر منطقية بالنسبة لنا، حدسٌ فطري جعلنا جميعا نسلك نهج الطيور المهاجرة في العودة إلى الديار، نمضي بلا خطة تبتدعها عقولنا، مجرد حدس، وفطرة. "أتصدق يا ولدي أن حالنا يشبه حال أهلنا عندما تركوا بيوتهم قبل سبعين عاماً.. هل تظن أننا سندخل البلاد؟"، " ربما سنفعل يا جدة، وربما نموت جميعا هنا. لا أحد يعلم"، مطّت شفتيها وعدّلت من منديلها الأبيض لتغطي به فمها وهي تقول.. " لقد عشتُ بما يكفي على أية حال". أشاحت بوجهها تنظر للحدود قبل أن تقول: "إلى متى سننتظر تلك الإشارة التي قلت عنها؟". لم أجب، لأنني لا أملك الجواب.. الرمال الصفراء ما زالت تنتظر، وهناك خلف الأسلاك يختبئ الجنود بانتظار أول بادرة عنف نبديها نحوهم، وخلفنا تنهار مباني المدينة شيئاً فشيئاً مع كل غارة، فتمحو من الوجود مظهر المدينة الذي حفظناه في الذاكرة، هل سندخل الحدود؟ لا أعرف، أنا أنتظر كالآخرين.. لكن السؤال الذي يلح عليّ، هل سيكون الموت مؤلماً؟."''

استُشهدت هبة مع اثنين من أبنائها هما حميد وعبد الرحمن. ومعهما ابن عمهما يوسف، ذو الشعر "الكيرلي".

هبة أبو ندى

هبة مواليد مكة المكرمة عام 1991، وتعود أصولها إلى قرية "بيت جرجا" الواقعة شمال شرق مدينة غزّة التي دمّرتها القوات الصهيونية وطردت أهلها - ضمن غيرها من القرى الفلسطينية - عام 1948. كتبت الشعر والرواية والقصة القصيرة وفازت في هذه الفنون بجوائز على مستوى غزة وفلسطين والعالم العربي.

اختارت أن تدرس العلوم في الجامعة تخصص الكيمياء الحيوية، وأكملت دراساتها العليا في التخصص ذاته، بينما أرادت أن يكون الأدب موهبة وهواية تمارسها بحرية، شعراً ونثراً، للتعبير عن الذات والأشياء، لا أن يتحول إلى عبء دراسي.

قالت عن روايتها "الأكسجين ليس للموتى": "هي إنسانية من الدرجة الأولى، عشت مع أبطالها ثلاث سنوات بين الكتابة والقراءة والتعديل على العنوان والنص الأصلي. وهي انعكاس للإنسان العربي في ظل الثورات العربية، وأتمنى أن يجد كل قارئ زاويته الخاصة في سطور الرواية". وإنها تنصح نفسها وكل كاتب بأن "اكتبوا بحبّ وأمل".. "وأمنياتي لكم بكل دهشة وفرح"[8].

أما رحلتها مع الشعر[9] فقد بدأتها بالشعر الوطني، وإن كانت تميل وتجد نفسها أكثر في الشعر الإنساني الذي "يلمس جميع الناس". كما انخرطت لفترة في الشعر الغنائي الذي هو - كما تقول - جزء من تراث الإنسان الفلسطيني الذي ينشأ ويتربى على الأغاني الوطنية والثورية في البيت والحارة والشارع، فكتبت الأناشيد الوطنية والأوبريتات في الجامعة وأناشيد للأطفال في الروضات والمدارس وعملت في فرق إنشادية للأفراح والأعراس، لكنها بعد مدة قررت التوقف لأنها شعرت أنها تكرر نفسها ولا تضيف جديداً.

بدايتها مع الشعر الوطني تراها أمراً طبيعياً بالنسبة لها كفلسطينية، فـ"الإنسان الفلسطيني يولد ثائراً مهما كانت موهبته أو طريقته في الحياة وفي التعبير.. نحن بطبيعتنا نولد ثوار لأننا محاطون بالعداء من كل جانب"، ولأن الكاتب هو صوت الناس فعليه ألا يخذلهم بالصمت في الأحداث الكبرى ليعبر عنهم ويضمد جراحهم أو ما أسمته "طبطبة لغوية" على الناس. ولأنه كفلسطيني يحمل على ظهره قضية وطنه "إن لم نحملها نحن فمن سيحملها؟" وهو "محاط دائماً بكل أفكار الكتابة" عن القضية: سقوط شهداء، جرحى، حصار مدن..

من هذه "الطبطبة اللغوية" قصيدتها:

(1)

أُعيذُكِ

في الفروضِ

والاستخارة

وأَرقي كلَّ مأذنة

وحارةْ

.

من الصاروخِ لحظَةَ

كانَ أمراً

من الجيْنِرالِ

حتَّى صارَ غارةْ

.

أعيذكِ، والصغار

قبيلَ يهوي

تغيرُ بابتسامتها

مسارَه

.

(2)

أعيذكُ، والصغار هنا

نيامٌ

كما نامَ الفراخُ بحضنِ

عشِّ

.

ولا يمشونَ للأحلامِ ليلاً

لأنَّ الموتَ

نحوَ البيتِ

يمشي

.

ودمعُ الأمهات غدا يمامًا

ليتبعهم بهِ

في كلِّ نعشِ

.

(3)

أعيذُ أبَ الصغارِ

وفي يديهِ

يشدُّ البرجَ حتَّى لا يميلا

.

يقولُ: للحظِة الموتِ

ارحميني

"فماذا لو تأخرتِ قليلا؟"

.

يقولُ: "لأجلهم أحببتُ

عمري،

هَبيهِم مثلَهم

موتاً جميلا"

.

(4)

أعيذكِ أن تصابي

أو تموتي

بعزِّ حصارنا

وببطنِ حوتِ

.

شوارعنا تسبِّحُ كلَّ

قصفٍ

وتدعو للمساجدِ

والبيوت

.

فحينَ القصفُ يبدأُ

من شمالٍ

ستبدأ من جنوبٍ

بالقنوتِ

.

(5)

أعيذكِ أن تصابي

أو تعاني

فقد حوطتُ بالسبعِ

المثاني

.

من الفسفورِ طعمَ البرتقالِ

وألوانَ السحابِ

من الدخانِ

.

أعيذكِ

إنَّ من عشِقا وماتا

سينقشعُ الغبارُ

ويضحكانِ.


ومن شعرها الوطني هذه الأبيات التي عكست فيها كما قالت "شعور الفلسطيني بالوحدة والعزلة لأنه يواجه ويقاوم وحده، يواجه آلة عسكرية ضخمة، يواجه أرتال من المكائد التي تُنصَب له في العالم لكنه وحده.. يواجه وحده".


يا وحدَنا

رَبِحَ الجميعُ حروبَهم وتُركتَ أنتَ أمامَ وحدِك عارياً

لا شعرَ يا درويشُ سوف يُعيدُ ما خَسِرَ الوحيدُ وما فَقَد

يا وحدَنا

هذا زمانٌ جاهليٌّ آخرٌ

لـُعن الذي في الحربِ فرّقَنا به

وعلى جنازتِك اتّحد

يا وحدَنا

الأرضُ سوقٌ حرّةٌ

وبلادُكَ الكبرى مَزَاد ٌمعتمَد

يا وحدَنا

هذا زمانٌ جاهليٌّ

لن يساندَنا أحد

يا وحدَنا

فامسحْ قصائدَكَ القديمةَ والجديدةَ والبُكا

وشدّي حيلك يا بلد


شاركت هبة في بعض المسابقات الشعرية وفازت في عدد منها، للاستفادة مما تمنحه هذه المسابقات من صيت وتألق لا بأس - كما ترى - أن يحب الشاعر أن يحققهما، دون أن يجعلها هدفاً وأولوية "نحن نكتب لشيء أكبر من المسابقة وأعمق من فكرة الجائزة ومن فكرة اللقب.. أرغب بالوصول إلى الشارع وإلى الناس.." أن تؤثر لا أن تكون حاملة لقب.

من شعرها الإنساني:

بالأمسِ قالت نجمةٌ لضياء قلبي

يا ضِيَا

لسنا مجردَ عابرين

لا تنطفيءْ

ما زال يمشي تحتَ هذا الضوْءِ

بعضُ الشاردين

الحبُّ أولُ ما خُلِقتَ به

فلا تحمل سواهُ

هديةً للخائفين

كلُّ الحدائقِ في أسامِينا ابتدتْ

يوماً

بما تركتْه من زمنٍ

قلوبُ العاشقين

مُذ شبّت اللغةُ القديمةُ علّمتْ أمثالَنا أنّا نداوي بالحنين الآخرين

أنّا لضيقِ رئاتهم

عِطرٌ سماويّ

وتنهيدٌ

وبعضُ الأكسجين

أنّا نمرّ على الجراحِ برقّةٍ

شاشاً من المعنى

وحبّةَ أسبرين

لو - يا ضيا - ضاقت مجرّاتُ العوالمِ كلِّها

فقل ادخلوا قلبي

جميعاً

آمنين


عندما سُئلت عن طموحها، قالت هبة إنها قبل خمس أو ست سنوات كانت لتجيب عن هذا السؤال بـ"قائمة طويلة وعريضة وممتدة من الطموحات" على رأسها السفر والمشاركة في برامج دولية والفوز في مسابقات دولية، نشر روايتين أو ثلاثة.. لكن يبدو أن بعض الخيبات التي عاشتها وكونها - كأديبة في غزة - لا تستطيع السفر وغير ذلك من صعوبات الحياة، أصابها ببعض الإنهاك والتعب فصارت تبتغي الهدوء والسلام وتجاوز "الأيام الصعبة"، دون تخلٍّ عن الطموحات: "ما زلت أريد أن أسافر، أن أنشر عمل يصل إلى الفوز بجائزة عالمية.. دولية، نعم أريد أن أفعل ذلك، أريد أن أشارك في حدَث عالمي، أريد أن أصل بصوت القضية الفلسطينية لشيء عظيم، أريد أن أشارك بعمل إنساني ليس بالضرورة له علاقة بالقضية الفلسطينية.. أريد أن أعبّر عن الذات الإنسانية، لكن أريد أن أفعل ذلك وأنا أشعر بالسلام لأننا نفتقد هذا الشعور حالياً، أريد كل هذه الأشياء.. أريد أن أفعلها.. سأفعلها بإذن الله تعالى.. مستمرة فيها، لكن ليس بنفس النزعة الأولى القديمة التي تكون في البدايات".

من شعرها الإنساني عن الحب:

إذا أحببتَ شاعرةً فلا تُصبح لها نِدّا

وكُن كالشعرِ ممتلئاً بكفّيْها وممتدّا

وحسّاساً وأنت تطيرُ في أبياتِها فردا

ولا تلمسْ قوافيها ولا معنىً ولا ضدّا

وسافر في شعائرِها ولا تترك لها وِرْدا

وكُن ناياً دمشقياً تَجَاوَزَ لطفُه الحَدّا

ودمْعاً دافئاً في الخَدّ لكنْ يحرُسُ الخَدّا


وكان من أواخر ما كتبته هبة على فيسبوك قبل استشهادها - وبعد أن وجدتْ الموت يحصد قائمة أصدقائها بدرجة يصعب عليها استيعابها أو فعل شيء إزاءها - "إذا متنا اعلموا أننا راضون وثابتون وبلغوا عنا أننا أصحاب حق".

هوامش

  1. https://www.facebook.com/maysaa1010/videos/338735372043666
  2. "الممثلة إيناس السقا.. مسيرة مسرحية أسدلت ستارَتَها حربُ الإبادة" المنشور على موقع الأيام. https://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=1653e586y374596998Y1653e586
  3. https://shorturl.at/cvMUY
  4. https://shorturl.at/cvMUY
  5. رابط الفيلم على يوتيوب https://www.youtube.com/watch?v=zuso3V1rEYk
  6. رابط المسرحية على يوتيوب https://www.youtube.com/watch?v=0lCj7MLNlW8&t=481s
  7. ووضعت نسخة إلكترونية لها على صفحتها على إنستجرام https://drive.google.com/file/d/1ZlTGA_lJs9LsszxBsGauk1sZJGyid3Dj/view
  8. https://shorturl.at/dhvA1
  9. من حوار معها على قناة "الكوفية" وألقت فيه نصوصها https://shorturl.at/sDNZ0