وثيقة:قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | نصر حامد أبو زيد |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مدى مصر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://mada34.appspot.com/www.madamasr.com/ar/2023/03/25/feature/اقتصاد/قراءة-التراث-في-كتابات-أحمد-صادق-سعد/
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر
مقدمة تحريرية
قدّم نصر حامد أبو زيد هذا النص في بداية مايو عام 1990 في ندوة مُهداة لإحياء ذكرى المفكر الماركسي أحمد صادق سعد (1919-1988) ومناقشة مساهماته لليسار المصري منذ انضمامه للحركة الشيوعية في أربعينيات القرن الماضي. أٌعيد نشر المقال لاحقًا في مطبوعتين منفصلتين: الأولى، كجزء من منشورات الندوة في 1992، والثانية حين طُبع في المجلد 9، عدد 87 من مجلة «أدب ونقد»، في نفس العام.
النسختان متطابقتان، باستثناء إضافة طفيفة في عنوان المقال الذي نُشر في «أدب ونقد»، للتأكيد على التأثير المتبادل بين قراءة التراث وتراث القراءة.. هكذا تغير عنوان المقال المنشور عن الندوة «قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد» إلى «قراءة التراث وتراث القراءة (في كتابات أحمد صادق سعد)».
في إعادة نشرنا لهذا المقال هنا، في موقع ثالث، مع ترجمته للإنجليزية، نحيي بدورنا ذكرى الرحيل الأولى لصديقتنا وزميلتنا ورفيقتنا وعد أحمد، باستكمال المحادثات والصداقة الناشئة التي بدأتها مع نصر ومع هذا النص تحديدًا. وتحقيقًا لهذه الغاية، قمنا أيضًا بإدراج الملاحظات التي كتبتها وعد في هوامش نسختها من كتاب «إشكاليات التكوين الاجتماعي والفكريات الشعبية في مصر: بحوث ومناقشات الندوة المهداة إلى أحمد صادق سعد 3-5 مايو 1990»، كما حفظنا المقاطع التي قامت بتحديدها. تظهر ملاحظات وعد مع علامة النجمة (*) في هوامش النص التالي، أما الملاحظات التحريرية يشار إليها مع شرطة مائلة (|).
النص
من الضروري في البداية التفرقة بين نهجين في التعامل مع التراث| [1]، النهج التقليدى ويتمثل في «الاستناد» إلى التراث والاعتماد عليه بوصفه إطارًا مرجعيًا شاملًا. أما النهج الثاني فهو نهج القراءة القصدية الواعية بذاتها وبكونها قراءة محكومة بأطر معرفية محددة، وليست «القراءة» بألف ولام العهد أو ألف ولام الجنس. ومن الطبيعي أن يكون لكل نهج من النهجين مفهوم للتراث مغاير لمفهوم النهج الآخر. ولا مجال هنا للإطالة في مفهوم النهج التقليدي للتراث، وتكفى الإشارة الموجزة إلى أنه مفهوم يحصره في «التراث الديني» من جهة، ويختصر التراث الديني المتنوع والمتعدد الاتجاهات في اتجاه واحد من جهة أخرى. وعلى عكس القراءة القصدية الواعية التي يقدمها النهج الثاني يكتفي النهج التقليدى بترديد الأفكار والمفاهيم التراثية بوصفها حقائق أزلية ثابتة خالدة. ويبدو الاستناد إلى التراث -بالمعنى الضيق المطروح- واضحًا في استخدام اللغة القديمة والتمسك بالمفردات التراثية للتعبير عن المفاهيم العصرية والحقائق الحديثة. فتشيع في الكتابات الاقتصادية التي تتبنى مقولة «الاقتصاد الإسلامي» مفردات مثل: الإعمار والخلافة والربا والركاز والزكاة والصدقة والبركة.. إلخ. ولعله من المفيد هنا أن نورد أساسيات النظام الاقتصادي الإسلامي كما يطرحها البعض، لنتبين طبيعة الاستناد إلى التراث من خلال الاستناد إلى المفاهيم التراثية، ومن خلال توظيف مفردات اللغة القديمة: ويقوم هذا النظام على عدد من القواعد العامة تشمل ما يلي:
- أن الحاكمية والعبودية لله وحده سبحانه وتعالى.
- أن المال مال الله، ونحن مستخلفون فيه.
- أن شقي الشريعة الإسلامية يرتبطان ارتباطًا عضويًا وموضوعيًا ببعضهما البعض (العبادات والمعاملات).
- أن معيار الحكم على الفرة وتصنيفه وفقًا لمركزه الاجتماعي هو «التقوى».
- أن مهمة الإنسان على ظهر الأرض هي عبادة الخالق تبارك وتعالى بالمعنى الواسع، والذي يشمل المعاملات أيضًا.
- أن غاية الوجود على ظهر الأرض هي «أعمارها»، ويرتبط بذلك تثمير المال.
- أن حركة الحياة الاقتصادية الإسلامية تستند أساسًا، بجانب الأخذ بالأسباب، على البركة، التي تعد بدورها نتيجة طبيعية لإقامة شرع الله.
- أن المسئولية محددة في إطار هذا النظام تحديدًا واضحًا. (۱)
وفى نظام اقتصادي يقوم على «البركة» قاعدة من قواعده الأصلية لا مجال للحديث عن «قراءة» للتراث بأي معنى من معاني القراءة، ولو كانت القراءة التلوينية المغرضة. إنه الاستناد الذي يتجاهل حقائق العصر كما يتجاهل حقائق التراث، ويتحول الخطاب الاقتصادي إلى صدى يردد مقولات الخطاب الديني الإرشادية الوعظية. وحين يتحول الخطاب الاقتصادي إلى خطاب وعظي أخلاقي يمكن له ببساطة تمرير نظام اقتصادي استغلالي قاهر لا يحمي الفقراء فيه سوى أخلاق الأغنياء وضمائرهم. ويشحذ ذلك الخطاب كل أسلحته للدفاع عن الملكية الخاصة وترك الأسعار لآليات السوق وقانون العرض والطلب. ولا نعدم من ينادي بتحريم التسعير في أي مجال من مجالات التعامل، وترك إيجار العقارات والأرض الزراعية حرة مفتوحة لآليات الاقتصاد الحر، إنها الرأسمالية الاستغلالية الغليظة -والتي اختفت من معاقلها الأصلية الحساب التخطيط والتوجيه والتدخل المباشر أحيانًا- تمرر باسم الإسلام واستنادًا الى تراثه.
(1)
كن القراءة الواعية للتراث تدرك ذاتها بوصفها قراءة، وبذلك تحمي نفسها من الوقوع في وهدة اللغة القديمة على أي مستوى من المستويات. إنها تدرك التراث بوصفه تعبيرًا عن حقائق تاريخية، واستجابة لظروف اجتماعية موضوعية لم تعد قائمة. وإذا كانت بعض المفاهيم والقيم التراثية مازالت تتمتع ببعض مستويات الحضور في ثقافة الجماعة وفى أنماط سلوكها وممارساتها، فذلك لأن الواقع الاجتماعي الاقتصادي الراهن يمثل امتدادًا للواقع الذي أنتج التراث، إنه امتداد لا يماثل الماضي ولا يكرره، ولكنه ليس أيضًا منفصلًا عنه انفصالًا تامًا. إن حضور بعض مفاهيم التراث وبعض قيمه يمثل الاستمرارية، كما يمثل غياب البعض الآخر، طبيعة الانفصال بين الحاضر والماضي. وهكذا تتحدد علاقة الحاضر بالماضي من خلال جدلية الحضور والغياب، ويكون التراث الذي يستحضره الواقع ويستدعيه جزءًا عضويًا من نسيج ثقافته. وفهم التراث بوصفه تعبيرًا عن حقائق تاريخية، يفضي بالضرورة إلى إدراك تعدديته، ونفى أنه كل متجانس، ذلك أن الواقع التاريخي الذي أنتجه كان واقعًا زاخرًا بقوى اجتماعية مختلفة، بل ومتناقضة، وبناءً على ذلك تختلف طبيعة التراث المستحضر في الواقع الاجتماعي الراهن باختلاف القوى الاجتماعية المتفاعلة والمتصارعة في هذا الواقع. والأهم من ذلك والأخطر أن القراءة الواعية للتراث لا تقف عند حدود التراث الديني الإسلامي، بل تدرك التراث في عمقه التاريخي، وفي تعدد مصادره وروافده، كما تدركه في *تعدديته واستمراريته.
إلى هذا النمط من القراءة الواعية تنتمي قراءة أحمد صادق سعد التي نحن بصدد الكشف عن بعض جوانبها في هذه الدراسة. وثمة احتراز قبل البدء في تحليل تلك القراءة: إن القراءة الواعية بذاتها بوصفها قراءة لا تتحرر تحررًا تامًا من وهدة «الاستناد» الذرائعي النفعي إلى التراث. والاستناد يظل استنادًا حتى في حالة إحياء الاتجاهات ذات الطابع التقدمي في التراث. والفارق بين الاستناد في حالة النهج السلفي التقليدي وبينه في نهج القراءة الواعية هو إدراك الأخير لاستناده واعترافه به، وذلك تأسيسًا على وعيه بتعددية التراث. أما الاستناد في الحالة الأولى فهو استناد مخادع لا أخلاقى من الوجهة العلمية المعرفية، إنه استناد أيديولوجي مضمر، في حين أنه في الأخيرة معلن لا يخفى أيديولوجيته. لكن قراءة أحمد صادق سعد تتحرر إلى حد كبير ، وإن لم يكن كاملًا، من آفة الاستناد الأيديولوجي، ويدعونا لتجاوز الموقف الانتفاعى وإنتاج وعي علمي بالتراث:
وأما المدارس الديمقراطية والتقدمية -بما فيها الجزء الأكبر من الحركة الماركسية- في البلاد العربية، فيمكن أن يقال عن أغلبها أنها تقف من الفكر الإسلامى موقفًا انتفاعيًا مباشرًا على أسس سياسية، إذ تنتقى منه ما تعتبره «إيجابيًا»، وتترك ما تسميها «الجوانب السلبية» جانبًا، مجزئة هذا الفكر تجزئة مخلة لاتتفق مع واقع أمره. (۲)
إذن، فمن الواضح أن الاتجاهات المتباينة لا تختلف فقط في معرفتها للتراث. وإنما تختلف أيضًا في وعيها إياه، ما دامت تنتقى منه ما يصلح حجة وسندًا لموقفها، تاركة منه ما لا يتفق مع أغراضها. إنها في حقيقة الأمر تقوم بنقد التراث وإن لم تقل هذا صراحة. غير أن إخضاع التراث للنقد وفرز ماكان منه مرتبطًا بالظروف الماضية عما يمكن أن يرتبط بالحاضر أمر ضروري أن يتم في وضوح وعلانية حتى يمكن إنتاج معرفة معينة للتراث تستطيع أن تعطي الشعب مفاهيم تتفق مع القضايا العصرية ولها طبيعة تساعده على تعبئة قواه لرد التحدي ، أي أن يلعب دوره الكبير في التنمية|[2]. (٣)
إن المدخل الذي حدد لأحمد صادق سعد إطار قراءته الواعية للتراث مدخل ذو طبيعة مزدوجة. وإذا كان الوعي بأهمية التراث ودوره في تشكيل الحاضر ، ودور الحاضر في إعادة صياغة التراث أمرًا يعود إلى خطاب النهضة التنويرى، فإن أحداث الثورة الإسلامية في إيران، ونجاح الفقهاء في حشد الجماهير للاستيلاء على السلطة وطرد الشاه، قد جذبا مسألة التراث إلى مركز الصدارة في اهتمامات المثقف المسلم عمومًا والعربي على وجه الخصوص، وقد كان الحدث اغتيال رئيس الجمهورية المصرية السابق على أيدي بعض العناصر من تنظيم الجهاد الإسلامي دور بارز في جعل التراث الإسلامي الشاغل الأول للمثقف المصري على وجه الخصوص. ومدخل أحمد صادق سعد لا يكاد ينفصل -في أحد وجهيه- عن ذلك الشاغل العام بشأن التراث، وإن كان في وجهه الآخر يمثل خصوصية الشاغل الاقتصادي العام، ولقضية التنمية خصوصًا، لدى أحمد صادق نفسه.
ينطلق أحمد صادق سعد من مقولة شائعة عند عديد من المفكرين فحواها أن الثقافة العربية عمومًا، والمصرية على وجه الخصوص، تعاني من ازدواجية تقسمها إلى ثقافتين، أو بالأحرى إلى تيارين: تيار شرقي هو: «الأوسع انتشارًا بين أفراد الطبقات الشعبية في غالبية أقطارنا، وذو علاقة منصهرة مع الإسلام دينًا وفكرًا. غير أننا نستطيع أن نرى العديد من سماته وجذوره عريقة في العهود الحضارية السابقة للفتح العربي بالمنطقة، مما يثبت عدم انقطاع الاستمرارية الفكرية التاريخية بها كما يؤكد ذلك أيضًا الاختلاف المذهبي القائم إلي اليوم بين المسيحية الشرقية والغربية، وغيره من الأدلة». (٤) والتيار الثاني هو التيار الغربي العلماني وهو التيار الأكثر انتشارًا بين فئات المثقفين: «فالعلمانية هي الثقافة الأساسية للسلطة وأجهزتها القاهرة والتربوية والإعلامية (رغم الألوان الشرقية والإسلامية التي تحاول أن تصبغ بها بعض تصرفاتها أمام الجمهور)». (٥) وليس الانشطار الثقافي وقفًا على الثنائية الطبقية التي تقسم المجتمع إلى شعب وسلطة: «ففى المجتمع المصري يوجد انشطار ثقافي رأسي إلى جانب التقسيم الطبقي، ويوجد نفس الانشطار الرأسي في كتلة المثقفين المصريين، بين الذين تبنوا بدرجات الثقافة الغربية والذين احتفظوا بالثقافة الشرقية أو عادوا إليها، وإن وجدت مجموعات من المثقفين الذين يمزجون بين الاثنتين. ومن جهة أخرى، فالتقاليد الشرقية والمعتقدات الإسلامية مازالت قوية راسخة الجذور في الغالبية الساحقة من المثقفين، بمن فيهم الذين «تغربوا» وتعلمنوا. (٦)
وبصرف النظر عن اختلافنا -أو اتفاقنا- مع التوصيف السابق لوضعية الثقافة العربية المصرية، وانشطارها إلى تيار غربي علماني وآخر شرقي إسلامي، فإنه في ذاته يطرح الإشكال، ويومئ إلى الحل. ولا حل لحالة الانشطار تلك إلا بالتوحيد بين التيارين. وإذا كان الاحتلال والسيطرة الأجنبية قد أوجدا: «تضادًا بين الثقافتين هو محور قضية التراث والتحديث كما تثار عادة لدينا»، (٧) فإن: «المشكلة الرئيسية هنا تكمن في التوحيد بين التيارين الفكريين العربيين، الشرقى والغربى. ورغم ما يبدو هنا من الصعوبة، فلا نعتقد أن الأمر مستحيل، بل هناك بشائر ظهرت له هنا وهناك في جهود يبذلها كل من التيارين لفهم الآخر والتحاور معه. وإذ يريد المثقف العربي أن يظل على دوره الطليعي التحرري فيقوم به من خلال استكشافه الطريق العربي الخاص نحو التقدم، فلا مندوحة من أن يعمل على كسر الحاجز القائم بين التيارين، متخلصًا من القوالب الحلقية المسبقة». (۸)
وهكذا يتبين لنا أن المدخل الرئيسي للانشغال بالتراث عند أحمد صادق سعد، وكثيرين غيره، هو مدخل البحث عن الهوية، والتماس الطريق العربي الخاص للتقدم والتنمية. لكن خطأ هذا المدخل يتمثل في خطأ الافتراضات الأساسية التي ينبني عليها. ومن الغريب أن تلك الافتراضات الخاطئة هي ذاتها الافتراضات التي يبني عليها مدخل من يتبنون شعار: «الإسلام هو الحل». الافتراض الأساسي الخاطيء هو توهم التعارض بين «العلمانية» وبين الثقافة الشرقية عند صادق سعد، أو بينها وبين «الإسلام» عند السلفيين. والافتراض الثاني الخاطئ، وهو نتيجة للافتراض الأول على كل حال، ربط العلمانية ربطًا ميكانيكيًا بالثقافة الغربية، الأمر الذى يعنى بداهة أن الثقافة الشرقية ثقافة دينية روحية بالضرورة. وهذا الافتراض الثاني لا يصح ولا يستقيم إلا مع التسليم بصحة الاختزال الذي يقدمه الفكر الديني السلفي للعلمانية، وذلك حين يحصرها في مقولة: «فصل الدين عن الدولة» لكن أخطر الفروض وأكثرها شيوعًا، وخطأ في نفس الوقت، القول بأن العلمانية قد تأسست في واقعنا وثقافتنا المصرية أو العربية بحيث صارت تمثل تيارًا يماثل في قوته وانتشاره التيار السلفي التقليدي. والأخطر من ذلك التوهم الذي يزعم -كما سبقت الإشارة- أن السلطة تتبنى العلمانية وإن تزيت بأردية دينية من أجل إقناع الجماهير بتوجهاتها. والحقيقة أن هذا التوصيف للسلطة السياسية -في مصر خاصة- توصيف الخطاب الديني السلفي توطئة لتكفيرها، فهو توصيف أيديولوجي بالدرجة الأولى.
وفي تقديرنا أن الذي جمع بين اليسار واليمين في المدخل السابق، وما يتأسس عليه من افتراضات، وجعل أولهما يحطب في حبل الثاني، ما أحدثته الثورة الإيرانية من دهشة لم يفق من آثارها كثير من المثقفين بعد. بدا للكثيرين آنذاك أن الإسلام يمكن أن يصبح أيديولوجية ثورية قادرة على تحريك الجماهير لإزالة نظام فاسد، فهم على أنه نظام علماني. من هنا وهم التعارض بين الإسلام والعلمانية، وبداية شيوع خطاب البحث عن الهوية، فوجدها السلفيون في «الإسلام» وحده، ووجدتها بعض فصائل اليسار في الجمع بين الطرفين. ويتضح صحة ما نذهب إليه هنا من أقوال صادق سعد نفسه، حيث يتصور نظام الشاه نموذجًا للتحديث الغربي في الاقتصاد والاجتماع والسياسة ، ويتصور الثورة الدينية ثورة شعبية حقيقية. وينتهى من هذا إلى أن التقدم لا يلازم الحداثة بالضرورة كما أن التخلف لا يقترن بالثقافة التقليدية دائمًا:
ولا يتضمن ما نقول أن الجانب الثقافي المحدث يقف دائمًا مع التنمية والتقدم، وأن الجانب الثقافي «التقليدي» بشكل الترسانة الفكرية للرجعية والاستعمار الجديد بصورة مستمرة. بل هناك من الأحداث والظواهر ما يبين أن العكس قد وقع وما زال ممكنًا أن يقع. ففى العديد من البلاد المستعمرة كانت الثقافة الحديثة التي يحملها التعليم الأوربي للأهالي عاملًا لمسح هويتهم المتمايزة، في حين كانت المدارس التقليدية وتلك التي يتم فيها حفظ الكتب المقدسة بؤرًا للتحصين المعنوي ضد الغزو الثقافي (وتشكل بلدان شمال إفريقيا مثالًا بارزًا لذلك).
وكانت سياسة شاه إيران السابق «التحديثية» في الاقتصاد والاجتماع والأخلاق سندًا لاحتكارات النفط والسلاح الإمبريالية، في حين أن الحركة الدينية الشعبية لعبت الدور الأكبر في الثورة التي هزمت غطرسة واشنطن. (۹)
(2)
لكن إذا كان خطاب صادق سعد يتشابه -على صعيد البحث عن الهوية المستقلة- مع الخطاب السلفي، ومع خطاب بعض فصائل اليسار المرتد، فإنه يختلف عنهما، بل ويقوم بتصحيح منطلقاته الأساسية، على صعيد قضية «التنمية»، وهي القضية التي تمثل الزاوية الثانية من مدخله في مناقشة إشكالية التراث. وهذه الزاوية هي التى تجعل من قراءته للتراث قراءة واعية، كما أسلفنا القول. وتتحدد هذه الزاوية بطرح تساؤل عن أسباب فشل مشروعات التنمية في العالم العربي عمومًا، وفى مصر على وجه الخصوص. ومن البديهي أن يؤكد أحمد صادق سعد أن أي مشروع تنموي لا ينفصل عن خيار اجتماعي سياسي مسبق من طرف من يخطط للتنمية ومن طرف من ينفذونها على السواء. (۱۰) وهذه العملية المركبة تتم في واقع اجتماعي سياسي ثقافي يمثل التراث -بالمعنى الواسع الذي سنعرض له بعد قليل- جزءًا من نسيجه الحي، فالتراث ليس مجرد بقية من بقايا الماضى، إذ له استمرار حي في الحاضر . من هنا يكون له تأثيره – بالإيجاب أو بالسلب- على خطط التنمية:
إن التراث، لأنه يعيش في الأفراد والجماعات والشعوب، جزء من الحاضر (…) إن تنفيذ الخطة يتوقف على التوجيهات الفكرية للإطارات والقواعد التي يعمل أفرادها وفي خلفيتهم الذهنية آمال وطموحات، وإن لم يعبروا عنها بل وقد لا يدركونها هم أنفسهم، وقد شكل التراث قرائح هؤلاء جميعًا وقلوبهم ، فبات حافزًا من الحوافز القوية لتصرفاتهم. (١١)
والتراث الذي يناقشه صادق سعد ليس التراث الديني الإسلامي وحده، وهو المفهوم من مصطلح «التراث» في الخطاب الديني والخطاب اليساري المرتد على السواء. التراث كما يفهمه أحمد صادق سعد:
عبارة عن مجموع الخبرات التاريخية التي اكتسبها المجتمع في شتى نواحي الحياة والنشاط. وهناك تراث مكتوب وآخر غير مكتوب (شفهي أو بالأمر الواقع) ويقر الإسلام هذا التواجد المشترك عندما يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر.
وإذا كان الجزء الأكبر من التراث المصرى وطابعه العام إسلاميًا إلا أنه ليس دينيًا فحسب، ولا يجبه الإسلام كله. فثمة عادات وتقاليد وجوانب من التكوين النفسي المصري موروثة من عصور الفراعنة والإغريق والرومان. وبعضها متأثر بالقبطية دينًا أو فكرًا. وبعضها مكتسب من تجارب الأمة في القرن الأخير خاصة، فيكون رافدًا تراثيًا وطنيًا أو قوميًا اشتراكيًا. (۱۲)
ونلاحظ في هذا التعريف الشامل كيف تتراجع ثنائية الأنا والآخر ، والوافد والموروث، والغرب والشرق.. إلخ، لقد صار الفكر القومي والاشتراكي جزءًا من تراثنا، ولم يعد مفاهيم مستوردة غربية كما يقول الخطاب الديني. ومفهوم التراث الممتد في التاريخ إلى العمق الفرعونى، والمستمر في الزمان حتى الاشتراكية والقومية، والجامع بين المدون والشفاهي، وبين المفصح عنه والمتضمن في التقاليد الأعراف والسلوكيات، هذا المفهوم من شأنه أن يزيل وهم ارتباط العلمانية بالغرب ووهم التصاق الروحانية الدينية بالشرق:
فالواقع أنه ما من حضارة وجدت إلا واحتوت نظمًا للإنتاج والتوزيع والاستهلاك إلى جانب نظم التفكير والتدبر والتأمل والعبادة أو التسامي الروحي. ولذلك فما من حضارة إلا وكان فى تيارها الفكرى وجه عقلاني قد يقل بروزه أو يزيد في أوقات، ولكنه موجود ما دامت هناك فنون الزراعة والعمارة والحرب، وعلوم ولو بدائية في ميادين الفلك والطب.. إلخ، إلى جانب الفلسفة واللاهوت فما من حضارة إلا وهي روحية مادية معًا. ولكن الذي يمكن أن يقال أن الشكل الديني أو الأخلاقي قد يكون أوسع أو أضيق في هذه الحضارة أو تلك، وفي هذا العهد أو ذاك. (۱۳)
وإلى جانب التصحيح الذي يقوم به مفهوم التراث من مدخل «التنمية» على مستوى علاقة الأنا بالآخر، والشرق بالغرب، فإن هذا المفهوم يقوم أيضًا بنفي الصورة الثابتة الساكنة للتراث، تلك الصورة التي تجعل علاقة الماضي بالحاضر علاقة تجاور لا علاقة تفاعل جدلية. التراث من منظور التعريف التصحيحى السابق في حالة حركة متفاعلة مستمرة مع الواقع، الذي يضيف إليه ويحذف منه طبقًا لمتطلباته. وكما يكون التراث جزءًا عضويًا من نسيج الحاضر، يمارس الحاضر في التراث عمليات حذف وإضافة ، وهو التفاعل الذي ينفي عن كليهما علاقة التجاور الاستاتيكية، بحساب جدلية متطورة دائمًا:
فالتراث أمر متطور، إذ يحتوي على آثار التغيرات التي طرأت على المجتمع ومشاكله. ففي كل مرة، وعند كل عهد، كان يضاف إليه ويطرح منه. وكانت قاعدة اجماع المجتهدين في كل فترة حول قضية أو حكم معناه إمكانية التكيف بالواقع المتطور، وبالتالي إمكان إضافة الجديد وطرح بعض القديم جانبًا. (١٤)
إن التراث كل ذو خصوصية نسبية اجتماعية عامة -وليست دينية فقط- ومتطورة. والملاحظ أن الأجيال المتتالية تجد نفسها في ظروف اجتماعية مادية متغايرة فترة بعد فترة –وقد يكون التغاير تقدمًا أو تخلفًا– في نفس الوقت الذي تعتاد الناس على أن تستقي من التراث عناصر ومكونات فكرية متغايرة في معرفته والوعي به. (١٥)
وهكذا لا تنفصل قضية التنمية عن إشكالية التراث، فما دامت التنمية تعني وضع الخطط لتحريك المجتمع إلى الأمام -وهذا هو المعنى الحقيقي للتنمية الشاملة- فمن الطبيعي أن يراعي المخطط -أو المخططون- طبيعة المجتمع ودرجة تطوره، وطبيعة ثقافته، ومستوى وعي الأفراد والجماعات الذين تستهدفهم الخطة، ولا تتحقق إلا من خلال اقتناعهم. وبعبارة أخرى يحتاج نجاح أي خطة تنموية إلى مشاركة الناس واقتناعهم بأن الخطة تستهدف تحقيق مصالحهم. انطلاقًا من مفهوم المشاركة هذا:
يصبح التراث إحدى القناطر التي بين المخطط التنموي وسائر الناس. فنرى الاتجاهات التنموية المختلفة تستند إلى التراث من بين ما تستند إليه أو تزعم التمسك به، حين تستدعي ما في المواطنين من شعور بالربط والوحدة (القومية، الطائفية، الإنسانية أو الطبقية) اسكاتًا للمعارضة وبحثًا عن أوسع ما يمكن من إجماع الموافقة على المشروع. (١٦)
ومعنى ذلك أن التراث يصبح طرفًا في الصراع الاجتماعي السياسي الذي يجدد للجماعات المختلفة في المجتمع الواحد الاختيار التنموي الأقرب إلى تحقيق مصالحها. والجماعة التي تستطيع إقناع الجماعات الأخرى بأهمية مشروعها وحيويته لتحقيق الأهداف الوطنية والقومية للمجتمع كله، إنما تنجح في ذلك على قدر وعى طلائعها الفكرية بالتراث الحي، وعلى مدى قدرتها على إنتاج خطاب يحقق الاقتناع المؤدي إلى الإجماع. وغني عن القول إن هذا الصراع بين الجماعات لطرح مشروعات التنمية لا يتحقق على وجهه الأكمل إلا في مناخ سياسي ديمقراطي حقيقي، تمتلك فيه كل جماعة منبرها الفكري وتنظيمها السياسي، ومعنى ذلك أن فشل مشروعات التنمية في مصر يرجع إلى غياب المناخ الديمقراطى الحقيقى، الذي يفسر بدوره عجز المخططين عن إنتاج خطاب يقنع الجماهير بجدوى تلك الخطط. وهكذا فشلت محاولات تحديث المجتمع المصرى، أو هزمت في نهاية الأمر:
وفي اعتقادنا أن مصيرها السلبي هذا عاد إلى توجهها السياسي، إلى أنها لم تفعل ما يلزم لكى تقنع القاعدة العريضة من سكان مصر بأن التنمية تتم لمصلحتها لا لمصلحة الصفوة أو القلة. وهذا (الإقناع) عنصر ثالث ينبغي أن يضم إلى عنصري التراث والتنمية حتى تتحقق العملية التنموية بصورة إيجابية. ويعني هذا ضرورة الاعتماد على التراث لتطويره وإيجاد تراث جديد تقدمي. (۱۷)
ولكن كيف توجه الجماعة المعنية «التراث» لإقناع الجماهير بمصداقية مشروعاتها التنموية؟ إن السؤال يضعنا مباشرة في قلب عمليات الاستناد والاستخدام التي يمكن أن تقوم بها الجماعات المختلفة للتراث، تلك العمليات التي يساعد التراث ذاته -بحكم ازدواجيته وتعدد تياراته- على تحقيقها. فعلى مستوى التراث الديني الإسلامي -مثلًا- نجده متعدد الأوجه، ولذلك أمكن للتيارات والقوى الاجتماعية المتصارعة أن تستخدم هذا التعدد: «لتقوية مواقفها بالحجج الدينية». (۱۸) وبالمثل يمكن استخدام الثقافة الشعبية بمعناها الشامل في اتجاه التقدم والتنمية وفي اتجاه التخلف والنكوص على حد سواء. وبعبارة أخرى يمكن للازدواجية الكامنة في بنية الثقافة الشعبية أن تساعد القوى المتصارعة في الواقع الاجتماعي على صياغة مواقفها تأسيسًا على هذا الجانب أو ذاك. إنها مثل التراث الديني الإسلامي «حمالة أوجه» سواء على مستوى البنية أو على مستوى الدلالة:
إن الثقافة الوطنية ذاتها مزدوجة المفاهيم، ففيها إيجابيات التراث الثوري الشعبي في الكفاح ضد الطغيان الداخلي والسيطرة الأجنبية، كما فيها سلبيات التواكلية والثقة المفرطة برجال يحملون فكرًا رجعيًا. وهذا صحيح دون شك، ويمثل مشكلة لسنا ندعي بأننا أصحاب حل بسيط لها. (۱۹)
وهكذا تتبدى الإشكالية – إشكالية التنمية والتراث – على درجة عالية من التعقيد والتوتر بين طرفيها. فلكي تنجح التنمية لا بد من المشاركة الجماهيرية فى صنعها وتنفيذها، ولكي يتحقق ذلك لا بد من إنتاج خطاب يقنع الجماهير اعتمادًا على معطيات التراث التي تمثل عنصرًا تأسيسيًا جوهريًا في ثقافة الجماهير . لكن معطيات التراث لا تمثل تيارًا واحدًا ، بل تقوم على ازدواجية تسمح للقوى المتنازعة باستخدامها لتحقيق مصالح متعارضة، الأمر الذي يعني أن تراث الجماهير –وثقافتها– يمكن أن تتوجه ضد مصالحها. وإذا كانت القوى الاستغلالية الرجعية تخدع الجماهير وتزيف وعيها استنادًا إلى التيارات الرجعية فى التراث والثقافة، فإن استناد قوى التقدم للتيارات العقلانية ذات التوجه التقدمي في التراث لا يحل المشكل بقدر ما يزيده تعقيدًا. إن الاستناد إلى التراث على أساس أيديولوجي يعنى استخدامه استخدامًا نفعيًا براجماتيًا، ولأن التيارات والاتجاهات العقلانية -ذات التوجه التقدمي- فى التراث والثقافة كانت غالبًا تيارات هامشية، إذا قورنت بنقيضها الرجعي الذي كانت له السيادة غالبًا، فإن النتيجة -نتيجة الصراع الأيديولوجي على مستوى توظيف التراث- ستكون حاسمة لصالح التيارات الغالبة، ولصالح القوى التي تستند إليها. من هذه الزاوية يبدو ما يطرحه صادق سعد الحل الأشكال قراءة واعية لكل من الواقع والتراث معًا. إنه لا يقع فيما وقع فيه دعاة «اليسار الإسلامي» من ضرورة تبني الاتجاهات العقلانية في التراث واحيائها من جديد، أو تجديدها، بأن يتبنى بشكل واضح ما يطلق عليه: «إنتاج وعي علمي بالتراث، يفرز منه ما هو تاريخي مرتبط بالواقع الذي أنتجه وبالظروف التي أفرزته، ويميز ما هو قابل للاستمرار ، ويمكن تبنيه في الواقع الراهن. ومن اللافت للانتباه أن عملية الوعي العلمي هذه، وما يتبعها من فرز وتمييز، لا تتم على مستوى الفكر النظري المعرفي التأملى، بل يتحتم -فيما يؤكد صادق سعد- وتتحقق من «اخلال الاستخدام العملي في النضال اليومي الدؤوب». (٢٠)
إن التنمية بشمولها تقتضي عملية مزدوجة: منها إدراك التراث ووعيه بمعنى إخضاع التراث للنقد وفرز ما كان مرتبطًا بالظروف الماضية عما يمكن أن يرتبط بالحاضر . وإذا كان التراث ليس إلا شيئًا في الحاضر ، فهو جزء منه وليس كل الحاضر . والمطلوب هو إنتاج معرفة معينة للتراث بحيث تستطيع هذه المعرفة أن تعطي الشعب مفاهيم عصرية ذات طبيعة وطنية (قومية) تساعده على التعبئة لرد التحدي.
ولكن ثمة الناحية الأخرى من الازدواج، وهى أنه من المؤكد أن عملية التنمية لا يمكن أن تكون فعالة ناجحة، أي قادرة على تعبئة الشعب لتنفيذها، إلا إذا اتخذ فكرها شكلًا وطنيًا (قوميًا) وتبنت الفكر التراثي في تشكيله المعاصر. (۲۱)
في مثل هذا الفهم العميق للعلاقة بين التنمية بمعناها الشامل وبين التراث بمعناه الشامل كذلك، لا يكون التراث مجرد أداة تدفع التنمية -أو تعوقها– بل يتفاعل مع التنمية، فتعدله وتعيد صياغته. وبعبارة أخرى يحدث تحقق التنمية في المجتمع والواقع تطويرًا، به يتطور التراث ذاته، من حيث هو جزء من نسيج الواقع، كما سلفت الإشارة.إن جدلية العلاقة -المشار إليها آنفًا- بين التراث والواقع تنعكس بتعقدها على العلاقة بين التراث والتنمية، بدءًا من عملية التخطيط ذاتها:
وإذ يثار تساؤل عن مدى إمكان أن تكون هذه العلاقة مخططة تخطيطًا عصريًا، فينبغي أن نقبل أن في الخلفية اعترافًا بالتأثير المتبادل بين الطرفين: الظرف الاجتماعي، والتراث الشائع، الأمر الذي يعني أن التنمية تتم بناءً على خيار اجتماعي سياسي مسبق من طرف من يخطط لها من القادة ومن ينفذ عليهم هذا التخطيط (وقد يكون الخيار مختلفًا عند هؤلاء من أولئك) ولكن هذا الخيار نفسه نتيجة تفاعل مركب من عناصر عديدة. ومنها تأثير التراث وطريقة معرفته ووعيه على الدائرة الاجتماعية المحددة، ومنها فهم هذه الدائرة لمصالحها واستعدادها وقدرتها على الدفاع عنها ..الخ، إلى جانب الظروف المحيطة. وكما أن النتيجة التي تنجم عن التنمية (بمعناها الإيجابي والسلبي أيضًا) تؤثر على هذه المصالح وعلى التشكيل الاجتماعي والسياسي لتلك الدوائر، فهي تؤثر في تغيير تأثير التراث نفسه عليها أيضًا. (۲۲) (التأكيد لنا).
وأخيرًا فالتراث ليس مجرد شكل خارجي لغوي لتمرير خطة التنمية، بإقناع الجماهير بأهميتها، واستغلال ثقافته لجعله يتبناها. ولو كان الأمر كذلك لعدنا من باب خلفي لمفهوم الاستخدام النفعي الذرائعي للتراث والثقافة الشعبية. إن الشكل الثقافي لا ينفك في النهاية عن المضمون الذي يحمله، كما لا ينفصل الجانب المادي فى الثقافة عن جانبها الفكري. لذلك يتحتم على أي خطة حقيقية للتنمية ألا تفصل في توظيفها للتراث بين الشكل والمضمون من جهة، وألا تفصل بين المادي والفكري والذهني من جهة أخرى. وهي إذ تفعل ذلك فإنها في الواقع لا تفعل أكثر من كونها تراعي الواقع بكل ما ينتظم فيه من عناصر ، منها الثقافة بجانبيها المادي والذهني على السواء:
إن التعبئة الجماهيرية من أجل التنمية لا بد أن تتم بأشكال ثقافية تفهمها الجماهير ومعتادة عليها، أي باستخدام الثقافة الوطنية الشعبية. ولكن علينا أن ننتبه إلي أن هذا لا يعنى استعمال هذه الثقافة كشكل فقط، بل يترتب عليه -وبالضرورة- تبني جوانب من مضمون هذه الثقافة. ذلك أنها تكونت كتراث طويل من الجهد الواسع والدؤوب في الاحتكاك بالطبيعة والبشر خلال عمليات متكررة أقامت المجـتـمعـات الموجودة الآن في البلدان النامية. وفي هذا لا يمكن أن نفصل بين الثقافة المادية -أي على المستوى الحالي من التقنوية والمهارات اليدوية والذهنية- وبين الثقافة المعنوية بأشكالها اللغوية والفنية، وبأنواع المعتقدات والأساطير والتقاليد والعادات إلخ… التي تعطى محصلتها الأمم والدول الحالية في العالم الثالث. (۲۳)
وعلى أهمية التراث وحيويته بالنسبة للتنمية فليس هو العامل الوحيد الذي يضمن النجاح أو يسبب الفشل. ثمة عوامل شديدة التعقيد والتركيب، والتراث واحد منها، هذا بفرض أنه يمكن أن يوجد عنصرٌ نقيٌ ثابتٌ في عزلة عن العناصر الأخرى. يؤكد صادق سعد هذه الحقيقة في سياق تحليل تجربة التنمية في الهند في علاقتها بتراثها الحضاري:
إن الذي ساعد على التنمية أو اعاقها ليس التراث الحضارى فى حد ذاته (…)، بل محصلة مركبة من أكثر من عنصر: فالعنصر عبارة عما هو مترسب الآن من التراث الفكري وما هو منبثق من الماضي المادي والاجتماعي في الهند، طبيعة ومجتمعًا، أي الأمور التي توصف أحيانًا بالمتخلف والتقليدى، وعنصر آخر عبارة عن ناتج الصراع بين القوى المختلفة في التكوينين القديم المتبقي والجديد المستحدث وبينهما أيضًا. وهناك أيضًا عنصر ثالث يتشكل من القوى الخارجية عن الهند ( … ) وتكفي الإشارة هنا إلى الأعباء الدفاعية الثقيلة بعد الحربين مع الصين وباكستان، وما يسببه سباق التسلح الدولي من استقطاع النسبة العالية من المبالغ المخصصة للاستثمارات التنموية. (٢٤)
(3)
من منطلق أهمية التراث وعلاقته المركبة المعقدة بقضية التنمية، يصبح درس المفاهيم الاقتصادية التراثية درسًا علميًا أمرًا ضروريًا، بل حتميًا لازمًا. والدراسة على أهميتها في ذاتها تستهدف ضمن ما تستهدفه التحقق من مدى سلامة المفاهيم الاقتصادية التراثية الأساسية التي تطرحها جماعات «الاقتصاد الإسلامي»، سواء تلك المطروحة في الدوائر الأكاديمية، أو التي تطرحها الشركات المالية والمصارف والاتحادات و مراكز الاستثمار «الإسلامية» ذات الطبيعة القطرية أو العربية أو الدولية. (٢٥) من هذه الزاوية تتوجه القراءة في «كتاب الخراج» لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، المتوفى عام ١٨٢ ه / ۷۹۸م، وأحد مؤسسي المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي إلى تحقيق هدف محدد، هو البحث عن المفاهيم الاقتصادية. ويدرك صادق سعد – ببصيرة نافذة – أن المفاهيم التي يطرحها هذا الفقيه أو ذاك إنما تسمى مفاهيم اقتصادية إسلامية انتسابًا إلى المفكر المسلم، وليس انتسابًا إلى العقيدة ذاتها. ووصف المفكرين بصفة الإسلاميين ليس بدوره إلا وصفًا لانتمائهم الحضاري والثقافي:
ونقصد بالمفكرين الإسلاميين الباحثين والعلماء الذين تركوا آثارًا قيمة ونسبوا أفكارهم الاقتصادية إلى الفقه الإسلامي. ولا نسعى إلى معرفة ما إذا كانت هذه النسبة التي قالوا بها صحيحة أو خاطئة بدرجة أو درجات، فليست غايتنا في هذه الدراسات أن نصل من طرفنا إلى ما في الإسلام -كدين وعقيدة- من مبادئ أو معان اقتصادية، وإنما غرضنا ما كان في عقول هؤلاء العلماء من تصورات وتفسيرات للحوادث الاقتصادية، أو لما يجب أن يحدث برأيهم في هذا المجال. (٢٦)
والبحث عن المفاهيم الاقتصادية الإسلامية بالمعنى السالف هو الذي يميز القراءة الواعية عن الاستناد الأيديولوجي الذي نجده عند دعاة الاقتصاد الإسلامى، الذين لا يفرقون بين التصورات والمفاهيم ذات الطبيعة البشرية الاجتهادية -والمتطورة في الزمان والمكان- وبين الإسلام ذاته دينًا وعقائد ونصوصًا ثابتة لا تنطق وحدها، وإنما يستنطقها العقل الإنساني. لا يطرح دعاة الاقتصاد الإسلامي علينا مفاهيم وتصورات يؤمنون بتاريخيتها ونسبيتها، وإنما يطرحون هذه المفاهيم والتصورات بوصفها «الإسلام» ذاته. وإلى جانب هذا الفارق الهام والحاسم في قراءة صادق سعد للتراث الفقهي، تتميز هذه القراءة بأنها تعرف ما تريد، أي أنها تمتلك أسئلتها الخاصة المنطلقة من إشكاليات الواقع ومن آفاق الحاضر . وبدون امتلاك الأسئلة التي تحدد آليات القراءة انطلاقًا من الوعي بأهدافها، قد يتحول فعل القراءة إلى البحث عن لا شيء في غابة، ويصبح القارئ/الباحث مثل حاطب ليل لا يدري ماذا يحطب. تنطلق قراءة صادق سعد من فرضيات محددة تود القراءة أن تتحقق من صحتها أو عدمها. ومعنى ذلك أن القراءة لا تفرض مفاهيمها على التراث بقدر ما تحاول التحقق، فهي قراءة تأويلية لا تلوينية أيديولوجية. ويدرك صادق سعد بشكل واضح أن زمن القراءة مغاير لزمن النص المقروء، لا بالمعنى التاريخي فحسب، بل بالمعنى الابستمولوجي الذي ينكشف من خلال التعبيرات عن المفاهيم الاقتصادية في إطار ثقافة دينية:
ترتدي التعبيرات في هذه الحالة أردية الأوامر والنواهي الأخلاقية أو النصيحة حتى ينال المخاطب جزاءه في هذا العالم أو الآخر تكريمًا من السماء الراضية به. أما الحجج والأسباب التي تقدم تأسيسًا للأقوال، فهى من نوعين عادة:
نوع هو المنطق القانوني، أي تنفيذًا للنواميس المقدسة (وقد تكون الإلهية التي رتبت مكانًا لهذا الملك في النسق الكوني عند خلقه).
النوع الثاني هو المنطق الأسطوري الذي يعطى للأحداث قوة إقناع لكونها وقعت مما يترتب عليه وجوب اقتفاء آثار الأقدمين والتصرف طبقًا للتجارب التي استخلصوها من تصرفاتهم. (۲۷)
والفرضيات التي تنطلق منها القراءة ثلاث أساسية، تتفرع من كل منها بعض الفرضيات الثانوية: مضمون الفرضية الأولى أن المجتمعات الماضية التي عاش فيها المفكرون الإسلاميون كانت – على الأغلب – مجتمعات سابقة للرأسمالية حتى نهاية القرن الثامن عشر تقريبًا. أما الفرضية الثانية -وهى فى الحقيقة صورة خاصة من الأولى، وتضاف إليها وتصححها- فهي أن المجتمعات التي يظهر فيها المفكرون الإسلاميون المعنيون، مجتمعات شرقية، تتميز عن المجتمعات الأوروبية السابقة للرأسمالية بخصوصيات، ليست أقلها أن الوعاء الفكري العام لأنشطتها هو الإسلام، لا كعقيدة دينية فحسب (علاقة الإنسان بالرب) بل كفكرية عامة تصبغ بصبغتها أشكال التعبير والإدراك لتلك الأنشطة. وتتعلق الفرضية الثالثة بموضوع القراءة –المفاهيم الاقتصادية– وهي تتكون من جزئين: الأول أن الفكر يعكس الواقع المعاش بصورة عامة. وبالتالي فالمفاهيم التي ستكشف عنها القراءة تعد قرينة أو مؤشرًا لكيفية تشكيل هذا الواقع، ومنبهًا إلى مكوناته ومظاهره، والجزء الثاني من تلك الفرضية أن الانعكاس في العقل ليس مباشرًا ومستقيمًا (مثل انعكاس الصورة في مرآة مسطحة)، وإنما يجري عليه تأثير واختلاط وتعديل أو تحوير لصورة الواقع، وذلك لا لخصوصية المخ الحيوية فحسب، بل وأيضًا لأن العقل يحمل نتائج التربية الاجتماعية والتراث السابق وشتى المؤثرات المصلحية والفكرية إلخ. وعليه فينبغى ألا نأخذ تلك المفاهيم -التي نبحث عنها- على أنها صورة طبق الأصل لحقائق موضوعية موجودة حتمًا في ميدان الاقتصاد. والمطلوب أن نعود ونخضعها للفحص مرة أخرى. (۲۸)
والحقيقة أن الفرضية الأولى فقط هي التي يصح عليها اسم الفرضية القابلة للإثبات أو للنفي، وهي الفرضية التي أثبتتها القراءة. (٢٩) أما الفرضيتان الثانية والثالثة فليستا فرضيات في الواقع، فالثانية وصف لحقيقة تاريخية لا تحتاج لإثبات في حد ذاتها، وإن احتاج اكتشاف ملامحها ورصد مظاهرها العينية إلي القراءة الفاحصة المتأملة -الواعية- التي تحققت في الدراسة التي نحن بصددها:
ومن المميزات البارزة مما يصفه أبو يوسف أن المنتجين والموارد «موقوفة» على الطبقة الحاكمة، وهى مالكة بصفتها مشتركًا، فليس هذا بنظام رقي ولا اقطاعي. وكذلك التقسيمات الإثنية والعشائرية والدينية تلبس التقسيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وأخيرًا ، فالسلطات -بما فيها سلطة اقتصادية واسعة- مركزة في أيدى القائد الديني («الإمام» أو الخليفة). (۳۰)
والفرضية الثالثة – بجزئيها – ليست في الحقيقة سوى قانون علمي جوهري في نظرية المعرفة. وقد نجحت القراءة إلى حد كبير في اكتشاف صورة الواقع كما انعكست -بشكل مباشر حينًا وغير مباشر في أكثر الأحيان- في «كتاب الخراج». لكن الأهم من ذلك أنها نجحت في اكتشاف الظلال الأيديولوجية التي لونت الواقع من خلال المفاهيم والتصورات الاقتصادية التي يطرحها أبو يوسف:
ونسلم منذ البداية بأن أبا يوسف منتم إلى المدرسة الفلسفية المثالية. إلا أن هذه المثالية عينها ذات دلالة من الزاوية التي نتحدث عنها، إذ ترتبط بالدور الغالب شكلًا للعوامل غير الاقتصادية في آليات الاقتصاد. فالتصعيد المثالي لبعض العناصر الطبيعية مثلًا (الماء والأرض) أو لبعض العوامل المجهولة (تحديد السعر) ينتسب هنا -وإن كان جزئيًا- إلى حدود المعرفة العلمية المتوفرة وقتذاك، والدرجة الأولية لسيطرة الإنسان على قوى الطبيعة. كما نجد تلك المثالية تجسيد -من بعض النواحي- لانتصارات المسلمين العرب وازدهار الحكم العباسي في زمن الكاتب. (۳۱)
لكن من أهم الأبعاد التي أغفلها التحليل بسبب غيابها من أفق القراءة، وتأثير أيديولوجية أبي يوسف نفسه، علاوة على الأيديولوجية المثالية العامة التي يشاركه فيها غيره من مفكري الإسلام. لقد كان الفقهاء -وعلى رأسهم أبو حنيفة أستاذ أبي يوسف- ينفرون نفورًا شديدًا من العمل في مؤسسات الخلفاء والسلاطين. وقد -روى عن أبي حنيفة بالذات: «أنه أريد على القضاء مرتين، إحداهما في العهد الأموي، أراده ابن هبيرة -عامل مروان بن محمد آخر بني أمية على العراق- فأبى، فضربه بالسوط، وفي رواية أنه أراده ليكون على بيت المال فأبى فضربه، والأخرى في العهد العباسي: أشخصه أبو جعفر من الكوفة إلى بغداد، ثم أراده على القضاء فحبسه، فمات فى الحبس». (۳۲) أما أبو يوسف فقد تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء «المهدي، ثم الهادي، ثم هارون الرشيد، وكان في أيام الرشيد قاضي القضاة، وكان عند الرشيد حظيًا مكينًا». (۳۳) ومن المؤكد أن ارتباط أبي يوسف بالعمل عند الخلفاء جعله يتبنى أيديولوجية السلطة بكل ما تصر عليه من احتكام إلى النصوص وإلى التقاليد. وبسبب هذا الارتباط اقترب فقه أبي يوسف من فقه «أهل الحديث»، وتباعد عن فقه «أهل الرأي». وصار أبو يوسف أكثر اعتمادًا على الأحاديث من أستاذه الذي كان أكثر اعتمادًا على الرأي والاجتهاد والقياس. (٣٤)
ولعل هذا الانتماء لأيديولوجية السلطة يمكن أن يفسر لنا كثيرًا من المفاهيم التي يتضمنها الكتاب، بل لعله يستطيع أن يفسر غياب بعض المفاهيم – خاصة غياب مفاهيم «ندرة الموارد» و «السوق» و«الإنماء»– عن إطار أبي يوسف الفكري والتصوري. وقد لاحظ صادق سعد أن «العمل الإنساني» لا يظهر كمورد اقتصادي -بعد الماء والأرض- إلا في حالات خاصة:
إذا سقى المرء أرضًا مواتًا بما جلبة إلى حيثما لم يكن موجود (بئر أو قناة حفرها أو بواسطة نقله في أوان) (…) وبالأحرى فهو عمل فيه نوع من الاصطناع والابتداع. ويظهر التقدير الخاص لهذا النوع من الجهد بأن تخفف مثلًا فئة الضريبة («الصدقة») على الأرض التي يعمل عليها مسلم في هذه الحالة. (٣٥)
وإذا كان المؤلف يعجب من موقف أبى يوسف هذا، ويصفه بالازدواجية، على أساس أن الإنسان أيضًا -مثل الماء والأرض- من خلق الله، فهو مورد اقتصادي أيضًا من نفس المنطلق المثالي، اذا كان صادق سعد يعجب لذلك فلأنه لم ينتبه للأيديولوجية الخاصة للسلطة في مسألة الفعل الإنساني – وهي قضية لاهوتية ذات مغزى اجتماعي- إذا قورنت بالقدرة الإلهية. وإذا كانت بعض القوى الفكرية ذات النزوع الاجتماعي التقدمي مثل المعتزلة دافعت عن القدرة الإنسانية، واعتبرت حرية الإنسان في اختيار الفعل مقدمة ضرورة لتأكيد استحقاق الانسان للثواب أو للعقاب، وضرورية من ثم لتأسيس «العدل الإلهي»، إذا كان الأمر كذلك فإن قوى أخرى ساندت السلطة السياسية الاستغلالية القاهرة تبنت مقولة «الجبر»، بكل ما يترتب عليها من سلب لحرية الإنسان، واستغلال لعمله. ولأن هذه المقولة تبرر الظلم وتعتبره قدرًا إلهيًا، فقد كان من الطبيعي أن تتبناها السلطة وتدافع عن معتنقيها. وهذا العنصر في أيديولوجية السلطة يفسر هذا الدور الهامشي للجهد الإنساني في نسق أبي يوسف الاقتصادي، بل إنه يفسر ايضًا تمسك أبي يوسف من مسائل «الرخص» و «الغلاء» و«التسعير» ورده كل ذلك إلى الإرادة الإلهية. (٣٦) وهو موقف يناقض موقف المعتزلة الذين ردوها إلى قانون «العرض والطلب»، وإن كانوا فرقوا بين أن يكون الله هو السبب في ندرة السلعة المؤدي إلى ارتفاع سعرها، كما هو الحال في الآفات التي تلحق الزرع نتيجة لظواهر طبيعية، وبين أن يكون السبب في ارتفاع الأسعار جشع التجار الذين يلجأون لإخفاء السلع التي لا يفسدها التخزين. (۳۷)
ويمكن لأيديولوجية السلطة -التي تبناها أبو يوسف دون شك- أن تفسر بالمثل غياب بعض المفاهيم التي أدركت قراءة صادق سعد غيابها، وأول هذه المفاهيم الغائبة مفهوم «ندرة الموارد»، وقد أدرك صادق سعد بشكل حدسي البعد الأيديولوجي لغيبته، ولكنه مر عليه مرورًا سريعًا ليرده إلى النسق الفكرى المثالي العام:
ولعل الأمر مرتبط برأي الحكام في هذه الفترة بوفرة الثروات التي في متناول اليد، وأن مصدرها الأساسي -الماء- لا ينضب معينه في ماء ما بين النهرين. ولكننا نعتقد أن السبب الأساسي يكمن في إيمان الكاتب أصلًا بوفرة الموارد -لا ندرتها- ما دامت من خلق السماء. (٣٨)
إن الإحساس بوفرة الموارد، وافتقاد الإحساس بندرتها، يرتد إلى الارتباط بالطبقة التي تملك كل الموارد، والتي تصب في خزائنها المكوس والعشور والخراج والجزية والصدقات، وفي الأقوال التي تروى عن أبي يوسف ما يكشف عن إحساسه الطاغي بالمال، ذلك أنه نشأ فقيرًا وكان شيخه هو الذي يتولى أمر حياته، لكنه حين واتته الفرصة لم يتردد في انتهازها. ومن أقواله فى هذا الشأن: «رؤوس النعم ثلاثة. أولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها، ونعمة العافية التي لا تطيب نعمة إلا بها، ونعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها». (۳۹)
ومن الطبيعى من منظور أيديولوجية السلطة أيضًا أن لا يكون لمفهوم «التطور» وجود، ناهيك بالتطور الاقتصادي. إن هاجس السلطة -أي سلطة- الاستقرار والثبات، فكل تغير إنما يحمل جرثومة الشر والقلق والفتنة. وفي ظل مفاهيم تعتبر الماضى مبرر مشروعيتها، ومن ثم مبرر مشروعية الحاضر، يصبح التفكير في المستقبل ضربًا من التنجيم في المجهول. إن الخليفة هو محور الحاضر، والماضى سنده، يستمد منه دائمًا الحماية والأمان، فأي تغيير -أو تطور- لا يعني إلا هدمًا للنسق وإخلالًا بالنظام.(٤٠) وهكذا يكون من الطبيعي أيضًا أن يكون الخليفة هو الذي: «يلعب الدور الاقتصادي الموحد -بكسر الحاء- عن طريق استخراج الإتاوات -وهو عامل تشغيل علاقات الإنتاج- وصرف الأعطيات والرواتب، وهي عملية تقع في مجال توزيع الفائض وتؤثر على المبادلات. وبالإضافة فهناك مهام اقتصادية للسلطة في مجال الطرق والري». (٤١) وعلى ذلك يختفي دور «السوق» -رغم وجوده في واقع الحياة الاقتصادية آنذاك- الذي يعنى اختفاء القوانين. إن السلطة -ممثلة في رمز الخليفة- هي القانون، وهى المعبر عن الإرادة الإلهية، وهى -فى النهاية- كل شيء. إن قراءة صادق سعد لكتاب الخراج -على أهميتها وخطورتها، بل وريادتها- كانت تستطيع تفسير كثير مما أدركته ولم تجد له تفسيرًا من داخل الكتاب، لو أدخلت أيديولوجية الكاتب في حيز القراءة. لكن ذلك لا يقلل بأي حال من حيوية الإنجاز الذي حققته تلك القراءة. ولعلها تفتح الباب لمزيد من القراءات المستوعبة لتراثنا الاقتصادي، بشرط عدم الفصل بين مجال الفكر الاقتصادي ومجالات الفكر الأخرى، فالتراث كل موحد يفسر بعضه بعضًا، خاصة إذا كنا نعني التراث الإسلامي العربي. إن قراءة كتاب مثل «كتاب الخراج» -مثلًا- لابد أن تقرأه في سياق «علم الفقه»، وهذا العلم بدوره لا يفهم حق الفهم إلا في علاقاته المتشابكة مع علوم الثقافة الإسلامية كافة، سواء منها العقلي والنقلي. والقراءة التي ناقشناها قراءة رائدة واعية تدعو إلى مزيد من القراءات لاكتشاف المفاهيم الاقتصادية في تراثنا على أساس علمي حقيقي. يسحب البساط من تحت أقدام العابثين بالتراث والمتاجرين به على السواء.
هوامش وتعليقات
(۱) عبد الحميد الغزالي: حول جوهر النظام الاقتصادي الإسلامي ضمن كتاب : الدين والاقتصاد» تحریر: مراد وهبة سينا للنشر القاهرة، ١٩٩٠، ص ٤١.
(۲) دراسات في المفاهيم الاقتصادية لدى المفكرين الإسلاميين كتاب الخراج لأبي يوسف دار الفارابي (بيروت)، دار الثقافة الجديدة (القاهرة)،۱۹۸۸، المقدمة، ص ۸.
(۳) بين التنمية والتراث ضمن كتاب الدين والاقتصاد سبق ذكره، ص ۱۲۲ . وانظر للمؤلف أيضًا: دراسات في الثقافة العضوية دار الفارابي، ببيروت ، ١ . ۱۹۸۸ ص ٨٦.
(٤) دراسات في الثقافة العضوية، ص ١٥.
(٥) السابق، ص ۳۸.
(٦) السابق، ص ۳۸-۳۹.
(۷) السابق، ص۳۸.
(۸) السابق، ص ۲۹.
(۹) السابق، ص ۹۷.
(١٠) السابق، ص ۸۰.
(۱۱) بين التنمية والتراث، ص ١١٣.
(۱۲) السابق، ص ۱۱۸.
(۱۳) دراسات فى الثقافة العضوية، ص ٧٥.
(١٤) بين التنمية والتراث، ص ١١٩.
(١٥) دراسات في الثقافة العضوية، ۷۹-۸۰.
(١٦) بين التنمية والتراث، ص ١١٦.
(۱۷) السابق، ص ١٢٤ – ١٢٥ .
(۱۸) السابق، ص ۱۱۹.
(۱۹) دراسات في الثقافة العضوية، ص ١٠٦.
(٢٠) السابق، نفس الصفحة.
(۲۱) السابق، ص ٨٦.
(۲۲) السابق، ص. ۸.
(۲۳) السابق، ص ١٠٥.
(٢٤) السابق، ص ٧٣-٧٤.
(۲٥) انظر: دراسات في المفاهيم الاقتصادية، سبق ذكره، المقدمة ، ص ٩.
(٢٦) السابق، ص ١٥ . (۲۷) السابق، ص ۱۹.
(۲۸) السابق، ص ١٦-٢١ ، بتصرف.
(۲۹) السابق، ص ۸۲-۸۳
(۳۰) السابق، ص ۸۳
(۳۱) السابق، ص ۸۳.
(۳۲) أحمد أمين: ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، ط٩ . ۱۹۷۹م. الجزء الثاني، ص ۱۸۳. وقد لاحظ أحمد صادق سعد نفور المثقف الملتزم عمومًا من الانخراط في العمل الرسمي العام، ورد هذا النفور إلى تأثير تراثي ذي طابع أخلاقي:
يبدو لنا أن المثقفين المصريين الكثيرين ينفرون من الفعل المنظم الجماعي الاجتماعي والسياسي، وإن كان هذا الفعل عبارة عن التطبيق العملي للأفكار التي يحملونها أو يتمسكون بها. وفى هذا فإنهم يسيرون على خط تراثى طويل في بعض اتجاهات الفكر الإسلامي والمصري الشعبي حيث ينظر إلى النشاط في تلك الميادين باعتباره منطويًا على حتمية الخروج على مبادئ الأخلاق. (دراسات في الثقافة العضوية، ص ٣٣-٣٤).
(۳۳) أحمد أمين: ضحى الاسلام الجزء الثاني ، ص۱۹۸.
(٣٤) السابق، ص ۱۹۹ – ۲۰۰.
(٣٥) دراسة في المفاهيم الاقتصادية: ص ٣٨. وانظر : ص . ٤-٤١.
(٣٦) السابق، ص ٧٦-٧٧.
(۳۷) انظر: حسن حنفى: من العقيدة الى الثورة، دار التنوير ، بيروت، ط ۱ ، ۱۹۸۸ م ، الجزء الثالث ص ٣٣٣ – ٣٣٤ .
(۳۸) دراسات في المفاهيم الاقتصادية، ص٤٠.
(۳۹) أحمد أمين :ضحى الاسلام الجزء الثاني، ص ۱۹۹.
(٤٠) دراسات في الملف الاقتصادية، ص ٤١-٤٢.
(٤١) السابق، ص ٤٨.
ملاحظات تحريرية
- ↑ احتل مفهوم التراث موقعًا بارزًا في الفكر العربي خلال القرن العشرين. وبالرغم من أن مفهوم التراث يشير إلى مجموعة الآثار والممارسات الثقافية والفكرية والأدبية والفنية،والدينية الموروثة من الماضي التي يُتصور أنها تُعرٍّف الهوية العربية، إلا أن المفهوم في ذاته هو مفهوم حديث يصيغ في طياته فهمًا للعلاقة بين الماضي والحاضر، كما تتبدى من منظور التحول المتعثر نحو الحداثة. وبالتالي، فإن الكثير من المفكرين الذين يشتبكون مع التراث ينطلقون من أن المفهوم تكوَّن في خضم المشروع التنويري للنهضة العربية والممتد من القرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين على اختلاف تنويعاته. غير أن هزيمة ٦٧ من جهة وقيام ثورة ٧٩ في إيران من جهة أخرى قد أشعلا النقاشات الدائرة حول مفهوم التراث، كما كتب نصر في مقالته، حيث بحث المثقفون في المصطلح، عن جذور أسباب هزيمة مشروع النهضة العربية. وبالرغم من أن الكثير من المشاريع الفكرية المعنية بالتراث في القرن العشرين تنطلق من محاولة استكشاف الهوة الفاصلة ما بين أرباب مشروع النهضة وجماهير ذلك المشروع نفسه، فمن اللافت أن تحليلات التراث بقيت ضمن تاريخ الفكر ولم تتوسع في اتجاه الأنثروبولوجيا أو الدراسات الثقافية على سبيل المثال.
- ↑ تقترن التنمية عادة بخطابات التنمية الاقتصادوية الصادرة عن حكومة مركزية. كما ترتبط كذلك بخطابات جمعيات تنموية أقل مركزية تشكلها نشاطات منظمات غير حكومية وهيئات تمويلها، يلفت مقال نصر النظر إلى تعقيدات المفهوم بعيدًا عن اختزاله في تصورات مؤدلجة وضيقة، كاشفًا عن اشتباكات أوسع مع التنمية بوصفها مفهومًا مركزيًا لبلورة رؤى تغييرية لا تغفل أسئلة الاقتصاد السياسي.