وثيقة:من هو الركيك؟
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | رنا عيسى |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | الجمهورية.نت |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.aljumhuriya.net/ar/content/%D9%85%D9%86-%D9%87%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%83%D9%8A%D9%83%D8%9F
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها الجمهورية.نت
في سنة 1871 تلاسنَ بشراسة كتّابٌ عرب كانوا قد أصبحوا مكرسين في الحقل الأدبي، حول مسائل لغوية تتعلق بما هو صحيح القول بالعربية. الشخصيات الأساسية كانت الكهل أحمد فارس الشدياق ضد الشاب إبراهيم اليازجي، وكان جدالهما يدور عمّا يُعتبَر أسلوباً كتابياً صحيحاً: كيفية كتابة بضع كلمات، ما هو المجاز وما هي القافية المقبولة، ومسائل في الإعراب تدور حول تحريك آخر الكلام تبعاً لقواعد اللغة. باختصار، كان النقاش الذي نُشر على حلقات في الجوائب، الصحيفة التي يملكها الشدياق؛ والجنان لمالكها بطرس البستاني، يدور حول ردّهما المتبادل لتهمة الركاكة في كتابتهما. جرَّ الشدياق في مقالته الثالثة اسم بطرس البستاني إلى أرض المعركة لسماحه بنشر مقالات اليازجي ضده، فقام الشدياق بفلت لسانه السليط على البستاني واليازجي واتهمهما بعدم معرفتهما الكافية باللغة العربية، ممّا هو متوقع من «نصارى بيروت».
بدأ الشجار عندما نشر الشدياق مرثاة في ناصيف اليازجي، اعتبرها الابن وقحة. قد يكون الشجار بدأ لأسباب شخصية، ولكن ما هو مؤكد أنه كَشَفَ عن صراع إيديولوجي على اللغة، بدأت معالمه تظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لم يكن هذا أول تنافس لغوي بين هؤلاء الكتاب المؤسسين لعصر النهضة، ولكنه كان الصدام المباشر الأول حول كيفية التفكير بالفصحى كلغة معاصرة في متناول الجميع.
أتى هذا الشجار كتكريس بلاغيّ لأفعال لغوية كان قد ابتدأها البستاني والشدياق في أول حياتهما المهنية عندما كانا يعملان مع مرسلين إنكليز وأميركان في ترجمة الكتاب المقدس. في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان الشدياق قد باشر بالعمل مع المُرسَلين الإنكليز في مالطا وكامبريدج منذ سنة 1825، والبستاني كان قد أخذ بالعمل مع الأميركان في بيروت في أوائل الأربعينات. وفي سنة 1857 و1860 نُشِرت نُسخ متنافسة للكتاب المقدس كانا قد عملا عليها. بعد انتهائهما من عمل الترجمة، كتب الشدياق والبستاني في اللغة العربية، ونشرا دراسات ومعاجم أسست للنهضة كعصر تحديثٍ للّغة والآداب العربية، وتحضيرٍ للثقافة العربية للدخول في عولمة ثقافية مركزها أوروبا. أما إبراهيم اليازجي فكان ابن ناصيف، الذي عمل أيضاً على ترجمة الكتاب المقدس مع البستاني وعالي سميث، فمشى الابن على خُطا أبيه وعمل مع اليسوعيين على ترجمة جديدة للكتاب المقدس نُشرت سنة 1878.
بعد خروجهم من كنف المُرسَلين، أصبح هؤلاء المترجمون من رواد الثقافة العربية البيروتية المستحدثة وساهموا في تثبيت مكانتها الأدبية واللغوية منذ عصر النهضة. وضع هؤلاء الرواد أُسس اللغة الفصحى الحديثة، التي تشكل إلى الآن إطارنا اللغوي ووسائل التعبير على مدى قرن ونصف. الملفت في الشجار الذي نشرته صحفهم هو التمحور حول تناقضات فهمهم للركاكة كخطأ لغوي يجب تصحيحه، ليس فقط لتجميل النص وإنما من أجل صحة الوطن. فبلورتهم لمفهوم الركاكة، ورمي خصومهم بتهمة ارتكابها، يكشف عن مدى تغيّر الوضع السياسي للمسيحيين العرب في بيروت، سوريا؛ وتقبّل الحقل اللغوي لمساهماتهم وآرائهم في علوم اللغة العربية العريقة. أتاحت الركاكة لمسيحييّ النهضة أن يجترحوا مسافة تُبعدهم عمّا سبقهم من كتّاب مسيحيين من جهة، وأن يعيدوا من جهة أخرى تركيب علاقة ثلاثية مع اللغة: من خلال ربطها بالدين، وبالعامية، وبتاريخها كلغة يطغى عليها الدين الإسلامي وكتابه القرآن. تمحورت هذه العلاقات وصّبت في تكريس ثنائية الفصحى والعامية، واختلاق بعد تاريخي لها لم يكن موجوداً بالأساس في أساليب الكتابة المهنية والأدبية السائدة قبل عصر النهضة.
الطور اللغوي في المخيلة الوطنية
حصلت التغيرات التي طرأت على علوم اللغة العربية في سياق معرفي كان ينجرُّ بسرعة نحو العولمة، وسوق معرفي هيمنت عليه الترجمة من مصادر أوروبية اعتبرها الكتاب المحليون من أسرع المسارات لدخول الحداثة. لم تجاري المواقع الثقافية العضوية في العالم العربي سرعة المتغيرات الطارئة على السوق المعرفي آنذاك، خصوصاً في التغيير البطيء لأنظمة الرعاية والرقابة الثقافية التقليدية وعدم قدرتها على التنافس مع أشكال الإنتاج المعرفي المعولم و فضاءاته التكنولوجية واختصاراتها الزمنية. اعتمدت تلك الفضاءات على التكنولوجيات المعلوماتية والميكانيكية التي سهلت إنتاجاً ثقافياً سريع التوزيع وقابلاً للاستهلاك، كما بقية السلع المتبادلة والمتكاثرة عالمياً.
في المستعمرات، اعتمدت هذه الفضاءات على إدخال مكنات طباعة إلى المنطقة، كما على تكنولوجيات أخرى سهّلت عملية التخاطب العالمي، كالبريد وأنواع المواصلات الجديدة. بيروت كانت هكذا إحدى تلك الفضاءات، والعربية الفصحى كانت أيضاً موقعاً للفضاءات التكنولوجية المعتمدة. في خضم العولمة، كما لاحظ اسطفان شيحي1، أصبحت اللغة العربية الفصحى لغة سيّارة ذات قوة على توحيد الأسواق وتسهيل العمليات الاقتصادية والسياسية والثقافية، بالإضافة إلى العمليات السريعة الذي أصبحت ممكنة بعد جعل الفصحى لغة معيارية للسيران السياسي والاقتصادي المعولم. لقد وحَّدَت اللغة الفصحى مخيلة المجتمعات على قواعد واحدة ومعجم واحد. كان ظهور اللغة كفضاء تكنولوجي منتشراً في القرن التاسع عشر، وأصبحت اللغات إحدى الأدوات الأساسية لاجتراح الهويات القومية، من اللغة الصينية المندرية إلى الهندية، ومن السواحلية إلى التركية والعبرية أو الإنكليزية أو الفرنسية. تأصلت هذه الممارسات في ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح الطور اللغوي، وهو عبارة عن بعد سياسي جديد للّغة نلحظ تناسله حول العالم في ذلك الزمن، وكان إحدى المقومات التي جعلت القومية تتأصل لغوياً في المجتمعات المحلية.
كما بقية اللغات، كان إنتاج العربية في القرن التاسع يعتمد على الطباعة على البخار، الأمر الذي تزامنَ مع امتداد أنواع معينة من الكتابة التي نعرفها اليوم بالفصحى. وكما حضارات أخرى، أصبحت الثقافة العربية تهتم بالنهج الأسطوري في معرفة التاريخ السحيق للحضارة، ذلك الذي لا يمكن أن يُحفظ في الذاكرة وفي العلاقة الفاعلة بين التاريخ القريب والحاضر. أدت هذه النزعة عند العرب المثقفين إلى قمع التاريخ القريب من خلال نعته بالانحطاط ، فسردية عصر النهضة تطالب بالتغلب على هذا الانحطاط من خلال استحضار تاريخ العباسيين الأدبي والاحتفاء به. سهَّلَت الفصحى هذا الانكسار في السردية التاريخية، كما أنها أسست لزمن أسطوري نهضوي يحتفي بالسلف الأدبي الصالح. ومعها نسي العرب أساليب كتابية كانت مغايرة وفضفاضة. انتشرت تلك الأساليب الفضفاضة، أو ما يسمى عند اللغويين بالمستويات اللغوية المغايرة، في الماضي القريب، بالتحديد في قرون الحداثة الأولى منذ القرن السادس عشر، فقام المثقفون الأوائل في عصر النهضة برفضها كنموذج سيء عن العربية، واتهموا كتّابها بأنهم بالكاد يعرفون أن يفكّوا الحرف. ظهر مفهوم الركاكة هنا كعورة. فاستعملوا الفصحى بدلاً عنها لتكملة الانكسار مع الماضي القريب. الكلام عن الركاكة كان منتشراً خاصة في أوساط الكتّاب المسيحيين الذين استعملوا المفهوم لإبعاد أنفسهم عن الكتّاب المسيحيين قبلهم. في القرن التاسع عشر، أصبحت الركاكة علامة تدل على الكتابة العربية المسيحية، في وقت كان المسيحيون يتمتعون فيه بمنفذ سبّاق إلى جمهورية العرب الكتابية. التغيرات التاريخية الطارئة على وضع المسيحيين، وتحسّن دخولهم في الحقل الأدبي، أدى إلى تغيرات في آرائهم بالعربية.
إن جدال 1871 بين بيارتة سوريا، هؤلاء الذين كانوا قد ترعرعوا في كنف عائلات كاثوليكية متعلّمة، يُظهر كم أن الركاكة كانت حصيلة رغبتهم في دخول الحقل الأدبي من بابه الأوسع. كان رجال الثقافة في ذلك الوقت قد تلقوا تعليمهم بطرق كلاسيكية متشابهة، وعاشوا في المنطقة نفسها في ضواحي بيروت في منطقة الحدث. وكان القدر المتربص بهم ينتهي بطموحهم بالعمل كناسخين وورّاقين عند أمراء المنطقة. عندما كبروا، كانت الحياة قد دارت، فوجدوا أن خياراتهم قد زادت مع دخول المُرسَلين المسيحيين إلى المنطقة، فعملوا معهم وترجموا كتبهم الدينية وعلّموا في مدارسهم. بعد ذلك، تشعبت طرقهم وأصبحوا يتعاطون الكتابة في أماكن مختلفة من العالم، وتحت أنظمة رعاية مختلفة تتنافس مع بعضها في الثقافة والسياسة والاقتصاد. فالعمل مع الإدارة العثمانية كان يختلف عن العمل تحت وصاية الأميركان أو الفرنسيين.
في إحدى أوجهه، كان مفهومهم للركاكة يتوسط هذه المنافسات، ويمكن أن يُظهرها لنا في بعض أوجهها. إحدى معاني الركاكة كانت متعلقة بالشدياق، الذي كان في ذلك الوقت تحت رعاية اسطنبول المادية. حدَّدَ الشدياق الركاكة في الاختيار الدقيق للمفردات، في خضّم حقل أدبي متعدد اللغات، وحيث الكلمات تتبدل وتندمج في العثمانية والفارسية والعربية بدون روادع كبيرة. في الضفة الأخرى، كان البستاني، الذي له أصدقاء إفرنجيون من المُرسَلين، وكان يعمل كمترجم في القنصلية الأميركية. البستاني كان مهتماً بعربيةٍ دقيقةِ القواعد، لا تُعرَب على قواعد لغة دخيلة. وبينما تتطلب المفردات الدقيقة تميّزاً منضبطاً، يفرض الانصياع للقواعد انضباطاً حسابياً في أسلوب محدد مسبقاً. في اختلاف التعريفين، تنافست طريقتان في التعامل مع الخطأ اللغوي، كلتاهما تنبثقان من كاتبين مسيحيين يتخيلان علاقتهما بلغة قوم تعتزّ بكونها لغة مقدسّة للقرآن.
ليس السجال حول «الخطأ» جديداً في اللغة العربية، فبعد تكريس الفتح الإسلامي للعربية كلغة مفضلة للسياسة والثقافة والاقتصاد في الإمارات العباسية، ومع دخول قوميات تحمل لغات أخرى إلى جانب العربية، انكبَّ اللغويون العرب على البحث عما سمّوه «اللحن» في الاستعمال اللغوي لأخصامهم العلماء. فإذا برهنوا أن هناك لحناً قاموا بالتشكيك في قدرة الكاتب على الاشتباك الفكري معهم، لا سيما فيما يتعلق بمواضيع دينية وفلسفية ولغوية. وهكذا، أصبح اللحنُ الشكلَ اللغوي لرفض دخول فرد إلى المجموعة، فعربيته ليست أصيلة بما يكفي لتخوله أن يكتب في شرائكها ولغتها وقرآنها. ما يميز مفهوم الركاكة في عصر النهضة عن مفهوم اللحن أن استعماله لم يقتصر على إخراج من ليس بعربي اللسان منذ الطفولة من المجموعة، ولكنه امتدّ ليحدّد من له الشرعية بين العرب للكتابة والتفكير في أسس اللغة والمجتمع والدين تحت المظلة العثمانية وتغيُّر العلاقة مع أوروبا. التغيير الذي نجده في النهضة هو تغيّر طائفي، بمعنى أن المسيحيين من الكتّاب كان لهم الرأي الحَكَم في هذا الموضوع، على خلاف العصر العباسي الذي كان يحكمه التمييز القومي، الذي فاضل العرب على جميع الأقوام المحكومة لهم. فالركاكة، كاللحن، واسطة للفهم التاريخي للتغيّرات المستجدة على اللغة والسياسة، وهي تختلف عن اللحن في كونها ترصد صعود مجموعة دينية من الهامش لتصبح الحَكَم الأساس في وضع الركيزة الأدبية لتاريخ الأدب العربي.
بعد دخول المُرسَلين إلى بيروت في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وفي خضمّ التحولات الهائلة على الصعيدين السياسي والثقافي والاقتصادي التي رافقت وجودهم، كان أول جيل من كتاب عصر النهضة قد عدل عن مهنة النسخ التي كانت تطلبها الكنائس والأقسام الإدارية في السلطنة العثمانية، والتي كانت تنتظرهم ليتحولوا إلى مثقفين: متعهدين أدبيين يبيعون ما يكتبون ويقتاتون منه. هذا التحوّل، من الحماية العثمانية المحلية إلى حماية أجنبية، فتح لهم أسواقاً أدبية وعلاقات جديدة، وعرّفهم على أنواع جديدة من الممارسات والفضاءات الأدبية. استغلَّ هؤلاء الكتّاب القوة المالية المُعَولمة للمُرسَلين، كما استغلّوا الاحتلال المصري لبيروت، وبعد ذلك الأشكال التي أخذها الاستعمار الفرنسي في ذلك الوقت مع العناية بعدم قطع الحبل مع الدولة العثمانية بالرغم من ضعفها المتسارع. استغلَّ الكتاب هذا التعدد والتنافس على رعاية ودعم الأعمال الثقافية لبلورة مشروع أدبي وكتابي حديث. أما في المنحى الآخر، فقد طرأ جديدٌ على المنهجية الفيلولوجية التي تحولت عن تاريخها التقليدي الطويل في الدراسات اللاهوتية، لتهتم أكثر باجتراح منهجيات أدت إلى تطوير حقل النقد الغربي فيما بعد.
ولو مواربة، اضطر الكتّاب المسيحيون الطامحون بأن يصبحوا الفقهاء الجدد للّغة العربية، وأن يعبروا عن موقفهم في جدال لغوي كان قد بدأ مع الأشعريين والمعتزلة منذ ألف سنة تقريباً، في القرن التاسع؛ والذي كان يسأل إذا ما كانت اللغة مقدّسة كونها لغة القرآن. في أعمال الشدياق والبستاني واليازجي في فقه اللغة والمعجمية والقواعد والأدب، نجد طرقاً مختلفة لمحاولة الإجابة عن هذا السؤال في طروحات عن ماهية الحداثة وكيف نكتب عنها نحن الذين نشأنا في كنف الإسلام وهيمنته اللغوية؟ على السطح تبدو جدالاتهم اللغوية -كتلك التي دارت حول من هو الركيك بينهم في سنة 1871- خالية من أي فروقات جوهرية تُذكر. ولكن على المحك، كانت علاقة اللغة بالدين وبلورة مفهوم حديث للغة قد تزامنت مع النزاع الطائفي الذي أدى إلى المجازر المرتكبة ضد المسيحيين في حلب وجبل لبنان ودمشق سنة 1860.
الركاكة والنهضويون المسيحيون
لم ينشغل المسيحيون بالركاكة في الحداثة الأولى التي تلت عصر الإصلاح الكنسي والفتح العثماني للمشرق. في تلك الحقبة، جاورت الأسلوبَ الكتابيَ الفصيحَ مستوياتٌ أخرى من اللغة كان يجوز استعمالها كتابياً. يعرف اللغويون هذه الأساليب بـ «اللغة الوسطى» كونها ليست تماماً عاميّة، كما أنها ليست فصحى. كانت اللغة الوسطى عبارة عن لغة كتابية تختلف عن الفصحى في كونها لا تتبع قواعداً مفروضة ومُجمعاً عليها مسبقاً، وإنما تقوم على التغاير والفرق. كما يُبيّنُ الباحثون والمؤرخون كمديحة دوس وهامفري دايفيس وجيروم لانتان وغيرهم، كانت هذه اللغة متداولة بين جميع أطياف المتكلمين بالعربية وبين جميع الطوائف في بلاد الشام ومصر. مع ذلك، يصر بعض الباحثين مثل جوشوا بلاو وجاك غراند هنري على أن هذا التغاير اللغوي كان أكثر انتشاراً عند فئات تنتمي إلى الأقليات منها إلى المسلمين، فكتبَ بلاو عن وجود لغة عربية مسيحية ويهودية خاصة تميزت أدبياتها بعدم اهتمامها بالقواعد التقليدية للغة المكتوبة.
إن أحد أسباب هذا الفرق بين الأقليات والمسلمين من العرب هو اعتماد الأقليات على الترجمة في إنتاج حقلهم الأدبي. ويعتمد توظيفهم للعربية على الدور التاريخي الذي تقوم به الترجمة في مرحلة معينة. فنجد في العصر العباسي أن المسيحيين قد نشروا نصوصاً تتّبعُ بدرجة عالية الأسلوب الكتابي الفصيح في نصوص علمانية لا تتكلم عن الدين. كما أننا نجد في ذلك العصر مترجمين لم يهتموا بتدجين نصوصهم في عربية فصيحة. وفي بداية العصر الحديث أيضاً كانت النصوص المسيحية، أي تلك النصوص التي لها قيمة دينية عند المسيحيين، تستعمل الأسلوبين. هكذا كان الحال في الأسلوب الانتقائي الذي استعمل في ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية في روما سنة 1671، والذي يعرف بـ «البيبليا ساكرا أرابيكا». كتب مترجمو هذا الإنجيل في المقدمة: «في هذا النقل العربي تجد شيئاً من الكلام غير موافق قوانين اللغة بل مضاداً لها كالجنس المذكر بدل المؤنث والعدد المفرد بدل الجمع والجمع بدل المثنّى والرفع مكان الجر والنصب في النصب والجزم في الفعل.... فكان سبباً لكل هذا سذاجة كلام المسيحيين فصار لهم نوع ذلك اللغة مخصوصاً. ولكن ليس في اللسان العربي فقط بل وفي اللاتيني واليوناني والعبراني.»2.
كان هذا إشهاراً باستعمال لغة ساذجة دالة على هوية مسيحية، تكوَّنت في سياق تاريخي قائم على نظام الملل الذي وضعه العثمانيون بعد احتلالهم للمشرق سنة 1516. كان هذا النظام يسمح للأقليات أن تدار من خلال كنائسها وشيوخ دينها، شرط أن يدفع هؤلاء الضرائب للعثمانيين، بعلاقة مالية تسمى الحصاد الضريبي (ولا تختلف كثيراً عن العلاقة المالية التي تفرضها الحكومات العربية اليوم على شعوبها) حيث يعمل الشعب، وتحصد الحكومات الربح دون منفعة للعامل. في نظام الملل، كانت المؤسسات الدينية تعمل كوسيط بين الدولة العثمانية والعامل. بالمقابل، سمحت إستانبول لتلك الملل أن تعيش باستقلالية وأن تسيّر أمورها حسب قوانينها الداخلية. ينعكس هذا الوضع العثماني في سياسة لغوية انعزالية عند المسيحيين في كتابتهم للعربية، ليس فقط بالخروج عن القواعد، ولكن في حالات خاصة استعمال الخط الكرشوني لكتابة العربية. فأضحت طرقهم الكتابية تفصلهم عن السائد، في مجاراة لسياسات العزل الاقتصادية والسياسية التي شكلت علاقة الأقليات بالمجتمع العربي ككل.
مع تغيّر أحوال المسيحيين في عصر النهضة، تخلى كتّابٌ ترعرعوا في ظل الزمن القديم عن عزلتهم اللغوية وغامروا ليصبحوا من أهم اللغويين العرب في العصر الحديث. ويمكن رصد هذا التحول عند جميع أبناء الجيل الأول من كتاب النهضة، بعدما تعرفوا على المبشرين الأجانب وعملوا معهم وترجموا أناجيلهم. تشكلت في هذا الجيل مثالية لغوية تقدّس الفصيح، فتجذرت في الوعي المعاصر ومحت أي ذاكرة لغوية تخالف هذا التوجه الصارم في التعامل مع الكلام المقبول كتابياً. كلغة مقدسة، أصبح الاهتمام بالفصحى ينصبُّ على قواعدها واصطلاحاتها المعجمية، وليس على ما يُتناقل بها من أفكار. هكذا ابتدأ النقد الأدبي حياته المهنية: ملاحقة وتوبيخ الكتاب الشاذّين في الإعراب والقواعد، والذين سوّلت لهم أنفسهم استعمال كلام عاميّ.
راجت هذه الفصحى الصارمة بين أواسط الكتّاب المسيحيين، الذين صبّوا اهتمامهم في إعادة تشكيل هوية جمعية قادرة على تخطي الترميز الطائفي. هذا لا يعني حتماً أنهم علمانيون كما الاعتقاد السائد، وإنما لأن نجاحهم في الفصيح سمح لهم بأن يصبحوا المشرعين الأدبيين الأساسيين في كلام العرب. تبلور هذا الاهتمام بالفصيح في نصوص جارت الذائقة المسلمة المسيطرة على المُكرَّس اللغوي، فاختار الكتاب المسيحيون أشكالاً أدبية تخصَّصَ بها المسلمون دون غيرهم كالمعجمية والمقامة3. ومن خلال الطباعة الحديثة، انتشرت تلك النصوص بسرعة بين القراء بأعداد كبيرة. اقترنت هذه القدرة التكنولوجية القائمة على عملية صف ميكانيكي للكتاب بنظرة ميكانيكية، مهمتها إنتاج لغة عابرة للّهجات وفعّالة اقتصادياً. إن أول من انتبه لتلك الفعالية كان المُبشّر عالي سميث، الذي أشرف على مشروع ترجمة الإنجيل المنشور سنة 1865.
في طرحه لمشروع الترجمة عند رؤسائه في بوسطن، تكلّمَ سميث عن الإمكانية الاقتصادية الكامنة في العربية الفصحى، فكتب: «هذا المشروع هو من أجل جنسٍ جزءٌ قليل منه فقط هم مسيحيون: ولذلك كنّا على حذر من أن نسجل مفردات كثيرة حاضرة عند المسيحيين بمعنى لا يشرعه المحمديون في استعمالهم للّغة كيلا تعطي استعمالاتنا فكرة خاطئة للعقل المحمدي»4. إن رغبة سميث بأن يكون المسلمون من قرّاء كتابه المقدس غيّرت وجهة الكلام المسيحي عن سمة السذاجة المعتمدة في نصوصهم، وراهنت على أعداد المسلمين في اجتراح سوق مشترك لما تنتجه المطبعة السورية التي كان يرأسها.
بطرس البستاني، الذي عمل مع سميث على الترجمة، كان أيضاً يفضّلُ الأسلوب الفصيح. المحفز عنده لم يكن فقط الفعالية الاقتصادية في نشر الترجمة، فاهتمامه الأساسي كان نابعاً من التوظيف السياسي الذي تسمح به الفصحى. في دفاعه عن الفصحى، حدّدَ البستاني الأطر التي يجب للكتاب العرب اتباعها في تفعيلهم للّغة الكلاسيكية، فكتب في خطبته الشهيرة في آداب العرب أن المعجم العربي يجب أن يُشذَّب للتخلص من الكلمات العتيقة، ولكن القواعد يجب أن تبقى على حالها للبقاء على التواصل اللغوي والأدبي عبر التاريخ. فالعربية، كما جادل، يجب أن لا تصبح كاللاتينية: «لغة العلماء وأصحاب التفتيش»5. فالحل عند البستاني يتطلب عزل اللغة الدارجة عن الكتابة، ولكن بعد الاستجابة لنزوع الناس إلى البسيط في الكلام والأسلوب. لذلك، كما جادل، يفترض على لغوييّ عصره بأن يعملوا على تبسيط اللغة من خلال تشذيب المعجم، مع المحافظة على القواعد لأن القواعد تضمن التواصل اللغوي بين قرّاء اليوم والنصوص المكرسة في التراث، خصوصاً الكتب الدينية المهيمنة على اللغة. راهنَ البستاني على قدرة القواعد على مد جسور تسمح بالتعرف على المخزون الثقافي العربي، وخاصة الديني منه، كما تدل استعارته المواربة لتاريخ محاكم التفتيش الأوروبية في القول. بغض النظر عن فشل هذا الرهان كما قُدِّرَ لنا أن نختبر - فالقواعد اليوم لا تساهم البتة في إنارة العقول وتعريف البشر بمخزونهم الديني والثقافي- تبقى أهمية البستاني في نجاحه في فتح فضاء لغوي يضم الصوت المسيحي إلى الجدالات على اللغة وسياساتها.
كان البستاني ينظر إلى دوره كوسيط ثقافي يترجم الثقافة الغربية والمسيحية لمجتمع عربي ذي أكثرية مسلمة، وكمصحح لغوي وأدبي تنبري مسؤوليته على مجابهة وباء الركاكة الذي وجده منتشراً في الكتابات الأدبية، والذي كان بالنسبة له مؤشراً على الانحطاط الاجتماعي الذي سيؤدي إلى محاكم تفتيش إسلامية. البستاني كان يرى أن الشعب أميّ: أغلبهم لم يقرأ إلا الزبور أو القرآن، وهو، بأحسن الأحوال، مطّلع على بعض القصص الشعبية. الخواص يتحملون المسؤولية الأكبر لهذه الأميّة، حتى بينهم يصعب «أن نجد أحداً من أبناء العرب يمكن أن يشار إليه بالبنان بأنه يعرف لغته وقواعدها حق المعرفة»6. جسَّ البستاني النبض اللغوي في قلب القواعد، وصمَّمَ الإطار الذي دخلت فيه النقاشات على العربية عند الأجيال المقبلة من كتاب النهضة، وأسَّسَ لما يعرف بالفصحى الحديثة.
كان البستاني خائفاً على مصير العربية، يسكنه القلق الذي رافق وصفه للمجتمع بالانحطاط وإشارته لدور المُرسَلين في المثابرة على دراسة العربية. العربية كانت في خطر النسيان، ولكنها كانت أيضاً تواجه خطر دخول المفاهيم الغربية عليها. في خطبة آداب العرب، التي ألقاها البستاني قبيل سنة المجازر في جبل لبنان ودمشق وحلب عام 1860، حذَّرَ من أن استعارة مفردات غربية «سيقتل لغة الأم». بعد اندلاع الحرب، وفي سلسلة منشورات معروفة بـ «نفير سورية» وُزِّعَت مجاناً، شدَّدَ البستاني على أهمية تدريس اللغة للقيام بالوطن من البربرية، فطالب أبناء وطنه أن يتعلموا من المُرسَلين ويبذلوا المجهود في تعلم اللغة؛ «وأن نرى الأجانب الذين يرغبون خير البلاد لا صوالحهم الذاتية يتفقون على تعليم ما يعلمونه لأبناء الوطن بلغة البلاد أي العربية»
يتذكر الباحثون البستاني اليوم لمثابرته على حثّ الناس على العلمانية في وطنه في منشورات نفير سورية، ولكن اهتماماته اللغوية تكشف عن مفهوم شديد التعقيد للعلمانية. في نتاجه الموسوعي في اللغة العربية، خاصة في معجمه محيط المحيط تنكشف إشكالية الدين وعلاقته بالهوية السياسية من خلال بلورة تعريفات جديدة للمفردات التي سيضمها القاموس الحديث. من خلال عمله، أوجد البستاني مساحة لغوية تستوعب التعابير والثقافة المسيحية. والقاموس المنجز قدَّمَ نفسه كمعجم عام للغة العربية يقوم على تدخل ممنهج في تغيير مسار تاريخ العربية اللغوي. يهمشُ التاريخُ الجديد الذي يقترحه البستاني الأسطورة اللغوية التي وَضعت مُجملَ أصل الكلام العربي ونشأته في الجزيرة العربية. إذا قرأنا معجمه نجد أصولاً مغايرة تفتح العربية على اللغات المشرقية الإنجيلية، من السريانية والعبرانية إلى الإغريقية والرومانية. حاججَ البستاني بأن هذه اللغات تسهب في أصول تاريخية أدق للعربية. تتلخص من هذا التاريخ نقطتان: الأولى تعرقل حتمية الرجوع إلى القرآن لإيجاد حلول لمعضلات لغوية، كما كان سائداً من قبل عند المعجميين العرب الذين توارثوا الأساطير الأولى عن نشأة اللغة العربية في الحجاز8؛ والنقطة الثانية تفترض أن العرب تعلّموا الحضارة والمدنية على يد المسيحيين المشرقيين، بعد أن فتحوا بلادهم في القرن السابع. في محيط المحيط لم تنفصل اللغة عن الدين، بل توسعت لتستقبل الفكر الأقلوي الذي يفهم العلمانية بكونها صراعاً طائفياً ومنافسة على تاريخ العربية اللغوي بين أسطورتين، مسيحية ومسلمة.
في ذلك الوقت، قدَّمَ الشدياق نقداً قاسياً لعمل البستاني اللغوي، لعدم قدرته على تخطي السطوة الدينية على اللغة. في 1871، قلَّلَ الشدياق من قيمة أفكار منافسيه بنعتهم بمجرد مترجمين لأفكار غربية يغطون على قصورهم الإبداعي من خلال تفريغ الكلام المستعمل من المعاني؛ «فإني أرى أكثر الذين تعلموا اللغات الإفرنجية من أبناء العرب المسيحيين صاروا يخالون أن يجعلوا العربية تابعة لتلك اللغات»، فهُم ينسخون التعبيرات الغربية ويكتبون بصيغ معقدة لا يمكن أن يطلق عليها اسم الكلام، وإنما هي اصطفاف لمفردات. شهَّرَ الشدياق بالهوية المسيحية لمنافسيه، وردَّدَ ما كان قد أصبح رأياً نمطياً بأن المسيحيين العرب لا يعرفون القواعد اللغوية السائدة. في جلافة اتهامه بأن الهوية الطائفية هي المحفز المضمر للكتاب البيارتة، وضع الشدياق مشاجرة 1871 في إطار الشحن الطائفي الذي كان باقياً بعد عشر سنين من اندلاع الحرب الأهلية، واتهمهم بالخروج عن الطاعة العثمانية. كان الشدياق يحاول كسب المعركة اللغوية بفتح عين الرقابة المنشأة حديثاً على جرائد منافسيه وكتاباتهم9.
هوامش
- . S. Sheehi, Towards a Critical Theory of Al-Nahḍah: Epistemology, Ideology and Capital, Journal of Arabic Literature 43, no. 2–3 (2012): 269–98.
- Biblia Sacra Arabica, 1671
- حتى عندما كتب مسيحيون في هذه الأشكال، كان قرّاؤهم فقط من المسيحيين فلم يكتبوا لقراء مسلمين.
- Cornelius Van Dyck Eli Smith, Brief Documentary History of the Translations of the Scriptures into the Arabic Language, 1900
- بطرس البستاني، خطبة في آداب العرب، بيروت 1859، ص 25#
- بطرس البستاني، نفير سوريا، تحرير يوسف قزما الخوري، بيروت: دار فكر للأبحاث والنشر، 1990. (1860).
- Rana Issa, The Arabic Language and Syro-Lebanese National Identity: Searching in Buṭrus al-Bustānī’s Muḥīṭ al-Muḥīṭ, Journal of Semitic Studies, Forthcoming 2016
- Donald J. Cioeta, Ottoman Censorship in Lebanon and Syria, 1876-1908, International Journal of Middle East Studies 10, no. 2 (1979): 167–86