سطر 87: |
سطر 87: |
| | | |
| مقارعة هذه المعاملة الممانعاتيّة البخيلة مثّلت الصعوبة الأجمّ التي واجهتُها أثناء مسار تعليمي. وهي تجلّت في العادة عند أناس لديهم علاقة بالغرب! كانت تلك المُعاملة الأمنيّة في الجلسات الاجتماعيّة مُهينة وصعبة، وكانت تُباغتني مراراً. | | مقارعة هذه المعاملة الممانعاتيّة البخيلة مثّلت الصعوبة الأجمّ التي واجهتُها أثناء مسار تعليمي. وهي تجلّت في العادة عند أناس لديهم علاقة بالغرب! كانت تلك المُعاملة الأمنيّة في الجلسات الاجتماعيّة مُهينة وصعبة، وكانت تُباغتني مراراً. |
| + | |
| | | |
| | | |
سطر 102: |
سطر 103: |
| | | |
| يختلف التحرّش من بيئة إلى أخرى من حيث التواتر والحدّة. في القاهرة كانت الحوادث تتكرر باستمرار وكأنّها بثّ راديو متواصل في الخلفيّة اعتدتُ على ثرثرته. أمّا في بيروت فالحوادث أقلّ، لكنّ المتحرّش على استعداد للتمادي أكثر، واحتمال العنف الجسديّ أكبر. | | يختلف التحرّش من بيئة إلى أخرى من حيث التواتر والحدّة. في القاهرة كانت الحوادث تتكرر باستمرار وكأنّها بثّ راديو متواصل في الخلفيّة اعتدتُ على ثرثرته. أمّا في بيروت فالحوادث أقلّ، لكنّ المتحرّش على استعداد للتمادي أكثر، واحتمال العنف الجسديّ أكبر. |
| + | |
| | | |
| <big> | | <big> |
سطر 121: |
سطر 123: |
| | | |
| وأنا لست غريبة عن تجربة الاقتلاع من الجذور والنزوح التي تشبه في بعض جوانبها تجربة النكبة الفلسطينيّة (وتشبه كذلك تجربة اليهود العرب الذين طردوا من أوطانهم أو هربوا منها). إذ كان والدي من أولئك الذين تهجروا عام 1947 جراء تقسيم شبه القارة الهنديّة إلى دولَتيّ الهند وباكستان. وهو نزح مع جدّتي وعمّي وعمّتي هرباً من المذابح الطائفيّة على طرفي الحدود بين الهندوس والمسلمين، إذ كان حظهم الانتماء إلى عائلة هندوسيّة في مدينة لاهور التي أضحت في باكستان. اختبأوا في شاحنة لنقل السجناء هرّبهم فيها قريب يعمل في سلك الشرطة، فأوصلهم بأمان إلى مدينة أمرتسار وراء الحدود. وعلى طريق النزوح شهدوا القتل والفظائع، وأقاموا في أكثر من مخيم قبل أن يستقر بهم المقام في نيودلهي ويعثر عليهم جدّي الذي لم يعرف مصير عائلته. كانت عائلتي محظوظة إلى حدّ ما، إذ سلموا من أيّ أذى جسدي، لكنّهم نتيجة رسم الخطوط على خرائط الساسة، فقدوا بيتهم وأملاكهم في المدينة التي يُقال لك عنها «إن لم تُبصرها فإنّك لم تولد بعد». أروي هذه التفاصيل كي أبيّنَ سبب تماهيّ مع التجربة الفلسطينيّة، فالتهجير مطبوع في ذاكرة عائلتنا، ويتم تناقله فيها من جيل إلى جيل. | | وأنا لست غريبة عن تجربة الاقتلاع من الجذور والنزوح التي تشبه في بعض جوانبها تجربة النكبة الفلسطينيّة (وتشبه كذلك تجربة اليهود العرب الذين طردوا من أوطانهم أو هربوا منها). إذ كان والدي من أولئك الذين تهجروا عام 1947 جراء تقسيم شبه القارة الهنديّة إلى دولَتيّ الهند وباكستان. وهو نزح مع جدّتي وعمّي وعمّتي هرباً من المذابح الطائفيّة على طرفي الحدود بين الهندوس والمسلمين، إذ كان حظهم الانتماء إلى عائلة هندوسيّة في مدينة لاهور التي أضحت في باكستان. اختبأوا في شاحنة لنقل السجناء هرّبهم فيها قريب يعمل في سلك الشرطة، فأوصلهم بأمان إلى مدينة أمرتسار وراء الحدود. وعلى طريق النزوح شهدوا القتل والفظائع، وأقاموا في أكثر من مخيم قبل أن يستقر بهم المقام في نيودلهي ويعثر عليهم جدّي الذي لم يعرف مصير عائلته. كانت عائلتي محظوظة إلى حدّ ما، إذ سلموا من أيّ أذى جسدي، لكنّهم نتيجة رسم الخطوط على خرائط الساسة، فقدوا بيتهم وأملاكهم في المدينة التي يُقال لك عنها «إن لم تُبصرها فإنّك لم تولد بعد». أروي هذه التفاصيل كي أبيّنَ سبب تماهيّ مع التجربة الفلسطينيّة، فالتهجير مطبوع في ذاكرة عائلتنا، ويتم تناقله فيها من جيل إلى جيل. |
| + | |
| | | |
| <big> | | <big> |
سطر 130: |
سطر 133: |
| | | |
| في شهادتي الشخصيّة هذه في الجندر واللغة وتجربة الإقامة في بلاد الشام، وفي ما اختبرتُهُ في البيئة الخارجيّة حولي وفي عوالمي الداخليّة المتناقضة، ثمة ما يجعلني أقول إنّ ما أدعو إليه لا يقتصر على دعوة المساواة بين الرجل والمرأة، بل هو دعوة لنسف هذه الثنائيّة المصطنعة برمّتها ومن أُسسها. فتلك ثنائيّةٌ تضع الرجولة والأنوثة على طرفي نقيض، وفي صراع أزلي على «مساواة» لن تتحقق بوجودها. إنّها ثنائيّة تطمس كل الاحتمالات الكامنة في الرجولة والأنوثة، كما الاحتمالات الموجودة خارجهما. فإذا قال الزعيم ماو في إحدى إشراقاته (ويا ليتها فعلاً نُفِّذت!)، «دع مئة زهرة تتفتّح ومئة مدرسة فكريّة تتنافس»، يمكننا تحريف كلامه (وما ألذّ تحريف كلام من يتمتع بهالة القدسيّة) والقول «دع مئة زهرة تتفتّح ومئة مذهب جندريّ ينافس ثنائيّة الرجل/ المرأة!»، فالتحوّل الجندري (الترانس) لا يضمن التوجّه نحو التحرر تلقائيّاً كما شهدنا في حالة المتحوّلين في إيران. فأين التحرّر بالضبط عند من تحوّلت من هويّة الذكورة إلى الأنوثة (سواء أكان هدفه التمويه عن مثليته أم نزعةٌ صادقة) فأجبرت على ارتداء الشادور وعدم الاختلاط بالرجال؟؟ كذلك حالة العديد من المتحوّلين الرجال (من الأنوثة إلى الذكورة) الذين ما لبثوا أن أكتسبوا صفات ذكوريّة تبدو لنا وكأنّها حُقنت بهم مع كلّ جرعة تستوسترون تلقوها. وهذا الأمر بيّنٌ في المجتمعات المثليّة في الغرب، كما في كثيرٍ من الحالات التي شهدتها شخصيّاً وسمعت بها في المنطقة العربيّة. ولدينا مثل شهير في شخصيّة «سامية/ سامي»، المُصوَّرة في المسلسل السوري شتاء ساخن (2009)، والتي ترتبك جراء إثارتها من قبل نساء راقصات، فتقنعها طبيبة، أرادت درأ الفضيحة عن أهلها، بوجوب التحوّل إلى شاب، ثمّ ما أن اكتسب «سامي» هويّته الجندريّة الجديدة حتى بدأ بممارسة الوصاية الأبويّة على أخته المُحجبة، وكأنّ الأمر بديهي ولا مفرّ منه! | | في شهادتي الشخصيّة هذه في الجندر واللغة وتجربة الإقامة في بلاد الشام، وفي ما اختبرتُهُ في البيئة الخارجيّة حولي وفي عوالمي الداخليّة المتناقضة، ثمة ما يجعلني أقول إنّ ما أدعو إليه لا يقتصر على دعوة المساواة بين الرجل والمرأة، بل هو دعوة لنسف هذه الثنائيّة المصطنعة برمّتها ومن أُسسها. فتلك ثنائيّةٌ تضع الرجولة والأنوثة على طرفي نقيض، وفي صراع أزلي على «مساواة» لن تتحقق بوجودها. إنّها ثنائيّة تطمس كل الاحتمالات الكامنة في الرجولة والأنوثة، كما الاحتمالات الموجودة خارجهما. فإذا قال الزعيم ماو في إحدى إشراقاته (ويا ليتها فعلاً نُفِّذت!)، «دع مئة زهرة تتفتّح ومئة مدرسة فكريّة تتنافس»، يمكننا تحريف كلامه (وما ألذّ تحريف كلام من يتمتع بهالة القدسيّة) والقول «دع مئة زهرة تتفتّح ومئة مذهب جندريّ ينافس ثنائيّة الرجل/ المرأة!»، فالتحوّل الجندري (الترانس) لا يضمن التوجّه نحو التحرر تلقائيّاً كما شهدنا في حالة المتحوّلين في إيران. فأين التحرّر بالضبط عند من تحوّلت من هويّة الذكورة إلى الأنوثة (سواء أكان هدفه التمويه عن مثليته أم نزعةٌ صادقة) فأجبرت على ارتداء الشادور وعدم الاختلاط بالرجال؟؟ كذلك حالة العديد من المتحوّلين الرجال (من الأنوثة إلى الذكورة) الذين ما لبثوا أن أكتسبوا صفات ذكوريّة تبدو لنا وكأنّها حُقنت بهم مع كلّ جرعة تستوسترون تلقوها. وهذا الأمر بيّنٌ في المجتمعات المثليّة في الغرب، كما في كثيرٍ من الحالات التي شهدتها شخصيّاً وسمعت بها في المنطقة العربيّة. ولدينا مثل شهير في شخصيّة «سامية/ سامي»، المُصوَّرة في المسلسل السوري شتاء ساخن (2009)، والتي ترتبك جراء إثارتها من قبل نساء راقصات، فتقنعها طبيبة، أرادت درأ الفضيحة عن أهلها، بوجوب التحوّل إلى شاب، ثمّ ما أن اكتسب «سامي» هويّته الجندريّة الجديدة حتى بدأ بممارسة الوصاية الأبويّة على أخته المُحجبة، وكأنّ الأمر بديهي ولا مفرّ منه! |
| + | |
| | | |
| | | |
سطر 167: |
سطر 171: |
| | | |
| أكثر المهامّ إلحاحاً علينا اليوم هي أن نستملك الكلام بلغتنا في ما يخصّ أجسادنا ومعتقداتنا الجندريّة والجنسيّة وغيرها، وإلّا سنظلُّ غريبين عن المجتمعات التي نتوسّل الانتماء إليها من دون أن نوصم بأنواع شتّى من العار والعيب، فنضطر للهرب نحو بلدان وثقافات بعيدة لا تريدنا كما نريد أن نكون. | | أكثر المهامّ إلحاحاً علينا اليوم هي أن نستملك الكلام بلغتنا في ما يخصّ أجسادنا ومعتقداتنا الجندريّة والجنسيّة وغيرها، وإلّا سنظلُّ غريبين عن المجتمعات التي نتوسّل الانتماء إليها من دون أن نوصم بأنواع شتّى من العار والعيب، فنضطر للهرب نحو بلدان وثقافات بعيدة لا تريدنا كما نريد أن نكون. |
| + | |
| | | |
| | | |
سطر 194: |
سطر 199: |
| | | |
| - إمكانيّة استبدال كلمة «رجل» بامرئ/المرء وهو الأقرب الى كلمة امرأة - المرء/المرأة بدل رجل/امرأة، كما يحاجج شاكر لعيبي: «نحن نعلم أنّ لغة العرب لا تحتفظ إلا بصيغتيْ المذكّر والمؤنّث، غالباً. من الناحية اللغويّة ثمّة اتّفاق مبدئيّ على ذلك، لكن من الزاوية المنطقيّة، لعلّ هناك صيغاً محايدة، لا هي بالمذكّر ولا هي بالمؤنّث، وإنْ اُعتبرتْ في إطار المذكّر لغويّاً. مثل كلمة (المرء) التي هي «صيغة ذكوريّة» تصف (الإنسان) مهما كان جنسه، لكنها موصولة بكلمة (المرأة) كما نرى، ليس فقط لغويّاً وإنما دلاليّاً وتاريخيّاً. فمن أمثال العرب التي ينقلها الميدانيّ: «المرأةُ مِن المرء وكلُّ أَدْماءَ مِن آدم. وقالت امرأَة من العرب: أَنا امْرُؤٌ لا أُخْبِرُ السِّرَّ. وقد اعتبروا هذا كلّه نادراً شاذّاً، ونراه بقليل من التردّد صحيحاً إذا اعتبرنا مفردة المرأة خارجة بالأحرى من (مرء) وليس كلمة (رجل). أمّا إذا كانت مفردة المرء، المحايدة جنسيّاً، تعني الإنسان فإنّ هناك اعترافاً بأنّ المرأة هي الأصل». قد نتّفق أو لا نتّفق مع هذه النظريّة، لكنّها مرّة أخرى تفتح لنا باباً للتحرّر الجندريّ لم يكن بادياً لنا من قبل. لنفترض أننا نجحنا في استبدال «الرجل» بالمرء، وبذلك قلصنا سماكة جدار الثنائية بحيث لا يفصل المرء عن المرأة غير الـ ة. هل سيتحرر المجتمع تلقائياً من أدوار الرجولة والأنوثة التي يرزح تحتها، ومن ثقافة العيب والحياء والشرف المتحالفة مع هذه الأدوار. أستبعدُ ذلك. | | - إمكانيّة استبدال كلمة «رجل» بامرئ/المرء وهو الأقرب الى كلمة امرأة - المرء/المرأة بدل رجل/امرأة، كما يحاجج شاكر لعيبي: «نحن نعلم أنّ لغة العرب لا تحتفظ إلا بصيغتيْ المذكّر والمؤنّث، غالباً. من الناحية اللغويّة ثمّة اتّفاق مبدئيّ على ذلك، لكن من الزاوية المنطقيّة، لعلّ هناك صيغاً محايدة، لا هي بالمذكّر ولا هي بالمؤنّث، وإنْ اُعتبرتْ في إطار المذكّر لغويّاً. مثل كلمة (المرء) التي هي «صيغة ذكوريّة» تصف (الإنسان) مهما كان جنسه، لكنها موصولة بكلمة (المرأة) كما نرى، ليس فقط لغويّاً وإنما دلاليّاً وتاريخيّاً. فمن أمثال العرب التي ينقلها الميدانيّ: «المرأةُ مِن المرء وكلُّ أَدْماءَ مِن آدم. وقالت امرأَة من العرب: أَنا امْرُؤٌ لا أُخْبِرُ السِّرَّ. وقد اعتبروا هذا كلّه نادراً شاذّاً، ونراه بقليل من التردّد صحيحاً إذا اعتبرنا مفردة المرأة خارجة بالأحرى من (مرء) وليس كلمة (رجل). أمّا إذا كانت مفردة المرء، المحايدة جنسيّاً، تعني الإنسان فإنّ هناك اعترافاً بأنّ المرأة هي الأصل». قد نتّفق أو لا نتّفق مع هذه النظريّة، لكنّها مرّة أخرى تفتح لنا باباً للتحرّر الجندريّ لم يكن بادياً لنا من قبل. لنفترض أننا نجحنا في استبدال «الرجل» بالمرء، وبذلك قلصنا سماكة جدار الثنائية بحيث لا يفصل المرء عن المرأة غير الـ ة. هل سيتحرر المجتمع تلقائياً من أدوار الرجولة والأنوثة التي يرزح تحتها، ومن ثقافة العيب والحياء والشرف المتحالفة مع هذه الأدوار. أستبعدُ ذلك. |
| + | |
| + | |
| | | |
| '''عساها خاتمة الأحزان الجندريّة، أو لا ختام لنصٍّ تسكنه اللامركزيّة''' | | '''عساها خاتمة الأحزان الجندريّة، أو لا ختام لنصٍّ تسكنه اللامركزيّة''' |