تغييرات

اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
وصلات
سطر 16: سطر 16:  
لا يحتاج الحديث عن [[عنف جنسي | العنف الجنسي]] في مصر إلى مقدمات طويلة، فالظاهرة أصبحت واقعاً يومياً لكافة النساء المصريات. ذلك أنّ أية امرأة في مصر باتت عرضه لمستويات مختلفة من الانتهاك الذي يبدأ بالتهديد أو الملاحقة أو التحرش اللفظي، و يصل إلى حد [[تحرش جنسي جماعي | الاعتداء الجنسي الجماعي]] في الشارع. ورغم تسليط الضوء على أحداث التحرير، والتي أخذت بعداً سياسياً نتيجة لمكان وملابسات تلك الاعتداءات، فإن المتابعين لتلك الظاهرة عن كثب طوال السنوات القليلة الماضية دأبوا على الإشارة إلى أن ما حدث ليس بجديد تماماً.  
 
لا يحتاج الحديث عن [[عنف جنسي | العنف الجنسي]] في مصر إلى مقدمات طويلة، فالظاهرة أصبحت واقعاً يومياً لكافة النساء المصريات. ذلك أنّ أية امرأة في مصر باتت عرضه لمستويات مختلفة من الانتهاك الذي يبدأ بالتهديد أو الملاحقة أو التحرش اللفظي، و يصل إلى حد [[تحرش جنسي جماعي | الاعتداء الجنسي الجماعي]] في الشارع. ورغم تسليط الضوء على أحداث التحرير، والتي أخذت بعداً سياسياً نتيجة لمكان وملابسات تلك الاعتداءات، فإن المتابعين لتلك الظاهرة عن كثب طوال السنوات القليلة الماضية دأبوا على الإشارة إلى أن ما حدث ليس بجديد تماماً.  
   −
فالاعتداءات الجنسية الجماعية على النساء في مصر بدأت بالفعل منذ سنوات، وبالتحديد منذ أحداث عيدي الفطر والأضحى عام 2006 بمنطقة وسط البلد، والتي جرت وسط إنكار كامل من الدولة والمجتمع وقتها، ولم تحتج لأي غطاء سياسي توفره التظاهرات والفعاليات السياسية كما حدث بعد ذلك بسنوات وبالتحديد عقب ثورة يناير 2011. ومنذ البداية، صاحب تلك الظاهرة، والتي أخذت منحنى تصاعدياً سريعاً و مخيفاً في نفس الوقت، حالة عامة من التواطؤ المجتمعي والمؤسسي شكلت عائقاً دائماً أمام أية محاولة جادة لمناقشتها والتعامل معها، أو حتى الاعتراف بها. فقد تطور سريعاً خطاب تبريري سعى لتحميل المسؤولية لأطراف تلك الحوادث نفسها سواء [[ناجية | الناجيات]] أنفسهن عبر التركيز على ملبسهن أو سلوكهن أو ردود أفعالهن أثناء الهجوم عليهن، أو على الرجال الذين كانوا في موقع الحوادث نفسها و فشلوا في أداء أدوراهم التقليدية كذكور عليهم عبء حماية النساء.
+
فالاعتداءات الجنسية الجماعية على النساء في مصر بدأت بالفعل منذ سنوات، وبالتحديد منذ [[حوادث التحرش الجنسي الجماعية في عيد الفطر في مصر سنة 2006 | أحداث عيدي الفطر والأضحى عام 2006 بمنطقة وسط البلد]]، والتي جرت وسط إنكار كامل من الدولة والمجتمع وقتها، ولم تحتج لأي غطاء سياسي توفره التظاهرات والفعاليات السياسية كما حدث بعد ذلك بسنوات وبالتحديد عقب ثورة يناير 2011. ومنذ البداية، صاحب تلك الظاهرة، والتي أخذت منحنى تصاعدياً سريعاً و مخيفاً في نفس الوقت، حالة عامة من التواطؤ المجتمعي والمؤسسي شكلت عائقاً دائماً أمام أية محاولة جادة لمناقشتها والتعامل معها، أو حتى الاعتراف بها. فقد تطور سريعاً خطاب تبريري سعى لتحميل المسؤولية لأطراف تلك الحوادث نفسها سواء [[ناجية | الناجيات]] أنفسهن عبر التركيز على ملبسهن أو سلوكهن أو ردود أفعالهن أثناء الهجوم عليهن، أو على الرجال الذين كانوا في موقع الحوادث نفسها و فشلوا في أداء أدوراهم التقليدية كذكور عليهم عبء حماية النساء.
   −
وربما يتجلى ذلك في الجملة التي انتشرت مؤخراً و صارت رد الفعل الطبيعي لدي سماع خبر عن اعتداء جنسي جديد: "هو ايه اللي وداها هناك؟". وقد صاحب هذا الخطاب الشعبي خطاب ثقافي  يبدو أكثر تقدمية وإن كان لا يختلف كثيرا في منطقه وفي مآلات تأويله المجتمعي عن الخطاب الأول والذي ركز على إحالة تلك الظاهرة للتفاوت الاجتماعي والطبقي في المجتمع وكأن الأمر يمكن تفسيره بانتشار أحزمة الفقر في القاهرة، وكأن الرجال الفقراء أو المحرومين هم فقط من [[تحرش جنسي | يتحرشون]] بالنساء اللاتي تم قصرهن هنا على نساء الطبقة الوسطى القاهريات تحديداً. والجدير بالذكر إن هذا الخطاب قد لاقى قبولاً لدى قطاعات عريضة من الطبقة الوسطي نفسها التي آثرت أن تتعامل مع الظاهرة بوصفها تجلياً آخر للانحطاط المجتمعي في مصر، وباعتبارها ناقوس خطر لما يمكن أن يقوم به الفقراء لو تركوا بلا رادع أمني قوي . ويشترك كلٌّ من الخطاب التبريري الشعبي والخطاب الأكثر تقدمية في أنهما يتجاهلان، وعن عمد، مدى انتشار تلك الظاهرة في مختلف محافظات مصر وتعدد أشكالها وتجلياتها وتعرض كافة النساء المصريات بمختلف خلفياتهن الاجتماعية والاقتصادية لها.فما يجري الآن هو تطبيع حقيقي مع ثقافة العنف الجنسي بصورة غير مسبوقة
+
وربما يتجلى ذلك في الجملة التي انتشرت مؤخراً و صارت رد الفعل الطبيعي لدي سماع خبر عن اعتداء جنسي جديد: "[[هو إيه اللي وداها هناك]]؟". وقد صاحب هذا الخطاب الشعبي خطاب ثقافي  يبدو أكثر تقدمية وإن كان لا يختلف كثيرا في منطقه وفي مآلات تأويله المجتمعي عن الخطاب الأول والذي ركز على إحالة تلك الظاهرة للتفاوت الاجتماعي والطبقي في المجتمع وكأن الأمر يمكن تفسيره بانتشار أحزمة الفقر في القاهرة، وكأن الرجال الفقراء أو المحرومين هم فقط من [[تحرش جنسي | يتحرشون]] بالنساء اللاتي تم قصرهن هنا على نساء الطبقة الوسطى القاهريات تحديداً. والجدير بالذكر إن هذا الخطاب قد لاقى قبولاً لدى قطاعات عريضة من الطبقة الوسطي نفسها التي آثرت أن تتعامل مع الظاهرة بوصفها تجلياً آخر للانحطاط المجتمعي في مصر، وباعتبارها ناقوس خطر لما يمكن أن يقوم به الفقراء لو تركوا بلا رادع أمني قوي . ويشترك كلٌّ من الخطاب التبريري الشعبي والخطاب الأكثر تقدمية في أنهما يتجاهلان، وعن عمد، مدى انتشار تلك الظاهرة في مختلف محافظات مصر وتعدد أشكالها وتجلياتها وتعرض كافة النساء المصريات بمختلف خلفياتهن الاجتماعية والاقتصادية لها.فما يجري الآن هو تطبيع حقيقي مع ثقافة العنف الجنسي بصورة غير مسبوقة
    
تنقسم هذه المقالة إلى قسمين رئيسيين: يتناول القسم الأول معنى العنف الجنسي وتجلياته في الواقع المصري وأبرز المحطات في تشكيل ما نُطلق عليه "[[ثقافة العنف الجنسي]]". نحاول في هذا الجزء تتتبع جذور تلك الثقافة من خلال رصد ثلاث علاقات جدلية أساسية: العلاقة بين العنف المجتمعي والعنف المؤسسي، أي ذلك التي تتورط فيه الدولة، علاقة [[مجال خاص | المجال الخاص]] [[مجال عام | بالمجال العام]] والتأثير المتبادل بينهما، وأخيراً تأصيل منطق الحماية كغطاء لانعدام المساءلة المجتمعية لتلك الظاهرة وكيف تترجم الحماية في الواقع إلى وسيلة للتحصين الاجتماعي والقانوني لمرتكبي جرائم العنف الجنسي.
 
تنقسم هذه المقالة إلى قسمين رئيسيين: يتناول القسم الأول معنى العنف الجنسي وتجلياته في الواقع المصري وأبرز المحطات في تشكيل ما نُطلق عليه "[[ثقافة العنف الجنسي]]". نحاول في هذا الجزء تتتبع جذور تلك الثقافة من خلال رصد ثلاث علاقات جدلية أساسية: العلاقة بين العنف المجتمعي والعنف المؤسسي، أي ذلك التي تتورط فيه الدولة، علاقة [[مجال خاص | المجال الخاص]] [[مجال عام | بالمجال العام]] والتأثير المتبادل بينهما، وأخيراً تأصيل منطق الحماية كغطاء لانعدام المساءلة المجتمعية لتلك الظاهرة وكيف تترجم الحماية في الواقع إلى وسيلة للتحصين الاجتماعي والقانوني لمرتكبي جرائم العنف الجنسي.
سطر 29: سطر 29:     
والحقيقة أن ما حدث هو الاثنان معاً: فقد تزايدت وتيرة العنف الجنسي في المجتمع المصري من حيث العدد والحدة، كما ارتفعت حدة مقاومة النساء لتلك الظاهرة. وعلى الرغم من الزيادة المطردة في كل من معدلات الظاهرة نفسها، وكذلك في ردود أفعال عموم النساء لها، إلا أن الثابت والأكيد أن الظاهرة قد باتت تأخذ أشكالا أكثر تطوراً ووطأة تجعل مصطلح [[تحرش جنسي | التحرش الجنسي]] - وهو التعريف الشعبي الجامع و الشامل لكافة تلك الجرائم- غير كاف للتعبير عن التنوع البالغ في أشكال العنف الجنسي في الشارع المصري. إذ يأخذ العنف الجنسي أنماطاً مختلفة بدءاً من  التحرش اللفظي وملامسة أجساد النساء، مروراً بالتهديد والملاحقة والتحرش الجماعي، وانتهاء [[اغتصاب |
 
والحقيقة أن ما حدث هو الاثنان معاً: فقد تزايدت وتيرة العنف الجنسي في المجتمع المصري من حيث العدد والحدة، كما ارتفعت حدة مقاومة النساء لتلك الظاهرة. وعلى الرغم من الزيادة المطردة في كل من معدلات الظاهرة نفسها، وكذلك في ردود أفعال عموم النساء لها، إلا أن الثابت والأكيد أن الظاهرة قد باتت تأخذ أشكالا أكثر تطوراً ووطأة تجعل مصطلح [[تحرش جنسي | التحرش الجنسي]] - وهو التعريف الشعبي الجامع و الشامل لكافة تلك الجرائم- غير كاف للتعبير عن التنوع البالغ في أشكال العنف الجنسي في الشارع المصري. إذ يأخذ العنف الجنسي أنماطاً مختلفة بدءاً من  التحرش اللفظي وملامسة أجساد النساء، مروراً بالتهديد والملاحقة والتحرش الجماعي، وانتهاء [[اغتصاب |
  بالاغتصاب]] والاغتصاب الجماعي وحتي القتل كذلك.  فقد شهد عامي ٢٠١٢ و ٢٠١٣ سقوط أول قتيلتين للعنف الجنسي في مصر وهما [[قضية شهيدة التحرش بأسيوط | إيمان مصطفى من أسيوط]] و[[حادثة قتل شروق التربي من الغربية | شروق التربي من الغربية]]، واللتين قتلتا نتيجة لمقاومتهما للتحرش، الأولى برصاص المتحرش والثانية دهساً بعربة متحرشها الذي لاذ بالفرار.
+
  بالاغتصاب]] والاغتصاب الجماعي وحتي القتل كذلك.  فقد شهد عامي ٢٠١٢ و ٢٠١٣ سقوط أول قتيلتين للعنف الجنسي في مصر وهما [[قضية شهيدة التحرش بأسيوط 2012| إيمان مصطفى من أسيوط]] و[[حادثة قتل شروق التربي من الغربية في 2013 | شروق التربي من الغربية]]، واللتين قتلتا نتيجة لمقاومتهما للتحرش، الأولى برصاص المتحرش والثانية دهساً بعربة متحرشها الذي لاذ بالفرار.
    
هل نستطيع إذن البحث في أسباب تفشي ظاهرة العنف الجنسي في مصر بهذا الشكل الجنوني؟ ربما كان الأسلم والأكثر وجاهة هو سرد أكثر التفسيرات شيوعاً و محاولة إثباتها أو نفيها. هل يرتبط العنف الجنسي فقط بالقاهرة والمناطق الحضرية الكبري وبالتالي يمكن تفسيره في إطار ارتفاع معدلات الجريمة عموماً في المدن الكبري؟ الإجابة قطعاً بلا لأن المسوح والشواهد تؤكد انتشار [[عنف ضد المرأة | العنف ضد النساء]] في كافة أنحاء مصر. يكفي أن أول جريمتي قتل عمد في ملابسات محاولات للاعتداء الجنسي وقعتا خارج القاهرة، إلا أنه لا يمكننا كذلك التغاضي عن البعد المديني في جرائم العنف الجنسي، والذي يرتبط بشكل مباشر بانهيار البنية التحتية للمدن وازدحام المناطق الحضرية وعدم آدمية وسائل المواصلات العامة والخاصة والتي تؤثر بشكل أكبر على النساء.
 
هل نستطيع إذن البحث في أسباب تفشي ظاهرة العنف الجنسي في مصر بهذا الشكل الجنوني؟ ربما كان الأسلم والأكثر وجاهة هو سرد أكثر التفسيرات شيوعاً و محاولة إثباتها أو نفيها. هل يرتبط العنف الجنسي فقط بالقاهرة والمناطق الحضرية الكبري وبالتالي يمكن تفسيره في إطار ارتفاع معدلات الجريمة عموماً في المدن الكبري؟ الإجابة قطعاً بلا لأن المسوح والشواهد تؤكد انتشار [[عنف ضد المرأة | العنف ضد النساء]] في كافة أنحاء مصر. يكفي أن أول جريمتي قتل عمد في ملابسات محاولات للاعتداء الجنسي وقعتا خارج القاهرة، إلا أنه لا يمكننا كذلك التغاضي عن البعد المديني في جرائم العنف الجنسي، والذي يرتبط بشكل مباشر بانهيار البنية التحتية للمدن وازدحام المناطق الحضرية وعدم آدمية وسائل المواصلات العامة والخاصة والتي تؤثر بشكل أكبر على النساء.
سطر 37: سطر 37:  
هل بدأت معدلات الظاهرة في التزايد بشكل خاص بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ بالقطع نعم، رغم غياب الإحصاءات والبيانات الدقيقة عن الظاهرة إلا أن الأشكال الجديدة من الاغتصابات الجماعية واستخدام الأسلحة الحادة هو تحول يجب الوقوف أمامه، وربما يكون مرده – في جزء منه – إلى شيوع حوادث العنف بشكل عام في المجتمع والاشتباكات المتكررة بين المتظاهرين وقوات الأمن أو اشتباكات بين الأهالي. هذا العنف المتزايد ضد النساء في المجال العام لا يجب أبداً فصله عن نجاح النساء في اختراق فضاءات عامة جديدة، فالنساء بداية من 2011 نجحن في اقتناص حق التظاهر والتجمع السلمي كأحد أهم حقوقهن السياسية والمدنية، والهجوم الجنسي عليهن بهذه الطريقة –هو في جزء منه- محاولة لطرد النساء من هذه المساحة لإعادة النساء إلى حدود ما قبل 2011. وربما يكون الدليل الأكبر على شيوع ثقافة العنف الجنسي عدم اقتصار هذه الاعتداءات الجنسية الجماعية على ميادين التظاهر، بل أصبحت ترى الآن في الحفلات الغنائية ووسائل المواصلات العامة.
 
هل بدأت معدلات الظاهرة في التزايد بشكل خاص بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ بالقطع نعم، رغم غياب الإحصاءات والبيانات الدقيقة عن الظاهرة إلا أن الأشكال الجديدة من الاغتصابات الجماعية واستخدام الأسلحة الحادة هو تحول يجب الوقوف أمامه، وربما يكون مرده – في جزء منه – إلى شيوع حوادث العنف بشكل عام في المجتمع والاشتباكات المتكررة بين المتظاهرين وقوات الأمن أو اشتباكات بين الأهالي. هذا العنف المتزايد ضد النساء في المجال العام لا يجب أبداً فصله عن نجاح النساء في اختراق فضاءات عامة جديدة، فالنساء بداية من 2011 نجحن في اقتناص حق التظاهر والتجمع السلمي كأحد أهم حقوقهن السياسية والمدنية، والهجوم الجنسي عليهن بهذه الطريقة –هو في جزء منه- محاولة لطرد النساء من هذه المساحة لإعادة النساء إلى حدود ما قبل 2011. وربما يكون الدليل الأكبر على شيوع ثقافة العنف الجنسي عدم اقتصار هذه الاعتداءات الجنسية الجماعية على ميادين التظاهر، بل أصبحت ترى الآن في الحفلات الغنائية ووسائل المواصلات العامة.
   −
هل يمكننا الحديث عن علاقة ما بين ارتفاع معدل الجرائم و تصاعد و بروز ثقافة ما تشجع على العنف الجنسي عبر منح  مرتكبيه حصانة فعلية؟ هل هناك علاقة ما بين العنف اليومي الذي تتعرض له النساء و بين العنف الممنهج السياسي الطابع كالذي شهده [[الاعتداءات الجنسية والاغتصابات الجماعية بميدان التحرير في مصر‎‏ | ميدان التحرير في أكثر من مناسبة في العامين الماضيين]]؟ و إذا كان الأمر كذلك، هل دور الدولة هنا يقتصر على التخاذل والتباطؤ في القيام بواجبها في ردع تلك الجرائم، أم يتعدى ذلك للتحريض المباشر وغير المباشر على جرائم العنف الجنسي؟ إن الإجابة على تلك الأسئلة تستوجب بالضرورة استعراضاً سريعا لتاريخ تطور الظاهرة في السنوات القليلة الأخيرة بهدف الوقوف على طبيعة العلاقة بين ظهور ثقافة اعتيادية للعنف الجنسي في المجتمع، ودور الدولة كفاعل ومتواطئ، وأحياناً كمحرض على العنف الجنسي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
+
هل يمكننا الحديث عن علاقة ما بين ارتفاع معدل الجرائم و تصاعد و بروز ثقافة ما تشجع على العنف الجنسي عبر منح  مرتكبيه حصانة فعلية؟ هل هناك علاقة ما بين العنف اليومي الذي تتعرض له النساء و بين العنف الممنهج السياسي الطابع كالذي شهده [[حوادث الاعتداءات الجنسية والاغتصابات الجماعية بميدان التحرير في مصر‎‏ | ميدان التحرير في أكثر من مناسبة في العامين الماضيين]]؟ و إذا كان الأمر كذلك، هل دور الدولة هنا يقتصر على التخاذل والتباطؤ في القيام بواجبها في ردع تلك الجرائم، أم يتعدى ذلك للتحريض المباشر وغير المباشر على جرائم العنف الجنسي؟ إن الإجابة على تلك الأسئلة تستوجب بالضرورة استعراضاً سريعا لتاريخ تطور الظاهرة في السنوات القليلة الأخيرة بهدف الوقوف على طبيعة العلاقة بين ظهور ثقافة اعتيادية للعنف الجنسي في المجتمع، ودور الدولة كفاعل ومتواطئ، وأحياناً كمحرض على العنف الجنسي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
    
== من انتهاك الدولة لانتهاك المجتمع: أي إشارات ترسلها الدولة للمجتمع بشأن النساء؟ ==  
 
== من انتهاك الدولة لانتهاك المجتمع: أي إشارات ترسلها الدولة للمجتمع بشأن النساء؟ ==  
   −
يشكل عام 2005 نقطة فاصلة في تطور مسألة العنف الجنسي في مصر. فقد قامت الدولة حينها في حادثة شهيرة، عرفت لاحقاً [[حادثة الأربعاء الأسود بمصر في مايو 2005 | بالأربعاء الأسود]]، بتأجير بعض "البلطجية" للاعتداء جنسياً على الصحفيات والناشطات المعترضات على التعديلات الدستورية. كانت مشاهد الصحفيات وملابسهن ممزقة في الشارع صادمة للغاية وغير اعتيادية في ذلك الوقت ومع ذلك لم يتعد رد الفعل وقفة رمزية بالشموع وبملابس سوداء لبعض النشطاء، بينما لم تثر هذه الحادثة حفيظة السواد الأعظم من الناس.
+
يشكل عام 2005 نقطة فاصلة في تطور مسألة العنف الجنسي في مصر. فقد قامت الدولة حينها في حادثة شهيرة، عرفت لاحقاً [[حادثة الأربعاء الأسود في مصر في مايو 2005 | بالأربعاء الأسود]]، بتأجير بعض "البلطجية" للاعتداء جنسياً على الصحفيات والناشطات المعترضات على التعديلات الدستورية. كانت مشاهد الصحفيات وملابسهن ممزقة في الشارع صادمة للغاية وغير اعتيادية في ذلك الوقت ومع ذلك لم يتعد رد الفعل وقفة رمزية بالشموع وبملابس سوداء لبعض النشطاء، بينما لم تثر هذه الحادثة حفيظة السواد الأعظم من الناس.
   −
ولم تتجاوز ردود الأفعال على ما حدث وقتها نطاق داوئر الناشطين السياسيين والحقوقين، وتعامل الجميع مع الحادثة باعتبارها جريمة سياسية تُضاف إلى جرائم نظام مبارك. لم يع أحد وقتها المعنى الكامل لانتهاك الناشطات جنسياً في قلب القاهرة، وفي وضح النهار أمام أعين الجميع. بل لم ينتبه الجميع بعد ذلك بعام واحد - و بالتحديد يوم الثاني والعشرين من أكتوبر عام 2006 الموافق أول أيام عيد الفطر- حين بدأت ولأول مرة، [[حوادث التحرش الجنسي الجماعية في عيد الفطر بمصر سنة 2006 | حوادث التحرش الجنسي الجماعية بمنطقة وسط البلد]]، حين هاجمت مجموعات من الشباب النساء اللاتي أوقعهن حظهن العاثر في طريقهم وقاموا بجذبهنّ من ملابسهنّ والتعدي عليهنّ جنسياً. وقعت يومئذ الانتهاكات وسط تعتيم إعلامي شبه تام لم يكسره سوى نشر عدد من المدونين لصور وتفاصيل الحادث. وتم وقتها توجيه الاتهامات للمدونين بتشويه سمعة مصر وتلفيق الراويات، وأصدرت وزارة الداخلية بياناً تنكر فيه حدوث أي تحرش جماعي بالنساء.
+
ولم تتجاوز ردود الأفعال على ما حدث وقتها نطاق داوئر الناشطين السياسيين والحقوقين، وتعامل الجميع مع الحادثة باعتبارها جريمة سياسية تُضاف إلى جرائم نظام مبارك. لم يع أحد وقتها المعنى الكامل لانتهاك الناشطات جنسياً في قلب القاهرة، وفي وضح النهار أمام أعين الجميع. بل لم ينتبه الجميع بعد ذلك بعام واحد - و بالتحديد يوم الثاني والعشرين من أكتوبر عام 2006 الموافق أول أيام عيد الفطر- حين بدأت ولأول مرة، [[حوادث التحرش الجنسي الجماعية في عيد الفطر في مصر سنة 2006 | حوادث التحرش الجنسي الجماعية بمنطقة وسط البلد]]، حين هاجمت مجموعات من الشباب النساء اللاتي أوقعهن حظهن العاثر في طريقهم وقاموا بجذبهنّ من ملابسهنّ والتعدي عليهنّ جنسياً. وقعت يومئذ الانتهاكات وسط تعتيم إعلامي شبه تام لم يكسره سوى نشر عدد من المدونين لصور وتفاصيل الحادث. وتم وقتها توجيه الاتهامات للمدونين بتشويه سمعة مصر وتلفيق الراويات، وأصدرت وزارة الداخلية بياناً تنكر فيه حدوث أي تحرش جماعي بالنساء.
   −
استمرت الظاهرة بعد ذلك في التصاعد، فقد شهدت السنوات التي تلت هذه الحادثة معدلات مرتفعة من التحرش اللفظي والجسدي بالنساء في الشوارع وأماكن العمل والمواصلات العامة بشكل يومي. وكان الجديد في هذه الحوادث ليس فقط الإنكار المجتمعي وإنما التواطؤ أيضا. فإذا تجرأت إحدى النساء على الاعتراض على المتحرش في أتوبيس نقل عام أو في الشارع، ستجد الجميع يشيح بوجهه، أو يطالبها بالصمت حتى لا تتسبب لنفسها بفضيحة. هذا التعامي عن المستويات الوبائية للتحرش بلغ ذروته في أيام عيد الأضحى في عام 2009 حين نشرت الصحف اليومية صوراً لعصابات صغيرة من الفتيان يقومون بتطويق عدد من الفتيات ويحاولون التحرش بهن ونزع ملابسهن في حي المهندسين. وقد اضطرت وزارة الداخلية يومها أن تجري تحقيقاً أسفر عن تقديم عدد من المتهمين للمحاكمة. في الوقت  نفسه، اعتبرت عدد من المنظمات النسوية هذه الحوادث ناقوسَ خطر حقيقياً، وكتبت العديد من الناشطات عن خطورة ظاهرة "استقواء الرجال ببعضهم البعض". إلا أن التجاهل المؤسساتي والإعلامي استمر وأسهم بالطبع في تفاقم حالة الخزي والعار عند الفتيات والنساء اللاتي يتم التحرش بهن. واستمر الوضع في التفاقم حتى وصلنا لمرحلة اغتصاب النساء في قلب ميدان التحرير نفسه، وهو رمز الثورة المصرية، في ثلاثة حوادث متفرقة: نوفمبر 2012 و يناير 2013 و أخيراً، يونيه ويوليو2013.
+
استمرت الظاهرة بعد ذلك في التصاعد، فقد شهدت السنوات التي تلت هذه الحادثة معدلات مرتفعة من التحرش اللفظي والجسدي بالنساء في الشوارع وأماكن العمل والمواصلات العامة بشكل يومي. وكان الجديد في هذه الحوادث ليس فقط الإنكار المجتمعي وإنما التواطؤ أيضا. فإذا تجرأت إحدى النساء على الاعتراض على المتحرش في أتوبيس نقل عام أو في الشارع، ستجد الجميع يشيح بوجهه، أو يطالبها بالصمت حتى لا تتسبب لنفسها بفضيحة. هذا التعامي عن [[حوادث التحرش الجنسي الجماعية في عيد الفطر في مصر سنة 2009 | المستويات الوبائية للتحرش بلغ ذروته في أيام عيد الأضحى في عام 2009]] حين نشرت الصحف اليومية صوراً لعصابات صغيرة من الفتيان يقومون بتطويق عدد من الفتيات ويحاولون التحرش بهن ونزع ملابسهن في حي المهندسين. وقد اضطرت وزارة الداخلية يومها أن تجري تحقيقاً أسفر عن تقديم عدد من المتهمين للمحاكمة. في الوقت  نفسه، اعتبرت عدد من المنظمات النسوية هذه الحوادث ناقوسَ خطر حقيقياً، وكتبت العديد من الناشطات عن خطورة ظاهرة "استقواء الرجال ببعضهم البعض". إلا أن التجاهل المؤسساتي والإعلامي استمر وأسهم بالطبع في تفاقم حالة الخزي والعار عند الفتيات والنساء اللاتي يتم التحرش بهن. واستمر الوضع في التفاقم حتى وصلنا لمرحلة اغتصاب النساء في قلب ميدان التحرير نفسه، وهو رمز الثورة المصرية، في ثلاثة حوادث متفرقة: نوفمبر 2012 و يناير 2013 و أخيراً، يونيه ويوليو2013.
    
من خلال الاستعراض التاريخي السابق،يتضح لنا بوضوح أن ثمة إشارات ما تم إرسالها من قبل ممثلي الدولة للمجتمع عندما قاموا بانتهاك أجساد مواطنات مصريات في قلب القاهرة. تضمنت تلك الإشارات الضمنية رسالتين رئيسيتين: إن أجساد النساء مستباحة بشكل عام وخاصة إذا تصادف وجودهن في "المكان الخاطئ" في "الوقت الخاطئ"، وإن تلك الجريمة غالباً ستمر بلا محاسبة. أرسلت الدولة وقتها رسالة مفادها بأن هناك تحصيناً ما لمرتكبي جرائم العنف الجنسي وبأن المجال العام غير آمن للنساء. فإذا كانت الدولة نفسها،ممثلة في وزارة الداخلية، قد أعلنت ذلك قولاً وعملاً، فلا يمكن لامرأة أن تأمن على نفسها  سوى  بتجنب هذا المجال العام وعدم ارتياده سوى في أضيق الحدود.
 
من خلال الاستعراض التاريخي السابق،يتضح لنا بوضوح أن ثمة إشارات ما تم إرسالها من قبل ممثلي الدولة للمجتمع عندما قاموا بانتهاك أجساد مواطنات مصريات في قلب القاهرة. تضمنت تلك الإشارات الضمنية رسالتين رئيسيتين: إن أجساد النساء مستباحة بشكل عام وخاصة إذا تصادف وجودهن في "المكان الخاطئ" في "الوقت الخاطئ"، وإن تلك الجريمة غالباً ستمر بلا محاسبة. أرسلت الدولة وقتها رسالة مفادها بأن هناك تحصيناً ما لمرتكبي جرائم العنف الجنسي وبأن المجال العام غير آمن للنساء. فإذا كانت الدولة نفسها،ممثلة في وزارة الداخلية، قد أعلنت ذلك قولاً وعملاً، فلا يمكن لامرأة أن تأمن على نفسها  سوى  بتجنب هذا المجال العام وعدم ارتياده سوى في أضيق الحدود.
سطر 62: سطر 62:  
إن الصلات بين كل من المجال العام والمجال الخاص تحتاج لمقالة مستقلة لما لهذا الموضوع من أهمية شديدة ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن تأثير المجال الخاص على المجال العام يزداد عند توفر شرطين أساسيين:  كلما ضعفت قوة الدولة في مقابل المجتمع - وبالتالي أصبح من السهل أن تتغلغل قيم المجتمع في ممارسات الدولة-  وأيضاً كلما اختفى المجال العام بالمعني الحداثي الكلاسيكي والذي يمثل نقطة لقاء للمواطنين والمواطنات  كشخصيات اعتبارية وليس كمكان لقاء للرجال والنساء ككائنات بيولوجية أو كصياد وفريسة. ونظراً لضعف الدولة في مصر، وكون المجال العام، بالمعني المذكور أعلاه، لا يزال قيد التشكّل، ومجالاً رئيسياً للصراع السياسي منذ 25 يناير 2011، فمن الطبيعي أن نرى ملامح كثيرة من المجال الخاص في المجال العام، تتراءى كأشباح خافتة  لتذكرنا بأن سؤال الحداثة في المجتمع بشكل عام، وفي علاقته بالنساء بشكل خاص، لا يزال حاضراً بشدة وغير محسوما بالمرة.
 
إن الصلات بين كل من المجال العام والمجال الخاص تحتاج لمقالة مستقلة لما لهذا الموضوع من أهمية شديدة ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن تأثير المجال الخاص على المجال العام يزداد عند توفر شرطين أساسيين:  كلما ضعفت قوة الدولة في مقابل المجتمع - وبالتالي أصبح من السهل أن تتغلغل قيم المجتمع في ممارسات الدولة-  وأيضاً كلما اختفى المجال العام بالمعني الحداثي الكلاسيكي والذي يمثل نقطة لقاء للمواطنين والمواطنات  كشخصيات اعتبارية وليس كمكان لقاء للرجال والنساء ككائنات بيولوجية أو كصياد وفريسة. ونظراً لضعف الدولة في مصر، وكون المجال العام، بالمعني المذكور أعلاه، لا يزال قيد التشكّل، ومجالاً رئيسياً للصراع السياسي منذ 25 يناير 2011، فمن الطبيعي أن نرى ملامح كثيرة من المجال الخاص في المجال العام، تتراءى كأشباح خافتة  لتذكرنا بأن سؤال الحداثة في المجتمع بشكل عام، وفي علاقته بالنساء بشكل خاص، لا يزال حاضراً بشدة وغير محسوما بالمرة.
   −
([https://genderation.xyz/wiki/مصدر:استباحة_النساء_في_المجال_العام_2 اضغط/ي هنا] لقراءة الجزء الثاني من المقال)
+
([[مصدر:استباحة النساء في المجال العام 2 | اضغط/ي هنا] لقراءة الجزء الثاني من المقال)
    
[[تصنيف:مقالات]]
 
[[تصنيف:مقالات]]
 
[[تصنيف:عنف جنسي]]
 
[[تصنيف:عنف جنسي]]
 +
[[تصنيف:النساء وثورة 25 يناير]]
7٬902

تعديل

قائمة التصفح