وثيقة:أمهات السينما التونسية - من سردية الاضطهاد إلى الخروج من الجلباب

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مقالة رأي
العنوان أمهات السينما التونسية: من سردية الاضطهاد إلى الخروج من الجلباب
تأليف ياسين النابلي
تحرير غير معيّن
المصدر الجمهورية.نت
اللغة العربية
تاريخ النشر 2021-01-28
مسار الاسترجاع https://www.aljumhuriya.net/ar/node/2977/
تاريخ الاسترجاع 2021-02-09
نسخة أرشيفية https://archive.fo/jOfVB


هذا النص جزء من ملف مطرقة الأمهات ضمن ملحق هامش 2 الثقافي الصادر عن موقع الجمهورية.نت



قد توجد وثائق أخرى مصدرها الجمهورية.نت



وُلِدت السينما التونسية في سنواتها الأخيرة من رحم السرديات النسائية، التي وُظّفت في بعض الأحيان ضمن رؤية جمالية وفكرية باحثة عن خيوط تربطها بأزمنة الاضطهاد التي عاشتها المرأة قبل الاستقلال. وحتى يتسنى لجيل البنات اللائي وُلدن بعد سنة 1956 الاطلاع على بعض وجوه المحنة القديمة، كان على السينما التونسية المشتغلة على تاريخية الاضطهاد العودة بهن إلى ذاكرة الأمهات.

في فيلم صمت القصور (1994) للمخرجة التونسية مفيدة التلاتلي، شكّلت الذاكرة خيطا يقود إلى الماضي المستباح، ومدخلاً لمساءلة حاضر لم يُشفَ من حيرته القديمة. تبدأ الحكاية عندما تقرر المغنية علياء العودة إلى قصر البايات الذي نشأت فيه صحبة والدتها خديجة، التي اشتغلت في القصر خادمة ومرافِقة للأعيان، وسيقودها هذا المكان - الذي فقد هيبته الملوكية القديمة بعد رحيل الاستعمار - إلى استرجاع لحظات الشك والقلق التي عاشتها مع أمها، ومحاولة البحث عن أجوبة لهويتها المعلّقة. لم تكن خديجة الخادمة التي باعها أهلها بأبخس الأثمان للبايات وهي في العاشرة لتُعطي ابنتها علياء شيئاً سوى الخوف والحذر، لأنها لم تكن تملك مصيرها، وكانت أشبه بالأمتعة في قصر يُدير شؤونه الحكام-الذكور.

بين مطبخ القصر وحديقته، ستحاول خديجة مراقبة ابنتها خوفاً عليها من مصير مشابه لها، فكانت تُجابهها بالكتمان والصمت في معظم الأحيان. ولكن علياء الذكية وصاحبة الصوت الساحر ستُحبط مخططات أمها عندما تفاجئها بقدرتها العجيبة على إدراك ما يدور حولها. وعبر حركتها الدائبة التي أدت بها إلى الغثيان في بعض الأحيان، ستسعى علياء إلى الانشقاق عن أعراف الصمت والخضوع التي يفرضها القصر، وبمرور الوقت ستنفجر الأسئلة المكبوتة في خواطرها حول أصول أمها وهوية أبيها، لتصل إلى مطالبة أمها بالتمرد على شهوات الأعيان. وهرباً من مصير مُعتِم وأكبر من قدرات أمها على الوقوف ضده، ستحاول علياء البحث عن ذاتها في الموسيقا والحب، ولكنها في نهاية المطاف ستَرِِث عن أمها تجربة الأمومة المعطوبة، وحتى الحب لم يكن قادراً على انتشالها من احتقار الآخرين، لأنها ستظل في حسابات المجتمع مغنية كاباريهات نازلة من رحم الخطيئة. وربما يأتي الضوء في نظر علياء من الجنين الذي حملته في أحشائها خارج إطار الزواج، والذي ستشعر أنه الصلة الوحيدة التي تربطها بذكرى أمها، وطريقها الأخير للخلاص من غربتها الروحية، لذلك تقرر في النهاية الإبقاء عليه، حالمة بإنجاب بنت تُطلِق عليها اسم «خديجة».

بين الاسترجاع الموجع والأمل الخفيف، ربما أرادت المخرجة التونسية مفيدة التلاتلي لفت الانتباه إلى استمرار الوجع النسائي دون التأسيس لقطيعة مطلقة مع الحلم. إذ إن سقوط عرش البايات وإفلات علياء من القصر لم يكن كافياً لإنهاء الوجع الموروث عن أمها، لأن جذوره قد تكون ممتدة في مكان أعمق وأكثر صلابة من قصور القرميد الملَكيّة، ربما في الهيكلة البطرياركية الشاملة للمجتمع، ولكن في النهاية يظل بالإمكان حَفر معابر للخروج من كهوف الأب.


فيلم الجايدة: نهاية المحنة بسردية انتصار أبوية

ضمن الخط السينمائي الباحث عن مظاهر اضطهاد النساء في تونس زمن البايات، يمكن إدراج فيلم الجايدة (2017) للمخرجة التونسية سلمى بكّار. تدور معظم أحداث الفيلم داخل «دار جواد»، وهي مؤسسة عقابية تُساق إليها «البنات الجامحات» و«الأمهات غير الصالحات» إثر فتاوى تُصدرها ضدهن هيئة القضاء الشرعي. ومن خلال مرويات مجموعة من النساء المنحدرات من أوساط اجتماعية متفاوتة، سعى الفيلم إلى الكشف عن أشكال الإكراه والجبر التي كانت تمارسها تلك المؤسسة الزجرية ضد النساء، بأوامر تأتي عادةً من الزوج أو الأب والأقارب من الرجال. ومن خلال شخصية بهجة، المرأة المدِينية المتعلمة التي قاطعت زوجها بعد اكتشاف الخيانة فاتهمها بالعصيان وسوء المعاشرة، حاول الفيلم تصوير الوجه الآخر للمحنة، وهو الإصرار النسائي على التمرد والعصيان رغم إدراك قسوة العقاب. وقد كانت شخصية بهجة أشبه بالرسالة التي لا تخلو من حمولة سياسية وثقافية، لأنها الخيط الرفيع الذي تنتظم على إيقاعه زمنية الفيلم ولحظاته الصراعية.

في المقام الأول، هي حاملة لرسالة الأمهات لبناتهن، عندما تُوصي ابنتها قبل الذهاب إلى دار جواد بالمثابرة على العلم كطوق نجاة من الاستعباد: «ما نوَصّيكِش عْلى قرَايتِك، هَذيكَة سْلاحِك في الدّنيا بَاش تولّي مْرَا حُرّة». كما أنها حاملة لرسالة سياسية عندما ستكون في صفوف النساء الهاتفات بحياة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة سنة 1956، والذي ارتبط اسمه بسَنّ مجلة الأحوال الشخصية التي أطاحت بمنظومة القضاء الشرعي ومؤسساته ومن ضمنها مؤسسة دار جواد.

سعت سلمى بكار إلى الإطالة في عمر بهجة والحفاظ على شبابها - رغم أن من المفروض أنها وُورِيَت الثرى - لتحملها إلى منصة المجلس التأسيسي سنة 2012 (المؤسسة التشريعية التي سنت دستور تونس 2014) وتُعطيها شرف إلقاء خطاب يندد بالدعوة إلى إلغاء مجلة الأحوال الشخصية واعتماد الشريعة مصدراً أساسياً في التشريع. ولعل بهجة هي الظل السينمائي لحياة المخرجة سلمى بكار، التي انتُخبت في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 عضوة بالمجلس التأسيسي بعد الثورة، وعاشت الجدل الذي دار بين الإسلاميين والحركة الديمقراطية-التقدمية حول مضامين الدستور الجديد، وهو الدستور الذي انتهى في نهاية المطاف بإقرار مدنية الدولة والمساواة التامة بين المواطنات والمواطنين.

سعى فيلم الجايدة إلى الربط بين ثلاثة أزمنة: عهد البايات، والزمن البورقيبي، ومرحلة ما بعد ثورة 2011، وقد كان متأثراً بالعهدين الأخيرين رغم أن معظم أحداثه تدور في العهد الأول. ومن أجل إثبات استمرارية المعركة بين اتجاهي التقدم والانتكاس داخل المجتمع التونسي، كان لا بد من البحث عن محنة وانتصار. كانت دار جواد علامة قوية على المحنة ولكنها انتهت بانتصار أبوي جسدته المناداة بحياة الرئيس بورقيبة العائد الظافر من مفاوضاته مع الفرنسيين سنة 1956. وهنا يأتي الفضل الأخير للأب-الزعيم وليس للنساء الصامدات. ولعل مشاهد الاحتفاء التي صوّرها الفيلم جاءت متأثرة بالنزعة الطّقوسية في قراءة سيرة الرئيس بورقيبة، التي جعلت من تحرُّر النساء التونسيات فصلاً هامشيّاً في سيرة الزعيم.


فيلم نحبّك هادي: «لن أعيش في جلباب أمي»

في الوقت الذي اختارت فيه مفيدة التلاتلي وسلمى بكّار - كل واحدة بأسلوبها ورؤيتها - البحث عن صلات الربط مع ذكرى الأمهات والجدات ضمن رؤية سينمائية تُهيكِلها سردية الاضطهاد، اختار المخرج التونسي محمد بن عطية قطع الحبل السّرّي مع صورة الأم المضطهَدة. لذلك جاء فيلم نحبك هادي (2016) تجسيداً لصراع اجتماعي ورمزي مع صورة الأم الحاكمة بأمرها، فكأن البطل هادي أشبه بـ«أوريست» في الأسطورة اليونانية، الذي قتل أمه وعشيقها انتقاماً لأبيه، ولكن هادي صارع والدته من أجل استعادة ذاته وكيانه.

كان هادي، موظف تسويق في شركة سيارات، يعيش وفق خط السير الذي سطرته أمه، إذ كانت تُشرف على كل تفاصيل حياته، من الدراسة إلى العمل والزواج، وقد كان يواجه كل شيء بالصمت والطاعة. جاءت حالة السكون السينمائي في الفيلم تجسيداً لهذه الحالة السايكولوجية. وفي الأثناء، كان شيء ما يعتمل على مهل، وسيكون لقاء هادي بحبيبته ريم لحظة تحول فارقة في حياته. حينها سيستفيق على سؤال استقلالية المصير.

وُلدَ حب هادي وريم على شواطئ مدينة المهدية، غامضاً وغريباً، ولكنه يحمل دلالات عميقة نحو المستقبل، لأنه سيعطي هادي أنفاساً جديدة من أجل تدمير العادات القديمة. وستأتي الخطوة الأولى بالتخلي عن زفافه من خديجة بطريقة صادمة للعائلة والأقارب، ثم مرحلة المواجهة مع الأم. سيطلب هادي من أمه - لأول مرّة - الكف عن التحكم في حياته ومصيره. ورغم أن هادي كان صادقاً في حب ريم، وأراد السفر معها إلى مونبيليي جنوب فرنسا، إلا أنه في نهاية المطاف تخلى عن قراره، وكأن فيلم نحبك هادي أراد للحب أن يكون مدخلاً لاستعادة الذات والمصير وليس ظفراً دونكيشوتياً بالحبيبة.

كانت صورة الأم في نحبك هادي تجسيداً للمعيارية الاجتماعية السائدة، وامتداداً لمنظومة القيم الأبوية التي تُصادِر كيان الأبناء من أجل تحقيق طموحات الآباء. ورغم أن الأمّ في مقام أدنى من الأب داخل سلّم القيم الأبوي، إلا أن بإمكانها حراسة المنظومة والحفاظ على استمراريتها في ظل غياب الأب. لم يكن هادي كارهاً لأمه بقدر ما كان حانقاً على الإلزامات والحسابات الاجتماعية، وقد سمحت له اللحظة الثورية بعد 2011 بمعانقة أخلاقيات جديدة لا تُقيم وزناً للحسابات، فرأى خلال الأيام الأولى للثورة الكثير من الحب والتضامن في عيون الناس ومحادثاتهم، وقد عبّر عن ذلك بالقول: «العْبَاد ولّات تحِب بعَضهَا». وقد ساهم هذا الدفء الخارجي في عودة هادي إلى داخليته من أجل خوض معاركه الخاصة.


فيلم نورا تِحلم و«أشكَلة» صورة الأم

ربما تحظى صورة الأم في فيلم نحبّك هادي بقابلية اجتماعية لدى الناس، لأنها مألوفة ويرى فيها البعض ربما حفاظاً على التوازن القديم. ولكن السينما التونسية ستجعل صورة الأم أكثر تعقيداً في فيلم نورا تحلم (2019) للمخرجة التونسية هند بوجمعة. يجسّد الفيلم حياة نورا، الأم الأربعينية المنحدرة من وسط شعبي، والتي تعيش قصة حب تدفعها إلى التخطيط مع حبيبها للشروع في إجراءات الطلاق من أجل الانفصال عن زوجها.

تأخذ الأحداث اتجاهاً مختلفاً عندما يغادر زوجها السجن فجأة عن طريق عفو رئاسي، فيسعى إلى محاصرتها ومراقبة اتصالاتها إلى حدود اكتشاف علاقة الحب التي خاضتها، فيقرر حينها الانتقام بطريقة موحشة وصادمة تجسّدها مشهدية اغتصاب حبيب نورا التي دبّرها زوجها. حينها، تفقد نورا وحبيبها السيطرة على مصير العلاقة، لأن الجريمة وجدت مبرِّراتها بشكل أو بآخر في فكرة الدفاع عن الشرف. وحتى البوليس تواطأ من أجل التغطية على الجريمة. ورغم أن نورا أفلحت في نهاية المطاف في كسب معركة الطلاق، إلا أن العلاقة مع حبيبها تبدأ بالسير إلى حتفها إثر التشوهات الأخلاقية والإنسانية التي ساهم زوجها في خلقها.

جاء فيلم نورا تحلم، المُستمد من قصة واقعية، ليُعيد التفكير في إشكالية «الخيانة الزوجية»، خاصة عندما تكون الأم طرفاً فيها. إذ إن الذهنية الاجتماعية المهيمنة تُجبر الأم دوماً على التحلي بخصال التضحية والصبر والقبول بالتسوية على حساب كرامتها ومصالحها الخاصة. وفي اللحظة التي تُحاول فيها الوقوف أمام هذه القدَريّة المقيتة، تجد نفسها محاصَرة بثالوث العائلة والمجتمع والمؤسسة القانونية. ونورا، في نهاية المطاف، امرأة من لحم ودم، قادها التسلط الزوجي والحرمان إلى البحث عن ملاذات تُعيد إليها بريق الإحساس بإنسانيتها، فكان الحب دافعاً لإعادة التفكير في الأوضاع الخاصة، وكان الطلاق مدخلاً قانونياً لإنهاء المعاناة. غير أن الطلاق لم يكن كافياً لإنقاذ الحب من الصدمات التي تلقاها من المؤسسات الاجتماعية-الثقافية السائدة، فالزوج كان مستعداً للقبول بالطلاق في نهاية المطاف تحت طائلة الإلزام القانوني، ولكنه رفض الامتثال لرغبة زوجته في البحث عن حياة جديدة مع رجل آخر، لذلك سعى جاهداً إلى تدمير علاقة نورا بحبيبها.

منذ صمت القصور وحتى نورا تحلم، تلوح صورة الأم في السينما التونسية منفلتة من نسق البدايات، والذي ساهم في إعادة تشكيل مخيال المحنة النسائية في تونس بحثاً عن يقظة جماعية مناهضة لمنطق العودة إلى الوراء. ولكن السياق الثوري الذي فرض نفسه بعد جانفي/يناير 2011 سيفتح السرد السينمائي على حقول وفضاءات أخرى، برزت خلالها صورة الأم أكثر ديناميةً وأشد التصاقاً بمعارك الحياة والمجتمع، بوصفها فاعلة ومتأثرة في الوقت ذاته.