وثيقة:التحرش الجنسي يربك المشرعين
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
العنوان | التحرش الجنسي يربك المُشرعين |
---|---|
تأليف | كريم نمّور |
تحرير | غير معيّن |
المصدر | المفكرة القانونية |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://legal-agenda.com/التحرش-الجنسي-يربك-المُشرعين/
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | https://archive.is/0c4SU
|
نشر هذا المقال في العدد 48 من مجلة المفكرة القانونية
في مناسبة يوم المرأة العالمي بتاريخ 08/03/2017، أقر مجلس الوزراء اللبناني مشروع القانون الذي تقدمت به وزارة الدولة لشؤون المرأة والذي يرمي الى معاقبة جريمة التحرش الجنسي. وفي حين إعتبر وزير الدولة لشؤون المرأة جان أوغاسابيان أن هذا الأمر يشكل إنجازاً وهدية للمرأة اللبنانية في يومها العالمي، يجدر التذكير بأن هدية ذكور الدولة تلك أتت بعد شهر ونصف تقريباً من مهرجان الإستهزاء الجماعي الذي شارك فيه عددٌ من ذكورها في مجلس النواب تبعاً لتقدم النائب غسان مخيبر “مرتاح البال” بإقتراح قانون معجل مكرر إلى المجلس النيابي يرمي الى تجريم التحرش الجنسي والإساءة العنصرية. وكان النواب آنذاك، وفي الجلسة عينها، وافقوا بداية على مشروع قانون مخيبر وبعد ثوان فقط عدلوا عن الأمر تبعاً لمسارعة بعض الحاضرين في زرع مخاوف إزاء إستغلال مثل هذا القانون للإنتقام من أصحاب العمل وإعتراض البعض الآخر على غياب آلية المحاسبة فيه.
اليوم إذاً، هناك مشروعان قانون بشأن التحرش الجنسي: مشروع قانون وزارة الدولة لشؤون المرأة (مشروع أوغاسابيان) نُشر على موقع الوزارة الإلكتروني بتاريخ 13/03/2017 وسوف يتم إحالته الى مجلس النواب للتصويت عليه؛ ومشروع القانون المقدم من النائب غسان مخيبر (مشروع مخيبر)، الذي تم تعديله جزئياً خلال جلسة مجلس النواب المذكورة في محاولة لدمجه مع مشروع أوغاسابيان.
سنة 2012 شاركت مع عدد من المحامين/ات والباحثين/ات والقضاة والناشطات النسويات في صياغة مشروع قانون بشأن التحرش الجنسي والمعنوي داخل أماكن العمل وخارجها في إطار مشروع “مغامرات سلوى” الذي نظمته جمعية “المجموعة النسوية” آنذاك (مشروع قانون المجتمع النسوي). وقد إستغرقت صياغة مشروع القانون هذا، أشهراً من البحث ومن جلسات الحوار والعصف الذهني مع أخصائيين في هذا المجال للتوصل إلى مسودة قانونية شاملة تعالج مسألة التحرش وكيفية التصدي لها. بناء عليه، وبعد التمعن بقراءة مشروعي أوغاسابيان ومخيبر، إقتضى تسجيل الملاحظات التالية، على أمل أن يتم الأخذ بها في الصياغة النهائية لمشروع قانون يعالج بدقة وجدية موضوع التحرش من كافة جوانبه شديدة الحساسية.
مشروع أوغاسابيان
في مشروع أوغاسابيان تعريفان للتحرش الجنسي: الأول في الفقرة الخاصة بتعديل قانون العمل، حيث يحظر اللجوء إلى التحرش “سواء عبر الكلام المثبت أو الكتابة، وبأي وسيلة من وسائل الإتصال، أو ممارسة الضغوط أو التهويل أو إصدار الأوامر بهدف الإستحصال على خدمات ذات طبيعة جنسية”. ومن الملفت أن مشروع أوغاسابيان حظر هذا التحرش على أي كان، “أكان صاحب عمل أو أجيراً على حد سواء” من دون أن يفصل من المقصود بكلمة “أجير” تحديداً، ما يستدعي التساؤل عن مدى فعالية مثل هذا الطرح. فصياغة المادة على هذا النحو تفتح باباً واسعاً أمام أصحاب العمل لإستغلال هذا النص ضد أجرائهم. فمشروع أوغاسابيان لم يأخذ إطلاقاً بعين الإعتبار طبيعة علاقات العمل غير المتساوية (ومن البديهي التذكير بأن صاحب العمل يتمتع بسلطة مهنية ومالية على أجير يجد نفسه غالباً بوضعية تابعة له)، وساوى حيث لا يجب، ما قد يؤدي الى إفراغ مشروع القانون من غايته المُعلنة. والواقع أن تشريعات مماثلة للتحرش (والمُشار إليها بالـ”عمودية التصاعدية”) هي جد نادرة في القانون المقارن، وهي تتطلب طبيعة شبه تعاونية لعلاقات العمل، الأمر المغيّب تماماً من الإقتصاد اللبناني اليوم. وكان من الأجدى أن يتم تحديد هوية الأجير المتحرّش على أنه ذاك الذي يتمتع بسلطة على الضحية (كالرئيس المباشر أو مدير الفرع إلخ) أو معاقبة – فضلاً عن ذلك – الإبتزاز بشكل عام داخل أماكن العمل، على غرار ما لحظه مشروع قانون المجتمع النسوي.
أما التعريف الثاني للتحرش فيظهر في الفقرة الخاصة بتعديل قانون العقوبات من مشروع أوغاسابيان عبر إستحداث للمادة 535 من قانون العقوبات الواردة تحت الفصل الخاص بالجرائم المتعلقة على الحض على الفجور والتعرض للأخلاق والآداب العامة. واختيار هذا الفصل بالذات من قانون العقوبات إنما يؤشر إلى نظرة هذا المشروع للتحرش الجنسي كفعل مخلّ بالأخلاقيات أكثر مما هو فعل يمس بحرية الضحية وراحتها. فتعريف التحرش الجنسي هنا هو “القيام بالكلام أو الكتابة، وبأي وسيلة من وسائل الاتصال، بإستخدام كل ما يحمل دلالات جنسية وتنال من شرف وكرامة الضحية أو تنشئ تجاهها أوضاعاً عدائية أو مهينة”. فالإشارة الى مفاهيم مثل “الشرف” و”الكرامة” دون ربطهم بإقلاق راحة الضحية أو وجهة نظرها للفعل المقترف بحقها عبر إستخدام أداة العطف “أو”، إنما قد يجعل من النص الجزائي نصاً ذات طبيعة فضفاضة لا ترتكز على عناصر موضوعية (أو حتى شبه موضوعية) يمكن قياسها، بل ترتكز على عناصر ذات تعريف متغير باستمرار ومرتبط بالأخلاقيات والآداب لمجتمع معين أو بيئة معينة أو حتى قاض معين. وهذا الأمر قد يعرّض النص، فضلاً عن ذلك، للإعتراض الكلاسيكي في مشاريع القوانين المتعلقة بالتحرش والمتمثل في التخويف من إحتمال تحول معاقبة التحرش الى أداة للإبتزاز (وهو أمر لم يوفر بعض نواب الأمة من تكراره خلال جلسة الإستهزاء الجماعي المذكورة أعلاه). فكان من الأجدى صياغة النص إنطلاقاً من موقع حماية الضحية وليس إنطلاقاً من موقع حماية أخلاقيات وآداب المجتمع. وهذا تحديداً ما اعتمده مشروع قانون المجتمع النسوي الذي عاقب التصرفات من منطلق مدى تأثيرها “سلباً على راحة الضحية”.
بالمقابل، وعلى غرار ما لحظه مشروع قانون المجتمع النسوي، وضع مشروع أوغاسابيان آلية لحماية ضحية التحرش من التمييز داخل مكان العمل إزاء إستقرار العمل أو الأجر أو الترقية إلخ.، كما نص على حماية الشاهد في مثل هذه الحالات، معتبراً أن أي عمل يطال الضحية أو الشاهد في هذا الإطار يقتضي إعتباره باطلاً. ولكن لا يزال هناك بعض النواقص في مشروع أوغاسابيان تطرح علامات إستفهام عديدة. ففي حين أوجب المشروع على صاحب العمل إتخاذ “التدابير اللازمة” لمنع ومعاقبة التحرش داخل مكان العمل، ترك أمر تحديد إطار هذا الموجب رهناً لإرادة صاحب العمل الحرة أو لتفسير الإجتهاد له فيما بعد. فضلاً عن ذلك، لم يضع مشروع أوغاسابيان عقوبة واضحة للتحرش داخل أماكن العمل. ففي حين أشار الى عقوبات تأديبية محتملة ومنها الصرف، لم يأتِ المشروع على ذكر ماهية عقوبة صاحب العمل المتحرش أو الذي أخلّ بموجبه في حماية أجرائه من التحرش، عاطفاً الأمر إلى الملاحقات الجزئية المحتملة فقط. وبذلك تكون الطريق الوحيدة المتاحة أمام الأجير لمكافحة التحرش هي الذهاب إلى القضاء الجزائي (وهذا أمر أعود إليه تفصيلياً أدناه). أما مشروع قانون المجتمع النسوي، فكان قد وضع آلية مفصلة جداً لحل النزاعات بهذا الشأن أمام مجالس العمل التحكيمية، فاتحاً أيضاً مجالاً للتوسط في هذا الإطار (وهي آلية قد تكون أنسب وأسرع لحل النزاعات الناشئة عن التحرش)، وقد أعطى الضحية حق الإستقالة على مسؤولية صاحب العمل، الأمر المغيب تماماً في مشروع أوغاسابيان.
مشروع مخيبر
يتميّز اقتراح مخيبر، بالمقابل، بدقّة أكبر في تعريفه للتحرّش من مشروع أوغاسابيان. وهو ينطلق في هذا المجال من موقع حماية الضحية، بالرغم من إقتراحه هو الآخر إضافة مادة التحرش في الباب السابع من الفصل الثاني من قانون العقوبات الخاص بالجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة. فالتحرش في مشروع مخيبر هو الإقدام “بشكل صادم أو ملح أو متكرر على فرض أقوال أو أفعال أو إيحاءات ذات طابع جنسي أو ذات طابع عنصري، على شخص دون رضاه أو من دون إيحاء بالترحيب، فأدى ذلك الى الإعتداء على كرامته إما بسبب طبيعتها أو ظروفها المهينة أو الضاغطة أو المحرجة”. وبالتالي يكون هذا التعريف وضع راحة الضحية وحريتها وتصورها للعمل المقترف بحقها في صلب العناصر المكونة للجرم.
فضلاً عن ذلك، تميز هذا المقترح بالنسبة إلى مقترح أوغاسابيان لجهة العواقب التي رتبها على إقتراف التحرش من قبل صاحب العمل أو صاحب مهنة حرة أو أي ممثل له أو موظف يعمل لديه. فهذا الفعل يعتبر من الأخطاء الجسيمة التي تحدد على ضوئها وفق ما جاء في الإقتراح النتائج المترتبة على الإستقالة أو الصرف، من دون أن يقوم بتفصيلها. وقد تضمن الإقتراح أيضاً بعض الأحكام لإلزام صاحب العمل على حماية أجرائه، محدداً آلية لهذه الغاية (مثل تضمين نظام المؤسسة الداخلي أحكاماً خاصة بشأن التحرش ومعاقبته إلخ.)، ومنعه من التمييز ضد ضحية التحرش في العمل إلخ. ومن هذه الزاوية، بدا الإقتراح أقرب في روحه إلى مقترح المجتمع النسوي، من مشروع أوغاسابيان.
ملاحظات مشتركة على مشروعي القانون:
أولاً، لجأ كلا المقترحين إلى القانون الجزائي لمعاقبة التحرش (بالرغم من تضمين مشروع أوغاسابيان أحكاماً تعدل قانون العمل مثلما ذكرته أعلاه)، دون إيلاء أي دور لمجالس العمل التحكيمية أو للوساطة في قضايا حساسة مثل هذه. ومن المهم التنويه بأهمية اللجوء إلى وسائل بديلة لحل مثل هذه النزاعات قبل الذهاب مباشرة الى القضاء الجزائي، نظراً لأهمية المساحة التي تحتلها وجهة نظر الضحية للفعل المقترف من ناحية أولى (فما قد يشكل تحرشاً لشخص قد لا يشكل تحرشاً لآخر)، ونظراً لأهمية المحافظة على إستقرار علاقة العمل. فسلوك الطريق الجزائية مباشرة (مع كل ما يستتبع ذلك من علانية وتوقيف وعقوبة مقيدة للحرية) قد يغيب عملياً أي فرضية للمحافظة على بيئة سليمة في العمل أو حتى إستمرارية العمل بحد ذاتها. فما هي حظوظ المحافظة عليها في ظل نشوء دعوى جزائية بين زملاء أو بين أجير وصاحب عمله؟
ثانياً، لا يتضمّن أيّ من المقترحين أحكاماً خاصة للتصدي للتحرش المعنوي. ففيما حصرها مشروع مخيبر بالتعرض العنصري فقط، يبقى أن هناك جوانب لا تحصى من التحرش المعنوي من شأنها أن تؤثر مباشرة على التدريب المهني أو على الإستمرارية في الوظيفة أو على الترقي فيها أو على الأجر أو أن تحدث بيئة عمل تخويفية أو عدائية أو ضاغطة أو مذلة. وإن أهمية إدراج مثل هذه الأحكام تكمن في إمكانية التصدي إذ ذاك لمختلف أنواع التعسف والترهيب والتسلط الذي يعاني منها عدد هائل من الأجراء اليوم في لبنان وهم غالباً ما يخضعون لها بسبب حالة التبعية المهنية والمالية الملاصقة لعلاقات العمل في إقتصادنا النيو ليبرالي؛
ثالثاً، لم يخفّف أيّ من المقترحين من عبء الإثبات على الضحية. فقد أوجب كلا الإقتراحين إثبات تداعيات للتحرش على الضحية أو على المجتمع، لتكوين الجرم. فقد استخدم المقترحان صيغة النتيجة الحاصلة بدل النتيجة الممكنة أو المتوقعة، مثل: “فأدى ذلك الى الإعتداء على كرامته” بدلاً من “قد يؤدي ذلك الى…” أو “تنشئ تجاهها أوضاعاً عدائية…” بدلاً من “قد تنشئ…” إلخ. وهذا الأمر إنما يحتم على الضحية إثبات الضرر، وهو أمر غالباً ما يصعب إثباته في قضايا التحرش. ولهذا السبب خفف مشروع قانون المجتمع النسوي عبء الإثبات على الضحية معتمداً إذ ذاك أحرف التوقع (مثل “قد”) قبل التطرق الى تعقبات التحرش؛
رابعاً، وفيما عدا موظفي الإدارات العامة، لم يعالج المقترحان الإستثناء الملحوظ في المادة السابعة من قانون العمل، بحيث لا يزال إذ ذاك كل من العاملين في الخدمة المنزلية والنقابات الزراعية والمؤسسات التي لا يشتغل فيها إلا أعضاء العائلة خارج الحماية اللازمة من التحرش، علماً أن هذه الفئات هي الأكثر عرضة للتحرش نظراً لطبيعة عملها.
يتبين إذاً بعد قراءة مقترحي أوغاسابيان ومخيبر أن مسألة التحرش لا تزال تربك المشرع. فتراه تارة يتفوق بحماسه على أصحاب الشأن وعلى المجتمع النسوي مسارعاً إلى “إهدائهم” تشريعاً يوسع في ظاهره من نطاق معاقبة التحرش بغض النظر عن التداعيات الإجتماعية لهذا التوسع، وطوراً ينسف أهداف التشريع المُعلنة من من خلال تغييب بعض الآليات الأساسية لدرء التحرش بشكل فعال أو إيجاد أخرى قد تؤدي إلى حرمان الضحية من أي حماية جدية. وعليه، يتبين لي أنه من الضروري تعديل المقترحين على نحو يتضمن معالجة شاملة لقضايا التحرش بالغة الحساسية، بهدف ضمان حق التمتع ببيئة سليمة للعمل خالية من أي تحرش جسدي أو نفسي بشكل فعال.