وثيقة:الدولة متخلّية والنساء بلا مأوى - إشكاليّات تطبيق القانون 58 في تونس

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

جيم.jpg
مقالة رأي
العنوان الدولة مُتخلّية والنساء بلا مأوى: إشكاليّات تطبيق القانون 58 في تونس
تأليف غير معيّن
تحرير غير معيّن
المصدر جيم
اللغة العربية
تاريخ النشر 2021-04-01
مسار الاسترجاع https://jeem.me/مجتمع/هيفاء-ذويب/الدولة-مُتخلّية-والنساء-بلا-مأوى-إشكاليّات-تطبيق-القانون-58-في-تونس
تاريخ الاسترجاع 2021-04-28
نسخة أرشيفية https://archive.is/V4tgK



قد توجد وثائق أخرى مصدرها جيم



بعد أكثر من 4 أعوام على صدور القانون عدد 58 المتعلّق بالقضاء على العنف المبني على النوع في تونس، ما زالت الجمعيات والناشطات تُطلقن صافرة الإنذار بشأن ما يخلّفه العنفُ من آثارٍ وخيمةٍ على حياة النساء والفتيات، وبسبب عجز كافة الأطراف عن جبر الضرر الناجم عنه وتوفير الإمكانات اللازمة للإحاطة بالضحايا والناجيات.

صادق البرلمان التونسي على القانون عدد 58 المتعلّق بالقضاء على العنف المبني على النوع الاجتماعي (الجندر) في أوت/آب 2017، وسط احتفاء مجموعاتٍ واسعةٍ من مكوّنات المجتمع المدني الحقوقية والنسوية، وعددٍ من الشخصيات الوطنية من مشارب سياسيةٍ مختلفةٍ في مقدّمتهم/ن مَن ناضَلن من أجل إصدار هذا القانون منذ الثورة. وفي الأعوام التي تلت، تمّ تقديم القانون في المناسبات الرسمية وغير الرسمية كـ"مكسبٍ وطني" يُضاف إلى رصيد الترسانة القانونية المعزّزة لحقوق النساء في تونس. لكن الكواليس ما زالت حافلةً بنقاطٍ خلافيةٍ على المستويَين التنفيذي والسياسي. أمّا على أرض الواقع، فما زلنا نُطلق صافرة الإنذار بشأن ما يخلّفه العنفُ كل يومٍ من آثارٍ وخيمةٍ على حياة النساء والفتيات، وبسبب عجز كافة الأطراف عن درء الخطر وجبر الضرر الناجم عنه وتوفير الإمكانات اللازمة للإحاطة بالضحايا والناجيات.

دخل القانون عدد 58 حيّز التنفيذ في فيفري/شباط 2018. وما زلت الدولة تتعامل معه على أنّه مكسبٌ جديد، في حين يعود عمل الجمعيات في مجال استقبال النساء ضحايا العنف ومرافقتهنّ إلى أكثر من عشرين عامًا. ففي حديثٍ أجريتُه مع الأستاذة والباحثة النسوية في علم الاجتماع درّة محفوظ، أكّدَت أنّ الجمعيات الوطنية المستقلّة مثّلت المختبَر الأوّلي لمناهضة العنف، حين بادرَت منذ عقدَين إلى استقبال الضحايا وتوفير المرافقة النفسية والإرشاد القانوني لهنّ. فتحَت أولى مراكز الإنصات والتوجيه للنساء الضحايا والناجيات من العنف أبوابها في مطلع الألفية الثالثة في تونس العاصمة، تبِعَتها أوّل دراسةٍ وطنيةٍ عن العنف وفّرَت للمرّة الأولى معطياتٍ لا يمكن دحضها عن طبيعة هذا العنف وتفاقم الظاهرة كمًّا ونوعًا، فأعلنَت الدولة عام 2008 ’الاستراتيجية الوطنية لمقاومة العنف داخل الأسرة‘.

تُجمِع المعنيّات والناشطات اللواتي تحدّثتُ إليهنّ على وجود "برودٍ" في التعامل مع القضية مقارنةً بالأعوام المنصرمة، فالدولة مفلسة - لاسيّما على المستوى السياسي - كما أنّ السلطات المعنية لم تحافظ على نمط تطبيق الإجراءات كما في الأشهر الأولى من إصدار القانون 58، ولا يبدو أنها عازمةٌ على ذلك.


الإدماج الاقتصادي والاجتماعي للناجيات في سبيل الاستقلالية

في الشهر الذي بدأتُ فيه العمل كمسيّرة مشروعٍ في مجال التوعية والمناصرة ضد العنف المبني على النوع الاجتماعي وتقديم القانون عدد 58، جاءت زيارتي الأولى إلى ’مركز الأمان‘ لإيواء النساء المعنّفات الذي تسيّره 'جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية' بالشراكة مع وزارة المرأة. احتفلتُ يومها بعيد ميلادي وسط الفريق العامل في المركز وعددٍ من النساء المُقيمات وأطفالهنّ، وأعدَدن لي تُرتَةً كبيرةً وشهيّة.


في المركز المذكور، تُدمَج النساء اقتصاديًا واجتماعيًا بغرض تمكينهنّ من تحقيق الاستقلالية الذاتية التي تؤهّلهن لتأمين حياةٍ كريمةٍ بعد مغادرة مركز الإيواء المؤقت. ويضمّ مشروع التمكين الاقتصادي في ’مركز الأمان‘ ورشاتٍ في الفلاحة والبستنة وخبز المرطّبات (أي صنع الحلويات) ضمن مشاريع اقتصادٍ تضامني واجتماعي.

عندما فتح ’مركز الأمان‘ أبوابه في 8 مارس/آذار 2016، احتاج عامًا كاملًا لإعادة تهيئته لاستقبال المُقيمات. كان المركز فضاءً للأطفال مغلقًا قبل أن يصبح مركزًا نموذجيًا للتعهّد بالنساء الضحايا والناجيات من العنف. وفي خلال الفترة الممتدّة بين عامَي 2013 و2015، قام ’الهلال الأحمر‘ بتشغيله قبل أن تنتقل إدارته، إثر إعلان عروضٍ ثان، إلى ’جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية‘ بإشراف الوزارة. تقول سلوى كنّو، الرئيسة السابقة للجمعية: "في فترة حكم الترويكا، رفضَت حركة النهضة الإسلامية أن تتولّى الجمعيّات النسوية أمر هذا المركز، كما رفضَت الحكومة ترشّح الجمعية لإدارته عام 2013".

لا تسيّر الجمعية ’مركز الأمان‘ وحده، فهناك أيضًا مركز ’تناصف‘ للإنصات وتوجيه النساء الضحايا والناجيات من العنف. ومنذ عام 2000، يستقبل الفضاء الموجود في العاصمة النساءَ من أجل توجيههنّ والإحاطة بهنّ نفسيًا وقانونيًا. يتلقّى فضاء ’تناصف‘ سنويًا حوالي 400 إلى 500 إشعارٍ عن العنف عبر الهاتف. وإلى جانب دوره في الإنصات، يُعتبر محطة استقبالٍ أولى للنساء قبل توجيههنّ إلى السلطات والمؤسّسات المناسبة لتتبّع المعتدي، أو الانتفاع بالإيواء أو التمكين اقتصاديًا واجتماعيًا. ويُشترط في خلايا استقبال النساء أن تكون مفتوحةً وقريبةً ليسهل وصول النساء إليها، بعكس مراكز الإيواء التي يتم التحفّظ بشأنها كي تظلّ مكانًا آمنًا للناجيات بعيدًا عن معنّفيهنّ.

وفق ’التقرير الوطني لوزارة المرأة‘[1] بشأن متابعة تطبيق القانون عدد 58 بعد عامَين من دخوله حيّز التنفيذ (2017-2019)، جرى تأمين خدمات الإنصات لأكثر من 2374 ضحيةً وناجية، مقابل إيواء حوالي 140 في مختلف مراكز الإيواء. وفي العادة، يجري توجيه النساء إلى مراكز الإيواء عبر متدخّلات ومتدخّلي الصفّ الأول كمندوب/ة حماية الطفولة، قاضي/ة الأسرة، ممثل/ة النيابة العمومية، الطبيب/ة، أو أحد معاوِني/ات وزارات الصحة، الشؤون الاجتماعية، التربية أو شؤون المرأة. كما يمكن تحويل النساء إلى المراكز عن طريق شبابيك الإنصات والتوجيه التابعة للجمعيّات، والتي لا يتجاوز عددها العشرين وتتوفّر في أقلّ من عشر ولايات. وعلى أيّ حال، لم يبقَ من مراكز الإيواء - حتى كتابة هذه السطور - سوى مركزٍ واحدٍ مفتوحٍ لاستقبال النساء، هو ’مركز سيدي علي عزوز‘ التابع لجمعية ’بيتي‘ في تونس العاصمة، في حين أغلقَت باقي المراكز أبوابها بسبب تراكم المشكلات التنفيذية واللوجستية، وفشل الشراكة مع السلطة المُشرِفة، وانعدام الموارد، بالإضافة إلى الأزمة الناتجة عن جائحة كورونا.

قد يبدو للوهلة الأولى أن القانون الأساسي ساهم في تعميم الخدمات المسداة للنساء في كافة الجهات، لكنها في الواقع ما زالت لا تغطّي ولايات الجمهورية كافةً البالغ عددها 24. كما أنّ القانون عدد 58 لا ينصّ على مبدأ تعميم الخدمات، بل هو مبدأٌ دستوريٌ من شأنه تقليص التفاوت الحاصل بين الجهات والفئات الاجتماعية في البلاد. وتشير الأرقام الخاصة بوزارة الداخلية إلى تسجيل الوحدات المختصّة في جرائم العنف ضد المرأة والطفل[2] 64979 حالة عنفٍ ضد النساء والفتيات خلال عام 2019، شكّلت جرائم العنف الجسدي 59% منها.

تهيمن التحدّيات المالية على مختلف إشكاليات تطبيق القانون، إذ يتمثّل العائق الأكبر في الصعوبات المادية والهشاشة الاقتصادية المتأصّلة على الصعيدَين الفردي (أي النساء المعنيّات) والهيكلي من حيث الإمكانات والموارد المرصودة. وفي لقاءٍ سابقٍ جمعَني بعضوات وأعضاء 'الشبكة التونسية لمراكز الإيواء والإنصات للنساء ضحايا العنف'،[3] رفعَت إحدى مقدّمات الخدمات للنساء في ولاية القصرين الجلسة قائلة: "يمكننا الاسترسال في تعداد الإشكاليات اللوجستية والتنفيذية والإدارية وغيرها حتى الفجر، لكن جميع مَن في القاعة يعلم أن الخلل مالي، فبلا موارد لن نتمكّن من إيواء النساء".

لا تستجيب المراكز الموجودة لكافة طلبات الإيواء بسبب طاقة استيعابها المحدودة التي تصِل إلى 30 سريرًا، كما هو حال ’مركز الأمان‘ الذي أوى في عامه الأول 66 امرأةً و72 طفلًا من أصل 240 طلب إيواءٍ سُجّلت عبر شباك ’تناصف‘ للإنصات والتوجيه التابع للجمعية ذاتها. هذا التفاوت بين العرض والطلب بسبب ضيق الطاقة الاستيعابية يمثّل الوجه الأول لعجز الدولة عن تطبيق القانون. وفي هذا السياق، تقول كنّو، الرئيسة السابقة للجمعية: "تملك الدولة المساحات والفضاءات التي يمكن وضعها على الذمّة للاستجابة لحاجات النساء، وهو ما لا يملكه المجتمع المدني". أما بالنسبة لباقي مقدّمات ومقدّمي الخدمات، فيشترط القانونُ إصدارَ الأوامر التطبيقية اللازمة، كما يمكن للدولة تفويت بعض الأملاك أو تسويغها وتهيئتها لفائدة النساء الضحايا والناجيات من العنف وأطفالهنّ.

يمثّل تأمين المسكنُ نقطة تحوّلٍ مفصليةً لخروج النساء من دائرة العنف الزوجي. ووفق الأرقام الخاصة بوزارة العدل للسنة القضائية 2018-2019، بلغ عدد حالات العنف الزوجي المسجّلة 2958 من أصل 3372 قضيةً مفصولةً في جرائم العنف ضد المرأة ومصرّحًا عنها. كما تبيّن المعطيات المسجّلة لدى السلطة القضائية أن 46% من النساء الضحايا/الناجيات ينتمين إلى الفئة العمرية 40-49 عامًا. ويمثّل بحث هؤلاء النساء عن ملجأ خارج الإطار العائلي في حدّ ذاته تحدّيًا، إذ يصعب عليهنّ تحقيق الاستقلالية الاجتماعية والاقتصادية كلّما ازداد وضعهنّ هشاشة، لاسيّما في حال وجود أطفال. تقول كنّو: "من بين أربعين قضية طلاقٍ تمّ رفعها خلال السنة الأولى من تسيير مركز الإيواء، ناجيتان فقط واصلَتا مسار التتبّع الجزائي في حين تراجعَت 38 ناجيةً أخرى". تصرّ غالبية النساء الضحايا/الناجيات عند استقبالهنّ في مراكز الإيواء على رغبتهنّ في مقاضاة المعتدي، لكنهنّ يتراجعن في غالب الأحيان بسبب الفقر، ومسؤولية رعاية الأطفال وعدم توفّر مسكنٍ خاصٍ بهنّ.

هندة أنجبَت طفلها وحصّلَت شهادةً في ’الأمان‘ قبل إغلاقه

هندة (29 عامًا) أمٌ عازبةٌ لطفلٍ وحيدٍ لا يتجاوز عمره ستّة أشهر، روَت لي تجربتها التي قادتها إلى مركز إيواء النساء المعنّفات، حيث وضعَت طفلها الذي رفضت إجهاضه والتخلّي عنه. تعتبر هندة نفسها امرأةً قويةً لأنّها تحدّت العائلة والمُجتمع وقرّرت إنجاب طفلها خارج الأطر والمعايير السائدة. تدرس هندة القانون العام، وهي عازمةٌ بالرغم من ظروفها على تحصيل درجة الدكتوراه. لم تكن مُحدّثتي ضحية عنفٍ مادي أو جنسي، بل كما عبّرت بلسانها: "أنا ضحية عنفٍ رمزي ومعنوي شديد. العنف المعنوي لا يقلّ خطورةً عن العنف المادي أو غيره. لقد أحببتُ شخصًا وتعاهدنا في ما بيننا أن نظلّ معًا مهما حصل، لكنّه لم يقبل الطفل وقرّر التخلي عنّا معتبرًا الأمر فضيحةً قاسيةً لعائلته". لا تحبّ هندة أن تتحدّث عن نفسها بصفة الضحية، بل تُؤكّد بنبرتها المتّقدة عبر الهاتف أنها اتخذَت قرارها بإنجاب الطفل والاعتناء به جيدًا، لكن ذلك لم يحمِها من الشعور بالوصم والنبذ، ما جعلها تنغلق على نفسها طيلة الأشهر الأولى من الحمل، لتختفي بعد ذلك وتنقطع عن أيّ نشاطٍ دراسي أو اجتماعي، قبل أن تتدخّل إحدى صديقاتها وتصِلها ببعض الجمعيّات. عندما سألتُها "لماذا اتصلتِ بالجمعية وما الذي كنتِ تنتظرينه تحديدًا؟"، سكتَت هندة لثوانٍ ثم أجابت: "كنتُ بحاجةٍ إلى ملجأ، إلى أن أحظى بليلة نومٍ هادئةٍ فقط".


تُقدّم مراكز الإيواء للنساء خلال أشهر الإقامة الأولى الرعاية الطبّية والنفسية، وتعيّن لهنّ مختصّاتٍ في علم النفس يُساعدنهنّ على البوح. تقول هندة: "كنتُ محظوظةً إذ التقيتُ بالمختصّة النفسية في اليوم الأول من وصولي إلى المركز". وبحسب الحالة، قد تتطلّب الرعاية الطبّية والنفسية ثلاثة أشهرٍ قبل أن تبدأ عملية الإدماج الاجتماعي والاقتصادي. وتعتبر كنّو أن العمل على إعادة تأهيل النساء اقتصاديًا يحتاج إلى وقتٍ ومساحةٍ مختلفَين نوعيًا عمّا يقدّمه مركز الإيواء المؤقت، فوفقًا لها، ما زال التكوين (أي تعزيز المهارات أو التكوين الذاتي والمهني) ضعيفًا وما زالت الجمعيات تتحرّك ضمن الإمكانات المتاحة والمحدودة.

أمّا ما يؤرّق فاتن شوّالي، منسّقة مشروع التمكين الاقتصادي للنساء الضحايا والناجيات من العنف في إحدى الجمعيّات، فهو مصير النساء المجهول بعد انقضاء فترة الإيواء.

لا يمكن التوقف عند تجربة الإيواء المؤقت، إذ يشترط التعهّد وفق ما ينصّ عليه القانون عدد 58، إعادة التأهيل والإدماج الاقتصادي والاجتماعي الذي يساعد المرأة الضحية/الناجية على الخروج من دائرة العنف والقطع مع المعتدي. وبحسب الدراسة التي أنجزَتها جمعية ’بيتي‘، تقرّ معظم النساء المُقيمات أنهنّ اضطُررن للعيش في تلك المراكز، فهي ليست الخيار الأول للمرأة. مع ذلك، تتضرّر النساء بسبب قلّة عدد المراكز سواء التابعة للمؤسسات العمومية أو للجمعيّات. أما بالنسبة إلى الجانب الاقتصادي لظاهرة الإيواء في المراكز الاجتماعية، فتكشف الدراسة عن صعوبة إدماج غالبية النساء في سوق الشغل بسبب ضعف المستوى التعليمي وعدم تحصيلهنّ أيّ برامج تكوينية.

هذا المسار المنهجي يعيقه تخلّي الدولة عن مسؤولياتها تجاه النساء. وفي هذا السياق، تقول شوّالي: "لا يمكننا كجمعيّاتٍ أن نتحمّل المسؤولية كاملةً في غياب الدولة، نحن نحارب العنف ولا يمكننا أن نطبّع مع العنف المؤسّسي الذي تمارسه أجهزة الدولة من خلال المماطلة والتعطيل الممنهج".

تؤدّي الموارد البشرية دورًا فارقًا في عملية التعهّد بالناجيات، إذ تتطلّب أحوالهنّ النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وأحيانًا الصحية، رعايةً متعدّدة الجوانب، مع الإشارة إلى أنّ عددًا كبيرًا منهنّ يأتين برفقة أطفالهنّ المشمولين بالتعهّد وفقًا للقانون 58. وفي عام 2019، أوى ’مركز الأمان‘ 94 فردًا منهنّ 48 امرأةً و46 طفلًا برفقتهنّ. هذا التحدّي لم تغفل عن ذكره الرئيسة السابقة ’لجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية‘ سلوى كنّو، إذ تقول: "كان علينا أن نراعي داخل المركز العلاقة بين الأم والطفل، فعدد الأطفال يوازي عدد النساء، وهم يحتاجون رعايةً خاصة، ومرافقةً نفسيةً أو مدرسيةً أو غير ذلك".

كانت هندة أمٌ مميّزةٌ بين المُقيمات. ما لم تخبرني به بلسانها أخبرَتني به رفيقاتُها المنبهرات بها، فقد كانت بالنسبة إليهنّ موهوبةً ومستقلةً إلى حدٍّ كبير. أحبّت هندة الطفلَ حبًا فائضًا، كما زيّنَت له الغرفة قبل ولادته ورسَمت على جدارها فيلًا جميلًا. أما هي، فلم تخبرني سوى أنها لشهورٍ طويلةٍ لم تمسك قلمًا وألوانًا، ثم استعادَت الرغبة بالرسم عن طريق الورشات الفنية التي نظّمها المركز لفائدة النساء المُقيمات وأطفالهنّ. قضَت هندة أكثر من ستّة أشهرٍ في مركز الإيواء، ووضعَت طفلها هناك قبل أن تغادر في سبتمبر/أيلول الماضي وقد حصلت على شهادة الكفاءة المهنية في مجال خبز المرطّبات. ما زال هذا العمل يوفّر لها حتى اليوم قوتَ يومها هي والطفل، وحياةً هادئةً نسبيًا وفق تعبيرها. "ما زال طفلي صغيرًا، وهو يرافقني في المخبز. لقد سلّموه شهادةً أيضًا لأنّه شارك معي في كلّ الدورات التكوينية وكان ملتزمًا بالمشروع" تقول ضاحكةً.

تقدّم وزارة المرأة ’مركز الأمان‘ كمركزٍ نموذجي، وقد تعاقبَت على ترؤس الوزارة منذ افتتاحه ثلاثُ وزيرات. لكن تأخير أعمال الصيانة والتهيئة أدّى إلى إغلاق أبواب المركز في وجه النساء الضحايا والناجيات. ففي شهوره الأخيرة التي تزامنَت مع انتشار جائحة كورونا، بات المركز يشكّل خطرًا على المُقيمات والعاملات فيه بسبب خللٍ كهربائي داخل الغرف، تطلّبَت صيانته معاملاتٍ إداريةً بيروقراطيةً طويلةً وموارد إضافيةً تستلزم المراجعة والمصادقة عليها من قبل سلطة الإشراف.

كانت هندة من بين آخر المُقيمات في المركز، وقد غادرَته بعدما سمعَت من الإدارة أنّ أبوابه ستُغلق لفترةٍ طويلة. لحُسن الحظ، عثرَت هندة على عملٍ يضمن لها الاستقلالية. أما النساء الأخريات، فنُقل البعض منهنّ إلى مراكز أخرى، بينما البعض الآخر وجدنَ أنفسهنّ، من دون سابق إنذار، بلا مأوًى.


هوامش

  1. لم يُنشر بعد.
  2. هياكل ترابيةٌ مختصّةٌ تمّ استحداثها بموجب القانون 58 وتتبع الحرس الوطني والأمن العمومي.
  3. شبكةٌ من الجمعيات تضمّ حوالي 20 مركزًا في مختلف ولايات الجمهورية.