وثيقة:الطلاق الشفهي بين الشيخ والرئيس
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | سحر مندور |
---|---|
تحرير | فريق عمل مدى مصر |
المصدر | مدى مصر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://www.madamasr.com/ar/2017/02/27/opinion/مجتمع/الطلاق-الشفهي-بين-الشيخ-والرئيس/
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر
في 25 يناير 2017، اندلع صراعٌ علني بين رأسَي هرمَي الدين والدولة، متلبسًا جسم «الطلاق الشفهي». صار الأخير عنوان الانتصار للأسرة المصرية وصد الفكر المتطرف بالنسبة إلى الدولة، كما صار هو نفسه، بالنسبة إلى الأزهر، الثابت الراسخ في الشريعة منذ فجر الإسلام. لكن القضايا الحقوقيّة، وتحديدًا قضايا المرأة، لا تظهر هكذا في رأس الهرم فجأة، وإنما تقع عند تقاطع أكثر من سياق.
في دعوتها لإلغاء «الطلاق الشفهي»، لم تلتحق الرئاسة بمطلبٍ ترفعه المنظّمات الناشطة في قضايا المرأة، وإنما كانت هي من أطلقت المطلب، وواجهت الأزهر به. وفي المقابل، فالرئاسة التي أعلنت 2017 «عام المرأة»، حاصرت هذه المنظّمات بالتهم ومنع السفر والحجز المالي. كأنها إذن بطرحها الراهن تستعيد مطالب المرأة المصرية من الشارع، وتضع المبادرة في يد النظام الحاكم؛ هو ولي الأمر. بعد حصارٍ رسمي أوسع استهدف حريات التعبير والمعرفة والاختلاف، حاول النظام استعادتها من الشارع الذي رفعها مسيّسةً منذ ثورة يناير.
بدا اختيار موضوع متعلق بالنساء لخوض مواجهةٍ مع الأزهر، وكأنه يستعيد الصورة الحداثويّة التي أعلنتها دولنا عن نفسها في مرحلة ما بعد الاستعمار، عندما أراد المتحرّرون من الاستعمار تأكيد مواطنةٍ ذات طموحٍ متساوٍ للمرأة. ولكن، تواضُعَ المطلَب في ظلّ تفاقم واقع عدم المساواة أفقد اللحظة الحالية «رونق» الخمسينيّات، مثلما عرفته مصر والعراق وسواهما من دول المنطقة.
في ظل ذلك، وأمام صراع نادر بين مؤسستين ثقيلتين كالأزهر والنظام السياسي-العسكري، بدا عصيًّا تأطيرُ النقاش العام بالعلاقة مع الفئة المتضرّرة؛ النساء. فشغل «أولياء أمورهن» مساحة النقاش الأوسع، بلا تسجيل لسقوط ضحايا، لا اعتداء يقع ولا ظلم يُرفَع، وإنما هو حقٌ للرجل، تُناقَش إمكانيّة عقاب صاحبه على سوء استخدامه.
وكالعادة، المرأة التي يرد ذكرها في صراع شبيه هي التي اعتاد الخطاب الرسمي والسائد الاحتفاء بها وترفيعها، لا بل حتى التردّد أمام ذكر اسمها الشخصي حفظًا لشرفها، فهي المرأة التي تصون الأسرة، والمرأة التي تصون الوطن. أمّا ما يجري فوق رقعتها هي، ما تعيشه هي جراء الطلاق أو العنف أو غيرهما، فهو إما غير مرئي أو غير مدعو في نقاش القوانين والتعديلات. المرأة لا تُقرأ باستقلالية، فاستقلاليتها خروجٌ عن أولياء الأمر، ولا صراع بين الرئاسة والمشيخة حول ذلك.
أشباح النقاش وأبطاله
وُلد نقاش «الطلاق الشفهي» راهنًا من ملاحظة في خطاب ألقاه الرئيس عبد الفتاح السيسي في «عيد الشرطة»، قال فيه إن ارتفاع نسب الطلاق يستلزم إلغاء «الشفهي» كإجراء ردعي. واختار السيسي مواجهة الشيخ أحمد الطيب (الحاضر بروتوكوليًا) بعبارات تشي بالحرقة.
اعتُبرت كلمة السيسي دالّةً على ناحيتين في العلاقة مع الأزهر: الصراع الراهن بين المؤسستين («وإلّا إيه يا فضيلة الإمام؟»)، وتاريخيّة الصراع بينهما («تعبتني يا فضيلة الإمام!»)، وإذ احتفى البعض بتقدمية ما في طرح السيسي، فقد انتقد الآخرون استدعاءه لنقاش فقهي في حفل ذي طابع مختلف، هو في الواقع طابعٌ عسكريٌّ، فيه استعراض للقوة، وتصاحبه عادةً قدرةٌ على الفرض، ما يبرر طرح الإعلام لإمكانية فع الإمام الأكبر إلى الاستقالة، علمًا أن القانون يحفظه في منصبه حتى بلوغه الثمانين من العمر على أقل تقدير (سن الشيخ أحمد الطيّب راهنًا 71 عامًا).
فرضت كلمة السيسي «الطلاقَ الشفهيَ» كموضوعٍ راهنٍ، فاتسع النقاش مستدعيًا السوابق القانونية وكذلك الشرعيّة، ليحتل القانون موقعًا أمام الفقه. حلّت المواجهة في مكانٍ يتقاطع بين المجتمع الشريعة والقانون.
المعادلة بسيطةٌ في المجتمع: رجالٌ سيفقدون امتيازًا، لكن أوضاع النساء المطلقات لفظًا، والمربوطات بعقودٍ على الورق، قد تتحسّن؛ زيجات عرفيّةً سيجري تفاديها، وحمايةٌ أكبر لحقوقهن ستتأمّن، ووضوحٌ في علاقة المرأة بالقانون سيتشكّل، ولو أنّ التعديل قد لا يحد من عدد الطلاقات (بحسب «مؤسسة قضايا المرأة».
وفي الشريعة، بدا جليًّا أنّ الدفاع جاهز: شكّل الأزهر لجنته الفقهية منذ عشرة أشهر، باحثًا في إمكانيات تفادي «الواقع الأليم الذي تشهده محاكم الأسرة». لكن المراجع مالت لصالح تثبيت «الطلاق الشفهي»، والمراجعين مالوا إلى المراجع. وبدلًا من الاجتهاد، اختار الأزهر قفل باب النقاش الفقهيّ. فوصف بيان «هيئة كبار العلماء» دعوة السيسي بأنها «تخالف ما استقرت عليه الأمة منذ عهد النبي محمد». بالنسبة إلى الأزهر، فالزمن الذي يصحّ فيه «الطلاق الشفهي» بدأ منذ البداية ويستمر حتى النهاية، والسلطة، مهما علت، لا تعلو عن سلطة النبي.
كان يمكن لدخول القانون إلى النقاش إيقاظ أكثر من نائم، وتحديدًا التوتر بين منطقَي القانون والشريعة في راهننا. لكن التحالف بين المنطقين حالَ دون اتخاذ النقاش هذا المسار
لكنّ الأزهر والطيب لم يقفلا الأبواب في وجه القانون، وإنما دُعي الرئيس لوضع ضوابط قانونية على عدم تسجيل «الطلاق الشفهي»، بحيث يحقّق مبتغاه بالقانون لا الشريعة. هنا، استدعى النقاش العام بشكل مكرّر رأي أستاذ الفكر المقارن في جامعة الأزهر، الشيخ سعد الدين الهلالي، الذي ثبّت الصراع بدلًا من تفاديه (علمًا أن الهلالي سنة 2014، شبّه السيسي بالرسول لدوره في حماية الدين، فـ«وبّخه» شيخ الأزهر على ذلك حينها). قال الهلالي، بحسب موقع «مصراوي»: «الشعب أصبح الآن أمام خيارين، إما أن يجعل القانون هو السيّد أو الفتوى هي السيّدة. وإذا أقرّ بالثانية، فهو يؤكد أن أعضاء ‘هيئة كبار العلماء’ هم أسياد الشعب، وليس للشعب ولاية على نفسه».
شرح الهلالي أن الشريعة تتسع لهذا التغيير المطبَّق فعلًا في إندونيسيا وماليزيا والكويت وتونس والمغرب وسواها، كما في المذهب الشيعي. والأهم من ذلك، فقد أشار إلى قانون مصري، كان فاعلًا ما بين 2000 حتى 2005 يلغي «الطلاق الشفهي»، وبموافقة الأزهر، ولكن حُكم بعدم دستوريّته في العام 2005 لنقصه تعبير «للمتزوجين رسميًا».
ومع أنّ الهلالي لا يرى في تأخير التعديل إلا خللًا بيروقراطيًا لا أكثر، ولكن بإمكان المرء أن يرصد في هذا التأخير أدوات المؤسسة الدينيّة المعتادة لعرقلة أي تغيير يمسّ قوانين الأحوال الشخصيّة، وهو ما شهدته تجربة سابقة لإلغاء «الطلاق الشفهي» في العام 1975، ضمن باقة من الحقوق عُنونت باسم السيدة الأولى آنذاك جيهان السادات.
كان يمكن لدخول القانون إلى النقاش إيقاظ أكثر من نائم، وتحديدًا التوتر بين منطقَي القانون والشريعة في راهننا. لكن التحالف المحوريّ بين المنطقين في فرض السلطة حالَ دون اتخاذ النقاش هذا المسار. فلم يركّز الحيز العام على الصراع بصفته تناقضًا بين القانون والشريعة، وإنما بين شخص الرئيس وشخص الشيخ، تناقضًا بين رجلين لا يفسد للودّ قضيّة، ولا يغيّر للمرأة وضعًا.
مطلبٌ لا يمسّ السلطة
في الحيّز العام، بدا كأن العنوان الدال على الصراع هو الطلاق بين الرجلين. واستهدف النقاش إجمالًا حقّ الرجل والأمّة والوطن، لا حقّ المرأة. حدّد السيسي بوضوحٍ ثلاثة موجباتٍ لمطلبه: حماية الأسرة، إعطاء الفرصة للرجل كي «يراجع نفسه»، وحماية الأمّة «بدل تحوّلها لأطفال في الشوارع بسلوكيات غير منضبطة». على هذا المنوال، بعيدًا عن المرأة، انسحب النقاش.
حاجج الباحث الإسلاميّ محمد الشحات مثلًا بأن «الرجل المصري يميل إلى استخدام الطلاق لا لحلّ الرابطة الزوجية وإنما كطريقة للحلفان (عليَّ الطلاق)». فهل نلجم الرجل كي لا يتكاثر الطلاق، مثلما يرى الرئيس؟ أم أن لجمه يأتي حصرًا من «ضميره كمسلم»، مثلما يرى الأزهر؟
في كل هذه الأحوال، لا تُستدعى المتعرّضة للطلاق إلا كأداة «تشفيقٍ»، أو أداة ترهيبٍ بسبب ضررها على الأسرة (نواة الدولة) إذا وقع عليها طلاقٌ غير موثّق. ناهيك عن كارثة إختلاط الأنساب! (بلا أيّ إكتراثٍ من طرفَي النقاش لاكتشاف الحمض النووي، الـ«دي إن إيه»، بسلطتَيه المعرفية والرادعة). فالتفكير المنطلق من المرأة كان ليفترض دراسة تأثير هذا الطلاق على حياتها، كونها الفئة المتضرّرة قبل الوطن والأمّة، وتقديم الحجج المبنيّة على سرديّات وأرقام المنظمات الحقوقيّة والأهليّة. كذلك يفرض الانطلاق من المرأة مقاربة عناوين غير تلك التي تختارها السلطات، بلا أي تنسيق مع المنظمات الفاعلة على الأرض والتي حدّدت سلّم مطالب مؤثّرة في حياة النساء.
هي إذن مسألةٌ ذات حدّين: تُستدعى المرأة التي فرضت قضاياها الجذريّة فرضًا على الشأن العام، ويُستدعى معها مطلبٌ غير جذري، ولم يُرفع مؤخرًا، ليكون هو محور الصراع بين مؤسستين ذكوريتين ضخمتين
ورغم واقعية المطلب، يبقى واجبًا التفكير في سبب اختياره تحديدًا كعنوان للصراع، وفي «عام المرأة». ولماذا هو «عام المرأة» أصلًا؟ هل هو فرضٌ أجنبيٌّ بأجندة أجنبيّة، وإلخ؟ (وهل أصيب النظام بما يَتّهم به الجمعيات الحقوقيّة؟)، أم أنه تكرّس بفعل تسلسل الأحداث والضغوط والثبات منذ ما قبل ظروف ثورة يناير؟ غالبًا، تستدعي الأنظمة فئة علا صوتها وأثرها، لتحشرها في معركة لم تخترها، حول مطلب بسيط لم ترفعه الفئة وحده، لكنها لن تتركه وحده أيضًا، بحيث ينتهي المطلب إلى حال، ويتوقّع من انتهائه أن يُخفِت طاقتها. يكافئها النظام بما لم تطلبه، ويريحها ممّا لم ينهكها. فيبدو إصرارها «مبالغًا به» أو «طمعًا». أتريد أكثر من مواجهة مع الأزهر «لأجلها»؟!
كذلك، يأتي اختيار المطلب بحيث لا يمسّ بصلب المكتسبات، فلا يستهدف ميزان القوة بين الرجل والمرأة، ولا يفرض على المؤسّستين السياسيّة والدينيّة تقديم تنازل، وإنما يكون جزئية في سياق حقوق المرأة والمطالبات الراهنة، جزئية هامّة طبعًا لتأثيرها في حياة النساء، لكنها لا تصيب جذرًا في النظامين ولا في الذكوريّة. لا تحمي جذريًا، ولا تصد جذريًا، ولا تهدّد قوانين الطلاق، ولا تصبو نحو مساواة. هي تؤخّر القدر خطوةً، فتعطي المرأة فرصةً قبل «تثبيت الطلاق» لتفاوض زوجها، علّه «يراجع نفسه».
هي إذن مسألةٌ ذات حدّين: تُستدعى المرأة التي فرضت قضاياها الجذريّة فرضًا على الشأن العام، ويُستدعى معها مطلبٌ غير جذري، ولم يُرفع مؤخرًا، ليكون هو محور الصراع بين مؤسستين ذكوريتين ضخمتين. فيحتل رقعة المرأة، ويثبّت سيطرتهما – وحدهما – عليها وعلى هذه الرقعة.
العلاقة بين الرجل والرجل هي محور «عام المرأة»، وهي مسألةٌ لا تجهلها المرأة، لم تتفاجأ بها الناشطات، ولن تنهار بسببها الحركات. هي السائد كما الرمل في الصحراء.