وثيقة:تأملات في الجسد
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | عبد الله البياري |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | جدلية |
اللغة | غير معيّنة |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | http://www.jadaliyya.com/Details/30240/تأملات-في-الجسد
|
تاريخ الاسترجاع |
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها جدلية
لأجسادنا وجهان/جلدان، وجه/جلد على العالم الخارجي، في الـ"هناك" البعيد القريب، حيث يتماس "الآخر" مع سطحه، فنعرف به ذواتنا وحدوده، ووجه/جلد على ذواتنا يطل في الـ"هنا"، هو الوجه القريب للمسافة البعيدة التي تهجس فيها أرواحنا بما يضج فيها وبها، هي المسافة الرمزية للأنا، فهيها –مثلًا- يرتع "إسمنا" بما يحمل لنا من خارجنا إلى داخلنا والعكس، هناك تتراتب أسئلتنا الوجودية في مقاعدها بوجاهة طفل، وفوهتها إلينا، وإن أخطأت إلى الـ"هناك".
بقراءة بسيطة –وإن مختزلة كانت- لأعمال أحد أشهر الفنانيين الأوروبيين في فترة "مابعد الحرب" وهو إيف كلاين (بالفرنسية إييف كلييه) 1928 – 1962 والذي يعد من أعلام حركة "الواقعية الجديدة" الفنية، وتحديدًا عمله الفني: "نسب أُحادية اللون Monochrome : العهد الأزرق"، في تلك المجموعة الفنية نرى "طباقًا" تعبيريًا بين الجلدين الداخلي والخارجي للجسد، وهو أقرب مايكون "لأثر الجسد" أو بمقاربة أدق لإنطباعه في العين، دونما أن نعرف عن "المؤثر/الجسد" شيئًا مميزًا له، ولا ندركه إلا بما يتركه من "أثر" فينا/لنا، ما يمكننا أن نراه من الجسد هاهنا تعبيريًا/إنطباعيًا لا يمكننا من رؤية المسافة بين جلديه الداخلي والخارجي، وبالتالي فهو أقرب لمركزية العين منها لتعبيرية الجسد/المؤثر.
وفي إمتداد لنفس فكرة الأثر والمؤثر، طورت منذ أسابيع الفنانة الأمريكية هيذر هنسن Heather Hensen في عملها "بوادر فارغة/Empty Gestures"، طريقة لتمثلات الجلد الخارجي للجسد إنطباعيًا دونما إشارة للمسافة بين جليده الداخلي والخارجي، حيث كان جسدها نفسه هو المؤثر، تاركًا خطوطًا دورانية على غير ما فعل كلاين بأن ترك أحجامًا، ولذلك تفسير يضيق به المتن هاهنا، تتحقق تلك الخطوط ضمن إمتدادات الجسد/الجلد الخارجي لا إنطباعاته الفراغية.
ولعل المميز في تلك الأعمال هو ثقل الأثر الذي تتركه في المتلقي، والذي يعود لعنصرين في الصورة الفنية/التشكيلية/التعبيرة، لم يأخذا حقهما لدواعي السيطرة والسلطة كما سنرى، وهما:
- أثر شد الجلد الخارجي وإمتداداته وإنطباعهم في الإدراك، وهو مايمكن رده كمعادل لأثر الحداثة والتقانة والمدنية على الجسد من تكديس وتصليب كآثار جانبية للسيطرة.
- أثر كتل الجسد البشري، وهو أيضًا جزء من الآثار الجانبية للسيطرة على الجسد و هندسته، ولننظر إلى مقاييس مسابقات الجمال مثالًا.
إن قراءة الجلد الخارجي هاهنا في تلك الأعمال الفنية و غيرها، يخبرنا الكثير عن آثار السلطة الواقعة على أجسادنا و إدراكنا لها، سواءًا سلطة العين أم سلطة النسق الذي يسبح فيه الجسد، ومحاولات طمس المسافة بين الجلد الخارجي و الداخلي.
ينبثق هذا الحديث بين الـ"هنا" والـ"هناك"، بكل خشخشته في الروح، ليعيد ترتيب الهواجس و المواجهات –والتي لا تعد أسماؤنا أولها- بين البري و المستأنس/المتأنسن فينا، هذا الطرق بمطرقة "الإنساني" اللامعة، حوار الداخل و الخارج، وإن كانت مرآويته –من "مرآة"- جسدًا، يعري فينا ما لجلودنا من مساماتٍ يخترقها النظر والمعنى والرمز والقلم والعين، وبتلك المسافات نعرف أنفسنا ونتعرف إلى آخرنا. ولعل هنا يمكننا رؤية كيف بات للحروب هذا النزق للسيطرة على الجسد، وبات الجسد فيها آلة حربية، تنفجر في الآخرين أو تعذب لحماية الأوطان أو تقدم قرابين آلهة، كل تلك الأنماط من إستهلاك وهندسة الجسد، تستمد معانيها من قناعات وديناميات تستبطنها الذات داخلها، تحت طبقة جلدها الداخلية، كإسمها، ومن مسامها تطلقها لجلود والآخرين وأجسادهم.
فجلودنا ليست محصنة، مسامنا لا نملك التحكم فيها متى أردنا –دائمًا على الأقل-، بل مراتٍ تتواطأ ضدنا مع كل ماقد يود إختراقها لداخلنا، حاملًا رسائله ومعانيه، لتظل فكرة "كيف نخرج الآخرين من جلودنا؟" تحمل في طياتها إستبطانًا لسؤال أكثر واقعية : "كيف ندخل نحن إلى جلودنا؟".
وهكذا، فمادامت العاطفة تتبع التفكير، فإن حلاوة الحب تتباين إتقادًا وفتورًا. وهنا تتجلى عظمة المقدرة الأزلية وسعتها فقد خلقت جميع المرايا التي تتشظى داخلها دون أن يمس ذلك وحدتها الأزلية. - الكوميديا الإلهية – دانتي أليغري "الفردوس – الأنشودة التاسعة والعشرون")
يُنظر إلى الجسد و"تعابيره" من خلال استحواذه في بوتقة "اللغة التصويرية"، وبالتالي يستنفذ الجسد ذاته في كونه مجرد أداة مادية لتوصيل المعنى، فتتأسس فكرة المسافة بين الجسد و المعنى، وبالخوض أعمق في الفكرة السابقة، نعي درجة اندماج السطحان/الوجهان/الجلدان للجسد، فيما يشكل اتحاد الصورة والمعنى، وهو أكثر صور التعبير الثقافي رسوخًا، إلا أنها أيضًا أكثرها بطشًا و إجحافًا وسيطرة على الجسد.
إن المزاوجة بين الذات والجسد والموضوع والمعنى و التعبير والدلالة، هو ما يُخضع علاقة السحب والطرق والتأثير بين الوعي والجسد، أو الفكرة والصورة، ويكسر بنيتها الهيراركية، إلى تسامي المعنى وتجاوزه من دون أن يؤسس ذلك لدونية المادة/الجسد مقابل سمو المعنى/الفكرة، ولعل تلك أعلى مراحل التعبير و التوافق بين السطحين/الجلدين للجسد، وما يحملانه، ولعلنا هنا لنا أن نستحضر نماذج سلطوية بإسم الفن و التعبير الفني تقوم على إبتخاس حضور الجسد لصالح سمو الفكرة والمعنى، إذ يتسرطن في فنون الأداء الحركي/الجسدي مبدأ إلغاء "أثر الجسد" وزنه، فتبدو معيارية إغفال "وزن الجسد" أساسية في تذوق فكرة العمل، ويغدو الوزن الجسدي عائقًا، وهو ما قد حررته الفنانة الألمانية الراحلة بينا باوتش Pina Bausch (1940 – 2009) في عملها الفني "مقهى موللر" وبالذات في تكرارية حركة الأجساد بأوزانها في مواجهة الحائط، وما أوضحه أيضًا فيلم Pina وتحديدًا في مشهد الفتاة المربوطة بالحبل الذي يجرها للخلف، في محاولة مقاومته أو الفتاة التي يتملكها وزن جسمها في مواجهة الجاذبية، سواءًا جاذبية المعنى أو الجاذبية الأرضية.
الجسد عقلك الكبير، وهذا العقل الصغير الذي نسميه وعيًا ليس سوى أداة صغيرة ولعبة في يد عقلك الكبير. يمكن خلق أفكارك وأحاديثك لكائن أكثر نفوذًا، حكيم مجهول يسكنك: إنه جسدك". (هكذا تكلم زرادشت – نيتشه)
أسست تلك النظرة النيتشوية إلى أولى ديناميات هدم أدوات السيطرة على الجسد وعقلنته لصالح خطاب السلطة، والسلطة هاهنا ليست السلطة بمعناها الإجرائي السياسي، إنما تمتد لأنماط سلطوية أخرى كالمعرفة والثقافة والدين والحضارة وغيرها من المنظومات التي تأتي الحداثة في أولهم. إذ يعيدنا ذلك الحديث إلى مقولة جان بودليارد (Jean Baudrillard (1929 – 1970 عن أن السلطة لا تتحكم سوى في الواقعي أما الرمزي فهو موجود خارج نفوذها، وأن إدامة الفصل بين الصورة والمعنى و/أو الفكرة و الجسد، النسبي و المطلق وغيرها من تلك الإزدواجيات، إنما يؤسس لديمومة أحد أقدم و أهم أنماط العنف الثقافي وأكثرها سيولة في الوعي والأكثر إستبطانًا حتى في الخطابات التحررية في بعض الأحيان –إن لم يكن أكثرها-، بداية من اللغة ووصولًا للفضاءات العامة والخاصة، سياسية دينية مجتمعية، إقتصادية وغيرها، فكل تلك المؤسسات "حاولت زمنًا طويلًا اقناع الناس دون جدوى أن لا جسد لهم، [فلننظر لفكرة نضارة الجسد وغضاضته في الأنساق الدينية فيما بعد تطهير الروح من الذنوب، وكأن الجسد ملك هنا للنص:الكاتب]، أما الآن فيحاولون بجميع الوسائل، اقناعهم بضرورة الاتفات إلى أجسادهم والاعتناء بها". تلك الديناميات الخطابية تتأسس على ماتدعي مواجهته والسيطرة عليه: "مادية الجسد"، قافزة فوق معلومة هامة تؤسس لآليات السيطرة وهي بداهة الجسد لا يمكن أن تنسينا أنه واقعة ثقافية.
كل سلطة أيًا كانت (والصورة والعين سلطتان) تعمم في خطابها "جسدًا نموذجيًا" كمرآة لها، هو "معقلن خطابيًا" تتشكل مسامه وجلداه الخارجي و الداخلي من نحت خطابي متفانٍ من قبل السلطة، كالجسد المتدين، الذي تعاديه روحه وتسيطر عليه إلى أن تتحرر منه، لتستحق جسدًا لا يشيب، ولا يهرم ولا يمرض، وفوق ذلك له أحقية أن يمتلك جسدًا آخر (الحور العين)، وبالتالي يصبح كسر تلك المرآوية الخطابية المفروضة على الجسد وتحريره منها وإن كان محاطًا بأنماط دونية للجسد، كإعتباره "عورة" مثلًا، أو أنه جسد رجعي وغير متحضر (فلنننظر للأنماط الجسدية لدى التنويرين أو دعاة الحرية في المجتمعات المحافظة)، كل تلك الأنماط الصورية الخطابية هو ما يمكن القول أنه نتاج صوري لمؤسسات –بتعبير بول ريكور- "لا تتكلم" إنما تُصور خطابيًا، فمثلًا قول كلاوديو في مسرحية شكيسبير Much Ado About Nothing: "سأتزوجها حتى لو كانت إثيوبية" لا يخرج عن كونه كلام الثقافة البيضاء المرسوم أجسادًا. كل تلك الديناميات الخطابية أسست للسيطرة على الجسد ، حضورًا و تمثلًا عن طريق: الهندسة/الحذف/التعديل/الرقابة.
القبض على رجلين في السعودية يعرضان "عناقًا مجانيًا" بتهمة "تكدير النظام العام. (BBC-Arabic 21 نوفمبر/تشرين ثاني 2013)
علاقة الناس بأجسادهم، تعكس في كل الثقافات نمط علاقاتهم بالأشياء المحيطة بهم، كما تحدد أنماط علاقاتهم الإجتماعية والإنسانية أيضًا، وتتبدى أهمية ذلك إذا تمت موضعة الجسد في النسق الثقافي الخاص به، باعتبار أن الثقافة هي نسق يجب أن يحتوي على : أنماط فكرية وقيم ومعتقدات تتشاركها مجموعة محددة من الأفراد ، وتميزها عن غيرها من المجموعات، شريطة أن تتضمن معنى يمكن كل فرد أن يفهم ويستوعب عالمه وذاته وبالتالي يصبح قادرًا على إنتاج رموزه و التعبير عنها، ضمن مايمكن تسميته "علاقات إجتماعية" وهي ما يفعله الأفراد من أنشطة وسلوكيات: "فعل إجتماعي" متضمن في "بنية إجتماعية".
وبالعودة للجسد في سياقه الخطابي وليس الأركيولوجي كانت أولى مظاهره التي بدأ بها الزمن الإنساني كانت لحظة "وعي" بتفاصيله في الزمن المطلق/الجناني (نسبة إلى الـ"جنة") في زمنية أكل التفاحة الحرام، والوعي بسيميائية/دلالة تلك التفاصيل، في جسد آدم وحواء، وهنا بات الجسد هو البؤرة الأولى للتأنسن، ثم "الوجه" في المقام الثاني. لتجيء زمنية تالية على الجسد، أسست لمنطق الصواب والخطأ (وليس الحرام والحلال، وإلا كان عقاب آدم وحواء نار جهنم على صنيعهم، ويظل سؤال وعيهم بدلالة أجسادهم أم الأكل من التفاحة في ذاته ومعصية السلطة الإلهية صاحبة الزمن معلقًا) وهي لحظة إفناء الجسد بجريمة قتل هابيل على يد أخيه قابيل، ودلالة دفن الجسد بعد ذلك.
كان فنانوا العصور الوسطى يصورون العراة في أعمالهم دونما مشاركة المشاهد/المتلقي بتفاصيل "التصوير /التجسدي"، لهذا انعدمت ردود الفعل الجنسية في لوحاتهم، ناهيك عن سيطرة السرد ال `ذكورية على الأجساد، فالمشاهد العديدة لعري آدم وحواء، تصور العري دون أدنى علاقة بتأويل اهتمام المشاهد البصري، وذلك كأولى دلالات علمنة الفنون و التعابير التصويري والثقافية، والتي لم تتخلص من كامل القوى الخطابية التي نحتت الجسد بصريًا وتأويليًا، لذا لم تكن من قبيل المصادفة أن يصنف رجال الدين المسيحي في القرون الوسطى العري الجسدي بين أربعة نماذج:
- الحالة الطبيعية للعري: Natrualis Nuditas
- العري باعتباره نتيجة للفقر والبؤس و العوز: Temporalis Nuditas
- العري كرمز للبراءة والبساطة: Virtualis Nuditas
- العري الذي يحيل إلى الشوق والشهوة والوقاحة : Criminalis Nuditas
وهنا نجد أن الجسد، على مايبدو من تحرر النمذجة ولو قليلًا من سلطتها –كنتيجة لتيارات علمنة الفن- ، ظل حبيس تنويعات خطابية تجعل "عين الرائي" وتمثلات الجسد فيها، هي الحكم وليس الجسد الذي هو عارٍ في الأربعة حالات.
تتسلم العين مفاتيح الجسد، فتصبح هي المركز ويغدو هو طرفًا، فيقع على غير رغبة منه حبيس تقابلٍ بين حالتين يمكن من خلالهما فهم دلالة الجسد والخطاب، وليس الجسد في ذاته، وهما الإحتجاب عن العين أو التعري أمامها.
ولما أخذ إيناس الخوف مما رأى توشح سيفه، وجعل السيف بمواجهتها. ولولا أن مرافقته الحكيمة أعلمته أن هذه الكائنات ليست سوى ظلال وأشباح، لاندفع باتجاهها وضرب الظلال عبثًا. - "الإنيادة" – فيرجيل
للتقابل بين الحجب و العري، أهمية دلالية في فهم تمثلات الجسد وحضوره في "العين" والوعي الذاتي و الآخروي، بين "النظر" و"الرؤية"، فالصورة البورنوغرافية، يتمثل فيها الجسد موضوعًا واقعيًا ماديًا، فتنطبق فيه النظر و الرؤية، فينمحي الرمزي و الإيحائي والمعنى الموازي، ليمثل الجسد "خامًا"، أو كما يصفه "ماثيو دوبوا" Matthieu Dubost في كتابه La Tentation Pornographique : "كل شيء في الجسد واضح وبسيط، إنه شبيه بمنطق البوح وماهو موجود فوق المعطى الواقعي (...) ذلك أن الغموض و اللبس يتنافيان مع فكرة البورنوغرافيا، لذلك قد تكون حالة التمثيل هذه هي أول نوع تنتفي فيه عملية التأويل"، وغياب التأويل هو غياب للتوسط أيضًا، إنه غلغاء للمعاني المضافة التي تتسرب إلى الجسد من خلال عمليات التمثيل، و السباحة في الخطاب. "فلا وجود لقصة خاصة بالجسد، هناك فقط وضعيات مزيفة سرعان ما تختفي هي الأخرى (...) وحالة الفيلم البورنوغارفي دالة في هذا المجال، فهو لا يسير للأمام، بل يراوح مكانه باستمرار".
في حالة التعري فإن الجسد خالٍ من كل شيء، فلا "حواجز" تفصل بينه وبين العين التي تتمشى على جلده الخارجي. العين هاهنا لا تكتشف ولا تضيف ولا تركب ولا تهندس ولا تحذف. ولا يأخذها الاستيهام بأي اتجاه، كل شيء يأتيها دون جهد منها، وبالتالي فالجسد يغوي بلباسه لا بعريه، فالعري يسلب العين حق الإستيهام وسلطة خطابها الذي تصوره.
"أذكر حتى الآن طعم الذعر الذي ينتابني عند إرخاء الغطاء على وجهي، وكيف كانت الدنيا تعتم في عز نهار حارق، وكيف كنت أعجز عن التنفس. عرفت لاحقًا أن السبب يعود إلى ضعف بصري من جهة وإلتهاب الجيوب من جهة أخرى، لا لأانني مولودة للضوء ولا لأتنفس حرية كما اعتقدت وجيزًا!! وأذكر كيف أن خوفي كان يزداد بسبب بروز نظاراتي من تحت النقاب الذي لم يكن يشتمل على فتحتي عيون، فما أن أتلمس نظاراتي من فوق القماش حتى أصاب بالدوار متخيلة أن وجهي قد نتأ منه جسم غريب". - "الرقص مع النقاب" – رزان زيتونة
العلاقة بين الجسد و العين علاقة متغيرة وديناميكية متحركة، وليست خطية تلتزم بنمط أفقي ذا إتجاه واحد، ففي البورنوغرافيا يأسر الجسد العين، ويكبلها خارج ممكنات التأويل، فالعين التي تدرك خلاف العين التي تتمثل، بعبارة أخرى عين قابيل كانت غير عين آدم، بين لحظتي أكل التفاحة والقتل، كذلك كان الوعي بالجسد، العين التي تدرك مشدودة إلى موضوع تمثلها كعين قابيل إذ أدرك أن هابيل قد مات تمامًا، أما العين التي تتمثل فهي تلون موضوعها بكل الألوان، كيعن آدم التي ما أن رأت الجسد الذي لم يرد نص قاطع بأنه كان "غير مرئي/مستور" حتى بات في حكم "السوء" ما أن "تبدت لهما" أجسادهما.
لعل ذلك مايفسر لنا موقف العين أمام الجسد المحتجب، فحالة الطمس أو التنميط للجسد يُدفع لها بالجسد للتخلص من كل خصوصياته، عن طريق طمس جلده الخارجي وصقله خطابيًا، فيصبح جسدًا عامًا بلا ماضٍ ولا مصيرٍ ولاهوية، هو جسد يتذوت فيه سكحا جلده الداخلي و الخارجي، و تتسع مساماته لقوى العين الذكروية السلطوية، فتلقي عليه تراسيم الجمع، فهو جسد غير قابل للتصنيف لذاته، إنه موجود خارج الأشكال لأنه بلا شكل، أي لا جلد خارجي له يميزه بذاته، ولا هوية بصرية حرة تميزه، فلاجلد داخلي له، هو جزء من متتالية بصرية متكررة أنتجتها "عين" السلطة، لترى نفسها، فتصبح تلك الأجساد حينما نخاطبها تمثلاتٍ لموقف ذكوري يسوي بين كل الأجساد، بما في يده من سلطة الكشف/الحضور، والحجب/النفي وما بينهما من فضاء التحريك والهندسة والتركيب والرقابة.
إن الجسد في الحجب والطمس يغدو شيئًا متحركًا يعجز عن أن يتسرب إلى الذاكرة، فهو غير موجود، فالعين لا تتمكن من أن تلتقط خيطًا منه تنتشي به أو تزدريه، لذا تنفيه، و"كما أن البورنوغرافيا ترفض الخصوصية" فإن الحجب والطمس يسلب الجسد خصوصيته وفرادانيته، ليعوضها بالعدم و العماء: عدم الهوية الفردية في مقابل الجماعية/القطيعية، وعماء الشكل الظاهر (الكثير كتب عن فكرة الحجاب الملون في الدول العربية، وكيف قوبل بالرفض)، فالحجب تعميم وطمس ولم ورص وإخفاء إلى حد اللاتمييز باسم التمييز، وإعدام أي وجود، وتجدر الإشارة (بما لا يتسع المتن هاهنا، إلى أن السيطرة على الجسد لا يمكن فصلها عن السيطرة على المكان، وهنا تظهر فكرة الأمكنة والفضاءات الطاردة أو الأيديولوجية).
في دراسة أجراها مركز حقوق المرأة المصرية منذ عامين 2009 عن التحرش الجنسي وهو أكثر أنماط التعدي على الجسد فظاظة إلا أنه الأقل تراكبية، في مدينة القاهرة ، خلصت فيه النتائج إلى أن غالبية المتحرش بهن من المحجبات؛ ويرى البعض أن "المحجبات أقل ثقة بأنفسهن من السافرات" أو "أنهن أكثر تواضعًا"، ولكن يبدو في الأمر إلتباس، فتلك تعميمات تطلق على الجسد تبتغي تصنيفه و تأطيره وتقييده لا تختلف عن تصنيفات السلطة الدينية في شيطنتها للجسد، وكذلك لا تختلف عن أنماط الجسد التعميمية الصورية التي تنطلق في عين المتحرش، باعتباره صاحب سلطة القوة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والدينية أيضًا، وبالتالي فتمثلات الجسد تخضع للسلطة الممنوحة لـ"عينه". يمكن تفسير تلك الدلالة الرقمية للدراسة السابقة، في ضوء "وضعيات الجسد في الفضاء العام"، فذلك الجسد الذي تختل فيه العلاقة بين الجلدين/الوجهين الداخلي و الخارجي ، يوحي بالتواضع المعلن، وما يستبطن الإغراء بالإصطياد، نظرًا لأن الجسد يقبل ويستسلم لخطاب السلطة الأقوى، بالميل نحو الإنكماش و الإختباء، وتقوقع الأطراف على المركز، على وقع حركة ضابطة تؤسس لأجساد تتدثر بطمس نفسها في الفضاء العام والخاص، طمس يؤسس له الخطاب الديني/السلطوي بداية من تذكر الألوهة وصولًا إلى أن "الحق على النساء لأنهن يخرجن من بيوتهن" أو أنهن "عاريات... والله لعن العري"، وهل من نتيجة أكثر سوريالية؟ من سماع عبارات مثل "اللحم الرخيص" في حين أن الجسد مغطى بالأكمام الطويلة التي تطمس الشكل كله! هنا تتجسد سلطة العين على الجسد بأكثر صورها النافية.
"كان المشهد يربكني، فكل هذا السواد من حولي يجعلني مرئية بشكل لا أستطيع مواربته. وفي المقابل لا أتمكن أنا من تمييز سيدة من أخرى، رغم إلتقائي بهن مرارًا وتكرارًا، ولأن الأسماء تغدو متشابهة بدورها في ظل عدم وجود وجه أو لون أو بشرة أو عيون تميز أصحابها. إزداد غضبي على جسدي الذي لا يقبل سلطة الآخرين عليه، ولا يقيم اعتبارًا لسلطتي، وكأنني أنا التي فُرضت عليه وليس العكس! جاحد. الاختفاء كان علاجًا أشبه بحبة الهلوسة. تواطأنا على الإختفاء سويًا، فلا يؤرقني وجوده ولايشعر بوجودي. بالتأكيد لم أعلم أبدًا كيف كان الآخرون ينظرون إلي... فأنا مختفية أصلًا. "الرقص مع النقاب" – رزان زيتونة
إن تاريخ الجسد هو تاريخ تقابلي بين الجسد والعين، ومايقتضيه ذلك من إنبناءه في الخطاب والإدراك، أي أن تاريخ الجسد هو تأريخ لأشكال حضوره و تمثله والقوى التي نحتته. فالتعرف إلى هوية جسد ما لايمكن أن تكون باللحم / الوعاء المادي الطبيعي، فاللحم عام ومشترك، إن هوية الجسد لا توجد فيما يوحد، بل فيما يخصص ويميز، ذلك أن الجسد دومًا احتفظ بـ"طبيعيته"، ولكنه هندس نفسه على الدوام، ثقافيًا، وأحاطته العين بالكثير من البديهيات لتحمي سلطتها.
ومن هنا يمكن قراءة مفهوم الجمال و تحريره من قيود، فكما حدده الإغرايق بأنه مايروق للعين، ويريحها ويستثيرها وما يصاحب كل ذلك من نشوة للحواس الأخرى. وموطن ذلك لا يمكن إلا أن يكون "الشكل المرئي" الجسدي الحر، على ما في ذلك من مركزية للعين والرؤية على حساب النظر، وهو مايظل نوعًا مقابلًا من السلطة، أسست لها معيارية الجسد.
سجل ليوناردو دافنشي قياسات الجسد المادية التي ترضي العين المركزية، أبرع تسجيل و ذلك في لوحته الشهيرة "دورة القمر"، حيث رسم جسدًا بشريًا شديد التناسق داخل دائرة ومربع في آن معًا: الأعضاء التناسلية مركز المربع، و السرة مرزك الدائرة، ومن هنا تأسس إنعكاس الجسد البصري القياسي على الرسم والعمارة وسائر الفنون الفنون التعبيرية.
وامتداًد لذلك "إزدهر الجسد العاري في الفن خلال المائة عام الأولى من عصر النهضة الكلاسيكي، عندما تداخلت الشهية الجديدة للتحليل القديم مع عادات العصور الوسطى في الترميز والأيقنة والتشخيص. وقد بدا وقتها أنه لا يوجد مفهوم مهما كانت عظمته لايمكن التعبير عنه بالجسد العاري، وليس هناك شيء مهما كانت تفاهته لا يمكن تحسينه عبر إعطائه شكلًا بشريًا (فلنلاحظ تناول بعض الأديان التوحيدية لمفهوم "الجمال" الجسدي وأثره على المنظومة الدينية، وتوازي تلك العلاقة مع بينة المعبد والسلطة السياسية)، فمن ناحية نجد لوحة "الحساب الأخير Le Dernier لمايلك أنجلو، ومن ناحية أخرى نجد مقابض الأبواب والشمعدانات، وحتى أطباق وأوشاك الأكل والسكاكين" ففي الحالة الأولى نواجه الأجساد بهوس السيطرة من قبل المؤسسة الدينية التي قد ترى أن العري لا يتناسب مع المسيح وحوارييه/مقدسيه (كما يمكن قراءة ذلك بشكل أكثر تطرفًا يرفض التجسدي عمومًا أو بشأن أي رمز أو شخصية دينية، في بعض الأديان)، أما في الحالة الثانية فنجد سيطرة مقابلة على الجسد باسم "مؤسسة الجمال" التي تعتبر أن شكل فينوس العاري ليس هو مانحتاجه في أيدينا عندما نقطع طعامنا أو ندق على باب أحدهم.
ومع تواتر تيارات علمنة التمثيل/التعبير الفني ورومنطيقيتها المنبثقان من تجريد متعاقب وتراكمي على غير تكثيف، للجسد (فلننظر لأعمال سلفادور دالي مثلًا) أمكننا رؤية خلخلات للجسد، تقوم على زيادة المسافة بين العين و الجسد من ناحية وتذويت الجلد الداخلي للجسد. ففي العام 1863 قدم إدوارد مانيه (Edouard Manet (1832 – 1886 منعطفًا رئيسيًا في تاريخ رسم الأجساد ونحتها، عندما قدم لوحته "أولمبيا Olympia" فإذا ماقارناها مع لوحة الإيطالي تيزيانو فيزيللي (تيتيان) (Titian (1490 – 1576 والتي أسماها فينوس أوربينو Venus of Urbine، حيث يمكننا ملاحظة أن أوليمبيا ليست فقط جسدًا أبيضًا عاريًا إنما هي عارية تقع عليها عين مؤنية أخرى لجسد أقل من حيث المنزلة بالنسبة للعيب، هو جسد أسمر، ليس به من الجمال ما يستحق أن يكشف للعين، بل هي تشارك العين المذكرة الرائية للمتلقي إستمتاعها (وإن بدا طبقيًا) خلسة، وهو ما لم يتحقق في لوحة تيتيان السابقة.
ويتلو ذلك أجساد غوستاف كليمت (Gustav Klimt (1862 – 1918 وبالذات في لوحته "القبلة / The Kiss" حيث يبدو النسق التشكيلي من توشيات وزخارف وزركشات مقصودًا لتغطية على سؤال الجسد ، وهو سؤال عضوي في سؤال شهوة الجسد في التقبيل، إلا أن سلطة العين تستقوي عليه بإسم الجمال.
في السوريالية أيضًا يصح الحديث عن أعمال الفنان رينيه ماغريت (Rene Magritte (1898 – 1967 وتحديدًا لوحة "إغتصاب" ولوحة "المرأة/المرآة" حيث تظهر الفيها إمرأة عارية حاملة مرآة كبيرة تغطي بها جزءًا كبيرًا من جسدها، وقد عكست صورة جانبية لها كما لو أنها تستدير في محاولة لستر صدرها، في حين أن المرآة هنا تمثل حدود "عين" الرائي المسيطر على الجسد سواءًا إما باستحضاره أمام العين أو أو بتمثله خطابيًا.
تتابع الإنهيارات التشكيلية للجسد أمام هجمات العين، ونزقه –الجسد- للتحرر، فيأتي لنا النمساوي إيغون شييل (Egon Shiele 1890 – 1918) ليقحم على إستحياء من ضمن أجساده المنهارة أجسادًا مذكرة في لوحات تعبيرية لم يكن للجسد فيها أن يتم أفعاله الجنسية لولا وجود ما أسماه روبرت شولز "السمات الأساسية للشفرة" لقراءة الجسد النصي الأنثوي، وهي سمات لا تتحدد إلا بقوة المذكر وسيطرته الجسمانية والجنسانية على الجسد المؤنث.
لتأتي إبداعات الرسام فرانسيس بيكون (F. Bicon (1909 – 1992 المعاصرة، والذي دأب فيها طويلًا على رسم أجساده بطريقة تصويرية تشذيرية سريعة التنفيذ ومصاغة بعنف إصطباغي يعطي الإنطباع بأن الفنان ينجز قداسًا بدائيًا محولًا كل ما في جعبته من محفزات فنية إلى تراسيم عنف فني للتدليل على أن الإنسان منذ وجوده في الحياة وهو يتسلذذ بصناعة الفواجع، وكلما إزداد احساسه بالذنب إزداد إلحاحه على الإنتحار في الحياة أو من أجل الحياة هاربًا منها إلى حد الإستسلام أو مقبلًا عليها إلى حد الغطرسة، وفي الحالتين يمتطي الجسد متخذًا من السلطة وسائط هندسة وسيطرة عليه.