وثيقة:تعريب كوير - بين تسييس المصطلح وخطاب المثلية الهويّاتي

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

جيم.jpg
مقالة رأي
العنوان تعريب "كوير": بين تسييس المصطلح وخطاب المثلية الهويّاتي
تأليف خوخة ماكوير
تحرير غير معيّن
المصدر جيم
اللغة العربية
تاريخ النشر 2021-03-18
مسار الاسترجاع https://www.jeem.me/ مجتمع/خوخة-ماكوير/تعريب-كوير-بين-تسييس-المصطلح-وخطاب-المثلية-الهويّاتي
تاريخ الاسترجاع 2021-04-07
نسخة أرشيفية https://archive.fo/3F96n



قد توجد وثائق أخرى مصدرها جيم



يجول هذا المقال على معاني الكلمة الإنكليزية "كوير"، مراوحًا بين تاريخية المصطلح وظروف نشأته في السياق الأميركي، وبين التمثّلات والاستخدامات التي شهدها عند احتكاكه بالساحة العربية.

"أحبّ كوير [...] تُترجَم كوير إلى اللغة العربية بـ"غريب الأطوار" أو "الشّاذ". أحبّ عبارة "شاذّ!" [...] أجل، أنا شاذّة".

- 'بريد مستعجل'، 2009[1]


مذ حلّ مصطلح "كوير" (queer) ضيفًا على ألسنتنا وأقلامنا العربية، لم تنقطع الحاجة إلى تعريبه وإردافه بشروحاتٍ مختلفة. قد يُعرَّب أحيانًا بـ"الغريب"، "الشّاذ"، "المنحرف" أو "الخارج". أمّا في سياقاتٍ أكثر صوابيةً، قد تتحوّل كوير/كويريّ.ة في لغتنا إلى "حرّ/ة-الجنس"، "غير-المنصاع/ة للمعايير"، "اللّانمطي/ة"، "اللّا-معياري/ة" وغير ذلك من الاجتهادات. ومع أنّ قواميسنا العربية ولهجاتنا المحكية تعجّ بالخيارات المعجمية، إلّا أن الرواج الأكبر بقي من نصيب "كوير" في صيغتها الأصلية. يجول هذا المقال على معاني "كوير"، هذه الكلمة الإنكليزية التي ما فتئت تروّج محليًا منذ ما يزيد على عشر سنوات، مثيرةً معها تساؤلاتٍ ونقاشاتٍ عدّة. يراوح هذا النصّ بين تاريخية المصطلح وظروف نشأته في السياق الأميركي، وبين التمثّلات والاستخدامات التي شهدها عند احتكاكه بالساحة العربية.

الهامش موقعٌ شرعيّ للاحتجاج

تُعرّف كلمة "كوير" في القواميس الإنكليزية بالغرابة. وكان الناس اعتادوا استخدامها للتعبير عن الاستهجان. أما الأصول الجرمانية للفظ فتبدو أكثر حيادًا، إذ تفيد لغويًا معنى الشيء المائل. في خلال مطلع القرن الماضي، حُمّلت مفردة "كوير" طابعًا جنسيًا وسُخّرت لتوصيف ما كان يُعدّ "منحرفًا" آنذاك عن الممارسات الشبقيّة "المشروعة". استمرّ المصطلح في الانزلاق نحو الوصم والتحقير، ليصبح في منتصف القرن الماضي مرادفًا حصريًا للمثليين، يُستعمل على وجه التحديد لازدراء "الرجال المؤنّثين". أما في أوائل التسعينيات، فشهد مصطلح "كوير" ثاني تحوّلاته الكبرى حين صادره مناضلو/ات مجموعتا 'أكت أب' و'كوير نايشن' واستصلحوه ليصبح مرادفًا للمقاومة والفخر.

تزامنَت عملية استرداد مصطلح "كوير" مع ثاني أكثر اللحظات ثوريةً في تاريخ الحراك الكويري، أي بعد أحداث ستونوول التي تُعدّ الأولى. ولفهم الطابع الثوري الذي التصق باستصلاح "كوير"، تجب مَوضَعة هذه الاستراتيجية الخطابية ضمن إطارها التاريخي وربطها بالمسارات النضالية التي سبقتها. في عام 1990، وزّعت مجموعة ’كوير نايشن‘ منشورًا بعنوان "أيها الشعب الكويري! اقرأ هذا!". كان المنشور بمثابة مانيفستو تضمّن - في ما تضمّنه - تعريفًا لعبارة "كوير" وشرحًا لأسباب انتقائها. وورَد في فقرته السابعة ما يلي: "حسنًا، مفردة "غاي" (gay) هي بالفعل جيّدةٌ وذات مكانة. لكننا حين نستيقظ - نحن المثليات والمثليون - صباحًا، نشعر بالغضب والاشمئزاز، لا بالمرح. لذا اخترنا أن ننعت أنفسنا بالكوير. فاستعمالنا كلمة "كوير" يذكّرنا بنظرة العالم إلينا".[2]

أتاح الفكر اليساري الجديد، بالإضافة إلى الحركة النسوية والطالبية وحراك السود، تقاليد نضاليةً اتّسمت بالنقد والنزعة إلى المواجهة. أتت الخطابات الكويرية الجديدة متأثرةً بتلك الروافد، فانعطفَت عن درب النشاطيّة - المثلية (gay activism) التي انزلقَت إلى التماهي مع المنظومة القيَمية المهيمِنة للطبقات الوسطى في المجتمع الأميركي. هكذا، تحدّت "كوير" الخطابات والاستراتيجيات المثلية التي كرّست فئة الـ"غاي" (gay) كتصنيفٍ هويّاتي وجوهراني يُعيد بدوره تكريس التراتبيات، طامسًا الفوارق والخصوصيّات العرقية والطبقية والجندرية داخل المجتمع الكويري.

تتعارض الكويرية كموقفٍ سياسيٍ مع مساعي النشطاء المثليين والمثليات للتماهي مع الفكر السائد والذوبان في النسيج المجتمعي في سبيل القبول والاندماج. ولأن "كوير" تعترف بالهامش كموقعٍ شرعي للاحتجاج ومساءلة سلطة المركز، انتقدَت الكويرية بشدّةٍ تصدير المنظمات المثلية صورةَ الرجل الـ"غاي" الأبيض الودود، "الناجح" (من منظور نيوليبرالي) والمنتمي عادةً إلى الطبقة الوسطى، كنموذجٍ محترمٍ للمواطن الأميركي الصالح، على حساب باقي الفئات الكويرية المنبوذة والمشطوبة والأكثر هشاشة.

لساننا العربي ومصطلح "كوير" المُرتحل

سافر "كوير" من المملكة المتحدة ثم الولايات المتحدة الأميركية وحطّ على ألسنتنا المحلية، بالتزامن مع وفود حزمةٍ جديدةٍ من المفاهيم المتنّقلة (traveling concepts) على غرار "جندر"، "فوبيا"، "ميزوجينية"، "ترانس"، إلخ. ولأن هذه المفاهيم المرتحلة تحتاج منّا فهمًا متموقعًا يستوعب خصوصية السياقات التي حطّت فيها، سألنا عددًا من الناشطات والناشطين الكوير في المنطقة الناطقة باللغة العربية، بالإضافة إلى بعض الحليفات والمناصرين: ماذا يعني لكُمن مصطلح "كوير"؟

تعتبر إنصاف بوحفص، ناشطةٌ جزائريةٌ في منظمة 'محامون بلا حدود' فرع تونس، أنّ "اللافت في لفظة كوير هو رنّتها الظريفة وخصائصها الصوتية المستساغة"، مشيدةً بقدرة هذه المفردة الأجنبية على فتح النقاشات والمواضيع المحظورة بشكلٍ أقل إثارةً لحفيظة الناس، ما قد يحدّ من فرص الصدام والمشاحنات عند التطرّق للقضايا الكويرية، لاسيما ضمن الأوساط المختلطة، أي خارج الدوائر الكويرية أو الفضاءات الآمنة.

يُسجّل اللفظ استظرافًا لدى الأفراد والمجموعات الكويرية منذ بداية استرداده وتحويله من نعتٍ تحقيري إلى أداةٍ للفخر. هذا الاستظراف يبدو جليًا في تصريحٍ قديمٍ لصحيفة ’غاي كوميونيتي نيوز‘ (gay community news)، أعرق صحيفةٍ أميركيةٍ مثلية، حين أعلنت في نيسان/أبريل 1991 تغيير اسمها التجاري إلى ’كوير كوميونيتي نيوز‘، معلّلةً خيارها بأنّ "كوير هو فعلًا لفظٌ دارجٌ الآن [...] هو لفظٌ قصيرٌ، ظريفٌ وتسعيناتي".

بالرغم من استحسانه المتزايد عالميًا ومحليًا، لا يحظى المصطلح بتوافقٍ أو إجماعٍ تامّين، إذ لا يزال محلّ نقاشٍ إلى اليوم، تشهد معانيه تفاوضًا مستمرًا وتثير استعمالاته محليًا حماسة البعض واحترازات البعض الآخر. يعود بنا عمر الخطيب، المنسّق الإعلامي لمجموعة ’القوس‘ الفلسطينية، إلى بداية دخول المصطلح حيّز الاستخدام في المنطقة، والتجاذبات التي رافقَت ذلك: "بدأ المصطلح بالانتشار في الدوائر النسوية والكويرية في المنطقة بشكلٍ عامٍ وفي فلسطين بشكلٍ خاصٍ منذ ما يزيد على عشر سنوات، وخلق نقاشًا حينها بين مرحّبٍ به ورافضٍ له. كانت قوّة المصطلح السياسية دافعًا للمؤيّدات/ين له، بينما برز التحفّظ عليه حينها لكونه غير عربيٍ وباعتباره لا يُبرز الهويّات الجنسية والجندرية المختلفة بشكلٍ كافٍ".

الانتقال من وضعية "المثلي" كتصنيفٍ هويّاتي إلى "الكويري/ة" كتموقعٍ سياسي، مثّل انتقالًا للذات المقصيّة من موضع الجوهرانية والتبرير إلى ذاتٍ نقديّة في علاقة تفكيكٍ ومساءلةٍ لأنظمة القمع. في مقالٍ بعنوان "الحركة الجنسانية الفلسطينية من سياسة الهوية إلى الكويرية" نُشر في عام 2011، عبّرت حنين معيكي، المديرة السابقة لمجموعة ’القوس‘، وتاج العريس، ناشطةٌ في المجموعة، عن هذا التحوّل بالقول: "الكوير إذًا هو كل ما هو على خلافٍ مع العادي والشرعي والمُهيمِن. الكويرية هي هويةٌ انسيابية، لا تعترف بجوهرٍ واحد، ولا بدورٍ اجتماعي أو هويةٍ جنسيةٍ مقولبةٍ وجاهزةٍ للاستهلاك المجتمعي. [...] الانضمام للنضال الكويري [...] سيتوسّع [...] لينضمّ إليه كل من يدرك كيفية عمل وتأثير النظام ومؤسّساته قانونيًا واجتماعيًا وطبيًا بغية ضبط وتنظيم جنسانيتهمن وجندرهمن، وربما ما كانوا ليفعلوا لو اقتصر النشاط على القضايا المثلية".

حتماً لم ينجُ وصف "كوير" من الحصر والتنميط، فاقترن في مخيال البعض بتعبيراتٍ وتصنيفاتٍ محدودة، متجاهلًا بذلك بعض الفئات الكويرية المشطوبة، لِيُمعن في تهميشها وإقصائها. في كتيّبٍ صادرٍ عن ’مورد لشباب مجتمعات الميم المسلمات والمسلمين‘ يستعرض مُعاش المسلمات/ين الكوير، تحدّثت منّة (22 عامًا) عن صراعها للتوفيق بين هويتها العربية - الإسلامية وميولها الكويرية: "لقد عانيتُ لفترةٍ في البحث عن الألفاظ المناسبة لأنّي كنتُ أريد شيئًا متجذرًا في الثقافة العربية، لكني هذه الأيام أستخدم لفظ "مثلية" أو "كويرية". كنتُ أشعر أحيانًا أنني لم أكن كوير بما فيه الكفاية للمجتمع. أتساءل ما إذا كان الناس سيتقبلونني ككويريةٍ محجبةٍ إن عرفوا بأنّ شعري قصير، أو إن تخلّيتُ عن أيّ هويةٍ قد تربطني بكوني عربيةً أو مسلمة؟ لكني تعلمتُ ألا أشعر بالخجل من إسلامي في المساحات الكويرية، وأن أجبر الناس على إدراك أن المسلمين الكويريّين موجودون".

تشكّل الخطاب الكويري في المنطقة

بعيدًا عن التوجّسات المشروعة التي انبثقَت عن رحم كويريّتنا المحلية، غالبًا ما توظّف تهمة استيراد المفاهيم الغربية لتخوين الأصوات الكويرية العربية ونزع المشروعية عن نضالاتها، إذ يتحجّج الآخر المعادي - للكويرية بأنّ الذوات الكويرية ليست "أصيلة" في مناطقنا، مستشهدًا بهجانة المصطلحات الكويرية المعتمدة حديثًا. في هذا الإطار، تصنّف لفظة "كوير" كدخيلٍ لغويّ للاستدلال على غرابة الكويري/ة عن ثقافتنا. والحال أنّ الذوات والتعبيرات الكويرية لطالما كانت حاضرةً فعليًا، إنّما غُيّبت خطابيًا. في السياق ذاته، يعتبر الصحافي والمحرّر براين ويتاكر (Brian Whitaker) أن "الاستشهاد بالفراغات اللغوية غالبًا ما يُوظف لدعم الحجة القائلة بغياب المفاهيم التي تُحيل إليها [هذه المصطلحات] عن المجتمع العربي، في حين يمكن أن تكون هذه المفاهيم قد وُجدت لكن اللغة العربية لم تحتَج إلى وصفها في مصطلحاتٍ إلا مؤخرًا".[3]

إن استعارة المفاهيم والمصطلحات الأجنبية المرتبطة بالكويرية لم تأتِ من فراغ، إنما انبثقَت عن حاجةٍ ملحّةٍ لدى الكويريّين/ات للحديث عن تجاربهمن التي أبَت لغتنا العربية تضمينها. يشير الباحث الفرنسي فريديريك لاغرانج (Frédéric Lagrange) إلى هذا التغييب والتغريب قائلًا: "ظلّت المصادر العربية تتجاهل العلاقات الجنسية المثلية طيلة القرن العشرين، سواء بالسكوت عنها، أو الإشارة إليها باستحياء، أو عدم الإقرار بها أو نبذها باعتبارها من ثمار التأثير الأجنبي واتجاهات الماضي". ترمي هذه التصوّرات القمعية إلى تجسيد الذوات الكويرية في منطقتنا لا فقط كذواتٍ دخيلة، وإنما كموضوعاتٍ قاصرةٍ فكريًا تستقبل وتقبَل الخطابات والمفاهيم الكويرية الغربية بسلبيةٍ تامة.

من جهتها، ترى الباحثة وأستاذة اللغة والثقافة العربية بجامعة سيدني سحر عامر (Sahar Amer) أنّ "الكوير العرب - إذا ما تصالحوا وتصالَحن مع ثقافتهمن متعددة الروافد واللّغات - فهُمن بذلك يشاركون كذواتٍ فاعلةٍ في تشكيل الخطاب الكويري العالمي الجديد كخطابٍ يعترف بتجاربهمن كعربٍ وكمواطنات/ين داخل مجتمعٍ كويري متّصل الأطراف".[4] وتشدّد عامر على أهمية هذا الحوار الكويري بين العالم العربي ودول الشمال، لما يعِدُ به من تطويرٍ وتثويرٍ للنظرية الكويرية، ومن تحدٍّ للثنائيات الثقافية وتضمينٍ للخصوصيّات المحلية.

في مقاله البحثي عن التنظيم الكويري في لبنان، يشير غسان موسوي (Ghassan Moussawi) إلى الطابع المركّب للخطابات والمواقف والاستراتيجيات الكويرية في المنطقة. ويستعرض الباحث مواقف الأدبيات المتباينة تجاه هذه الخطابات، محاولًا بدوره رسم صورةٍ أشمل تتحدّى قصور بعض الأدبيات التي تتناول التنظيم الكويري بشكلٍ مبتورٍ أو اختزالي. ففي حين تنقسم بعض الآراء بين من يقرّ بهيمنة النموذج الأورو-أميركي على النضالات الكويرية في المنطقة، وبين من يشيد بالمجهودات المحلية للكويريّين/ات للانغماس في سياقهمن الثقافي، يرى موسوي من جهته أنّ "المجموعات الكويرية في الجنوب الجغرافي السياسي، تجابه معضلة العمل ضمن الأطر التنظيمية والخطابية المتعارف عليها عالميًا، والتزامها في الوقت عينه بالتجذّر في سياقاتها المحلية".[5] ويستخلص الباحث في مقاله تعدّد المستويات في الخطاب الكويري في لبنان بين المحلي والعالمي، ففي وقتٍ ينضمّ فيه الحراك الكويري المحلي إلى الحراك العالمي في مجابهة المعيارية - الغيرية المتفشّية حول العالم، لا يتخلّف عن نقد ومساءلة الخطابات الكويرية الأورو-أميركية المهيمِنة.

يفضّل فراس بجاوي، ناشطٌ حقوقي وطالبٌ تونسي، إبقاء اللفظ بصيغته الأصلية للحفاظ على صبغته العالمية، مؤكدًا ضرورة تضمين سردياتنا وثقافتنا المحلية في قلب المصطلح، ومستشهدًا بقدرة اللفظ على التلوّن والاتساع بالقول: "لطالما كان لفظ "كوير" مطواعًا في استقباله لمعانٍ وتمثّلاتٍ جديدة". هذا ما تسعى إليه فعلًا عدّة مبادراتٍ عربيةٍ حديثة. فبينما يُقرن البعض الكويرية بصفاتٍ ثقافيةٍ غربية، يحاول البعض الآخر شحنها بطابعٍ محلّي عبر تأصيلها في اللغة واللسان والثقافة العربية. أما كاتبات "بريد مستعجل" الصادر عن مجموعة 'ميم' في لبنان عام 2009، فيُشرن في مقدمة الكتاب إلى هذا الهاجس المُعجمي: "اللغة العربية هي لغتنا نحن أيضًا، واللّغات حيّة. الناس هُمن من يمنحون الكلمات معانٍ، وهُمن من يستطيعون تغيير تلك المعاني، ابتكار عباراتٍ جديدةٍ أو رفض استعمال المفردات الجارحة. نحن بحاجةٍ إلى تحدّي المعاجم التي في أذهاننا".[6]

"كوير" والسياق المحلّي

تتيح لنا العدسة الكويرية إعادة النظر في إرثنا المحلّي واكتشاف مظاهر التنوع الجندري والجنساني المتأصّل في الأدب والثقافة والفنون العربية، إذ تُبرز عمليّات الشطب والاستبعاد والتحقير التي فُرضت على التعبيرات والذوات الكويرية، فجعلَتها تبدو غريبةً ودخيلةً على واقعنا. لقد استجدّ تطورٌ ما في تموقعنا الكويري في خلال الآونة الأخيرة، بالتزامن مع شيوع مصطلح "كوير". هكذا، أصبحنا نشهد تحوّلًا للذات الكويرية من موضوعٍ يُدرَس أو جسمٍ غريبٍ يُلقى به على طاولة التشريح، إلى كياناتٍ فاعلةٍ تُنتج خطابًا نقديًا وتساهم في قراءة الواقع وتفكيكه من خلال منظورها وتموقعها. نستعرض في هذا الإطار بعضًا من المواد الطريفة التي عرّجنا عليها مؤخرًا في قراءاتٍ كويريةٍ منها: مشاهداتٌ كويريةٌ في السينما العربية، قراءةٌ كويريةٌ في الثورة السورية ومراجعاتٌ كويريةٌ للأدب العربي القديم والمعاصر.

ترى رانية العرفاوي، ناشطةٌ تقاطعيةٌ من تونس، أن الطابع المبهم والغريب لكلمة "كوير" يساهم في تغذية فضول المستمعين/ات بشأن الكلمة، ما يدفعهمن إلى الاستفسار عن معانيها. هذا الفضول عاينَته رانية خلال التحركات الاحتجاجية والتظاهرات الفنّية التي رُفعت فيها شعاراتٌ وعناوين كويريةٌ في تونس، كان بينها "ثورة كويرية"، "عصيان كويري" و"مهرجان موجودين للأفلام الكويرية". يمثّل لفظ "كوير" غير المألوف لدى العموم مدخلًا بالنسبة إلى رانية وغيرها من المدافعات عن الحقوق الكويرية، للحديث والتعريف بتلك القضايا واستعراض التاريخ النضالي للحراك، ما قد يضمن تفاعلًا أنجع مع الجماهير التي تُستفز عادةً من الألفاظ الكويرية المألوفة، كعبارة "مثلي"، "غاي" أو "لزبيان". فتلك الألفاظ قد تُفضي عند سماعها إلى حكمٍ مسبقٍ أو تولّد رفضًا تلقائيًا لدى المتلقّي/ة. إذًا، تمهّد "كوير" لدى رانية والعديد من الناشطات الأخريات أرضيةً خصبةً للنقاش، فتسهّل لهنّ تناول المواضيع الكويرية والولوج إليها من الجانب المعرفي.

لم يخلُ الشارع العربي في الأعوام الماضية من شعاراتٍ احتوَت المصطلح، بعضها خُطّ على الجدران، مثل "كويرز مرّوا من هنا"، و"كويرز للثورة" و"ثورة كويرية"، وبعضها الآخر هتفَت به الحناجر ورفعته اللافتات. يحدّثنا عمر الخطيب، ناشطٌ في مجموعة ’القوس‘، عن آخر التحركات الفلسطينية التي رَفعت الكويرية شعارًا، وعن تفاعل الجماهير مع مفردة "كوير": "على صعيد ’القوس‘، شهد المصطلح نقلةً كبيرةً العام الماضي باستخدامه في عنوان أحد أكثر الأحداث مركزيةً في السنوات الأخيرة، هو وقفة شارعٍ بعنوان "صرخة كويرية للحرية". لاحظنا العام الماضي في خلال التحضير للوقفة والحشد لها أن علينا إتاحة المصطلح أكثر على صعيدٍ شعبي، وتفسير معناه وأهداف استخدامه لفئاتٍ ودوائر مختلفة. بناءً عليه، عمِلنا على إنتاج مادةٍ تثقيفيةٍ بسيطةٍ جدًا بعنوان "شو يعني كوير" لاقت تفاعلًا كبيرًا وشكّلت أداةً لكثيرٍ من النشطاء لتوسيع المصطلح واستخدامه".

ولئن كانت الكويرية غربية المنشأ، فإنها ساهمَت في توفير إطارٍ نظري ساعد في قراءتنا لواقعنا المحلّي وفهم بُنى الهيمنة في منطقتنا وفي مناطق مختلفةٍ من العالم، شأنها شأن النسوية والماركسية والعديد من المسارات الفكرية والتحرّرية الأخرى التي ينأى بها طابعها الكوني عن التقيّد بجغرافياتٍ وسياقاتٍ ثقافيةٍ محدودة. لكن يبقى الأهم، قدرة اللفظة على توليد المعاني وتفجير النقاشات، فهي كما وصفَتها أستاذة التحليل الاجتماعي والثقافي ليزا دوغان (Lisa Duggan): "تعِدُ كوير بمعانٍ وأساليب جديدةٍ للتفكير والفعل السياسي - وهو وعدٌ قد يتحقّق أحيانًا، وقد لا يتحقّق في أحيانٍ أخرى".[7]

لقد كان للفظة "كوير" وقعٌ على خطاباتنا، إذ مهّدت الطريق وكانت سببًا في تثوير بعض الشتائم المستعملة محليًا لوصم المجتمع الكويري، فشهدنا مؤخرًا نعوتًا من قبيل "لوبيا"، "تشّة"، "شاذّ/ة"، "لوطي" وغيرها تتصدّر خطاباتٍ كويريةً نضاليةً على النحو ذاته الذي شهدَته "كوير" سابقًا.

مصادر

  1. Meem, ‘Bareed Mista3Jil: True Stories’, Beirut, 2009, p. 115
  2. Esther Kaplan, “A Queer Manifesto”, Village Voice, 14 August 1992, p. 36
  3. Brian Whitaker, ‘Unspeakable Love: Gay and Lesbian Life in the Middle East’, University of California Press, 2006, p. 204
  4. Sahar Amer, “Naming to Empower: Lesbianism in the Arab Islamicate World Today”, Journal of Lesbian Studies, 16:4, 2012, p. 391
  5. Ghassan Moussawi, “(Un)critically queer organizing: Towards a more complex analysis of LGBTQ organizing in Lebanon”, Sexualities, 18, 10.1177/1363460714550914, 2015
  6. Meem, ‘Bareed Mista3Jil: True Stories’, Beirut, 2009, p. 36
  7. Lisa Duggan and Nan D. Hunter, ‘Sex Wars’, New York and London, Routledge, 2006, p.149