وثيقة:سالمونيلا:المسخرة والمأساة
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
تأليف | تامر موافي |
---|---|
تحرير | غير معيّن |
المصدر | المنصة |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://vvw.almanassa.net/ar/story/13417?fbclid=IwAR2vntGyYK5eNCqiBGMicVRX9fTP4Hy6zCclKym1wrlKb3_s9lia0_aPHL4
|
تاريخ الاسترجاع | |
نسخة أرشيفية | http://archive.is/mQ2G5
|
قد توجد وثائق أخرى مصدرها المنصة
سالمونيلا هو العنوان الذي اختاره تميم يونس لأغنيته الجديدة التي قدمها مع أول أيام العام الجديد وحققت أكثر من خمسة ملايين مشاهدة على يوتيوب خلال أيام قليلة، وأثارت الكثير من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي وبالأخص تويتر وفيسبوك. تقدم سالمونيلا وصفة نجاح شبه مضمونة، فهي تركب الترند، وهي أيضًا تقدم موقفًا غير واضح من موضوع الترند هذا بحيث يصبح من المؤكد أن تثير جدلًا ساخنًا بين من يعتبرون موقفها إيجابيًا مقابل من يرونه سلبيًا.
إلى جانب ذلك، تستخدم الأغنية العديد من المصطلحات والثيمات المألوفة لرواد فيسبوك، والتي أصبحت جزءًا من الحياة اليومية لأغلب الشباب، وهي أيضا تقدم إسقاطات عدة على وقائع كانت موضع اهتمام كبير خلال الفترة السابقة. ثم هي تغلف ذلك بلحن يتناوب ما بين نمط ألحان فرق الأندر جراوند وألحان المهرجانات وكلاهما ناجح بنسب مختلفة بين الشباب حسب التوزيع الطبقي غالبا.
تبدأ المشكلة مع المنعطف الدرامي الذي تأخذه الأغنية عندما يتحول هدوء الشاب فجأة إلى غضب مبالغ فيه عندما ترفض الفتاة إعطاءه رقم تليفونها، فيبدأ في توجيه السباب لها ويتمنى أن تصاب بالسالمونيلا وأن تتحول إلى "فِشِلّة" (شديدة البدانة) قبل أن يردد "عشان تبقي تقولي لأ".
وفي بقية الأغنية يعود هذا التناوب بين شرح المحبة وأحلام الزواج السعيد المبالغ فيها من ناحية، والهجوم الضاري في حال الرفض من ناحية ثانية. وعبر هذا التناوب بين حالين متناقضين تعبر عنهما الكلمات واللحن والتعبير الدرامي الراقص ليونس ومجموعة الراقصين المرافقين له، تبرز السمات التي يريد يونس تصوير هذا النموذج من الشباب من خلالها؛ كتافه سطحي متناقض إلى حد الجنون. هو باختصار شخص pathetic (بائس) كما عبر كثير من مشاهدي الفيديو. ويعتمد يونس على هذه الصورة لتأكيد أن الهدف من أغنيته هو السخرية من هذا النوع من الشباب، ومن ثم يدعم النساء اللاتي يتعرضن لإزعاجه ومضايقاته لهن. السخرية أو المسخرة هي بالفعل المحور الرئيسي للأغنية، وفي ذلك لا تختلف سالمونيلا عن أغنية يونس الأولى إنت أي كلام والتي قدمها عام 2018. الأغنيتان تنتميان إلى نوع من الأعمال يمكن تسميته بالاسكتش الفكاهي، والذي يعتمد على الصورة أكثر مما يعتمد على بقية عناصر الأغنية التقليدية.
وقد كان هذا أحد محاور الجدل الساخن حول سالمونيلا، ففي اعتقادي إن سماع الأغنية دون مشاهدة الفيديو سيضعك أمام عمل مختلف تماما، وستغيب عنك معظم العناصر التي تبرز جانب السخرية في الأغنية والتي كان معظمها بصريًا. ولذلك فقد دارت أغلب الجدالات حول إذا ما كانت الأغنية تسخر بالفعل من هذا النموذج من الشباب أم لا. ولكن هل هذه هي المشكلة الحقيقية لسالمونيلا؟ هل إذا حققت هدف السخرية الذي أوضح يونس نفسه في فيديو توضيحي نشره لاحقا، لا يعود ثمة ما يحق لنا انتقادها بخصوصه؟
تكمن المشكلة الحقيقية في أغنية يونس والفيديو الذي أخرجه لها، وذلك عكس ما دارت حوله أغلب الجدالات والشجارات، في الهدف الذي أعلنه صانعه لها؛ أي السخرية من ردة الفعل "المقموصة" لهذا النوع من الرجال عند تعرضهم للرفض من امرأة يحاولون التودد لها. اختار يونس إبراز تفاهة هذا الشاب وسخفه كطريقة للسخرية منه، فهو يتمنى للفتاة التي رفضته أن تصاب بالسالمونيلا، وأن تصبح "فشلّة" بحيث إذا حاولت اللحاق به ستفشل في ذلك، وهو يهددها بأن يقول لأي شاب يقترب منها إنها "مسكبة"، بخلاف ذلك فهو سيقطع البيتزا ويلقيها على العسيلي ويهربد الجاكتة التي طلب منها تذكر إحضارها لأن السينما برد، وسيحرمها من وعوده لها بالشقة الدورين المكيفة، ويحذرها من أنه يجيد "الكعبلة"، ويعايرها بأن لديه فيزا شنجن.
ولكن هل الشباب من هذه النوعية، أولئك الذين تحولوا إلى ظاهرة يتكرر فضح بعض حالاتها بصفة يومية، مجرد مجموعة من الرجال المقموصة شديدة التفاهة والسخف بحيث يمكننا أن نجعل منهم مادة للضحك والسخرية؟ كثير من الفتيات والنساء اللاتي تعرضن لتجارب مع هؤلاء لن يتفقن مع ذلك، لأن غالبية تجاربهن لم تكن مدعاة للضحك أو السخرية بقدر ما أفقدتهن الشعور بالأمن وزرعت في قلوبهن الخوف الناتج عن كونهن ملاحقات ومعرضات لتهديدات تتراوح بين "التحفيل" على الإنترنت وبين تشويه السمعة وانتهاك الخصوصية، وصولا إلى التهديد بالعنف البدني الذي وصل فعليا في بعض الحالات إلى القتل.
على جانب آخر، هل ستفتح هذه السخرية أعين الرجال الذين يقول يونس على يوتيوب إن أغنيته تسخر منهم، وتجعلهم يدركون مدى سخف سلوكهم؟ يكفي فقط أن نستعيد أغاني المهرجانات المحببة لدى قطاع عريض من الشباب والتي تعكس قدرًا كبيرًا من العنف من خلال كلماتها وألحانها، وتقدم نماذج من الشباب المعتد بنفسه بشكل مبالغ فيه وتدور في معظمها حول فخرهم بردود فعلها العنيفة على أقل قدر من الإساءة التي يتصورون أنها وجهت إليهم. وفي كثير من الأحيان تكون ردود الفعل هذه موجهة إلى حبيباتهم.
ليس النموذج الذي تقدمه أغنية يونس أكثر سخفًا من تلك النماذج الشائعة في أغاني المهرجانات، والمبالغة التي يقول يونس (صادقا) إنها تهدف إلى السخرية، هي أمر معتاد ليس في أغاني المهرجانات فحسب بل في أغلب أنماط الغناء بل في أنماط الكلام اليومي خاصة بين الشباب. الأقرب إلى التصور أن يجد البعض على الأقل ممن تتوجه الأغنية إليهم أنها تعبر عن لسان حالهم وإن كان ذلك بشكل طريف، أما البعض الآخر فقد يشعر بالغضب لأن الأغنيه تسفه ما يعتبره هو موقفا جادا له كامل الحق فيه.
الغضب الشديد الذي واجه البعض به الأغنية وخاصة من الفتيات والنساء اللاتي تعرضن مرارا لهذا السلوك بدرجاته المختلفة، غضب طبيعي ومحق ولا ينطوي على أي قدر من المبالغة، فالأغنية تسفه وتقلل من شأن ظاهرة تتسبب في معاناة حقيقية لضحاياها وتتسبب في إيذاء معنوي كبير وفي أحيان أخرى إيذاء بدني قد يصل إلى القتل.
لا تقدم الأغنية بالطبع أيًا من الحالات التي يلاحق فيها الشاب المقموص ضحيته ويشهر بها أو يعتدي عليها بدنيًا أو حتى يقتلهًا، فمثل تلك الحالات يصعب أو ربما يستحيل تصويرها بشكل ساخر، ولكن الأغنية في النهاية تستدعيها جميعًا لأنها تتعرض للظاهرة نفسها التي تنتجها.
إذا كان تجاهل هذا الجانب من الظاهرة ناتجًا عن جهل صانعها به فهو دليل على استخفافه بموضوعه وعدم جديته في التعامل معه، أما إن كان سبب هذا التجاهل أن يتمكن من صنع أغنية خفيفة وكوميدية تحدث الضجة المطلوبة لنجاحها بغض النظر عما يمكن أن تستدعيه في أذهان سامعيها من تجارب بشعة، فهو شريك فيما وقع على أولئك، لأنه في الواقع لا يسخر ممن آذوهم بقدر ما يسفه معاناتهم ويسخر منها. لا توجد حدود لما يمكن أن تتناوله صور الإبداع المختلفة من موضوعات وقضايا، ولكن يحق لنا مطالبة المبدع عندما يتناول قضايا ذات الحساسية بالنسبة لقطاع كامل من جمهوره، أن يتناولها بطريقة لا تؤذيهم.
يمكن للمبدع أن يقدم في أي قالب يختاره أكثر الجرائم بشاعة، ولكن بالشكل الذي يعكس بشاعتها. فإذا كان القالب الذي اختاره المبدع لا يحتمل تقديم الوجه الحقيقي البشع لظاهرة فهذا يعني أن تلك حدود القالب والتي لا يمكن تخطيها إلا بالتقليل من شأن خطورة الظاهرة وبالتالي الاستهانة بضحاياها أو من يشعرون بشكل مستمر أنهم معرضون للحاق بهم.
على جانب آخر، فالمبدع غير مطالب بأن يدعم من خلال أعماله أي قضية أو هدف، ولكنه يتحمل مسؤولية عندما تصبح أعماله جزءًا من المشكلة، وتنضم إلى غيرها من الأعمال الإبداعية التي تعيد إنتاج القوالب الاجتماعية والثقافية السائدة التي تتسبب في معاناة الفئات المستضعفة في المجتمع. ليس هذا من قبيل إلزام الإبداع بمواقف أخلاقية محددة أو فرض أجندة اجتماعية أو سياسية عليه، ففي النهاية للمبدع أن يختار انحيازاته ويعبر عنها، ولكنه كغيره ممن يمارسون حرية التعبير يتحمل مسؤولية انحيازاته التي يحق لغيره انتقادها ومهاجمتها طالما لم يسع إلى حرمانه من حقه في التعبير والإبداع.
السعي وراء تحقيق النجاح لعمل فني بما في ذلك ركوب الترند واستخدام الكوميديا والسخرية والإفيهات التي تجتذب مزيدا من المستمعين والمشاهدين هو أمر مشروع تمامًا، وعندما يمتلك المبدع القدرة على توظيف هذه العناصر لإمتاع جمهوره فهو بالتأكيد يستحق ما يحققه من نجاح، ولكن سالمونيلا هي نموذج لعمل اجتمعت فيه بالفعل كل هذه العناصر مع مهارة توظيفها ولكن غاب عنها في اعتقادي الحساسية الاجتماعية التي تجعل المبدع يتوقع أثر عمله على الفئات المختلفة من المتلقين.
قد لا يرى البعض أن توافر تلك الحساسية الاجتماعية أمر ضروري، بل قد يرى أن مطالبة المبدعين بها هو مبالغة أو نوع من الوصاية الأخلاقية، ولكن إن كان هذا الغياب يؤدي إلى إيذاء البعض فأقل ما يمكننا القيام به في مواجهته دون الإخلال بحرية الإبداع هو الإشارة إلى ما يحدثه من أذى، فربما يجد صاحب العمل نفسه في تلك الإشارة ما يدفعه إلى أخذ عمله وآثاره بقدر أقل من الإهمال والاستخفاف.