وثيقة:عالم يتّسع لعدّة عوالم: عن إنتاج المعرفة وتعدّدها
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
العنوان | "عالمٌ يتّسع لعدّة عوالم": عن إنتاج المعرفة وتعدّدها |
---|---|
تأليف | سارة سالم |
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مجلة كُحل لأبحاث الجسد والجندر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://kohljournal.press/ar/node/400
|
تاريخ الاسترجاع |
|
ترجمة | لينا رياض يحي |
لغة الأصل | الإنجليزية |
العنوان الأصلي | “A world in which many worlds can fit:” On Knowledge Production and Multiplicity |
تاريخ نشر الأصل |
هذه المقالة نشرت في المجلد 9 - عدد 1، لمجلة كحل. يمكن الإطلاع أيضًا على النص الأصلي من المقال بالانجليزية في نفس العدد من المجلة.
مقابلة مع روزالبا إيكازا
روزالبا إيكازا غارزا بروفيسورة في السياسة العالمية والنسويات وإنهاء الاستعمار. استكشفت في أعمالها مسائل المعرفة والسلطة والمقاومة وإنهاء الاستعمار في أميركا اللاتينية وخارجها. تحدّثت، في محاضرتها الافتتاحية الأخيرة،[1] عن قضايا المناخ – تغيّر المناخ والنتائج الكارثية – والتحرّر النسوي من الاستعمار، متسائلة ما معنى أن نعيش حياة أخلاقية في ظلّ الاستعمار والدمار الرأسمالي. في هذه المقابلة، تحدثنا عن كيفية التفكير بالجندر (النوع الاجتماعي) والجنسانية من وجهة نظر الجنوب، وعن التعددية في الحركات الاجتماعية وإنتاج المعرفة، وطرق إنهاء الاستعمار وأساليب النسوية في المعرفة، وسياسات إنهاء الاستعمار ضمن نطاق إنتاج المعرفة الأكاديمية.
سارة سالم (س. س.): يهدف هذا العدد الخاص إلى إعادة النظر وإعادة تصوّر موقع سياسات الجندر والجنسانية في الصراعات الثورية المناهضة للاستعمار. ما هي بعض الأسئلة الضاغطة التي تمخضت عن هذا التركيز على الثورة المناهضة للاستعمار عندما ننظر إليها من منظار الجندر والجنسانية؟
روزالبا إيكازا (ر. إ.): في الحقيقة، هذا سؤال صعب للغاية لأن المشكلة هي أنّي لم أعد أفكّر من منظور الجندر أو أنني أحاول ألا أفعل ذلك. طبعاً، إني أرحب بهذا الاهتمام والحافز النظامي القوي لاستعادة كل تلك القصص [النسوية والمناهضة للاستعمار] التي بقيت طيّ الكتمان، وأنا أشجع ذلك. لكن هناك مسألة مهمّة جداً تشغلني، كيف يستطيع الأشخاص الذين يقومون بهذا العمل التطرّف بنظرتهم النسوية وتخطي منظور الجندر. كيف يستطيعون مهاجمة التفسيرات السائدة والتأريخ المتداول للنضالات المناهضة للاستعمار من دون الحاجة للأخذ بعين الاعتبار منظور الجندر.
لماذا؟ لأني أعتبر أنه إن كان المقصود من ذلك مجرد استعادة تلك القصص وإعادة تفعيلها في الوقت الحالي والتعلّم منها، كيف لنا بهذه الحال أن ندرك حدود ما نفعله؟ العديد من أعمال المعارضة داخل الثورات لم تكن تُعتبَر ثورية وإنما كانت أشكالاً من التمرّد وهو ما أسمته ماريا لاغونز "النوايا المتمرّدة".[2] وما يقلقني أننا لا نستطيع في الحقيقة تحديد تلك النوايا لأننا نتطلع من منظور معيّن – عن السياسات الثورية والجندر – لا نستطيع تخطيه. إني أدعم هذا العمل، لكن إن اعتبرنا مسألة الجندر من نتاج الاستعمار فإنها إذاً تَحِدُّ من إمكانيات العديد من النضالات التي نحاول إعادة النظر بها وإدخالها ضمن المواد التعليمية التي لدينا. أحياناً، قد يعيد التركيز على الجندر إنتاج منطق الهيمنة من خلال عدم التحقق من الأصول الاستعمارية لمسألة الجندر.
س. س.: يذكّرني هذا بكتاب جوليتا سينغ "إتقان غير مدروس"[3] حيث أظهرت كيف أن الكثير من الأفكار المناهضة للاستعمار تنطوي بداخلها على فكرة الاتقان تلك، سواء تناولت السيطرة على المستقبل أو الأرض أو الذات. أفكار الاستعمار تلك تنسلّ الى التفكير المناهض للاستعمار، وعلينا التوقف عندها والتفكير بها أيضاً.
ر. إ.: نعم، وهذا ما أعتبره الجندر. أعمد إلى استخدام تعبير "جنساني" أكثر وأكثر في تعليمي وفي كتاباتي بدلاً من "جنس (جندر)" في إشارة إلى ما أسمته يورونكي أويومي[4] "إختراع النساء". لكن ذلك ليس بحلّ. ما عدت أريد التفكير من خلال الجندر، لأن ذلك لا يتيح لي رؤية طبيعته الاستعمارية.
س. س.: هل ينتابك الشعور ذاته تجاه كلمة النسوية؟ لعلنا نعيد قراءة التاريخ من خلال شعار النضال الثوري النسوي، فيما الكثير من أولئك الشخصيات لم يعتبروا أنفسهم مناصرين للنسوية.
ر. إ.: صحيح، كثيرون لم يفعلوا. حتى في وقتنا الحالي، في أميركا اللاتينية ليست كل النساء اللواتي يكافحن يرغبن بأن يشار إليهن على أنهن مناصرات للنسوية وقد لا يتكلّمن عن أنفسهن بصفتهن نساء. ولربما يُشرن لأنفسهن على أنهن "شعب من مكان معيّن أو أمة" أو "نحن شعب المايا".
س. س.: ذكرت أنك تركزين في كل من تعليمك وعملك على ما هو "غير موجود". هل يمكنك شرح ذلك أكثر، وكيف ال "غير موجود" هذا يتمّ إنتاجه واستنساخه؟ فكّرنا بهذا الأمر كثيراً من خلال هذه المسألة، ومدى ارتباط ذلك بمحو دور النساء من التاريخ والكتابة عن النضال ضد الاستعمار.
ر. إ.: هذا يرتبط بفكرة الأشخاص الذين يقاومون الاستعمار ويرفضونه، رغم أنهم قد لا يصنّفون ما يفعلونه على أنه ثوري. وغالباً ما يمكن أيضاً محو تلك النوايا أو الأعمال المقاومة من التاريخ الذي يتمّ استرداده في الوقت الحاضر.
أتكلم عمّا هو غير موجود وكأنه مرتبط دائماً بالعالم المهيمن أو ما نسمّيه "المنطق السليم". أقصد غير الموجود بالنسبة لهذا المنطق السليم، غير الموجود بالنسبة لعالم الذكاء المهيمن. في عملي، أعمد إلى التركيز على أحداث ووسائل للرفض لا صلة لها أو غير متوافرة في عالم الذكاء المهيمن – أو المنطق السليم بالنسبة للبيئة التربوية. أهتمّ بما يتمّ أنتجه كأمر غير موجود. عندما بدأت أستكشف أعمال ماريا لاغونز وماريا أوتيغا، بدأت أفكر في "غير الموجود" بطريقة أخرى، حيث ما هو غير مرئي يجري التعامل معه على أنه غير مفهوم (مبهم/ غامض). بالنسبة لي، عدم الرؤية والغموض أمران متلازمان. عندما بدأت أُكثِر من قراءة أعمال ماريا لاغونز والتحدث إليها، أدركت أن ذلك يُشكّل نقطة محورية للتحوّل، فنحن تتمّ تنميتنا اجتماعياً في جميع المؤسسات التي تعمل على ذلك على أساس قبول الذكاء المهيمن أو المنطق السليم – ما يعني، أن فكرة التعددية والعوالم المتداخلة للمنطق يتم بكل بساطة تجاهلها أو تُعتبَر غير منطقية.
اعتبار "غير الموجود" أمر غامض بالنسبة للذكاء المهيمن أو للمنطق السليم، يظهر لنا كيف أن ذلك يُظهر حقيقتنا ويلائمنا (بما في ذلك الجندر). من المهم أن نلاحظ أن هذا المنطق السليم المهيمن لا يتلف التعددية التي تنتشر من حولنا، ولا يؤثر سلبا ً على شخصيتنا أو على معنى المقاومة.
س. س.: أعتقد أن ذلك يعكس ارتباطاً قوياً بالتعددية، والتي تشكّل فكرة رئيسية في معظم أعمالك البارزة. ما هي المخاطر في التفكير من خلال التعددية، وكيف تفهمين ذلك؟ وماذا سيكون معنى ذلك، من منطلق التعددية، بالنسبة للأساليب التي تنتج المعرفة؟ هذا العدد الخاص لم يركز على المقالات الصحفية وإنما فتح المجال أمام كل أشكال إنتاج المعرفة بما في ذلك المرئي، والمسموع وغيرها. ما هي الأفكار التي تراودك عن التركيز على الكتابة والنصوص وما يعني ذلك بالنسبة لإنتاج المعرفة المتعلقة بالنسوية ومناهضة الاستعمار؟
ر. إ.: إسمحا لي أولاً أن أجيبكما بإعطاء مثال. قبل بضعة سنوات في أحد المؤتمرات، حاول بعض علماء العلاقات الدولية تعريف التعدد أو التعددية. وكان هناك شخص من شعب أيمارا الأصليين من بوليفيا، وكنت أجلس على المقعد وراءهم وكان باستطاعتي رؤيتهم يومؤون برؤوسهم وربما يفكّرون: "يا إلهي، ما الذي يقولونه أولئك الأشخاص؟" وقف وقال: "آسف، لكني أصبت بالإحباط. لا تستطيعون تعريف ما هو التعدّد؟ إن كنتم تريدون تعريف الكلمة، فأنتم لستم في مكانكم الصحيح هنا. التعدد هو أمر تطبيقي هو عادة، إنه أكبر من التعريف". قولهم إن الأمر كان "محبطاً" جعلني أشعر بالارتياح. كانت الإنكليزية هي اللغة المعتمدة في المؤتمر وقد كان يعاني، كما أنا أعاني الآن، ليشرح أن التعدد لا يمكن تعريفه بكلمات لأنه تطبيق للحياة.
كنت أختبر وأنظر إلى التعدد/ التعددية وفقاً لعملي كباحثة ملتزمة بالصراعات الطبيعية في موطني. عندما يسألني الناس عن ماهية التعدد، أجيبهم أني عرفت عن ذلك وشعرت به، من خلال ثورة زاباتيستا وسياساتها. أعلم أن التعدد ككلمة كانت تفرد لغرض معيّن لكن الطريقة التي تعلّمت منها المعنى الحقيقي للكلمة كانت منهم، من الزاباتيستيين، من الطريقة التي يتكلمون فيها عن أفقهم السياسي: عالم يمكن أن يتّسع لعوالم كثيرة. أجل، أعرف أن هذا التعريف ما عاد يستخدم في المجال السياسي وبات يستخدم كمرادف لكلمة التنوع؛ وهذا أمر مريع. لكن أعتقد أني أتناوله بطريقة تبدو وكأنها تطبيق لعالم يتّسع لكل العوالم. إنه عالم تتاح فيه التعددية والمعاصرة وتداخل عوالمنا. في هذا العالم، وفي أعقاب أعمال ماريا لاغونز، خاصة تلك التي تتحدث عن الائتلاف، يمكن لأنفسنا المتعددة أن تحيا. أنا أعتبر أن التعدد يخلق مجالاً للعمل الائتلافي الذي يولّد التعددية والمعاصرة المشتركة وتداخل عوالم المنطق المتعددة. هذه هي إجابتي الأكاديمية.
إجابتي الأكثر اتزاناً ومنطقاً تعود للزاباتيستيين. عندما ذهبت إلى "لقاء بين المجرات" في مدينة يونيتايرا في سان كريستوبال لاس كاسس في تشاباس وحيث رحبوا بي على أني المرأة الهجينة، الهجينة البيضاء لأني لست داكنة البشرة ولا من أصل أفريقي. وعليه كنت أُمثّل الحالة الطبيعية في المكسيك، ودائماً أردد ذلك للجميع عندما أتحدث عن شخصيتي، أنا أُمثّل الحالة السائدة في المكسيك. أنا أُمثّل كل ما يقمع ويمحي الصراعات الأصلية وبالتالي التعددية فلا عجب أنه جرى الترحيب بي.[5] استطعت أن أكون عضواً في المحادثات وورشات العمل وقد كان هذا بالنسبة إليّ أقصى ما يمكنني ممارسته من التعدد.
كتبت مقالة مع رفيقة وصديقة وأخت من شعب المايا اسمها فاليانا أغيولار،[6] ومن ضمن المواضيع المتعددة التي تحدثنا عنها كان موضوع أول تجمّع دولي للنساء دعا إليه الزاباتيستيون عام 2018. كتبنا في تلك المقالة كيف أن بعض النساء المتحولات وصلن إلى التجمع وقد جرى سؤالهن "كيف تشعرن بأنفسكن؟" فأجبن: "أشعر أنّي امرأة"، وقد استطعن المشاركة في الحدث. أتشارك معكما هذه المعلومة لأنه في الوقت ذاته الذي حدث فيه ذلك، كانت النقاشات التي يقودها تجمع إقصاء المتحولات من قانون حقوق المرأة قد أيقظت حركة نسوية لا يمكن للتعددية التواجد فيها. ومع ذلك، نجد في الوقت عينه أمثلة حيث يصبح التعدد أمراً طبيعياً بين النساء اللواتي يناضلن، كما هذا الحدث الذي دعا إليه الزاباتيستيون. علينا أن نطّلع على كيفية ممارستها وتطبيقها. طبعاً، يمكننا القول إنها مسألة عويصة، فأنا لا أريد إضفاء طابع رومانسي على الأمر. هدفي هو إعطاء أمثلة واقعية من حيث نرى عالماً يتّسع لعدّة عوالم، وبالنسبة إليّ، أرى أن ذلك يمكن أن يحدث من خلال سياسات الزاباتيستيون.
أما بشأن المجلة واللغة وأنواع إنتاج المعرفة الأكاديمي... حسناً. سيطرت البلدان الناطقة باللغة الإنكليزية على المحادثة حول إنهاء الاستعمار، وعلى وجه الخصوص السؤال الذي يتناول إنتاج المعرفة ومبادرات إنهاء الاستعمار ومناظرات مناهضة الاستعمار، لكن السؤال الذي علينا طرحه على أنفسنا هو، كيف أن هذه المحادثة جرت ضمن حدود وقيود الأوساط الأكاديمية. وإن أدركنا أن العديد من المحادثات التي نقوم بها موجهة لجمهور الشمال العالمي الذي يستطيع متابعة المناظرات باللغة الانكليزية وأن تلك الحدود واضحة ومعروفة – إن تلك المناظرات قد لا تبدو منطقية في أمكنة أخرى، أكاديميات أخرى ولغات أخرى – نكون بهذا قد أنجزنا جزءاً من العمل، لأننا نعرف حدود العمل الذي نقوم به. ولأن الكثير من الأمور لا يمكن فهمها أو إعطاءها حق قدرها من خلال مجلة أو مناظرات أكاديمية.
حالياً، مشكلتي مع النصوص والكتابة هي أن ذلك ما زال يتمّ بلغات الاستعمار. وما يقلقني هو ما يلي: إننا ننتج المعرفة بلغة الاستعمار (وتذكّروا أني أتحدث بلغات الاستعمار فقط وهذه إحدى القيود التي تحدّني). عبر التركيز على النصوص والكتابة بلغات الاستعمار، يبقى هناك منطق الهيمنة الذي علينا أن نبقى شفافين عند التحدث عنه. إني أحاول التمعّن في التفكير كيف أننا، من خلال المجلات المكتوبة بلغات الاستعمار بهدف استخدامها في المجال التعليمي في الشمال العالمي، ننتج المنطق المهيمن للمؤسسة، ومفرداتها، وتطبيقاتها، وإلى أي مدى تكون النصوص ولغات الاستعمار مسؤولة عن ذلك.
على سبيل المثال، إني أفكر كيف أن منطق الكتابة الأكاديمية والنشر يجعلانا نخلّد فكرة الاضطهاد على أنها متداخلة وليست متشابكة. فكرة أن الاضطهاد هو عملية تداخل يجري التركيز من خلالها على ما هو غير موجود وهذا مرتبط بلغات الاستعمار. أما التشابك، كما أشارت إليه ماريا لوغونز، فهو أمر مختلف. إنه يدل على التعددية. إنه أسلوب لإفساح المجال امام التعددية بدلاً من تجسيد وإعادة أنظمة الاضطهاد المتعددة إنما المُجزأة على أنها متداخلة. عبر التشابك ندعو أنفسنا لنفكّر من خلال التعددية بدلاً من تقسيم أنظمة الاضطهاد.
ولا أعرف إلى أي مدى تتيح لنا لغات الاستعمار التحدّث عن التشابكات. هناك شعارات عن النضال النسوي في وطني تمّت ترجمتها إلى الاسبانية إلا أن جذورها تنطلق من رؤى كونية غير استعمارية وأساليب منطق تتحدث عن التشابكات. مثلاً، شعار (منطقة-جماعة-أرض) للنسوية لورينا كابانال من شعب المايا من غوتيمالا، والتي تتحدث عن الصراعات على المناطق كصراعات غير منفصلة عن تلك الصراعات التي تهدف إلى منع العنف ضد جماعات النساء والأرض.[7] علاوة على ذلك، فإن الكلمات لا تشير فقط إلى الجماعة بحد ذاتها أو إلى ضم جماعة إلى مجموعات متعددة. تتيح لنا الكلمة في اللغة الاسبانية تسمية أساليب ذكاء وتفهّم تُظهر تشابك وجود الانسان مع الأرض والذاكرة (المنطقة لها بُعدٌ في الذاكرة والتذكّر). وللتواصل معنا، نحن الذين لا نتحدّث إلا بالاسبانية، ابتكر المجتمع النسوي مثل لورينا كابانال (منطقة-جماعة-أرض) كطريقة تسمية تدل على التشابك. أدرك أن (منطقة-جماعة-أرض) لا تشير فقط إلى تقاطعات الاختلاف المعتادة، إنما تجمع الأرض، والبلد، والعالم المقدس وعالم الأسلاف معاً. لذا أعتقد أنه من خلال لغات الاستعمار سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تسمية وفهم هذه التعدديات المتشابكة. لكن في اللغة الإسبانية يمكنك القيام بذلك باستخدام هذه الكلمات (منطقة-جماعة-أرض) معاً.
س. س.: تحدثت عن عبارة ماريا لاغونز tantear en la oscuridad كوصف لـ "تحسّس المرء لطريقه في الظلام"[8] كيف تصوّرين المعرفة على نطاق أوسع؟ هذا العدد الخاص، يتناول أيضاً الطرق النسوية في المعرفة المناهضة للاستعمار والتي تتخطى الإدراكات العلمية المبنية على الدليل والبرهان والتي تبيّن أننا أحياناً لا نعرف وأحيانا أخرى لا نستطيع أن نعرف. مثلاً، أخبرتنا عن محادثة مع امرأة زاباتيستية، وعلّقت كيف أن الأشخاص الأصليين هم دائماً ينبذون الماضي وينتجون زمناً طولياً.[9] ما رأيك بفكرة معرفة وتسجيل الوقت بطرق معينة كشكل من الاستعمار؟
ر. إ.: "تحسُّس المرء لطريقه في الظلام" تعبير استخدمته منذ زمن طويل لسببين. كنت حينها ضائعة جداً، كنت أشعر نفسي ضائعة، ضمن حدود الانضباط في العلاقات الدولية. وما بدا لي منطقياً كان، العوالم التي شعرت بها من خلال نضال نساء موطني الأصليين، كنت أتعلّم منهن الكثير الكثير. لكن الطريقة التي تدرّبت فيها في المملكة المتحدة لم تسمح لي بترجمة ذلك لزملائي (وهذا كان يُعتبر أمراً عصريّاً قبل إنهاء الاستعمار!). ولذا كنت أشعر بضياع كلّي.
حينها التقيت ماريا (لاغونز) في المكسيك، وفي ذلك الوقت كانت أفكارها حول النوايا المقاومة قد تشكّلت منذ زمن بعيد. وكانت حينها قد كتبت مؤخراً مقالة بعنوان "نحو النسوية الاستعمارية" لكن عملها في مجال المقاومة كان قد سبق ذلك. أذكر أني عندما التقيتها كانت تُقدِّم تلك المقالة حيث أشارت بأن المقاومة تبدأ دائماً بسؤال وتساؤل. ثم أخذت تشرح بأن تلك الأسئلة لا تحتاج لأن تكون واضحة للسلطة، إلا أنها موجودة. عندما تكلّمتُ معها، أخبرتني عن كتابها، "شهادة حج". الفصل الأول في الكتاب يتحدث كيف أنها أدركت بأن تنظير التحالف بالطريقة التي تريدها لن يكون منطقيّاً للذكاء المهيمن أو المنطق السليم وأنها مستعدة لأخذ تلك المخاطرة. عندها استخدمت تلك العبارة، تحسُّس المرء لطريقه في الظلام؛ المخاطرة هي أن تكون غامضاً.
بقيت هذه العبارة في ذاكرتي لأن ذاك كان حالي عندها: لغتي، مفاهيمي النظرية، لم يكونا يتيحان لي فعلياً استخدام المنطق السليم في العلاقات الدولية، وهكذا قرّرت أن أخذ المخاطرة عينها التي أخذتها ماريا. قررت أن أتجاهل المفاهيم التي تعلّمتها من العلاقات الدولية وأن أضع كل ثقتي في حواسي الأخرى: الإصغاء للشعر والأغاني، العودة للرقص (فليس هناك من ثورة بدون حفلة، كما تقول نساء زاباتيستا). الإدراك لا يتوفر بمعزل عن القلب أو الأحاسيس كلّها. تعلّمت من أصدقاء لي في المكسيك، علماء في علم الإنسان، بعضهم من السكان الأصليين وبعضهم الآخر هجين مثلي، أننا تعلّمنا من بعض الرؤى الكونية لشعب المايا [أننا نتعلّم من خلال القلب ومن خلال الأحاسيس. وهكذا فإن تحسُّس المرء لطريقه في الظلام أتاحت لي أن أعيد توصيف ما ندعوه "منطق"، ومن خلال ذلك يمكنني السفر مع الاخرين والتعلّم من أساليب فهم أخرى كيفية بلوغنا المعرفة.
كما وأن التحرّك مع الآخرين وكيفية قيامهم بالأمور مهمّ جداً. التحسُّس مسألة تتعلق بالحركة. الأمر ليس مجرّد معرفة بعلم الكونيات أو أساليب أخرى من العيش، إنما هو مادية التحرّك مع الآخرين جسديّاً وعاطفياً وليس ذهنيًا فقط. تلك المادية مهمة جداً بالنسبة لي. كما وأنها مهمّة للنسوية بعد إنهاء الاستعمار. عندما تتحسّس بجسدك حدود قدرتك على المعرفة، تكون حساساً. مثلاً عندما تبدأ بالرقص وأنت لا تدري إن كنت ستبرع بذلك أو سيكون ذلك مأساويّاً، فأنك تضع نفسك بموقف حساس جداً، أو عندما تقوم بطهو الطعام مع الآخرين، أو تتعلم كيفية الحصاد مع آخرين عندما تتعامل مع الآخرين كإنسان نسويّ مُدني، تكون في موقف حساس. وهذه الحساسية تولّد إمكانية التعلّم من خلال الأحاسيس والتعلّم من خلال الجسد مع الآخرين.
س. س.: عملك ومحاضرتك الافتتاحية الأخيرة كلاهما يركزان على الكوارث المناخية والمعرفية وعلاقتهما بالاستعمار. كيف ترين أن تلك الكوارث مرتبطة؟
ر. إ.: ربطتُ الكارثة المناخية والاستعمار من خلال السؤال التالي: هل يمكننا أن نتفاعل مع إمكانية وجود حياة أخلاقية مبنية من دون التسبب بمعاناة واستهلاك حياة الأرض وحياة الآخرين؟ تذكّرن، كل مقاومة تبدأ بتساؤل! لكني في الوقت نفسه أنا مُعلّمة وهذا السؤال يتيح لي أن أتطلّع على هذا الارتباط بطريقة تربوية مما يفتح الباب لإمكانيات كثيرة بدلاً من أن يوصده. أنا أعتقد أننا كلّما كنّا مستعدّين لأن نسأل هذا السؤال والتصرف وفقاً للإجابات التي نعطيها بصدق فإنّ هناك أملاً. ولعل الخطوة التالية هي الأصعب، وهي تبدأ بسؤال آخر: ما هي الأمور التي نحن على استعداد للتخلي عنها من أجل الأرض؟ هل نقوم بالأبحاث التي نقوم بها، هل ندرس المقررات التي ندرّسها، هل تؤكد النضالات النسوية التي نمارسها الحياة؟ حياة مَن؟
س. س.: كتبت تقولين: "التحرّر من الاستعمار ليس مجالاً من مجالات الدراسة، إنه عمل تحرري ظهر من مجتمعات الأمم الأولى والشعوب المتحدرة من أصول افريقية في الأميركيتين ونضالاتهم للحصول على سياسة ذاتية ولاستعادة الأرض".[10] هل يمكنك أن تخبرينا أكثر عما يعنيه لك التحرر من الاستعمار؟ وما هي ماهية تفكيرنا عن إنهاء الاستعمارية آخذين بعين الاعتبار الضغط الذي يُمارس، طريقة مقاربتها من الاكاديمية الغربية، وهدفها كنشاط تحرّري؟
ر. إ.: تعريف كلمة عدم الاستعمار على أنه نشاط تحرّري يشير إلى أخلاقيات المساءلة العلائقية. ومن هذا المنطلق، فإن منحة إنهاء الاستعمار ليست ولم تكن يوماً مجرد توجه أكاديمي. إنما وجّهت نحو العدالة الاجتماعية والمعرفية وهي مناهضة للتمييز العنصري ومناهضة للسلطة الذكورية ومناهضة للرأسمالية وتدعم نضالات الشعوب الأصليين وأولئك المتحدرين من أصول إفريقية ولاستعادة الأرض في الاميركيتين. عدم الاستعمار عمل تحرّري بمعنى أنه يهدف إلى إلغاء الاستعمار بكل أشكاله في حياتنا بما في ذلك التعليم في الجامعات، لكن الأمر ليس منوطاً بإنهاء الاستعمار في المؤسسات فقط. عدم الاستعمار هو نشاط عملي رافض بشكل خاص لمنطق هيمنة المؤسسات؛ كتلك التي تلغي عوالم منطق متعددة بديلة وتعمل على تجزئتها بدلاً من عرض تعددية تداخلها. بالنسبة لي عدم الاستعمار يخلق احتمالات للتحالف وللتعلم (كما يدعونا م. جاك الكسندر لنفعل[11]) عبر الانقسامات الاستعمارية.
مراجع
Alexander, M. J., 2015. “Pedagogies of crossing.” In Transformations: Feminist Pathways to Global Change. Routledge, pp. 136-142.
Cabanal, L., 2016. “El relato de las violencias desde mi territorio cuerpo tierra.” In Xochitl Leyva y Rosalba Icaza (coordinadoras) En Tiempos de Muerte. Cuerpos. Rebeldias. Resistencias. RETOS/CLACSO/ISS, pp. 113-126.
Icaza, R., 2022. “Tanteando en la obscuridad: Decolonial Feminist Horizons.” International Institute of Social Sciences, Inaugural lecture by Professor Rosalba Icaza, 23 June. https://www.iss.nl/en/media/2022-06-rosalba-icazainaugurual-lecture(link is external)
Icaza Garza, R., 2021. “Coloniality of Power and the Developmentalist State in Mexico Opens external.” Discovery Society: New Series, 1 (4). https://discoversociety.org/2021/12/06/coloniality-of-power-and-the-developmentalist-state-in-mexico/(link is external)
Icaza Garza, R., & Aguilar, V., 2021. “Un feminismo otro. On the (im)possibilities of encountering each other across the colonial divide.” Journal fur Entwicklungspolitik, 38 (1/2), pp. 210-238. https://pure.eur.nl/ws/portalfiles/portal/52826199/JEP2021_1_Aguilar_Icaza_final_1.pdf(link is external)
Lugones, M., 2003. Pilgrimages/peregrinajes: Theorizing coalition against multiple oppressions. Rowman & Littlefield Publishers.
Oyěwùmí, O., 1997. The invention of women: Making an African sense of western gender discourses. University of Minnesota Press.
Singh, J., 2017. Unthinking mastery: Dehumanism and decolonial entanglements. Duke University Pressٍ.