وثيقة:عن الاغتراب والمرارة - التفكير في ذات مع لطيفة الزيات
محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.
تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.
العنوان | عن الاغتراب والمرارة: التفكير في "ذات" مع لطيفة الزيات |
---|---|
تأليف | مي طه و سارة سالم |
تحرير | غير معيّن |
المصدر | مجلة كُحل لأبحاث الجسد والجندر |
اللغة | العربية |
تاريخ النشر | |
مسار الاسترجاع | https://kohljournal.press/ar/node/385
|
تاريخ الاسترجاع |
|
ترجمة | أحمد حمدان |
لغة الأصل | الإنجليزية |
العنوان الأصلي | On Alienation and Bitterness: Thinking Through Dhat with Latifa al-Zayyat |
تاريخ نشر الأصل |
هذه المقالة نشرت في المجلد 9 - عدد 1، لمجلة كحل. يمكن الإطلاع أيضًا على النص الأصلي من المقال On Alienation and Bitterness: Thinking Through Dhat with Latifa al-Zayyat في نفس العدد من المجلة.
رائعة صنع الله إبراهيم الروائية، "ذات"، لا تزال معلماً بارزاً في الأدب المصري المعاصر. تعيد الرواية إلى الحياة التغيّرات السياسية والاقتصادية التي اجتاحت مصر منذ عام 1950، وتتبع الرواية ذات، وهي امرأة مصرية عادية من الطبقة المتوسطة، عندما تكبر، وتلتحق بالجامعة، وتتزوج، وتنجب أطفالا. ما له أهمية خاصة هو الطريقة التي تركّز بها الرواية على المنزل كموقع للتغيير. في جميع أنحاء الرواية نرى الأبعاد السياسية والاقتصادية من خلال سؤال الحميمية،[1] مما يعكس أشكالاً من العمل والرعاية التي غالباً ما تكون مخفيّة عن الأنظار.
تمّ التفاعل مع الرواية ومراجعتها عدّة مرّات، وما نقدّمه هنا هو مراجعة[2] للكاتبة المصرية الشهيرة لطيفة الزيات، نشرت عام 1992 في مجلّة "أدب ونقد".[3] تفتح هذه المراجعة حواراً بين هذين المؤلّفين البارزين، وكلاهما كتب بشكل خاص عن السياسة المصرية من منظور جندري. أشهر روايات لطيفة الزيات، "الباب المفتوح" (نشرت في عام 1960)، تمثّل اللحظة التاريخية لمناهضة الاستعمار والناصرية في مصر. وتتبع الرواية ليلى، البطلة، في محاولاتها لمواجهة المعايير الجندرية من خلال المشاركة في النضال ضد الاستعمار والتحرر الوطني. أوجه التشابه مع ذات واضحة: رواية صنع الله إبراهيم تتبع بالمثل "ذات"، وعلى الرغم من أنها لا تركّز على النضال السياسي أو المناهض للاستعمار، إلا أنها تهتم بمهارة بالتخريب والتحديات التي تواجه النظام الأبوي والرأسمالية في مصر ما بعد الاستعمار.
يمكن قراءة كلّ من الزيات وإبراهيم ككاتبين ملتزمين سياسياً، سواء بالنسوية أم الشيوعية، وهذا الالتزام السياسي يتسرّب عبر رواياتهما بطرق مثيرة للاهتمام وغير متوقعة. في "ذات"، يحيك الكاتب نقده المتعلّق بخروج مصر عن الاشتراكية العربية والولوج إلى السوق الحرّة ضمن مختلف مفاصل الرواية، إلا أنه يعالج هذين الموضوعين من خلال عدسة الحميمية. إن التوازن الدقيق بين الشقّ الوثائقي (قصاصات الصحف الأرشيفية) والأدبي، كما أشارت الزيات في المراجعة وكذلك سامية محرز في مقال عن "ذات"، يرمي إلى الحفاظ على "بانوراما" ما كان يحدث طوال تلك العقود إلى جانب التغيّرات الحميمة التي تحدث في المنزل. كتبت محرز: "بينما نقرأ تاريخ ذات الفردي، الذي يفقد تدريجياً أي ميزات فردية بسبب ألفته، نكتشف أنه مشروط ومشوهّ من خلال تاريخ جماعي يتكشّف من خلال قصاصات الصحف".[4] في ما يلي، نتطرق إلى ثلاثة مواضيع معينة تستخدمها الزيات لهيكلة مراجعتها لـ"ذات": الاغتراب، والمرارة، والقناع.
لماذا نترجم هذا النص بالذات، ولماذا الآن؟ صادفنا النص أثناء بحثنا في مقال مختلف يتطرّق إلى مسألة الرأسمالية والرعاية في مصر من خلال رواية صنع الله إبراهيم "ذات" ورواية لطيفة الزيات "الباب المفتوح". كانت هذه المراجعة التي أجرتها الزيات اكتشافاً مصادفة جمعت المؤلّفين في حوار، بينما تطرق أيضا إلى العديد من الموضوعات التي كنّا نفكّر فيها معاً – على وجه الخصوص، الطرق التي يتجلّى بها الجندر والرأسمالية والعمل في مصر في حقبة ما بعد الاستعمار، وكيف يفتح الخيال طرقاً مهمة لاستكشاف هذا الأمر كما شعر به المصريون.
لقد أدهشنا أيضا كيف أن مراجعة الزيات هي بمثابة تعليق اجتماعي على بؤس التسعينات، والذي يظهر وهي تكتب عن تركيز إبراهيم على بؤس الثمانينات. تشير الزيات بأن ابراهيم قد صنع "بانوراما الثمانينات" وفي مراجعتها تعطينا فكرة عن الحياة في التسعينات. بينما نكتب هذه المقدمة، ندرك بؤس مصر المعاصرة في عام 2022، وكيف أن هذا يحاكي العقود التي فهمتها الزيات وإبراهيم بمهارة. إذن، تضيف مقدمتنا وترجمتها على أنها طبقة زمنية إضافية لرواية إبراهيم ومراجعة الزيات، مما يوفر استمرارية تتحدث عن ظروف الرأسمالية والديكتاتورية في الماضي والحاضر.
الاغتراب
لا يبدو أن رواية صنع الله إبراهيم لها بداية أو نهاية واضحة، ويبدو أن كل يوم يشبه الآخر. وكما كتبت الزيات:
تتتابع الفصول في رواية "ذات" فصلاً بعد فصل، تسجيلياً بعد روائي، فيما عدا الفصل الأخير الروائي الذي يختم الرواية. وأتوقف مترددة عند استخدام عبارة يختم الرواية. فالرواية تنتهي إذا جاز التعبير دون ختام قائم على تطوّر الحدث (...). وكان يمكن أن تنتهي الرواية عند هذه النقطة أو أي نقطة سابقة عليها أو لاحقة بها دون إخلال بالحدث، فنحن هنا لسنا بصدد حدث يتطور من خلال الصراع بهذه الطريقة أو تلك، ولا نحن هنا بصدد بناء عضوي يتخلخل إذا استبعدنا أو حرّكنا هذه التفصيلة من تفاصيله أو تلك على حد قول أرسطو.
ومثلما يمكن أن ينتهي الحدث في رواية "ذات" عند أي نقطة وهذا ما يؤكده الكاتب ساخراً في بداية النص، مقرراً أن اختيار البداية لمثل هذه الرواية لا بد وأن يكون عفوياً، فكل الأيام ككل الأيام، وما من شيء يحدث غير هذا التسابق المجنون إلى الاقتناء، وما من شيء في حقيقة الأمر يتغير.
وتشير الزيات إلى ذلك في مراجعتها لتبرز الطريقة التي يسير بها الزمن في الرواية، باعتبارها متكررة وروتينية وممتدّة. وبعبارة أخرى، محاكاة الطريقة التي يمتد بها الوقت في حياة ذات وعملها. يرتبط موضوع الزمن ارتباطاً وثيقاً بموضوع الاغتراب، حيث أن تكرار وكآبة الزمن الرأسمالي ينتج إحساسا مشابهاً لتجارب الخروج من الجسد بإيقاعها الرتيب الخاص. الرواية ليست مكوّنة من أحداث أو نقاط تحوّل. وبهذا المعنى، على الرغم من أنه يبدأ في عام 1952، وهو العام الذي ولدت فيه ذات، إلا أنه كان من الممكن أن يبدأ في أي عام آخر. وهكذا فإن الرواية لديها إيقاع أساسي هو إيقاع العمل في ظل الرأسمالية، وهو إيقاع لا يسرع أو يتباطأ بل يبقى ثابتا بعناد ولا مفر منه.
ومع ذلك، إذا كان من الممكن أن تبدأ الرواية في أي وقت آخر، وإذا كان كل يوم مثل الآخر، فلا يزال من المستحيل فصل الكتابة عن السياق نفسه. وبهذا المعنى، يبدو أنها خالدة ولكنها مكتوبة بوضوح عن مصر في منعطف تاريخي معيّن، وهو التحوّل إلى السوق الحرّة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وكما تلاحظ الزيات، فإن الرواية هي "بانوراما الثمانينات"، وهو عقد لا يزال يتميز بهزيمة الاشتراكية العربية وحرب عام 1967 ضد إسرائيل – وكذلك الاشتراكية العالمية على نطاق أوسع. ومع ذلك، فإن الهزيمة ليست وحدها شعار هذا العقد، كما كان الحال في أواخر الستّينات. بدلا من ذلك، جرى تقديم التحوّل إلى السوق الحرّة على أنه انفتاح. لقد طغت نهاية مشروع وطني جماعي واحد على بشير هذا المستقبل الجديد الذي وعدت به السوق الحرّة، التي تميزت بكامب ديفيد والتحوّل في التوجه الجيوسياسي. ويبدو أن قوة هذا التحوّل إلى السوق الحرّة تكاد تكون في الوعد نفسه، وليس في مشروع مادي. في الواقع بدأت العمليات الفعلية للخصخصة في وقت متأخر بكثير عن الإعلان عنها في عام 1974. هذا السياق العائد إلى مصر الثمانينات هو جزء من الرواية نفسها، واللغة المستخدمة فيها. فكما تلاحظ الزيات، جرى إدخال مصطلحات جديدة مع انفتاح، تغيير اللغة ووضع علامات على العلاقات المختلفة مع السوق:
والكاتب/ الراوي الذي يسخر من شخصياته ومن مادته، حريص على تعميق عنصر التغريب وعلى كسر عنصر الايهام أولا بأول، ومن ثم فهو دائب التدخّل في النص، قاطعاً للسياق الروائي بانتقالات زمنية ومكانية وبتعليقات متكررة وبخلط للجليل والتافه، وبإشارات تهكمية متكررة ترد عادة ما بين قوسين، وبمسمّيات لغوية مستحدثة من عصر الانفتاح وغريبة على اللغة العربية، مثل السرمكة (تغطية الجدران بالسيراميك) والكمبشة (نسبة إلى المرحاض الحديث) والكندشة (نسبة إلى جهاز التكييف).
يتم تكرار الجودة الخالدة المتأصلة في الرواية في الشخصية الرئيسية لـ ذات، التي تجسد شكلاً متطرفًا من الإغتراب. وفقا للزيات، يمكن قراءة ذات على أنها البطل المُستهزَم،[5] وهو رأي يتمسّك به وليد الخشاب (نفس المجلد)، وأيضاً سامية محرز. على الرغم من أن الرواية تدور حول ذات، إلا أننا لا نسمعها تتحدث ولا نرى العالم من وجهة نظرها. هذه المعالجة الروائية التي يوظفها إبراهيم تُنتج شعوراً بالاغتراب لدى القرّاء الذين يتمّ إبعادهم عن القصة نفسها. ويزداد هذا من خلال ميل الراوي إلى السخرية من الشخصيات وتوظيف الهجاء، مما يعمّق عنصر الاغتراب. ذات مثل أي امرأة أخرى، لا تتميز بأي صفة بارزة وهنا يمكننا قراءتها كبطل مضاد يعطّل شكل الرواية. وكما أنه لا توجد أحداث، ولا بدايات ونهايات، لا توجد أيضا شخصية رئيسية ثابتة يمكننا أن نختبر الرواية من خلالها. وهكذا يتم تطوير العلاقات الاجتماعية من خلال الحبكة وإيقاع الرواية، بدلا من "البطل"/ الفرد. في النهاية لا توجد شخصيات رئيسية ولا أحداث ولا وقت.
المرارة
مع تقدّمنا في الرواية، نلاحظ أن ذات تبدأ في التراجع إلى الحمام للبكاء أكثر فأكثر. هذه المشهدية صعبة لأننا نراها تفكّك وتعكس على السطح ما يمكن أن نصفه بالمرارة التي تشعر بها تجاه حياتها. المرارة ليست حدثاً – الكتاب لا يحتوي على أحداث – بل يتمّ تصويرها من خلال تراكم بطيء للغاية. ليس من الممكن تحديد متى يظهر بالضبط، فهو يوجد فجأة. يمكن ربط هذه المرارة بالعمل الذي لا نهاية له الذي يتعين على ذات إنهائه: في المطبخ، وفي وظيفتها في المحفوظات، وفي أعمالها الجانبية، وأعمال رعاية الأطفال والرعاية التي لا نهاية لها في المنزل على نطاق أوسع. يبدو أن ذات تعمل بشكل دائم، وسرعان ما يصبح الإرهاق سمة مميزة لها وللرواية. ينعكس هذا في اضمحلال المدينة والمنزل نفسه، مع الجدران المقشرة والبنية التحتية المهتزّة والتسرّب من الأنابيب.
يتمّ الانتقال بموضوعات التحليل النفسي في الرواية فيما يتعلق بمفهوم المرارة والاستياء، لمشاعر الإرهاق والكآبة. ربما يكون الحمّام هو المساحة الأكثر رمزية لحدوث هذا الأمر. تستمرّ ذات في فقدان شيء ما عندما تعود إلى الحمّام للبكاء أو الانهيار. الحمّام هو أيضا مساحة ضيّقة تخترق ذاك التكرار المقرون بالمهام المختلفة للأسرة والوقت الذي يوضع في تلك المهام. إنها مساحة تعطي وهم التوقّف المؤقت أو القطع الوقتي بين حركة وأخرى. الحمّام كملاذ: في غرف أخرى تحيط الضوضاء والأشخاص والمطالب بها على الدوام. الحمّام نفسه ينهار أيضاً، في حاجة ماسة إلى طلاء جديد وبلاط جديد. هذا الانعكاس بينها وبين مادية الحمام رائع، بذلك يتبيّن لنا مدى اتساع نطاق الرواية لجهة تقديم "بانوراما الثمانينات" التي تكتب عنها الزيات.
في حين أن إيقاع الرواية لا يزال ثابتاً، فإن إيقاع ذات يتحوّل نحو نهاية الرواية عندما تبدأ في التباطؤ. وهنا لا تتجلى السوق الحرّة من خلال الأماني ووعود المستقبل، ولكن من خلال الإرهاق والاضمحلال:
تنتهي الرواية، وتكتشف ذات أن السمك المقلي والرنجة التي عادت بهما الى البيت لا يصلحان للاستخدام الآدمي، وتقرر ذات على ضوء خبرتها السابقة عدم اللجوء إلى الجهات الرسمية بالشكوى، وتلقي بالسمك والرنجة في صفيحة القمامة، وتلجأ الى المرحاض لتبكي فيه كعادتها.
نُترَك أخيرًا مع عمليّة الانفصال البطيء والمتدرّج بين ذات ومصر، فلا تترك الوعود الباهتة وراءها سوى المرارة.
ومع ذلك، لا تشير الزيات إلى مرارة ذات وحدها، بل أيضاً إلى مرارتنا كقرّاء. في نهاية المراجعة، تكتب:
ونحن نسخر مع الكاتب ونضحك من الشخصيات، ولكن في أعماق ضحكاتنا يبقى شيء مرّ وموجع، شيء ما يذكّرنا بخطورة الانزلاق في هذا الجو الملوث الى مصائر ومسار هذه الشخصيات.
هناك نقطة متوترة ومخيفة قد نبدأ عندها في رؤية أنفسنا في الشخصيات، فنرى عوالمنا الخاصة في عالم الرواية. قد تنشأ هذه النقطة عدة مرات، أو ربما مرة واحدة أو مرتين فقط. إن إمكانية الاعتراف هذه هي التي تخلق شعوراً مريراً ومؤلما فينا، كقرّاء. نحن ندرك أن المساحة ملوّثة، وكذلك حياة هذه الشخصيات. ومع ذلك، فإننا نعلم في أعماقنا أن المسافة التي نشأت بيننا وبينهم، والتي نوقشت في القسم التالي، ليست بعيدة أبداً كما نعتقد.
القِناع
بالنسبة لبرتولت بريخت، فإن القناع[6] هو عمل/ أو معالجة متعمّد ينفّر الجمهور ويبعدهم عما يحدث على خشبة المسرح، بينما يثير أيضاً استجابتهم.[7] وكما نوقش سابقاً في القسم الخاص بالاغتراب، تستخدم الرواية تكتيكات مختلفة لتنفير القارئ، من إيقاع الرواية إلى مسافة واضحة من ذات وحياتها. بينما نقرأ، نواجه تفاصيل حميمة حول حياة ذات وكذلك المسافة بيننا وبين القصة. وكما كتبت الزيات:
ومن ناحية تبقى "ذات" شخصية نمطية للملايين من المصريين الآن شأنها شأن بقية شخصيات الرواية، ومن ناحية اخرى لا تتمتع ذات بأي سمات شخصية تجبر القارئ على التعاطف معها أو تمثل الذات فيها.
واختيار ذات كشخصية رئيسية شأن اختيار بقية الشخصيات من حولها اختيار يرسم مساحة شعورية بين القارئ وبينها، هذا بالاضافة إلى نوعية الحدث الذي يختاره الكاتب وإلى الطريقة التي يروي بها الحدث.
ذات نمطية وفريدة على حد سواء. إنها تمثل ملايين المصريين بينما تبدو أيضا بعيدة عن التجارب التي قد يرتبط بها القراء. ينتج عن أسلوب إبراهيم واختياره للشخصيات، حالة من التوتر تصل الألفة بالمسافة، مما يخلق ما تشير إليه الزيات بأنه "مساحة عاطفية" بين ذات والقارئ. يتم تكرار هذه المسافة من قبل الراوي أيضا:
والكاتب الراوي الذي يقف خارج شخصياته وفوقها يتأمل مسارها، ويدعونا الى تأمله، يسخر من هذا المسار ويدعونا الى السخرية منه، ينجح في تحقيق هدف السخرية من الحدث الذي هو هدف رئيسي في هذه الرواية.
بالنسبة للزيات، لا تأخذ الرواية بنية عضوية متجذرة في وحدة الحدث وتطوره من لحظة معينة إلى أخرى، بل تأخذ شكلا ملحميا قائما على الاغتراب بالمعنى البريختي للمصطلح. تجادل الزيات بأن الرواية لا تُروى من وجهة نظر بطلة الرواية، ذات، ولكن من منظور الراوي، الكاتب نفسه. وتقول إن هذا ينفّرنا كقراء من حياة ذات، ويضعنا خارج الحدث، وينفصل عنه عاطفياً ويراقبه.
تظهر الأقنعة أيضا في الرواية ومراجعة الزيات من خلال فكرة أن ذات ترتدي قناعا يختزل من وجودها إلى الحد الأدنى: إما آلة تعمل، أو وظيفة معينة عليها القيام بها، أو جزء صغير من شكلها الجسدي:
وإمعانا في السخرية وطلباً للتغريب يستخدم الكاتب حيلة فنية أشبه ما تكون باستخدام الشخصيات للأقنعة في المسرح الملحمي. والشخصية في هذه الرواية ليست شخصية حيّة مكتملة الأبعاد فريدة ومتفرّدة، بل هي تلبس قناعاً من الاقنعة يختزل وجودها الى آلة أو وظيفة أو جزئية من جزئيات تكوينها الجسدي.
وبهذا المعنى، تعمل الأقنعة ليس فقط على خلق مسافة بين القارئ والشخصيات، ولكن لاختزال شخصيات مثل ذات إلى تكوينها الجسدي. وهذا بدوره يجعل من الصعب خلق إحساس بالتعاطف، حتى لو كانت الشخصيات تمثل ما هو مألوف لنا، أو تخوض تجارب وأحداث مررنا بها جميعا. هذه هي براعة الرواية والمراجعة: إن شخصية ذات غير الشخصية، هي في الواقع الشخصية المركزية للكتاب. لا تلفت انتباه القارئ إليها، كشخص "متعدد الأبعاد وفريد من نوعه"، بل إلى خصوصية حياتها كشخص مجرّد من التكرار الأساسي. علاوة على ذلك، فإن استخدام القناع يعمل على تسليط الضوء على مدى عدم أهمية كل شخصية، مما يسلط الضوء بدوره على روتين حياتهم اليومية وعدم فهمها. هذا يتحدث أيضاً عن مناقشتنا السابقة للاغتراب: تماماً كما كان يمكن أن تبدأ الرواية وتنتهي في أي وقت، يمكن أن تكون الشخصيات أي شخص والجميع.
تختتم الزيات مراجعتها بإعادة التأكيد على التوازن الدقيق للرواية بين الرواية والأفلام الوثائقية، وكيف تتحرك الشخصيات الخيالية وتعيش ضمن الأحداث التاريخية المادية في تلك الفترة. إبراهيم والزيات كاتبان لا شك أن التزاماتهما السياسية تشكّل روايتهما بطريقة أو بأخرى. مع ذات نحن غير قادرين على نسيان السياق السياسي الذي تدور فيه هذه الرواية، وبالتالي غير قادرين على نسيان السياسة. نحن بعيدون عن الشخصيات، لكننا أيضا قريبون جدا منها. في الواقع، عند الكتابة عن هذه المراجعة وترجمتها في عام 2022، ما زلنا غير قادرين على فصل أنفسنا تماما عن البؤس الموصوف في الرواية والبؤس الموصوف في المراجعة. ما زلنا نعيش مع عواقب الانفتاح, وبهذا المعنى كان يمكن لهذه الرواية أن تبدأ وتنتهي الآن، تماما كما كان يمكن أن تبدأ وتنتهي في أي وقت آخر. ومع ذلك، هذا هو جمال هذه الرواية: فهي خالدة على حد سواء، وترتكز بعناية في الثمانينات بسبب هذا التوازن الدقيق بين الوثائقي والخيالي. مثال على عمل روائي سياسي تماماً ومطلقاً، يذكّرنا بقوة الخيال في تسييس الحياة اليومية.
هوامش
- ↑ تستخدم الحميمية في الدراسات النسوية كأداة تحليلية لفهم وتفكيك العلاقات الكائنة بين الخاص والعام وبين ما هو "باطني" وما هو "آخر"/ الـ "آخر". تباعًا، تدلل الحميمية في الأدب والمسرح إلى المعالجة التي تنطلق من جملة العلاقات المكوّنة للفرد (الشخصيات الرئيسية بالعادة) وتبني عليها فضاء التفاعلات ومسار التطور في الحبكة بأسرها. في سياق هذا المقال، يجدر بنا التنويه إلى أنه ومن منظور نسوي ماركسي، فإن الحميمية تساوي في أهميتها (وتتكامل مع) مفهوم العمل وعلاقات العمل ضمن المنهجية الماركسية بعمومها. (ملاحظة مديرة الترجمة).
- ↑ https://archive.alsharekh.org/Articles/132/18438/416584(link is external)
- ↑ "أدب ونقد" تأسست في عام 1984 في القاهرة من قبل حزب التجمع. تنشر المجلة الأدب والنقد الأدبي بالإضافة إلى مقابلات مع الفنانين.
- ↑ محرز، سامية 1994، الكتاب المصريون بين التاريخ والخيال القاهرة: مطبعة الجامعة الأميركية بالقاهرة، 131.
- ↑ ترجمة لـ (Anti Hero - Anti christ - Antagonist) الشخصية الرئيسية التي تثبط المفهوم النمطي للبطولة (ملاحظة مديرة الترجمة).
- ↑ ارتأينا ترجمة اللفظة بحرفيتها لكن وجب التنويه إلى أن القناع هو اصطلاح آخر للـ "أثر التغريبي أو الإبعادي"، وهو مفهومٌ مسرحيّ قدمه الكاتب والمخرج المسرحي بريخت باللغة الألمانية "Verfremdungseffekt" وهذا بدوره مقتبس أو ملهم من الكتابات المسرحية الروسية. تهدف هذه المعالجة أو التقنية إلى إخراج الجمهور من موقع المتفرج إلى موقع المخاطَب المباشر، أي بتحويله (الجمهور) إلى عنصر فاعل مباشر ضمن المشهدية المسرحيّة، وبهذا السياق يكون المسمى الروسي هو الأبسط والأكثر وضوحًا حيث تُسمى عملية المعالجة بالـ "اللقاء التغريبيّ/ الإقصائي" "приём отстранения" (ملاحظة مديرة الترجمة).
- ↑ Beddie, Melanie, and Peta Tait 2012, “Embodied exploratory processes in Australian performance training and international influences,” Theatre, Dance and Performance Training 12,1: 5-19.