سطر 12: |
سطر 12: |
| | | |
| | | |
− | إيف كوسوفسكي سدجويك (1950-2009) هي إحدى مؤسِسات ورائدات النظرية الكويرية في النقد والتحليل. تقوم النظرية الكويرية على عدد من الروافد النقدية والفلسفية داخل الأكاديمية الغربية، وقد ظهرت منذ منتصف السبعينات متأثرة بفلسفة ما بعد البنيوية والتفكيكية، بالتوازي مع الحركات النسوية وتياراتها الفكرية المختلفة، وحركات الطلبة والتي تضمنت حراكاً وتنظيراً حول الهوية المثلية وحقوق المثليين. وتعتبر سدجويك من الجيل الذي عاصر الحركة الطلابية في الستينات والموجة الثانية من الحركة النسوية، خاصة في سياق تغيير السياسات التعليمية لمعظم الجامعات، التي بدأت منذ نهاية الستينات بالسماح للنساء بدخول الجامعة بشكل أكبر، وفي أقسام أكثر تنوعاً، وتقلد المناصب التعليمية بمعدلات أكبر من ذي قبل، أسوة بالرجال. وبدأت سدجويك بالإسهام في الكتابات النقدية عندما نشرت نسخة منقحة من رسالة الدكتوراة الخاصة بها في 1981 بعنوان، '''الشخوص وراء الحجاب: تصوير المظهر في الرواية القوطية'''، لتُتبعها بأول دراسة نقدية عن رهاب المثلية كمنظور لقراءة الأدب الفيكتوري في '''رهاب المثلية، ازدراء النساء، ورأس المال: مثال «صديقنا المشترك»''' (الرواية الأخيرة لتشارلز ديكنز) (1983)، وبذلك تتكون النواة الأولي لعمل سدجويك النقدي. وبحلول عام 1985 أصدرت سدجويك كتابها الأول '''ما بين الرجال: الأدب الإنجليزي ورغبات الذكور المثلية-الاجتماعية'''، لتصبح من مؤسِسات تيار نظري يستخدم الأدب كساحة لقراءة نزعات رهاب المثلية وتتبع تاريخها كجزء من وجهات نظر ومواقف تباينت ما بين تشريح الجنسانية وتكثيف الخطاب العلمي الذي يحللها كسبيل للمعرفة (فوكو وأتباعه)، من جهة؛ وخلق جنسانية مهيمنة، من جهة أخرى، غيرية بالأساس تخضع للسلطة الحداثية، مرتبطة بشكل أساسي بتطور هذه السلطة (الدولة القومية)، وبتطور النظام الأبوي الرأسمالي (إسهامات الحركات النسوية وتنظيراتها). | + | إيف كوسوفسكي سدجويك (1950-2009) هي إحدى مؤسِسات ورائدات النظرية الكويرية في النقد والتحليل. تقوم النظرية الكويرية على عدد من الروافد النقدية والفلسفية داخل الأكاديمية الغربية، وقد ظهرت منذ منتصف السبعينات متأثرة بفلسفة ما بعد البنيوية والتفكيكية، بالتوازي مع الحركات النسوية وتياراتها الفكرية المختلفة، وحركات الطلبة والتي تضمنت حراكاً وتنظيراً حول الهوية المثلية وحقوق المثليين. وتعتبر سدجويك من الجيل الذي عاصر الحركة الطلابية في الستينات والموجة الثانية من الحركة النسوية، خاصة في سياق تغيير السياسات التعليمية لمعظم الجامعات، التي بدأت منذ نهاية الستينات بالسماح للنساء بدخول الجامعة بشكل أكبر، وفي أقسام أكثر تنوعاً، وتقلد المناصب التعليمية بمعدلات أكبر من ذي قبل، أسوة بالرجال. وبدأت سدجويك بالإسهام في الكتابات النقدية عندما نشرت نسخة منقحة من رسالة الدكتوراة الخاصة بها في 1981 بعنوان، '''الشخوص وراء الحجاب: تصوير المظهر في الرواية القوطية'''، لتُتبعها بأول دراسة نقدية عن [[رهاب المثلية الجنسية|رهاب المثلية]] كمنظور لقراءة الأدب الفيكتوري في '''رهاب المثلية، ازدراء النساء، ورأس المال: مثال «صديقنا المشترك»''' (الرواية الأخيرة لتشارلز ديكنز) (1983)، وبذلك تتكون النواة الأولي لعمل سدجويك النقدي. وبحلول عام 1985 أصدرت سدجويك كتابها الأول '''ما بين الرجال: الأدب الإنجليزي ورغبات الذكور المثلية-الاجتماعية'''، لتصبح من مؤسِسات تيار نظري يستخدم الأدب كساحة لقراءة نزعات رهاب المثلية وتتبع تاريخها كجزء من وجهات نظر ومواقف تباينت ما بين تشريح [[الجنسانية]] وتكثيف الخطاب العلمي الذي يحللها كسبيل للمعرفة (فوكو وأتباعه)، من جهة؛ وخلق جنسانية مهيمنة، من جهة أخرى، غيرية بالأساس تخضع للسلطة الحداثية، مرتبطة بشكل أساسي بتطور هذه السلطة (الدولة القومية)، وبتطور النظام الأبوي الرأسمالي (إسهامات الحركات النسوية وتنظيراتها). |
| | | |
| | | |
− | وخلال تلك المسيرة الأكاديمية، كتبت أيف كوسوفسكي سدجويك كتابها، '''عن معرفة الخزانة'''<ref> اختيار «خزانة» كترجمة لـ closet قد يبدو للوهلة الأولى ترجمة حرفية مباشرة. لكن الـ «خَزن» يعني كتمان الشيء أو حفظه في مكان ما. وتلك السرية، مُضافةً للإخفاء، هي جوهر مصطلح closet وما يستدعيه من مساحة خاصة، غير مرئية، يخفي فيها الإنسان شيئاً ما. (راجع تعريف «خزن» في المعجم).</ref> (1990)، وهو من أهم ما كتبت، ويشكّل امتداداً لذلك المشروع النقدي حول تطور خطاب فكري/فلسفي في الغرب منذ القرن الثامن عشر، ظل محوره محو أو إبادة الهوية المثلية، على اختلاف تجلياتها وطرق تعريفها أو توصيفها. وتجدر الإشارة إلى أن السياق التاريخي لكتابة عن معرفة الخزانة هو أحد أسوأ الكوارث الصحية التي اجتاحت العالم المعاصر، ألا وهو الانتشار الوبائي لمتلازمة نقص المناعة في الولايات المتحدة في مطلع الثمانينات. لم يسبق أن تمت مناقشة مرض في الجمعية العامة للأمم المتحدة حتى ظهور نقص المناعة المكتسب. لم يُعرف سبب المرض، ولم يستنبط متخصصو الفيروسات تسميةً للمرض حتى عام 1987، أي بعد خمس سنوات من بداية ظهوره بشكل وبائي. لا يمكننا، كعرب لم نشهد تلك المأساة في سياقنا، أن نتخيل وقعها على جيل سدجويك ومجتمع الميم في ذلك الوقت، لكن يكفي أن نعلم أن أكثر من نصف المصابين به قد توفوا خلال السنوات الثمانية الأولى من ظهوره، وأن إدارة ريغان رفضت الاعتراف بخطورة المرض، بل سخرت منه وتجاهلته لمدة ستّ سنوات، حتى 1987، أي بعد بعد وفاة أكثر من 23000 مصاب، كان من الممكن جداً تفادي موتهم بانتهاج سياسات صحية ومجتمعية أكثر عملية وواقعية، وغير مدفوعة بهلع المحافظين ورُهابهم، إذ تم وصف المرض بأنه «سرطان الشواذ»، و«مرض المثليين» على سبيل المثال، في محاولة لوصم المرض وإظهار عدم أهميته أو انعدام جدوى التصدي له). | + | وخلال تلك المسيرة الأكاديمية، كتبت أيف كوسوفسكي سدجويك كتابها، '''عن معرفة الخزانة'''<ref> اختيار «خزانة» كترجمة لـ closet قد يبدو للوهلة الأولى ترجمة حرفية مباشرة. لكن الـ «خَزن» يعني كتمان الشيء أو حفظه في مكان ما. وتلك السرية، مُضافةً للإخفاء، هي جوهر مصطلح closet وما يستدعيه من مساحة خاصة، غير مرئية، يخفي فيها الإنسان شيئاً ما. (راجع تعريف «خزن» في المعجم).</ref> (1990)، وهو من أهم ما كتبت، ويشكّل امتداداً لذلك المشروع النقدي حول تطور خطاب فكري/فلسفي في الغرب منذ القرن الثامن عشر، ظل محوره محو أو إبادة الهوية المثلية، على اختلاف تجلياتها وطرق تعريفها أو توصيفها. وتجدر الإشارة إلى أن السياق التاريخي لكتابة عن معرفة الخزانة هو أحد أسوأ الكوارث الصحية التي اجتاحت العالم المعاصر، ألا وهو الانتشار الوبائي لمتلازمة نقص المناعة في الولايات المتحدة في مطلع الثمانينات. لم يسبق أن تمت مناقشة مرض في الجمعية العامة للأمم المتحدة حتى ظهور نقص المناعة المكتسب. لم يُعرف سبب المرض، ولم يستنبط متخصصو الفيروسات تسميةً للمرض حتى عام 1987، أي بعد خمس سنوات من بداية ظهوره بشكل وبائي. لا يمكننا، كعرب لم نشهد تلك المأساة في سياقنا، أن نتخيل وقعها على جيل سدجويك [[مجتمع الميم|ومجتمع الميم]] في ذلك الوقت، لكن يكفي أن نعلم أن أكثر من نصف المصابين به قد توفوا خلال السنوات الثمانية الأولى من ظهوره، وأن إدارة ريغان رفضت الاعتراف بخطورة المرض، بل سخرت منه وتجاهلته لمدة ستّ سنوات، حتى 1987، أي بعد بعد وفاة أكثر من 23000 مصاب، كان من الممكن جداً تفادي موتهم بانتهاج سياسات صحية ومجتمعية أكثر عملية وواقعية، وغير مدفوعة بهلع المحافظين ورُهابهم، إذ تم وصف المرض بأنه «سرطان الشواذ»، و«مرض المثليين» على سبيل المثال، في محاولة لوصم المرض وإظهار عدم أهميته أو انعدام جدوى التصدي له). |
| | | |
| | | |
سطر 43: |
سطر 43: |
| إن محاولة استلهام التفكيك كمنهج لقراءة عدد من النصوص العربية التي تركز على المثليين، وعلى التصورات الأدبية أو المتخيلة عنهم، هي اختيار واضح، إن لم يكن مقصوداً بشكل حتمي. ويفرض ذلك الاختيار السؤال: «أين المثليات من تلك التصورات أو السرديات؟». | | إن محاولة استلهام التفكيك كمنهج لقراءة عدد من النصوص العربية التي تركز على المثليين، وعلى التصورات الأدبية أو المتخيلة عنهم، هي اختيار واضح، إن لم يكن مقصوداً بشكل حتمي. ويفرض ذلك الاختيار السؤال: «أين المثليات من تلك التصورات أو السرديات؟». |
| | | |
− | أعترف أن جُلّ همي وتركيزي انصبّ على محاولة الربط بين ما حدث من تنكيل وملاحقات أمنية في الأعوام الأخيرة، وتاريخ ذلك الخطاب الإبادي وترسّخه في المخيلة العربية، الخطاب الذي انصبّ تركيزه على الرجال المثليين والمتحولات جنسياً (الترانس)، ولم يكن هذا بقصد تهميش المثليات أو التغاضي عمّا يلاقينه من تهميش وتعامي.
| + | أعترف أن جُلّ همي وتركيزي انصبّ على محاولة الربط بين ما حدث من تنكيل وملاحقات أمنية في الأعوام الأخيرة، وتاريخ ذلك الخطاب الإبادي وترسّخه في المخيلة العربية، الخطاب الذي انصبّ تركيزه على الرجال المثليين والمتحولات جنسياً (الترانس)، ولم يكن هذا بقصد تهميش المثليات أو التغاضي عمّا يلاقينه من تهميش وتعامي. |
| | | |
| نتيجة مجموعة من الأسباب -التي سأحاول تناولها بسرعة واختصار- فإن ثمة عوامل معيقة للحديث عن سرديات وتجارب المثليات، وبعض هذه العوامل سياسي-اجتماعي، فيما بعضها عملي/واقعي. فعلى سبيل المثال، كانت المثليات تاريخياً أقل عرضة للملاحقة الأمنية أو التنكيل من قبل أجهزة الدولة العقابية. ولم يكن ذلك من باب التسامح أو الاعتراف بجنسانية النساء واختياراتهن، ولكن لاعتقاد سائد أن أجساد النساء ورغباتهن تحتل حيز الخاص/الحميمي، الذي نادراً ما يستدعي التساؤل أو التحري الأمني، وهو الحيز الذي دائماً ما يثير الشكوك بالنسبة للمثليين من الرجال. أيضاً، نجد أن جنسانية النساء تصبح فاعلة أو مؤثرة فقط عندما تموضع نفسها في مجال رغبة الرجال، ووفقاً لهذا المنطق فإن اشتهاء النساء للنساء لا يستدعي الجزع أو القلق الذي يثيره اشتهاء الرجال للرجال، فرغبات النساء وفاعليتهن غير مرئية وغير مؤثرة إذا لم يكن محورها هو الرجل وجسده. | | نتيجة مجموعة من الأسباب -التي سأحاول تناولها بسرعة واختصار- فإن ثمة عوامل معيقة للحديث عن سرديات وتجارب المثليات، وبعض هذه العوامل سياسي-اجتماعي، فيما بعضها عملي/واقعي. فعلى سبيل المثال، كانت المثليات تاريخياً أقل عرضة للملاحقة الأمنية أو التنكيل من قبل أجهزة الدولة العقابية. ولم يكن ذلك من باب التسامح أو الاعتراف بجنسانية النساء واختياراتهن، ولكن لاعتقاد سائد أن أجساد النساء ورغباتهن تحتل حيز الخاص/الحميمي، الذي نادراً ما يستدعي التساؤل أو التحري الأمني، وهو الحيز الذي دائماً ما يثير الشكوك بالنسبة للمثليين من الرجال. أيضاً، نجد أن جنسانية النساء تصبح فاعلة أو مؤثرة فقط عندما تموضع نفسها في مجال رغبة الرجال، ووفقاً لهذا المنطق فإن اشتهاء النساء للنساء لا يستدعي الجزع أو القلق الذي يثيره اشتهاء الرجال للرجال، فرغبات النساء وفاعليتهن غير مرئية وغير مؤثرة إذا لم يكن محورها هو الرجل وجسده. |
| | | |
− | العامل الثالث هو اقتناع كثيرين أن المثليات لسنَ إلا نساء ضللن طريقهن إلى الرغبة. ولأن جنسانية المرأة ودورها في المخيلة العربية/الإسلامية لا يتعدى «استقبال» أو «احتواء» رغبة الرجل، تصبح مثلية النساء عرضاً عابراً، غير مُجدٍ ولامؤثر (هل لأنه، طبقاً لهذا التصور، هو جماع بلا إيلاج؟ ودون خطورة الحمل والإنجاب؟ فهو، إذن، لا يرقى إلى مرتبة الزنا؟<ref>بإجماع أغلب المذاهب فإنه ليس لـ«السحاق» حدّ، ولكن يستوجب التعزير حسب ما يقدّره القاضي، وغالباً ما تواتر في الفقه الإسلامي أن «علاج السحاق» هو تزويج النساء وضمان توفير الأزواج الصالحين من الرجال.</ref> ويمكن «معالجته» بالزواج من الرجل المناسب حسب التصور الشائع لدى المجتمع العربي/المسلم.) | + | العامل الثالث هو اقتناع كثيرين أن المثليات لسنَ إلا نساء ضللن طريقهن إلى الرغبة. ولأن جنسانية المرأة ودورها في المخيلة العربية/الإسلامية لا يتعدى «استقبال» أو «احتواء» رغبة الرجل، تصبح [[مثلية جنسية|مثلية]] النساء عرضاً عابراً، غير مُجدٍ ولامؤثر (هل لأنه، طبقاً لهذا التصور، هو جماع بلا إيلاج؟ ودون خطورة الحمل والإنجاب؟ فهو، إذن، لا يرقى إلى مرتبة الزنا؟<ref>بإجماع أغلب المذاهب فإنه ليس لـ«السحاق» حدّ، ولكن يستوجب التعزير حسب ما يقدّره القاضي، وغالباً ما تواتر في الفقه الإسلامي أن «علاج السحاق» هو تزويج النساء وضمان توفير الأزواج الصالحين من الرجال.</ref> ويمكن «معالجته» بالزواج من الرجل المناسب حسب التصور الشائع لدى المجتمع العربي/المسلم.) |
| | | |
| لا يحاول القصور المُحتوى في هذه القراءة ترسيخ التعامي عن تجارب المثليات، لكنه مجرد تجربة لاستخدام منهج التحليل الذي طورته سيدجويك، تجربة آمل أن تُرى أيضاً كدعوة للعمل على قراءة موازية لنصوص تناولت تجارب المثليات. | | لا يحاول القصور المُحتوى في هذه القراءة ترسيخ التعامي عن تجارب المثليات، لكنه مجرد تجربة لاستخدام منهج التحليل الذي طورته سيدجويك، تجربة آمل أن تُرى أيضاً كدعوة للعمل على قراءة موازية لنصوص تناولت تجارب المثليات. |
سطر 54: |
سطر 54: |
| '''2- هناك انحياز نسوي واضح''' | | '''2- هناك انحياز نسوي واضح''' |
| | | |
− | رغم غياب سرديات المثليات في هذه القراءة، وعدم التركيز بالأساس على تجارب الغيريين من الرجال والنساء، إلا أن هذه القراءة محكومة بانحيازات نسوية أساسية. وأعني بـ «انحيازات نسوية» مجمل الأعمال النظرية التي اتخذت من موقع النساء في المجتمع، بوصفهنَّ فصيلاً تم سلب أو قمع أو تهميش فاعليته بسبب نوعه الاجتماعي، الذي يفرض على النساء دوراً محدداً وسردية محددة (على سبيل المثال لا الحصر، النساء كمستودع الشرف؛ النساء كوعاء الأبناء والنسل والقائمات على مهمة الإنجاب والتربية؛ النساء كأجساد خلقت لمتعة الرجل ورغباته،...إلخ). إن نقد الأبوية والذكورية الذي أنتجته النساء على مر قرنين من الزمان هو جزء لا يتجزأ من تاريخ نضال المثليين ونقدهم، هم كذلك، للمجتمع الحداثي بشكله الرأسمالي-الأبوي الذي نعرفه. ولا يمكننا فهم حالة الهلع والتقزز التي تصيب الكثير من الرجال عند مشاهدة المتحولات جنسياً في العالم العربي دون الرجوع إلى نقد النسويات للذكورية وما يكشفه ذلك عن احتقار أو رفض لكل ما هو «أنثوي»/«نسائي» كمقابل موضوعي لما هو «ذكوري»/«رجولي»، كما لا يمكننا أن نفهم ذلك الرعب الذي ينتاب الكثيرين بناءاً على معتقدهم بأن المثلية أو المثليين هما نهاية الجنس البشري دون الرجوع إلى النقد النسوي للأبوية بوصفها التصور الأوحد للاجتماع البشري في صورة أسرة يترأسها أب، ذكر، غيري، منجب، وتشمل أماً وأولاداً من نسل ذلك الذكر. ذلك النقد العميق للأبوية، وما تفرضه من تصورات أحادية للشكل الاجتماعي المقبول والمتوقع من الجميع، ندين به جميعاً للنسويات والنسوية<ref>على سبيل المثال لا الحصر: كتابات سيمون دي بوفوار الجنس الآخر، 1949؛ كايت ميليت السياسات الجنسية، 1971؛ كريستيان دلفي، استغلال حميمي، 1992.</ref>. | + | رغم غياب سرديات المثليات في هذه القراءة، وعدم التركيز بالأساس على تجارب الغيريين من الرجال والنساء، إلا أن هذه القراءة محكومة بانحيازات نسوية أساسية. وأعني بـ «انحيازات نسوية» مجمل الأعمال النظرية التي اتخذت من موقع النساء في المجتمع، بوصفهنَّ فصيلاً تم سلب أو قمع أو تهميش فاعليته بسبب نوعه الاجتماعي، الذي يفرض على النساء دوراً محدداً وسردية محددة (على سبيل المثال لا الحصر، النساء كمستودع الشرف؛ النساء كوعاء الأبناء والنسل والقائمات على مهمة الإنجاب والتربية؛ النساء كأجساد خلقت لمتعة الرجل ورغباته،...إلخ). إن نقد الأبوية والذكورية الذي أنتجته النساء على مر قرنين من الزمان هو جزء لا يتجزأ من تاريخ نضال المثليين ونقدهم، هم كذلك، للمجتمع الحداثي بشكله الرأسمالي-الأبوي الذي نعرفه. ولا يمكننا فهم حالة الهلع والتقزز التي تصيب الكثير من الرجال عند مشاهدة المتحولات جنسياً في العالم العربي دون الرجوع إلى نقد النسويات للذكورية وما يكشفه ذلك عن احتقار أو رفض لكل ما هو «أنثوي»/«نسائي» كمقابل موضوعي لما هو «ذكوري»/«رجولي»، كما لا يمكننا أن نفهم ذلك الرعب الذي ينتاب الكثيرين بناءاً على معتقدهم بأن المثلية أو المثليين هما نهاية الجنس البشري دون الرجوع إلى النقد النسوي [[نظام أبوي|للأبوية]] بوصفها التصور الأوحد للاجتماع البشري في صورة أسرة يترأسها أب، ذكر، غيري، منجب، وتشمل أماً وأولاداً من نسل ذلك الذكر. ذلك النقد العميق للأبوية، وما تفرضه من تصورات أحادية للشكل الاجتماعي المقبول والمتوقع من الجميع، ندين به جميعاً للنسويات والنسوية<ref>على سبيل المثال لا الحصر: كتابات سيمون دي بوفوار الجنس الآخر، 1949؛ كايت ميليت السياسات الجنسية، 1971؛ كريستيان دلفي، استغلال حميمي، 1992.</ref>. |
| | | |
| | | |
سطر 79: |
سطر 79: |
| | | |
| ''ورفع الشيخ درويش رأسه بغتة وقال دون أن يلتفت نحو المعلم: | | ''ورفع الشيخ درويش رأسه بغتة وقال دون أن يلتفت نحو المعلم: |
− |
| |
| يا معلم، إمرأتك قوية، فيها من الرجولة ما يعوز الكثيرين من الرجال، وهي ذكر وليست بأنثى، فلماذا لا تحبها؟ | | يا معلم، إمرأتك قوية، فيها من الرجولة ما يعوز الكثيرين من الرجال، وهي ذكر وليست بأنثى، فلماذا لا تحبها؟ |
− |
| |
| وصوب المعلم نحوه عينين ناريتين وصاح في وجهه: | | وصوب المعلم نحوه عينين ناريتين وصاح في وجهه: |
− |
| |
| اقطع لسانك! | | اقطع لسانك! |
− |
| |
| وصاح أكثر من واحد من الجالسين: | | وصاح أكثر من واحد من الجالسين: |
− |
| |
| حتى الشيخ درويش! | | حتى الشيخ درويش! |
− |
| |
| وولاه المعلم ظهره صامتا، وراح الشيخ درويش يقول: | | وولاه المعلم ظهره صامتا، وراح الشيخ درويش يقول: |
− |
| |
| هذا شرّ قديم، يسمونه في الإنجليزية homosexuality وتهجئتها h o m o s e x u a l i t y ولكنه ليس بالحب. | | هذا شرّ قديم، يسمونه في الإنجليزية homosexuality وتهجئتها h o m o s e x u a l i t y ولكنه ليس بالحب. |
− |
| |
| نجيب محفوظ، زقاق المدق؛ (1947)'' | | نجيب محفوظ، زقاق المدق؛ (1947)'' |
| | | |
سطر 113: |
سطر 105: |
| | | |
| ''فرأى المعلم كرشة، بجسمه الطويل النحيل، ووجهه الضارب للسواد، وعينيه المظلمتين النائمتين | | ''فرأى المعلم كرشة، بجسمه الطويل النحيل، ووجهه الضارب للسواد، وعينيه المظلمتين النائمتين |
− |
| |
| كان السيد رضوان الحسيني ذا طلعة مهيبة، تمتد طولاً و عرضاً، وتنطوي عباءته الفضفاضة السوداء على جسم ضخم، يلوح منه وجه كبير أبيض مشرب بحمرة، ذو لحية صهباء، يتسع النور من غرة جبينه، وتقطر صفحته بهاء وسماحة وإيمانا» و«زاد وجهه الجميل بعد هذا القول تألقاً، شأن الكريم الفاضل يحب الخير ويصنعه ويزداد بصنعه رضاً وجمالاً. | | كان السيد رضوان الحسيني ذا طلعة مهيبة، تمتد طولاً و عرضاً، وتنطوي عباءته الفضفاضة السوداء على جسم ضخم، يلوح منه وجه كبير أبيض مشرب بحمرة، ذو لحية صهباء، يتسع النور من غرة جبينه، وتقطر صفحته بهاء وسماحة وإيمانا» و«زاد وجهه الجميل بعد هذا القول تألقاً، شأن الكريم الفاضل يحب الخير ويصنعه ويزداد بصنعه رضاً وجمالاً. |
− |
| |
| نجيب محفوظ، زقاق المدق؛ ص 9،10'' | | نجيب محفوظ، زقاق المدق؛ ص 9،10'' |
| | | |
سطر 135: |
سطر 125: |
| | | |
| ''ويولع أكثر بالبوظة والمخدرات، ويتمادى في ممارسة شذوذه حتى خرج به من السر إلى العلانية... وأطلق وحيد على نفسه «صاحب الرؤيا» ولكن الحرافيش دعوه سراً بالأعور. وعرف بشذوذه فلم يتزوج، وأحاط نفسه بفتية مثل المماليك. | | ''ويولع أكثر بالبوظة والمخدرات، ويتمادى في ممارسة شذوذه حتى خرج به من السر إلى العلانية... وأطلق وحيد على نفسه «صاحب الرؤيا» ولكن الحرافيش دعوه سراً بالأعور. وعرف بشذوذه فلم يتزوج، وأحاط نفسه بفتية مثل المماليك. |
− |
| |
| نجيب محفوظ، الحرافيش؛ ص 269'' | | نجيب محفوظ، الحرافيش؛ ص 269'' |
| | | |
سطر 149: |
سطر 138: |
| | | |
| ''ومن عجيب أن المعلم كرشة قد عاش عمره في أحضان الحياة الشاذة، حتى خال لطول تمرغه في ترابها أنها الحياة الطبيعية. هو تاجر مخدرات اعتاد العمل تحت جنح الظلام وهو طريد الحياة الطبيعية وفريسة الشذوذ. واستسلامه لشهواته لا حد له ولا ندم عليه ولا توبة تنتظر منه. | | ''ومن عجيب أن المعلم كرشة قد عاش عمره في أحضان الحياة الشاذة، حتى خال لطول تمرغه في ترابها أنها الحياة الطبيعية. هو تاجر مخدرات اعتاد العمل تحت جنح الظلام وهو طريد الحياة الطبيعية وفريسة الشذوذ. واستسلامه لشهواته لا حد له ولا ندم عليه ولا توبة تنتظر منه. |
− |
| |
| نجيب محفوظ، زقاق المدق؛ ص 50'' | | نجيب محفوظ، زقاق المدق؛ ص 50'' |
| | | |
سطر 165: |
سطر 153: |
| | | |
| ''إنه رجل فاجر لا يرده عن شهوة لا سن ولا زوجة ولا أبناء. ولعلك علمت بأمر هذا الشاب الرقيع الذي يوافيه كل ليلة إلى القهوة؟! هذه هي فضيحتنا الجديدة... ولكني إذا يئست من إصلاحه فسأشب النار في الزقاق جميعاً وأجعل من جسده النجس حطاما لها!. | | ''إنه رجل فاجر لا يرده عن شهوة لا سن ولا زوجة ولا أبناء. ولعلك علمت بأمر هذا الشاب الرقيع الذي يوافيه كل ليلة إلى القهوة؟! هذه هي فضيحتنا الجديدة... ولكني إذا يئست من إصلاحه فسأشب النار في الزقاق جميعاً وأجعل من جسده النجس حطاما لها!. |
− |
| |
| نجيب محفوظ، زقاق المدق؛ ص 100'' | | نجيب محفوظ، زقاق المدق؛ ص 100'' |
| | | |
سطر 173: |
سطر 160: |
| | | |
| ''وصرخت بصوت كادت أن تتصدع له أركان القهوة: يا حشاش، يا مدهول، يا وسخ، يا ابن الستين، يا أبا الخمسة، وجد العشرين، يا عرة، يا رطل، سفخص على وجهك الأسود | | ''وصرخت بصوت كادت أن تتصدع له أركان القهوة: يا حشاش، يا مدهول، يا وسخ، يا ابن الستين، يا أبا الخمسة، وجد العشرين، يا عرة، يا رطل، سفخص على وجهك الأسود |
− |
| |
| فحدجها المعلم بنظرة قاسية وهو منتفض من الانفعال. وصاح بها: | | فحدجها المعلم بنظرة قاسية وهو منتفض من الانفعال. وصاح بها: |
− |
| |
| لمي لسانك يا مرة، وسدي هذا المرحاض الذي يقذفنا بوسخه! | | لمي لسانك يا مرة، وسدي هذا المرحاض الذي يقذفنا بوسخه! |
− |
| |
| قطع لسانك ما مرحاض إلا أنت، يا خرع، يا مفضوح، يا ظل العيال'' | | قطع لسانك ما مرحاض إلا أنت، يا خرع، يا مفضوح، يا ظل العيال'' |
| | | |
سطر 190: |
سطر 174: |
| | | |
| ''ظل عبده واقفاً في وسط الحجرة حتى استجمع الأمر في ذهنه، ثم أصدر صوتا غليظاً أشبه بحشرجة حيوان متوحش غاضب، وانقضّ على حاتم يركله ويلكمه بيديه وقدميه، ثم أمسك به من رقبته وأخذ يضرب رأسه في الجدار بكل قوته حتى أحس بدمه ينبثق حاراً لزجاً على يديه. | | ''ظل عبده واقفاً في وسط الحجرة حتى استجمع الأمر في ذهنه، ثم أصدر صوتا غليظاً أشبه بحشرجة حيوان متوحش غاضب، وانقضّ على حاتم يركله ويلكمه بيديه وقدميه، ثم أمسك به من رقبته وأخذ يضرب رأسه في الجدار بكل قوته حتى أحس بدمه ينبثق حاراً لزجاً على يديه. |
− | | + | علاء الأسواني، عمارة يعقوبيان؛ ص 334'' |
− | علاء الأسواني، عمارة يعقوبيان؛ ص 334''
| |
| | | |
| | | |
سطر 202: |
سطر 185: |
| | | |
| ''فضحك حلمي عزت قائلاً: إنك يا باشا مؤمن، وإن إيمانك لما يحير الكثيرين! | | ''فضحك حلمي عزت قائلاً: إنك يا باشا مؤمن، وإن إيمانك لما يحير الكثيرين! |
− |
| |
| لمه؟ إن الإيمان واسع الصدر، والمنافق وحده الذي يدعي البراءة المطلقة، ومن الغباء أن تظن أن الإنسان لا يقترف الذنوب إلا على جثة الإيمان، ثم إن ذنوبنا أشبه بالعبث الصبياني البرىء! | | لمه؟ إن الإيمان واسع الصدر، والمنافق وحده الذي يدعي البراءة المطلقة، ومن الغباء أن تظن أن الإنسان لا يقترف الذنوب إلا على جثة الإيمان، ثم إن ذنوبنا أشبه بالعبث الصبياني البرىء! |
− |
| |
| نجيب محفوظ، السكرية؛ ص 146'' | | نجيب محفوظ، السكرية؛ ص 146'' |
| | | |
سطر 223: |
سطر 204: |
| | | |
| ''وإذ تعلن الحركة تضامنها مع الحق في التنوُّع والاختلاف، فإنها تؤكِّد على دفاعها عن الحق في التحرُّر من النبذ والاضطهاد والملاحقة، والحرية في الإعلان عن هذا التنوُّع. وتُشدِّد الحركة على أن الحريات لا تتجزَّأ والنضال من أجل التحرُّر الاجتماعي والسياسي الشامل لا يمكن أن يكون إلا بمقاومة كافة أشكال الاضطهاد والنبذ والتشويه والدفاع عن كل المُضطهَدين بسبب الجنس أو الميول الجنسية أو العرق أو اللون أو الدين. | | ''وإذ تعلن الحركة تضامنها مع الحق في التنوُّع والاختلاف، فإنها تؤكِّد على دفاعها عن الحق في التحرُّر من النبذ والاضطهاد والملاحقة، والحرية في الإعلان عن هذا التنوُّع. وتُشدِّد الحركة على أن الحريات لا تتجزَّأ والنضال من أجل التحرُّر الاجتماعي والسياسي الشامل لا يمكن أن يكون إلا بمقاومة كافة أشكال الاضطهاد والنبذ والتشويه والدفاع عن كل المُضطهَدين بسبب الجنس أو الميول الجنسية أو العرق أو اللون أو الدين. |
− | | + | [https://www.facebook.com/RevSoc.me/posts/966613296824552 بيان حركة الاشتراكيين الثوريين]، 26 سبتمبر 2017'' |
− | بيان حركة الاشتراكيين الثوريين، 26 سبتمبر 2017'' | |
| | | |
| | | |
سطر 230: |
سطر 210: |
| | | |
| | | |
− | لا نملك رفاهية الانتظار حتى تحنَّ علينا اليسار أو التيارات التقدمية الأخرى، وترى أن قضايا مجتمع الميم جزء لا يتجزأ من نضالاتها. ولا يمكننا السكوت عن الملاحقة والترصد والتصيد الذي يقوم به النظام المصري أو النظم العربية الأخرى بدرجات متفاوتة، بحجة أن هذه القضية ليست من «أولويات النضال». إن تخاذل اليسار والتيارات التقدمية، وفشلهم في تعريف «أولويات النضال»، يدفعنا إلى مُساءلة معنى هذا النضال وما يمثله أصلاً كمشروع سياسي تحرري، فإن لم تشمل أولويات النضال حرية الجميع في أجسادهم/ن، وحرية الاختيارات الحميمية بين بالغين فيما تراضوه بينهم/ن، وتفكيك سلطة الدولة من على أجساد ونفوس العباد... إن لم يكن هذا هو جوهر وأصل النضال، فما هو النضال إذن؟ | + | لا نملك رفاهية الانتظار حتى تحنَّ علينا اليسار أو التيارات التقدمية الأخرى، وترى أن قضايا [[مجتمع الميم]] جزء لا يتجزأ من نضالاتها. ولا يمكننا السكوت عن الملاحقة والترصد والتصيد الذي يقوم به النظام المصري أو النظم العربية الأخرى بدرجات متفاوتة، بحجة أن هذه القضية ليست من «أولويات النضال». إن تخاذل اليسار والتيارات التقدمية، وفشلهم في تعريف «أولويات النضال»، يدفعنا إلى مُساءلة معنى هذا النضال وما يمثله أصلاً كمشروع سياسي تحرري، فإن لم تشمل أولويات النضال حرية الجميع في أجسادهم/ن، وحرية الاختيارات الحميمية بين بالغين فيما تراضوه بينهم/ن، وتفكيك سلطة الدولة من على أجساد ونفوس العباد... إن لم يكن هذا هو جوهر وأصل النضال، فما هو النضال إذن؟ |
| | | |
| | | |