عنف خلال الولادة

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

العنف خلال الولادة(أيضا: عنف توليدي) هو عنف جسدي قائم على أساس الجندر يُوجّه من خلال المؤسسة الطبية التقليدية نحو النساء الحوامل خلال مرحلة الولادة والوضع. يشمل هذا العنف مجموعة من الممارسات التي تشمل تعنيف الحوامل جسديًا ولفظيًا، حرمانهن من العلاج والتدخل الطبي العاجل، انتهاك الخصوصية وحرمان الحامل من الدعم النفسي، وعدم محاولة إكسابها المعرفة الطبية الكاملة بخصوص الوضع الصحي لها ولجنينها بالإضافة إلى فرض إجراءات طبية جراحية تؤدي إلى آثار جسدية دائمة بدون استشارة الحامل مسبقًا أو أخذ موافقتها أو بعد تضليلها بمعلومات مغلوطة وبدون أن يكون لهذه الإجراءات أي داعي طبي. (بالإنجليزية: Obstetric Violence)

كانت الولادة على مدار التاريخ البشري عملية طبيعية تتم بدون أو بالحد الأدنى من التدخلات الطبية أو العلاجية. في النصف الأول من القرن العشرين بدأت تزداد معدلات التأطير الطبي medicalization للولادة بالتزامن مع مأسسة الممارسة الطبية والصحية، وأصبحت الولادة شأن طبي بعد أن كانت العلاقة بينها وبين ممارسي مهنة العلاج في حدودها الدنيا.

تمتد جذور الهيمنة الذكورية داخل المؤسسة الطبية عميقًا إلى لحظة نشأتها بصورتها الحديثة في نهايات القرن الثامن عشر في أوروبا. لقد صاغت المؤسسة الطبية علاقة وصاية وسلطة ما بين مقدمي الخدمة الطبية ومتلقيها، تستخدم ستار العلم والمعرفة من أجل فرض السيطرة على الجسد والتعامل معه بشكل محايد بعيدًا عن سياقه الاجتماعي وتجربته الشخصية. وبجانب الوصاية على جسد المريض، أظهرت المؤسسة الطبية تاريخيًا درجة عالية من التحيز ضد النساء، يظهر ذلك في انخفاض جودة الخدمة الطبية المقدمة للنساء، وتركيز الأبحاث الطبية على التعامل مع أجساد الذكور باعتبار أن جسد الذكر هو المعيار للجسد السليم (والذكر الأبيض على وجه الخصوص)، مع إهمال الخصوصية التي تحملها أجساد النساء والعرقيات المختلفة، والتعامل معها كتشوهات بحاجة إلى علاج وتدخل طبي لتصحيحها. كما أن هذا التحيز يظهر بأشكال أكثر حدة وعنف عندما تتعامل المؤسسة الطبية مع اعتبارات طبقية أو اقتصادية أو إثنية مختلفة، أي عندما تطلب نساء فقيرات أو من شعوب أصلانية أو أقليات عرقية أو اجتماعية الخدمة الطبية.

في النصف الثاني من القرن العشرين بدأت عملية الولادة تخضع للتأطير داخل المؤسسة الطبية، وتحولت الولادة إلى مسألة صحية يجيب عنها الأطباء بعد أن كانت عملية طبيعية تتم بمساعدة من القابلات التقليديات وشبكات الحماية الاجتماعية المتمحورة بشكلٍ أساسٍ حول النساء. نتج عن ذلك أن تعرضت أجساد النساء الحوامل خلال هذه الفترة للعنف الطبي الممنهج بأشكال مختلفة، واستغرق الأمر عقودًا طويلة قبل البدء بملاحظة هذا العنف وتشخيصه. كانت الحراكات النسوية في أمريكا اللاتينية سبَّاقة نحو العمل على تحييد هذا العنف من خلال المؤسسة القانونية، إلا أن طريقًا طويلًا لا يزال يفصل النساء عن الوصول إلى تحييد كامل للعنف خلال الولادة داخل المؤسسة الطبية الحديثة.

بحسب المنظمات الأممية فإن ما يزيد عن ثلث نساء العالم الحوامل يتعرضن للعنف خلال الولادة، وهي أرقام لا تملك بالضرورة درجة عالية من الدقة، حيث أن دراسات أكثر محدودية وتركز نطاقات جغرافية أضيق تؤكد أن أعداد أكبر من النساء يتعرضن لهذا العنف.

قابلات ومولدون: تحولات تاريخية

القبالة في العصور القديمة

تعتبر بردية كاهون لطب النسائية والتوليد (كُتبت حوالي 1825 قبل الميلاد) أقدم توثيق متوفر للمعرفة الطبية المتعلقة بالولادة والخصوبة وصحة النساء والحوامل، على أنها لم تذكر مهنة القبالة بشكل صريح على العكس من بردية إبريس (كُتبت حوالي 1550 قبل الميلاد) حيث ذكرت القابلات وحددت مهامهن وخبراتهن في التعامل مع النساء الحوامل والولادة.[1] تشير الأدبيات التاريخية أيضًا إلى وجود مساهمات في طب الولادة تعود إلى زمن الحضارة اليونانية القديمة، إذ تشير النصوص إلى مساهمات قدمها أطباء مثل أبقراط، إفسوس، سورانوس، وجالينوس.[2] أما في الهند فهناك نصوص تشكل مكونات أساسية للطب الشعبي الهندي (الآيورفيدا) ناقشت مسائل الحمل والولادة والحالات المرضية المتعلقة بهما، مثل ساشروتا سهميتا وتشاراكا سهميتا"، ووصفت تدخلات جراحية تستخدم في بعض الحالات المتعلقة بالولادة وطب النسائية.[3]

طب الولادة الإسلامي

في العصر الإسلامي، شهد طب الولادة تطورات جمة شكلت منعطفًا هامًّا في هذا المجال، وكانت رافعة للتطور الذي شهده هذا الحقل المعرفي في أوروبا في عصر النهضة وما بعده. وكان المسلمون أول من فصل طب الولادة عن الفنون والعلوم الطبية باعتباره فرعًا مستقلًا، مع الأخذ بالاعتبار أن هذا الفصل لم يحدث في أوروبا إلا في القرن التاسع عشر حيث كان طب التوليد يعتبر جزءًا من علوم الجراحة العامة أو لا يعتبر فنًا طبيًا من الأساس. يمكن تتبع إسهامات العلماء المسلمين في طب الولادة في نصوص ابن عباس المجوسي (الأهوازي) والطبيب الأندلسي الإشبيلي ابن زهر الذي كانت ابنته وحفيدته أول وأشهر طبيبتي ولادة في الأندلس، أيضًا يوجد العديد من الإسهامات لدى الرازي وابن سينا بالإضافة إلى الزهراوي الذي وصف حوالي 200 أداة تشخيصية وجراحية بعضها من تصميمه الخاص تستخدم في طب النسائية والتوليد وكان أول من شرح خطوات توليد الأجنة المتعسرة بسبب التجمعات المائية في الدماغ واستخراج الأجنة الميتة.[4]

بأي حال، لم تشهد أي من الحضارات المذكورة وجود انفصال في الممارسة بين القبالة والطب، كانت القابلات (الدايات) المسلمات يعملن في بعض الأحيان تحت إشراف الأطباء، وكانت شروحات الأطباء وتعليماتهم النظرية موجهة إلى القابلات، فالحدود بين القبالة والطب كانت ضعيفة وكان المجالان متداخلين بشكل أو بآخر ولم يحاول الأطباء المسلمون تعطيل مهنة القبالة أو السيطرة عليها، ولم تشهد الممارسة الطبية محاولات من هذا القبيل إلا في أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث بدأ طب الولادة يحتل حيزًا من العمل في الجراحة بشكل يوازي مهنة القبالة ولا يتقاطع معها.

طب الولادة الأوروبي

في أوروبا، بدأت مهنة القبالة تتطور مع عصر النهضة وما بعده. في القرن السادس عشر، كانت القابلات في أوروبا لا يزلن يخلطن في مهنتهن بين المعرفة المتوارثة بالمشافهة وتلك المكتسبة بالتجربة، وهو ما أشارت إليه النصوص الطبية المبكرة في عصر النهضة مثل كتابات المعالج الألماني إيوكاريوس روزالين الذي حاول إعادة إحياء دراسات اليوناني سورانوس وأضاف إليها نتائج أبحاثه الخاصة. لم يمارس روزالين القبالة ولم يقم بتوليد النساء لكنه درَّس النصوص اليونانية القديمة لطلابه، وقلل من شأن القابلات في أوروبا بسبب جهلهن وإيمانهن بالخرافات. لم يعطِ روزالين أو معاصروه اهتمامًا بحقيقة أن تعليم القابلات في أوروبا منذ العصور القديمة، حتى عندما تلقينه داخل مؤسسات تعليمية معتمدة، لم يركز على القراءة والكتابة أو المناهج النظرية، إنما كان تعليمًا عمليًا وتطبيقيًا، وأن خبراتهن ومعرفتهن راكمنها على مدى قرون طويلة ونقلنها إلى بعضهن البعض مشافهة جيلًا بعد جيل. أما الأطباء الذكور، الذين لم يكن يُسمح لهم بالنفاذ إلى هذا المجتمع المغلق، فأصبحوا قادرين بعد نشر كتابات روزالين وطبيب نمساوي آخر يُدعى ياكوب روف (اعتمد أيضًا على مؤلفات سورانوس) على تعلّم الأساسيات الخاصة بالقبالة والتوليد بشكل نظري. في فرنسا، قام حلاق جراح يُدعى أُمبرواز باريه بتأسيس مدرسة للقبالة في باريس، وقد بلغت بعض المتدربات لديه مكانة مرموقة في البلاط الفرنسي وقامت إحداهن بتوليد ماري دي ميديتشي زوجة الملك هنري الرابع، والابنة التي أنجبتها، هنريتا ماريا، أصبحت لاحقًا ملكة بريطانيا. باريه (أو واحدة من طالباته) كان/ت أول من أجرى/ت جراحة قيصرية لسيدة لا تزال على قيد الحياة وينجح في الحفاظ على حياتها رغم النزيف.[5]

في القرن السابع عشر، بدأت تنتشر صيحة المولّدين الذكور في فرنسا، أشهرهم كان فرانسوا موريسيو Francois Mauriceau الذي عمل في بلاط لويس الرابع عشر. لاجئ فرنسي يُدعى بيتر تشامبرلين كان له أثر في نقل المهنة إلى إنجلترا، ويُعتقد أنه، أو أحد أبناءه، قد طوروا نسخة من الملاقط الطبية التي تستخدم في الولادات التدخلية وتسريع الولادات البطيئة أو المتعسرة، وقد حافظوا على سر ابتكارهم طيلة قرن من الزمان على الأقل قبل أن يشهد انتشارًا في مختلف أنحاء أوروبا.

في القرن الثامن عشر، نشر الأكاديمي الأسكتلندي ويليام سميلي أطروحته في نظرية وممارسة القبالة وقام بتدريس طلابه بناء على معرفته بالبنية التشريحية للحوض والجهاز التناسلي الأنثوي. في ذلك الوقت، بدأت القبالة تحولها التدريجي من شأن اجتماعي متعلق بدوائر الدعم التقليدية المحيطة بالحامل والتي تشمل نساء العائلة الأكبر سنًا والجارات بالإضافة إلى القابلات إلى شأن علمي وأكاديمي خاضع للهيمنة الذكورية، وقد بدأ الأطباء الأوروبيون - خاصة في إنجلترا وفرنسا - بالإنخراط أكثر في مهنة القبالة.[2] قام سميلي، سنة 1740، بتأسيس مدرسة لتعليم الذكور فنون القبالة، وقد عمل هؤلاء المولدون الذكور في المستشفيات العامة التي كانت تقدم خدمات الولادة المجانية للنساء الفقيرات، ولكن هدفها الحقيقي كان منح المولّدين الذكور خبرة أكبر في التعامل مع النساء الحوامل وكسر احتكار النساء للمهنة. كثير من هذه الولادات حصلت بمساعدة الملاقط الطبية المعدنية، وقد عنى ذلك وجود إجراءات تدخلية invasive procedures غير مسبوقة ترافقت مع انتشار واسع لحمى النفاس، وقد ارتبطت معظم حالات حمى النفاس بالأطباء والمولدين الذكور في تلك الفترة واستمر الحال لعقود طويلة بسبب غياب إجراءات التعقيم، ورفض المجتمع الطبي لها في بعض الأحيان.

في بدايات القرن الثامن عشر، كانت القبالة موجودة بشكل تام خارج المجال الطبي، ولكن بنهاية القرن تقريبًا بدأ الأطباء العامّون (الجراحون المعالجون Surgeons - Apocatheries) في أوروبا بالعمل في المجال أكثر حيث أصبحوا يولّدون نساء الطبقات الوسطى والعليا في إنجلترا وفرنسا داخل البيوت، وذلك رغم ازدراء المجتمع الطبي في غرب أوروبا لمهنة القبالة وضعف مردودها المادي. أحد رؤساء الجمعية الملكية البريطانية للجراحة صرح بأن توليد الرجال للنساء أمر منافٍ للأخلاق وللمنطق السليم، ولكن بالرغم من ذلك فإن الجراحين المعالجين كانوا يفضلون القيام بعمليات التوليد في المنازل (خاصة باستخدام الملاقط الطبية المعدنية) من أجل توطيد علاقتهم بالعائلات التي يولدون نسائها، فولادة واحدة تعني أن الجراح الذي أجراها أصبح طبيب العائلة الدائم.[6]

النقابات والأنظمة الطبية في أوروبا

خلال القرن التاسع عشر، فصل نظام طبقي صارم بين مقدمي الرعاية الصحية في أوروبا، فهناك من جهة، الأطباء الذين ينتمون إلى الطبقة العليا في المجتمع وحصلوا على فرصة لتعلّم الطب عبر المؤسسات الأكاديمية، ومن جهة أخرى، هناك الجراحون المعالجون، وهم من أبناء الطبقة الوسطى ويحصلون تعليمهم عبر التلمذة المهنية على يد ممارسين أكبر منهم سنًا وأكثر منهم خبرة، بعضهم جراحون حلاقون، مارسوا وتعلموا الجراحة عبر مهنة الحلاقة (تقليد متوارث منذ مئات السنين)، وبعضهم صيادلة أو كيميائيون، طوروا خبرة في التشخيص وقدرة على منح الاستشارات الطبية من خلال خبرتهم في الأدوية والمستحضرات الكيميائية. في أدنى الهرم كانت القابلات، وغالبيتهن تعلمن القبالة أيضًا عبر التلمذة المهنية وتناقلن معرفة قديمة امتدت على مدار قرون طويلة، وبعضهن درس وتعلم في مدارس للقبالة أسسها أطباء وأكاديميون ذكور. على أن هذا الفصل ظل في النهاية فصلًا طبقيًا حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، وتمثل من خلال بعض الأجساد النقابية التي فصلت بين الممارسين المختلفين ولكن لم يُرسَّم على الأرض باستخدام القوانين.

كانت الخطوة الأولى لترسيخ السلطة على أجساد المرضى من خلال المؤسسة الطبية هي بترسيم المؤسسة الطبية ذاتها أولًا. حصل ذلك عبر عدة خطوات كان أولها تنظيم المهنة باستخدام القوانين والنقابات. تأسس الاتحاد الطبي البريطاني British Medical Association في 1836 وتأسست الجمعية الملكية لجراحي لندن Royal College of Surgeons of London في 1800 (وتحول اسمها إلى الجمعية الملكية لجراحي إنجلترا Royal College of Surgeons of England في 1843)، وقد هدفت الأخيرة لتشكيل جسد نقابي خاص بالجراحين ورفضت أن تقبل في عضويتها أي جراحين لم يحصلوا على تعليم جامعي أو أي قابلات حتى لو حصلن على تدريب مهني عن طريق مدارس القبالة.[6] في عام 1858، صدر أول قانون لتنظيم مهنة الطب في إنجلترا ويُعتبر من أوائل القوانين المشابهة التي صدرت على مستوى أوروبا، وقد استُنتسخ القانون وأعيد إصداره في عدد من المستعمرات والتابعيات البريطانية (مثل أستراليا في 1877 ولاحقا الهند في 1916،[7] وقد ركز القانون الهندي على توضيح التسميات الوظيفية لممارسي المهن الصحية وعقوبات من يستخدمها بغير استحقاق). صدر في فرنسا قانون الثلاثين من نوفمبر 1892 الذي أغلق مهنة الطب ومنح احتكارًا بممارستها للأطباء بشكل حصري، أما في أسبانيا فقد صدر قانون الخدمة العامة في 1855 وقد تمخض عنه تشكيل هيئات تفتيش ومحاكم طبية تلاحق أي ممارسين للعمل الصحي بدون ترخيص.[8]

صعود المستشفى كمركز للمؤسسة الطبية

خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت تتطور الممارسة الطبية منفصلة عن شكلها التقليدي في أوروبا في قرون ما بعد عصر النهضة، فأصبحت الخدمة الطبية متمحورة أكثر وأكثر حول المستشفى باعتباره مركز المؤسسة الطبية بعد أن كانت المستشفيات مخصصة فقط للمرضى الفقراء وكمأوى أخير للمحتضرين والمصابين بالأمراض العضال أو كمكان لعزل المصابين بالأوبئة مثل الطاعون والسفلس، أصبح المستشفى مؤسسة بحثية وتعليمية، والخيار الأول للسلطات لتوفير العلاج للمرضى، كان للثورة الصناعية أثر كبير على الاقتصاد والعسكرية في أوروبا، حيث احتاجت الدول إلى أعداد أكبر من السكان من أجل تغذية حاجتها إلى الأيدي العاملة وإلى الجنود. حيث أن الأيدي العاملة مطلوبة من أجل تغذية المصانع والجيوش مطلوبة من أجل استعمار الجنوب العالمي، وهو الأمر الحيوي من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية وخلق أسواق استهلاكية للمنتجات الصناعية في أوروبا. وقد ساهمت الحربان العالميتان أيضًا في تطوير مكانة المستشفى كمكان للعلاج والاستشفاء بسبب العدد الضخم من الضحايا الذي تسببت به هذه الحرب وضرورة إعادة تأهيل مصابي الحرب من الجنود للعودة إلى صفوف القتال مرة أخرى. خلال هذه الفترة بدأ المستشفى يتحول من الملاذ الأخير للمريض إلى الخيار الأول للعلاج.[9]

انتشار الولادات السريرية Hospital Deliveries

تزامنت التحولات على المؤسسة الطبية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين أيضًا مع تطورين مهمين، أولهما البدء بتنظيم مهنة القبالة بحيث تصبح خاضعة لاشتراطات محددة، ولا يمكن القيام بها أو ممارستها إلا بواسطة متدربات حاصلات على ترخيص ومسجلات لدى الدولة، كما أن حدود تدخل القابلات في الولادة قد تم تقليصها بحيث لا تتجاوز الولادات الطبيعية، وحُظر عليهن التعامل مع الولادات الخطيرة أو المتعسرة. صدر في إنجلترا تشريع مفصل يحدد الإطار القانوني الرسمي لمهنة القبالة في 1902، حيث أصبحت القابلات مسجلات ومرخصات لدى الدولة ويعملن بعد الحصول على تدريب رسمي، كما حُظر على شبكات القابلات التقليدية العمل في حال لم يقمن بتوفيق وتقنين أوضاعهن، وبحلول العام 1910 أصبح محظورًا بشكل كلي على القابلة أن تمارس عملها بدون ترخيص مسبق وإشراف طبي. تزامن ذلك مع إعادة هيكلة مهنة رعاية النساء خلال الولادة كعلم طبي، في إنجلترا على سبيل المثال تأسست جمعية أطباء الولادة والنسائية College of Obstetrics and Gynecology في 1929، ونتج عن تأسيسها ترسيم الشكل الجديد من القبالة وربط الولادة بالطب السريري أو المؤسسة الطبية، وقد تم ذلك بالتزامن مع العديد من الدول الغربية الأخرى. من أحد أهم المظاهر الرمزية لهذا الترسيم كان استبدال مصطلح Midwifery الانجليزي وما يقابله في اللغات الأوروبية الأخرى (بالفرنسية Sage‑femme وبالإسبانية Partería) بمصطلحات أخرى مشتقة من كلمة Obstetrix اللاتينية والتي تعني أيضًا قابلة، وذلك من أجل منح صبغة علمية للتسمية والممارسة المرتبطة بها.

نتج عما سبق تطور آخر، وهو انتقال الولادة بالتدريج من الحيز الاجتماعي إلى الحيز الطبي المؤسسي، وأصبحت الولادات تتم داخل المستشفى بنسبة أعلى في كل عام، انخفضت نسبة الولادات المنزلية في بريطانيا من 99% إلى 33% خلال الفترة من نهاية القرن 19 حتى 1955، كما أنها انخفضت إلى 2.1% بحلول 1998،[6] في الولايات المتحدة انخفضت نسبة الولادات خارج المستشفى كذلك من أكثر من 99% في مطلع القرن العشرين إلى أقل من 1% خلال عقدي السبعينيات والثمانينات.[10]

كيف تغيرت الولادة تحت الإشراف الطبي؟

شهدت الولادة تحت الإشراف الطبي تحولات في البنية والممارسة والمعنى الاجتماعي، وبعد أن كانت عملية طبيعية تجري في فضاء اجتماعي تحت إشراف القابلات التقليديات، تحولت إلى إجراء طبي مؤسسي يُدار داخل المستشفى وفق منطقٍ سريري وحسب تعليمات الطبيب والقرارات التي يتخذها غالبًا بنفسه وبدون إشراك الحامل فيها. لقد أصبحت الولادات أكثر تدخلاً من الناحية الطبية، فبدل أن تُترك العملية لتأخذ مجراها الطبيعي، أُدخلت أدوية متعددة لتسريع الطلق وأدوية أخرى للتخدير وتسكين الألم، استخدم الاسكتلندي جيمس سيمبسون الكلوروفورم أول مرة في 1847 كمسكن للألم خلال الولادة، ليس من أجل تخفيف الألم ولكن من أجل تسهيل التدخلات الجراحية خلال الولادة عند الضرورة،[2] ولاحقًا بدأ استخدام إجراء تخديري يُدعى نوم الشفق Midnight Sleep، يستخدم لخلق حالة تخدير جزئي - باستخدام المورفين والسكوبولامين - بحيث تظل المريضة قادرة على الحديث والتجاوب مع الطبيب ولكن بدون شعور بالألم أو قدرة على الحركة، وعادة ما يسبب هذا الإجراء فقدًا للذاكرة قصيرة المدى ويؤدي في بعض الأحيان إلى هذيان وردود فعل عنيفة تشكل خطرًا على حياة المريضة. انتشر استخدام خليط المورفين والسكوبولامين خلال بدايات القرن العشرين، واستبُدل لاحقًا بأدوية أخرى أكثر أمانًا من حيث الأعراض الجانبية والقدرة على التحكم في مخرجاتها. هناك أدوية أخرى كان لها تأثير إيجابي كبير على مخرجات عملية الولادة داخل المستشفى، منها الإرجوتامين الذي استخدم لإيقاف نزيف ما بعد الولادة، بالإضافة إلى المضادات الحيوية (مركبات السلفا والبنسلين) التي استخدمت لعلاج حمى النفاس. وبخلاف التدخلات الدوائية، فإن أكثر ما ميز الشكل الحديث للولادة هو التدخل الجراحي، خاصة استخدام الملاقط المعدنية من أجل تسريع الولادة بالإضافة إلى قطع / شق العجان من أجل توسيع فتحة المهبل لتسهيل خروج الجنين، وهي القطوع التي تُرمم باستخدام الخيوط الجراحية ويُحرص عند ترميمها تضييق فتحة المهبل قدر الإمكان. أما التدخل الجراحي الأكثر استخدامًا وانتشارًا على مستوى العالم هو العمليات القيصرية، والتي ظهرت بداية كإجراء أخير لتفادي مضاعفات الولادة المهبلية في حالات الطوارئ، ولكن يُلجأ إليها الآن بشكل كبير ومعدلات عالية حتى لو لم يكن لها أي داعٍ.

نشأت على هامش طب الولادة الحديث مهنة جديدة مثلت شكلًا حديثًا للقبالة، القابلات الحديثات هن ممرضات درسن التمريض بشكل أكاديمي ومتخصصات في العمل داخل أكشاك الولادة في المستشفيات، وقد ظهرت مهنتهن نتيجة لتهميش القابلات التقليديات اللواتي كُن العماد الأساس لعملية الولادة لقرون طويلة، واللواتي أقصين بدلا من السعي لدمج خبراتهن ضمن النظام الطبي. نتج عن ذلك انحسار مهنة القبالة التقليدية، لأن الحاجة إليها تقلصت، وفي بعض الأحيان انتفت بشكل نهائي.

نقلت الدول الاستعمارية تجربتها المحلية بالترسيم المؤسسي لمهنة القبالة وطب الولادة إلى مستعمراتها في الجنوب العالمي،[11][12][13][14] قُدِّمت هذه التجارب باعتبارها "تحديثات" لنظم القبالة التقليدية في المجتمعات الجنوبية ولكنها في واقع الأمر كانت تدخلات استعمارية نتج عنها تقويض التقاليد الشعبية المتوراثة داخل هذه المجتمعات منذ قرون طويلة وتمكين الكيانات الاستعمارية من فرض سياسات الضبط والتحكم السكاني.[15] ولا يزال ميراثها ماثلًا في المؤسسة الطبية الحديثة في الجنوب العالمي لحد الآن، حيث لا تزال تسجل أعلى معدلات للعنف ضد النساء داخل المستشفيات.

العنف خلال الولادة في المؤسسة الطبية

لا يقف عنف المؤسسة الطبية ضد النساء عند الحوامل وخلال مرحلة الولادة فقط، والتاريخ الحديث للمؤسسة الطبية بمعاييرها الأوروبية يتخلله العنف في كل مرحلة من مراحله، وكانت على الدوام جزءًا من أدوات ووسائل التحكم والسيطرة التي فرضت من خلالها الحكومات سياساتها على الشعوب المقهورة. فمن سياسات الضبط السكاني وفرض استخدام وسائل منع الحمل، إلى عمليات التعقيم الإجبارية، إلى التجارب على البشر من أجل اختبار الأدوية وفحص الأسلحة البيولوجية ودراسة الأمراض المعدية، إلى تنفيذ الإجراءات الطبية على المريضات والمرضى بدون استشارة أو موافقة مستنيرة، هذه الممارسات وغيرها الكثير صبغت تاريخ المؤسسة بآلام النساء ومعاناتهن عند كل مرحلة من تاريخها.

لقد لوُحظت الممارسات العنيفة ضد النساء الحوامل في أكشاك الولادة منذ خمسينيات القرن العشرين على الأقل، ونشر أول توثيق لحالة تعنيف لامرأة خلال الولادة في 1958.[16] لكن العالم قد استغرق وقتًا طويلًا قبل الاعتراف بوجود المشكلة وتشخيصها والعمل على حلها؛ قدمت منظمة الصحة العالمية WHO توصيات في 1985 باستخدام التقنيات الحديثة خلال الولادة بشكل مناسب ومراجعة البروتوكولات والتوجيهات الارشادية باستمرار من أجل تفادي التدخلات غير الضرورية خلال الولادة.[17] رغم ذلك، فإن هذه التدخلات قد استمرت معدلاتها بالارتفاع بدون توفير أدلة على ضرورتها في كثير من الأحيان، وبدون إثبات أي فارق ملموس في معدلات وفيات الأمهات أو الأجنة، باعتبار أن تبرير استخدامها من الأصل كان الإدعاء بأنها إجراءات تدخلية ضرورية لإنقاذ الحياة.

السياق القانوني للعنف خلال الولادة

في سنة 1996، نشرت منظمة الصحة العالمية "الدليل العملي لرعاية الولادة الطبيعية" Care for Normal Birth: A Practical Guide،[18] والذي ركز على ضرورة تقليل التدخلات الجراحية غير الضرورية والتركيز على الرعاية الطبيعية، كما قدم تصنيفًا للتدخلات الجراحية خلال الولادة حسب الأدلة العلمية المتوافرة على جدواها وقيمتها في تعزيز صحة الأم وضمان فرص نجاة الجنين. ركز الدليل أيضًا على ضرورة توفير بيئة داعمة طبيًا واجتماعيًا للنساء خلال الولادة، ويتضمن مجموعة من الممارسات التي ينبغي الحذر من استخدامها مثل الطلق الصناعي وزراعة القسطرات وتقييد الطعام والشراب أثناء المخاض. لقد وصف الدليل بشكل أو بآخر مجموعة من الممارسات العنيفة وحاول دعوة العاملين والعاملات في مستشفيات الولادة لتحاشيها بدون وجود أي داعٍ طبي، ولكن لم يقم الدليل بتشخيص مشكلة العنف التوليدي أو التعريف بها. ستظل هذه المشكلة موجودة في جميع إعلانات منظمة الصحة العالمية والمؤسسات الأممية التي تناقش العنف الولادي، فمؤسسات الأمم المتحدة تفضل استخدام توصيف: الإساءة وتقليل الاحترام خلال الولادة Abuse and Disrespect during Childbirth أو استخدام وصف: إساءة المعاملة Mistreatment[19] وهو أكثر عمومية من سابقه. تصف منظمة الصحة العالمية هذه الممارسات باعتبارها انتهاك لحقوق الانسان،[20] لكنها لا تصنفها - لحد الآن على الأقل - على أنها عنف ضد المرأة أو عنف قائم على أساس الجندر،[21] على الرغم من أن التسمية قد دخلت فعلًا في أدبيات الأمم المتحدة منذ 2019 على الأقل.[22]

استخدم مصطلح (العنف التوليدي Obstetric Violence) أول مرة في عام 1827 في مجلة ذا لانسيت الطبية الصادرة في بريطانيا،[23] أُهمل المصطلح ولم يلق أي اهتمام إلى أن بدأت النشاطية النسوية في أمريكا اللاتينية باستخدامه في العقد الأول من الألفية الجديدة ضمن جهود حركة أنسنة الولادة التي بدأت في البرازيل وانتشرت إلى دول أمريكية لاتينية أخرى، وكانت بعض دول القارة هي السبَّاقة إلى اعتماد المصطلح وتعريفه قانونيًا، حدث ذلك أول مرة عندما صدر في فنزويلا القانون الأساسي بخصوص حق المرأة في الحياة الخالية من العنف Organic Law on the Right of Women to a Life Free of Violence في العام 2007، حيث صنف القانون 19 شكلًا للعنف ضد النساء كان العنف التوليدي واحدًا منها، ويعرفه القانون بأنه:

"استيلاء العاملين في القطاع الصحي على أجساد النساء وعملياتهنّ الإنجابية، ويتجلّى ذلك في المعاملة اللاإنسانية و/أو التطبيب القسري وتحويل العمليات الطبيعية إلى حالات مرضية، مما يؤدي إلى فقدان النساء لاستقلاليتهنّ وقدرتهنّ على اتخاذ قرارات حرة بشأن أجسادهنّ وجنسيتهنّ، وهو ما ينعكس سلبًا على جودة حياتهنّ."[24]

صدرت لاحقًا قوانين مشابهة في كل من الأرجنتين (2009)، بوليفيا، بنما (2013)، المكسيك (2014) والأوروغواي (2017)، وجمعيها قامت باستخدام ذات التسمية "العنف التوليدي"، كانت هذه جزءًا من نتائج جهود النشاطية الشعبية النسوية في دول أمريكا اللاتينية التي تهدف إلى تعزيز وحماية الحقوق الإنجابية والجنسية.[25] تستخدم تسمية "العنف التوليدي" أيضًا في منشورات الاتحاد الأوروبي[26] واللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان، وهي معتمدة أيضًا لدى الحكومة الفرنسية وحكومة إقليم كتالونيا (إسبانيا)، ويمكن القول أنها لا تزال مثار جدل وخلاف. يرفض ممارسو العمل الصحي في مجال الولادة هذه التسمية، وبالنسبة لهم فإن التشكيك في بعض ممارساتهم خلال الولادة يعتبر عائقًا أمام قدرتهم على أداء عملهم، ولأنه يفترض مسبقًا وجود نية للأذى لدى الأطباء والممرضين العاملين في أجنحة الولادة،[27] ولكن عند فحص السلوكيات مثار الخلاف فإنها تُصنف بسهولة باعتبارها عنفًا في أي سياق مختلف، بصرف النظر عن النية ورائها، خاصة وأنها تصرفات منتشرة بشكل ممنهج عبر عدد ضخم من المؤسسات الصحية حول العالم، تمر بدون محاسبة، تسبب الأذية الجسدية والنفسية ضد المرأة الحامل وجنينها، ولا يوجد أي دليل علمي على إثبات فائدتها صحيًا، وتبلغ من الحدة مستوى يجعلها في بعض الأحيان عنفًا جسديًا خالصًا. لكن رفض المؤسسة الطبية في واقع الأمر ليس للتسمية فحسب، بل هو رفض لإثارة النقاش حول مسألة العنف التوليدي من الأساس. كافاري مايرا، وهي أكاديمية وباحثة هندية مهتمة بالعنف التوليدي، لديها خلفية مهنية مهمة بسبب عملها كقابلة وممرضة في قسم الولادة في أحد المستشفيات العامة الضخمة في شرق الهند، واجهت صعوبات في نشر بعض مقالاتها عن العنف التوليدي بعد أن وصلت إلى المراحل النهائية للمراجعة قبل النشر بسبب ضغوطات من منظمات تعمل في مجال الصحة العامة بسبب تخوفات من أن تتسبب المقالات "باضطرابات سياسية".[23] أيضًا، طبيب عربي ظهر عبر قناة فضائية للحديث عن العنف خلال الولادة رفض الاتفاق مع مذيعة القناة على وصف التصرفات والسلوكيات العنيفة التي تواجهها الحوامل خلال الولادة بأنها "وحشية".[28] توقفت وزارة الصحة البرازيلية خلال السنوات الماضية أيضًا عن استخدام مصطلح "العنف التوليدي" وبدأت باستخدام تسميات أخرى أقل صدامية وأكثر عمومية لا تستخدم لفظة "عنف".

تكمن أهمية مصطلح (العنف التوليدي)، أو تعريف الممارسات المذلة والمهينة التي تتعرض لها النساء الحوامل خلال الولادة باعتبارها عنفًا في أنها تتيح للنساء أداة لُغوية من أجل تشخيص الممارسات المسيئة التي يتعرضن لها، خاصة وأن كثيرًا من هذه الممارسات قد مُرر لعقود طويلة بدون أي رادع لأن النساء اخترن القبول والصمت حيالها ولأنهن افتقرن للمفاهيم والمصطلحات التي تعرِّف السلوكيات العنيفة خلال الولادة،[23] وفي بعض الأحيان كانت النساء ترى هذه السلوكيات ضرورة من أجل إنقاذ الحياة والحرص على أن يقوم الأطباء بعملهم بدون عوائق،[29] وفي أحيان أخرى، تعرضت النساء للعنف بدون أن تتمكنّ من تمييز السلوك العنيف من السلوك الطبي إلا عند إخبارهن لاحقًا عن التصرفات التي تُصنف كعنف توليدي.

انتشار العنف خلال الولادة

بحسب الأمم المتحدة فإن أقل من ثلث نساء العالم الحوامل تعرضن للإساءة وتقليل الاحترام خلال الولادة (حوالي 27%). بعض الدراسات تقترح تعرض ما لا يقل عن 54% من النساء حول العالم للإساءة خلال الولادة،[30] وتتراوح النسبة بحسب الإقليم، إذ ترتفع مثلًا إلى حوالي 71% في دول شرق المتوسط وتنخفض إلى 46% في الأمريكيتين، وهذه تعتبر أرقام مقلقة للغاية على الرغم من أن الحديث يشمل مناطق تعترف قانونًا بالعنف التوليدي. ورغم تفاوت الانتشار إلا أن المشكلة تظل قائمة داخل المؤسسة الطبية الرسمية في كل مكان في العالم تقريبًا.[31][32][33]

لا يزال العنف التوليدي منتشرًا في مناطق واسعة من أوروبا والأمريكيتين وشرق وغرب آسيا، يوجد عوامل كثيرة تساهم في استمرار حلقة العنف على الرغم من التشريعات المضادة، أهمها أن القوانين إما لا تفرض عقوبات كافية على الأطباء والممرضات اللواتي يمارسن العنف خلال الولادة أو تكون العقوبات غير كافية. على سبيل المثال، فإن المكسيك تعرِّف العنف التوليدي قانونيًا ولكن ولايتين مكسيكيتين فقط، هما تشاباس وفيراكروز، تفرضان عقوبة السجن بحق الأطباء الذين يمارسونه، مع الأخذ بالاعتبار بأن هاتين الولايتين أصلًا تتشكل أراضيهما الواسعة غالبًا من مناطق ريفية لا يجد سكانها فرصة للوصول السهل إلى المستشفيات، وتصل نسبة النساء اللواتي يلدن داخل ولاية تشاباس بمساعدة القابلات التقليديات إلى حوالي 75%، فيما تكتفي بقية الولايات بفرض غرامات مالية.[34]

العنف خلال الولادة في المنطقة العربية

لا يوجد إحصاءات شاملة تغطي حالة انتشار العنف التوليدي في المنطقة العربية، واحدة من االدراسات الكمية التي أجريت شملت منطقة دول شرق المتوسط (الشام، الخليج، إيران ووسط آسيا، مصر والسودان والقرن الأفريقي) أظهرت انتشارًا واسعًا للعنف التوليدي في جميع الدول التي خضعت للفحص على الرغم من صعوبة تحديد أرقام دقيقة.[35] دراسة أخرى كشفت عن نسبة مخيفة وصلت إلى 71% على الأقل من الحوامل تعرضت لسلوكيات عنيفة خلال الولادة.

خلال السنوات الأخيرة، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وصعود الخطاب النسوي في المنطقة العربية بدأ الاهتمام يتزايد أكثر بمشكلة العنف خلال الولادة على الرغم من أن الكثير من الجهود المبذولة لحد الآن لم تتجاوز حد التوثيق فحسب، ولكنها تكشف عن عمق وتجذر المشكلة وتطبيعها داخل المؤسسات الطبية على مستوى الإقليم، ويشمل ذلك بدون استثناء جميع الدول، سواء الدول ذات الدخل المرتفع أو الدخل المنخفض أو المتوسط.

دراسة أجريت في الجزائر شملت 400 أم أظهرت نتائجها تعرض 75% منهن للعنف خلال الولادة،[36] دراسة أخرى استهدفت 1229 أم سورية أعمارهن ما بين السادسة والعشرين والثلاثين، جمعت بياناتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بينت أن 47% من النساء قد أجبرن على اتخاذ وضعية الاستلقاء خلافًا لرغبتهن، 22% أبلغن عن انتهاك للخصوصية خلال الولادة، وكذلك 21% من النساء أبلغن عن شعورهن بعدم الراحة والخوف من التعنيف اللفظي أو سلوكيات سلبية أخرى من الطاقم الطبي.[37]

استبيان إلكتروني آخر أجري في 18 محافظة من أصل 22 محافظة في اليمن أظهر تعرض 79% من النساء للعنف خلال الولادة، بينما 71% من النساء اللواتي شاركن في الاستبيان كن يعتقدن أن ما حدث معهن كان أمرًا طبيعيًا، أي أنه يشكل جزءًا بديهيًا من تجربة الولادة.[38] أما في مصر فكشف استطلاع للرأي عن نتائج صادمة بخصوص تجارب الولادة في المستشفيات الحكومية، شمل الاستطلاع 1000 إمرأة، 69% منهن أبلغن أن الأطباء والطبيبات لم يستأذنوهن قبل إجراء الفحص المهبلي (فحص درجة التوسع المهبلي خلال المخاض)، وبعضهن قلن أن الفحص أجري مرات متعددة من قبل أشخاص مختلفين (80%) وأنهن تعرضن للتعنيف عند محاولة الاعتراض، 64% من النساء أبلغن أن الفحوص كانت تتم بدون وجود سواتر وفي انتهاك تام للخصوصية داخل مستشفيات مزدحمة بالمرضى والعاملين، 80% من النساء أبلغن بعدم قدرتهن على الاعتراض على الفحص المهبلي المتكرر أو من أشخاص متعددين في ذات الوقت، وأبلغت 50% من النساء أن المستشفى والعاملين فيه لم يقدموا لهم أي مساعدة بخصوص الألم خلال المخاض، 62% من النساء أبلغن أن الطبيب/ة استخدمت تقنية توسيع المهبل / شق العجان بدون موافقة أو استشارة، فيما 50% منهن أبلغن أن الطبيبة/ة قام بتضييق المهبل، أحيانا بشكل مبالغ فيه، أيضًا بدون موافقة أو استشارة.[39]

تتواتر الشهادات والتقارير الصحفية عبر منصات إلكترونية مختلفة عن تجارب الولادة العنيفة والتي تشمل ممارسات مثل التعنيف اللفظي والتعنيف الجسدي واتخاذ إجراءات غير طبية من أجل تسريع الولادة تترك لاحقًا آثارًا مرضية طويلة الأمد وقد تسبب مضاعفات خطيرة خلال الولادة تعرض حياة الأم وجنينها للخطر.[40][41][42][43]

ممارسات العنف خلال الولادة

تقول طبيبة عربية في شهادة إلكترونية مجهولة المصدر قُدمت عبر موقع "اتكلم/ي Speak Up":

"أنا دكتورة ووقتها كنت في سنة خامسة، جزء من تدريبنا ننزل ولادات طبيعي وقيصري، في مرة نزلت أنا وأصحابي، الست أول ولادة ليها، خايفة وتعبانة، الدكتور شتمها وضربها على رجلها وهي بتولد، وبشكل متكرر، اتخضينا (شعرنا بالخوف) أنا وزمايلي، سيبنا الدكتور وقعدنا جنب الست اللي بتولد نهديها ونمسك ايديها، وهو قاعد بيشرح لنفسه، وقتها كان الاعتراض على العنف في الولادة، الاعتراض ده مستهجن، كان هيتبصلك بصة (سيُنظر إليك نظرة) من فوق لتحت وتتشتم ويتقالك انت إيه مؤهلاتك أو انت في سنة كام يا شاطر، دلوقتي نفس النظام مفيش حاجة اتغيرت …"[40]

يقول طبيب برازيلي في شهادة تنقلها مجلة ذا لانسيت The Lancet الطبية البريطانية:

"عندما كنا في كلية الطب .. حضرنا عملية ولادة، طبيبة مقيمة هي من كانت تجريها. كانت تجلس قبالة الأم صارخة: "اغلقي فمك! توقفي عن الصراخ وادفعي الجنين! لقد كنتِ تعلمين ما أنتِ مقدمة عليه عندما قررت ممارسة الجنس، والآن عندما رأيت نتائج أفعالكِ ستجهشين بالبكاء؟ حاولي الدفع واصرخي بصمت". أخذنا نحن الطلاب نحدق في المشهد ونحن نقول لأنفسنا: "واو، إنها فعلا قادرة على التحكم بالوضع بشكل كلي". إنها مثلي الأعلى."[44]

يمكن العثور على عشرات الشهادات المشابهة المنشورة عبر الإنترنت، حيث نساء أو ذويهن يتحدثون عن تجارب قاسية مررن بها خلال الولادة في المستشفيات العامة في مختلف أنحاء العالم، ما يميز الشهادتين السابقتين أنها لأطباء شهدوا حالات العنف التوليدي لأول مرة داخل مستشفيات حكومية و/أو جامعية خلال سنوات التدريب والدراسة، وأنهم شاهدوا هذا العنف يجري داخل المستشفى بلا قدرة على إيقافه (أو أحيانا بلا رغبة في إيقافه)، حيث أن العنف واضح وجلي ولكنه مطبَّع ومبرر كذلك، حتى لو كان مجرد إهانات واعتداءات لفظية وجسدية.

في 2014 رفضت أم أمريكية من ولاية فلوريدا أن تخضع لولادة قيصرية لطفلها الرابع بعد ثلاثة ولادات قيصرية سابقة، الأطباء نصحوا الأم بضرورة الاستجابة لنصائحهم بضرورة أن تلد قيصريًا حيث أن وضعها الصحي بحسب ادعائهم لا يحتمل المخاطرة بالولادة الطبيعية، عند رفضها لنصائحهم تلقت الأم رسالة من مكتب أطباء الولادة ممهورة بتوقيع المدير المالي للمستشفى، ورد فيها:

  1. سنتواصل مع إدارة خدمات الأطفال والأسرة بشأن رفضك الخضوع لعملية قيصرية وسواها من الإجراءات العلاجية الموصى بها من قبل أطبائك، وبشأن المخاطر العالية التي يسببها رفضك على حياتك وصحتك، وكذلك على حياة وصحة جنينك.
  2. سنبدأ إجراءً للتدخل القضائي العاجل فيما يتعلق بإجراءات العلاج الطبي. هذا الإجراء هو عملية تدخل قضائي عاجل تتعلق بإجراءات العلاج الطبي المرتبطة بولادة طفلك.
  3. إذا حضرتِ إلى مستشفانا في حالة مخاض، ورأى طبيبك أن العملية القيصرية ضرورية من الناحية السريرية، فستُجرى العملية القيصرية بموافقتك أو بدونها."

بينما نعترف بأن لديك الحق في الموافقة على العملية القيصرية، فقد اخترتِ رفض هذا الإجراء رغم نصيحة أطبائك المعالجين. هذا القرار يعرّضك أنتِ وجنينك لخطر الوفاة أو الإصابة الخطيرة. سنتصرف بما يخدم المصلحة الفضلى لكِ ولعائلتك ولجنينك.[33]

تمنح هذه الحادثة رؤية أكثر وضوحًا للعمق الذي يمكن يصل إليه مستوى العنف التوليدي، وتكشف عن الطبيعة البنيوية للعنف داخل المؤسسة الطبية، بحيث يتمكن المستشفى من فرض وصايته على المرأة وتهديدها باتخاذ الإجراءات القانونية لحماية هذه الوصاية حتى داخل دولة أو ولاية يُفترض أنها تعطي حقًا قانونيًا غير قابل للجدال للنساء بالتحكم في أجسادهن واتخاذ قرارات واعية بخصوص تعامل المؤسسة الطبية معهن. حوادث أخرى أيضًا حدثت في فلوريدا تظهر أن رفض النساء للولادات القيصرية يستدعي في بعض الأحيان ردود فعل عنيفة ودائمًا ما يتضمن تهديدات مغطاة قانونيًا باستخدام إجراءات حادة تتراوح ما بين التهديد بالتوليد القيصري قسرًا وما بين التهديد بانتزاع الوصاية القانونية عن الطفل الوليد.

إشكالية التعرف على العنف خلال الولادة

لا يوجد لحد الآن تعريف موحد للعنف خلال الولادة أو العنف التوليدي عالميًا. والتعريف القانوني الذي اعتمدته بعض الدول في أمريكا اللاتينية كان ولا يزال خطوة أولى في سبيل بناء نموذج متكامل من أجل تعريف العنف خلال الولادة بحيث يشمل جميع الممارسات العنيفة ضد النساء ولكن يعطي الاعتبار في ذات الوقت للممارسات الخفية التي تُفرض على النساء تحت ستار المعرفة الطبية، والتي نتجت عن تشخيص المؤسسة الطبية للحمل والولادة كأمراض وحالات طبية طارئة تستلزم التدخل لا عمليات فسيولوجية طبيعية. أيضًا يجب أن يأخذ تعريف العنف التوليدي بعين الاعتبار الطبيعة العنيفة للمؤسسة الطبية وأنها تأسست لا على احتكار الشفاء والمعرفة الطبية ولكن على احتكار السلطة على الجسد في سياق الطب والصحة، ويجب أن يتضمن تعريف العنف التوليدي ايضًا الممارسات النابعة من العنف الهيكلي المبنى على بُنى اجتماعية وتحيزات طبقية أو عرقية يصعب تمييزها في بعض الأحيان داخل أسوار المؤسسة الطبية ولا يمكن إقصائها بسهولة بواسطة "تحسينات" في جودة الرعاية. إن المستشفى الواحدة يمكن أن تقدم خدمات طبية متفاوتة في الجودة إلى فئات اجتماعية مختلفة وينطبق ذلك على كشك وجناح الولادة أيضًا، ينطبق ذلك على المستشفيات الحكومية والجامعية أيضًا مثلما ينطبق على المستشفيات الخاصة التي ينشأها أصحابها كمشاريع استثمارية وعند النظر إلى النموذج اللاتيني على سبيل المثال، نجد أن القوانين التي صدرت في بعض الدول اللاتينية لم تنجح في تقليص معدلات العنف ضد النساء الحوامل خلال الولادة، وهي تظل قاصرة لأنها لا تستجيب للعنف المتجذر داخل المؤسسة الطبية في هذه الدول تجاه الأقليات العرقية، مثل الشعوب الأصلانية والمواطنين من أصل أفريقي، بالإضافة إلى النساء الفقيرات أو اللواتي يعشن في الريف بعيدًا عن المراكز المدينية.[34] وبالتالي فإن التجارب الفردية لا تصلح وحدها لتفسير العنف وتعريفه، كما أنها لا تكفي أيضًا لتوضيح العوامل الثقافية المختلفة التي تساهم في تعزيزه.

يوجد صعوبة أيضًا في تحديد ماهية الممارسات التي يمكن إدراجها تحت تصنيف العنف التوليدي، خاصة وأن مفهوم العنف في حد ذاته فضفاض ويمكن أن يكون مبهمًا وغير قادر على حصر ثراء التجارب النسائية الغزيرة داخل أجنحة الولادة في المستشفيات والمؤسسات الصحية.

يوجد ثلاثة مقاربات مختلفة يمكن استخدامها لتعريف العنف خلال الولادة وتحديد السلوكيات التي تندرج تحت تصنيف العنف التوليدي:

مقاربة ضيقة تقتصر على العنف الإيجابي

المقصود بالعنف الإيجابي هو التصرفات الواعية التي يُقصد بها تعمد إلحاق الضرر بالحامل خلال الولادة، مثل العنف اللفظي المباشر أو العنف الجسدي. أي أن تصنيف السلوكيات باعتبارها عنيفة يستلزم أولا: وجود نية مسبقة بالإيذاء؛ وثانيًا: وجود تفاعل جسدي ناجم عن العنف يسهل التعرف عليه. تتفق هذه المقاربة مع التعريف القانوني الفنزويلي للعنف التوليدي، وتوفر درجة من الوضوح يسهل عمل القضاء والجهات القانونية. لكنه يستبعد جميع السلوكيات التي تُنفذ بدون وجود نية للإيذاء (أو بدون وجود قدرة على إثبات هذه النية)، خاصة لو كانت قد نُفذت تحت دعوى الضرورة الطبية.

مقاربة تساوي بين العنف التوليدي وبين "الإساءة وعدم الاحترام Abuse and Disrespect" وبين "سوء المعادلة Mistreatment"

هذه المقاربة هي المفضلة غالبًا عند المؤسسات الأممية ومنظمة الصحة العالمية على وجه الخصوص. إن الإساءة وعدم الاحترام أو سوء المعاملة مصطلحات أكثر شمولية من المقاربة السابقة لكنها في ذات الوقت أكثر عمومية ويمكن أن تتسم بالغموض، وبالتالي يمكن تجاوزها أو تجاهلها في السياق المؤسسي والقانوني، حيث أنها مصطلحات يمكن أن تصف أنماطًا معينة من العنف بدون تحديد المعايير الخاصة بتصنيف السلوك المحدد تحت ذات النمط، وبالتالي يظل تفسيرها منوطًا بيد من يملك السلطة للقيام بذلك.

لقد استخدمت المنظمات الأممية في منشوراتها التي تتحدث عن العنف التوليدي مصطلحات الإساءة وتقليل الاحترام Abuse and Disrespect، ثم رفض باحثوها المصطلح وتبنوا مصطلح سوء المعاملة Mistreatment الذي يعد أكثر عمومية من الأول، ولكنه أيضًا أكثر غموضًا، ولم تحدد منظمة الصحة العالمية ما الذي تقصده "بسوء المعاملة" في سياق الولادة بالضبط، وهو ما يعيد - عمليًا - تعريف العنف التوليدي إلى المربع الأول الخاص بالسلوكيات الإيجابية أو المقصودة.

مقاربة شاملة للعنف التوليدي

وتشمل طائفة واسعة من السلوكيات العنيفة، المباشرة والواضحة منها أو التي لا يمكن تشخيصها بسهولة ضمن السياق القانوني، كما أنها تشمل محاولة لتفكيك أسباب هذا العنف وكشف صوره البنيوية والمؤسسية في ضوء الأبعاد الثقافية والجندرية والاجتماعية والتاريخية للعنف ضد النساء داخل المؤسسة الطبية المبنية على النمط الغربي الحديث، فالعنف ضد النساء الحوامل خلال الولادة ليس تصرفًا فرديًا ولا يمكن تفسيره بناء على العلاقات الشخصية Interpersonal relationship، بل هو أمر راسخ في صلب بنية المؤسسة الطبية، وفي ضوء ذلك، وعند الحديث عن مقاومة العنف التوليدي وسبل الحد منه، تركز هذه المقاربة على التغيير الثقافي بنفس درجة الاهتمام بالمنحى القانوني، ولكن بالنسبة للبعض فيجب الحذر من أن شمولية هذه المقاربة قد تؤدي إلى اتساع مفهوم "العنف التوليدي" بحيث يشمل ممارسات وسلوكيات عنيفة في سياق المؤسسة الطبية قد لا ترتبط مباشرة بعملية الولادة، من هذه السلوكيات حرمان الأمهات العاملات من إجازة الوضع والأمومة أو التعامل العنيف للممرضات والأطباء مع الأطفال في الحضَّانات ووحدات الرعاية المكثفة للأطفال الخدج وحديثي الولادة، أو بعض السلوكيات السلبية في عيادات الإجهاض. إن جميع السلوكيات السابقة هي سلوكيات عنيفة بدون شك وبعضها هو عنف ضد النساء أو عنف على أساس الجندر، لكن ضمها تحت مظلة العنف التوليدي يهمل الجذور التاريخية لهذا المصطلح والأسباب التي دفعت أولًا لصياغته.[25]

الممارسات العنيفة خلال الولادة

الممارسات العنيفة خلال الولادة حسب القوانين اللاتينية

لقد حدد القانون الفنزويلي بعض الأمثلة على الممارسات التي تصنف كعنف ضد النساء الحوامل خلال الولادة، وتشمل هذه الممارسات: الفشل في تقديم رعاية فعالة خلال حالات الطوارئ الولادية في موعدها الصحيح، التدخل لتسريع عملية الولادة بدون الحصول على رضى طوعي ومستنير من الحامل، تنفيذ جراحة قيصرية لا داعي لها طبيًا بدون موافقة طوعية من الحامل،[24]، منع التواصل بين الأم والطفل بعد الولادة مباشرة، إجبار النساء على وضعيات محددة خلال الولادة حتى لو لم تكن مريحة.[25]

القانون المكسيكي أيضًا يعرف الممارسات التالية باعتبارها عنفًا توليديًا بخلاف العنف اللفظي والجسدي: التجاهل وعدم تقديم الخدمة الطبية، الولادات القيصرية بدون دواعي طبية، التعقيم القسري أو استخدام وسائل منع حمل أخرى بدون موافقة من الأم، وأي سلوك قد يتداخل ويتعارض مع الترابط المبكر بين الأم وطفلها بعد الولادة بما يشمل الرضاعة الطبيعية. نلحظ هنا الإشارة إلى التعقيم، والمقصود هو عمليات التعقيم القسري التي تجري خلال الولادات القيصرية بدون استشارة أو موافقة الأم، وهي مشكلة عميقة واجهت النساء في كثير من دول أمريكا اللاتينية ومنها المكسيك التي عانت فيها الكثير من النساء الأصلانيات من إجحاف التعقيم القسري.

الأمثلة التي تقدمها القوانين الأمريكية اللاتينية مهمة ولكنها ليست شاملة، كما أنها لا تندرج تحت إطار شامل لتعريف الممارسات العنيفة خلال الولادة. يوجد ثغرات واضحة في تعريف هذه السلوكيات خاصة وأن موضوع العنف خلال الولادة يهم بشكل أو بآخر مجموعات ذات مصالح متناقضة؛ النساء اللواتي يعبرن عن تجاربهن الخاصة والجمعية بخصوص الولادة مع الأخذ بالاعتبار الخصوصيات الثقافية، والمؤسسة الطبية التي تملك في هذه الحالة السلطة الأقوى لتعريف العنف استنادًا إلى تحيزاتها الخاصة، وبالأخص التي تتخفى تحت ستار المعرفة الطبية، لذا فالقوانين قد تحدد من خلال تعريفاتها أنماط عامة بدون تحديد طريقة واضحة لكشفها والتعرف عليها.

الإساءة وتقليل الاحترام خلال الولادة - تصنيف منهجي

يقترح باحثو منظمة الصحة العالمية تصنيفًا منهجيًا Typology للتصرفات والسلوكيات التي تصنف تحت مظلة الإساءة وتقليل الاحترام للنساء الحوامل خلال الولادة،[21] يفترض بهذا التصنيف أن يكون شاملًا للعنف بمختلف درجاته، بحيث يستخدم لفظ الإساءة abuse لوصف الدرجة الأعلى من العنف، ولفظ تقليل الاحترام disrespect لوصف الدرجة الأدنى. يتضمن هذا التصنيف الاتجاهات والأبعاد التالية:

  • الاعتداء الجسدي Physical Abuse:

أكثر أشكال العنف التوليدي وضوحًا وانتشارًا كذلك، ويترافق بشكل كبير مع الولادة الطبيعية، تتعرض النساء الحوامل في مختلف أنحاء العالم للضرب على طاولة الولادة، بعضهن يُقيد إلى الطاولة من أجل منع الحركة، يبرر بعض الأطباء بصراحة أنهم يقومون بضرب الحامل إذا وصلت إلى المرحلة الثانية من الولادة لكي يجبروها على "فتح قدميها"، وذلك ليكون للطبيب مجال رؤية واضح للمهبل، ولذا تُضرب الحامل على قدميها أو تُقرص من فخذيها بقوة وفي بعض الأحيان تُضرب على بطنها أو كفيها أو تُلطم بقسوة. شهادات أخرى تفيد بأن الحوامل يُضربن فقط من أجل صراخهن من الألم خلال الولادة أو لأنهن نزفن ولوثت دمائهن طاولة الولادة أو ملابس الطبيب أو أحد أفراد طاقمه، وبعض النساء يُعتدى عليهن باستخدام الأدوات الطبية مثل الملاقط، في بعض الأحيان فإن القرص بالملقط الطبي لفترة طويلة قد يؤدي إلى جلطة وريدية.

  • الخدمة الطبية بدون موافقة مستنيرة Non-Consenting Care:

ينزع الأطباء وممارسوا العمل الصحي الوكالة عن الحامل ويتعاملون معها بوصائية وباعتبارها غير قادرة على اتخاذ قرار مناسب بخصوص صحتها وتنفيذ إجراءات طبية (دوائية وجراحية) بدون استشارتها أو أخذ موافقتها مسبقًا، وفي بعض الأحيان يُستشار أحد ذويها (الزوج أو الأب) دون إعلامها بالأمر. يؤدي ذلك إلى تنفيذ إجراءات طبية غير ضرورية قد تؤدي إلى وقوع أضرار صحية بالحامل بدون علمها أو بعد إجبارها عليها، منها على سبيل المثال:

  1. شق العجان episiotomy: قطع جانبي في فتحة المهبل بهدف توسيعها من أجل تسهيل الولادة، كان يُنصح به سابقا كإجراء روتيني لاستباق احتمالية تمزق العجان بسبب الولادة، باعتبار أن الشق سيكون أقل وطأة وسيتم تحت سيطرة الطبيب. حاليًا فإن الإجراء يستخدم فقط في حالة حدوث ضائقة جنينية (اضطراب في نبض قلب الجنين قبل أو خلال الولادة). يُخيط الشق عادة بعد الولادة بساعة باستخدام خيوط جراحية ويُشفى خلال شهر، ولكنه يترك غالبًا آثارًا طويلة الأمد مثل: الألم الحوضي المزمن (عند الجلوس، المشي، ممارسة الرياضة أو استخدام الحمام)، عسر الجماع والشعور بالألم خلال الإيلاج، يترك الشق ندبة بسبب تشكل نسيج ضام مكان النسيج الطبيعي.
  2. تضييق فتحة المهبل بعد الولادة: وهو إجراء معروف باسم غرزة الزوج Husband Stitch، إضافة غرزة جراحية إضافية خلال ترميم شق أو تمزق العجان بعد الولادة بهدف تضييق فتحة المهبل من أجل استمتاع الشريك الذكر بالجماع بعد الولادة.
  3. استئصال الرحم والتعقيم: يتم خلال الولادة القيصرية بدون استشارة الأم وغالبًا ما يُجرى ضمن سياسات حكومية. يوجد أدلة على تعقيم الملايين من النساء في مختلف دول العالم قسريًا ضمن سياسات التحكم في السكان التي تفرضها الحكومات غالبًا على نساء الشعوب الأصلانية أو نساء الطبقات الفقيرة أو الأقليات العرقية.
  4. الولادة القيصرية: لا يجب أن يلجأ الأطباء إلى الولادة القيصرية الطارئة إلا في حالات محددة يحدث فيها تهديد لحياة الأم والجنين وبعد استنفاذ جميع الخيارات العلاجية الأخرى ويجب أن يُشرح الإجراء للأم والداعي لتنفيذه، في بعض الحالات تجبر الحامل على إجراء القيصرية بدون داعي حتى لو أبدت رفضها الصريح، وفي بعض الأحيان تنتزع منها الموافقة الشفهية أو الموقعة على إجراء القيصرية بالتهديد وتحت الضغط. في كثير من الأحيان تلجأ الأم لخيار الولادة القيصرية المخطط لها مسبقًا بسبب معلومات مغلوطة من الطبيب الذي يسعى لتوليد الأم عبر الجراحة لأن أجرها المادي أعلى من أجر الولادة الطبيعية.
  5. تسريع الولادة: استخدام أدوية مثل أوكسيتوسين من أجل تسريع الولادة واستحثاث الانقباضات الرحمية بدون علم الأم.
  6. التخدير فوق الجافية epidural: تخدير بواسطة الحقن الموضعي في الظهر بالمخدر الموضعي من أجل حجب الإشارات العصبية عن الحبل الشوكي، يستخدم التخدير فوق الجافية كمسكن للألم لكنه قد يتداخل مع مدة الولادة (المرحلة الثانية) وهو ما قد يؤدي إلى إجراءات طارئة أخرى.

جميع الإجراءات السابقة قد تكون ضرورية في حالات ضيقة، وفي بعض الأحيان يمكن أن تتم بطلب من الأم نفسها (مثل التخدير فوق الجافية أو القيصرية أو التعقيم أو تسريع الولادة)، ولا يجب أن يُلجأ إليها إلا بعد موافقة صريحة ومستنيرة من الأم، أي بعد إعلامها بطبيعة الإجراء وضرورته وكذلك مضاعفاته المحتملة، مع ضمان أن تكون في وضع ذهني يؤهلها لاستيعاب ما يحدث.

  • الخدمة الطبية بدون مراعاة للخصوصية Non-Confidential Care

كثيرًا ما تفتقر أجنحة وغرف الولادة إلى الخصوصية حيث يمكن أن يتواجد خلال الولادة عدد كبير من موظفي المستشفى بدون أي داعي لوجودهم كما أن الولادة تتم بدون وجود حواجز مادية تفصل الحامل عن بقية المرضى أو الموظفين. يمكن أن تتعرض الحامل للفحوصات المتكررة من أطباء متعددين كما يمكن أيضًا أن تتحول إلى مادة تعليمية لطلاب المهن الطبية بدون استشارتها أو موافقتها حيث يحضر الأطباء والممرضون المتدربون الولادة بدون إعلامها مسبقًا بذلك.

أيضًا فإن بعض الأطباء قد يقومون بتسريب السجلات الطبية لبعض الحوامل رغم أنها سجلات سرية لا يجب مشاركة المعلومات الواردة فيها مع أي موظفين أو أفراد غير معنيين بمتابعة الحالة، وعلى سبيل المثال فإن بعض الأطباء يشاركون مع زملائهم بعض التفاصيل الخاصة بإصابات أو أمراض تعاني منها بعض الحوامل مع زملائهم أو أصدقائهم أو مع أفراد عائلة الحامل نفسها، كأن تكون مصابة بمرض منقول جنسيًا مثل الإيدز أو السيلان أو الزهري، وهو ما قدر يعرضها لمعاملة تمييزية داخل المستشفى أو يعرضها لأخطار اجتماعية.

  • الخدمة الطبية بدون حفظ للكرامة Undignified Care:

والمقصود بها هو التعنيف اللفظي Verbal Abuse، تتعرض النساء الحوامل للصراخ والشتائم والإهانات اللفظية علنًا من الأطباء وطاقم التمريض، وفي بعض الأحيان إلى التهديد بالضرب والاعتداء أو استخدام أدوية مخدرة أو إرسالهن إلى غرفة العمليات من أجل إجراء جراحة قيصرية.

  • التفرقة بناء على خواص وصفات معينة للمرأة Discrimination Based on Specific Patient Attributes

تتعرض النساء للتفرقة داخل المستشفيات بناء على العديد من المعايير. الحوامل صغيرات السن (المراهقات) والنساء غير المتزوجات يتعرضن لمعاملة تمييزية أكثر من النساء المتزوجات، كما أن النساء من طبقات اقتصادية واجتماعية محددة أيضًا يتمتعن بمعاملة تفضيلية مقارنة ببقية النساء اللواتي يلدن داخل ذات المستشفى (غرف أكثر راحة وخدمة طبية أعلى جودة ودرجة عالية من الخصوصية). تشمل المعاملة التمييزية أيضًا النساء الفقيرات والنساء ونساء الأقليات الإثنية والعرقية والدينية أو النساء الأجنبيات، وفي بعض الأحيان فإن الخدمة الطبية أصلا لا تكون متوفرة داخل بعض المناطق في الدولة (الأرياف والمحافظات البعيدة عن المركز أو العاصمة) وتضطر النساء للسفر مسافات طويلة من أجل الحصول على رعاية أو خدمة طبية.

  • الإهمال والحرمان والتقصير في تقديم الخدمة الطبية في موعدها الصحيح Neglect, Denial and Negligence

تتعرض النساء الحوامل للإهمال في غرف الولادة، في بعض الأحيان تترك النساء لوحدهن بدون رعاية أو مراقبة من الطاقم الطبي، ويمكن أن تلد السيدة لوحدها بدون مساعدة من أحد، بخلاف حقيقة أن النساء الحوامل ممنوعات أيضًا من إحضار مرافقين من عائلاتهن إلى غرف الولادة. كشفت دراسة في نهاية التسعينات أن عددًا كبيرا من النساء البرازيليات في المناطق الريفية قد تُركن لوحدهن داخل غرف الولادة في المستشفى بدون أي رعاية، وفي بعض المستشفيات في كينيا كانت النساء الحوامل يساعدن بعضهن البعض على الولادة بدون أي تدخل من الأطباء أو الممرضات.

في بعض الحالات الاخرى فإن النساء يحرمن من الرعاية الصحية في وقتها المناسب، ويمكن أن تتعرض الحوامل أو أجنتهن لمضاعفات بسبب حدوث ضائقة جنينية أو ولادة مقعدية أو ارتجاع أو نزيف خلال الولادة، ويمكن أن تحتاج الحامل لتدخل طبي أو جراحي عاجل ولكن يفشل الأطباء والطاقم الطبي في تقديمه في الوقت المناسب بدون أي ذريعة ما يعرض النساء وأجنتهن للخطر.

إن الإهمال في تقديم الرعاية الصحية للحامل في الوقت المناسب ينشأ بالأساس عن غياب آليات المراقبة والمساءلة، على أن العكس أحيانًا قد يكون صحيحًا، فوجود آليات رقابة صارمة على الإجراءات الطبية قد يعرض الحوامل للخطر، خاصة وأن هذه الآليات قد تُفرض من خلال شركات التأمين الصحي التي تتعمق سيطرتها على سير الخدمة الطبية لدرجة أنها تتداخل مع قرارات الأطباء، حيث يفضلون حرمان الحامل من تدخلات طبية ضرورية من أجل تحاشي حدوث نزاع مع شركات التأمين التي ستجادل في أن هذه التدخلات غير ضرورية وبالتالي سترفض تغطيتها ماليًا.[45]

  • الاحتجاز داخل المؤسسة الصحية

تتعرض النساء الحوامل في العديد من الدول للاحتجاز في حال فشلت في دفع مستحقات المستشفى، وفي بعض الأحيان يستمر الاحتجاز لفترة طويلة (إحدى النساء في بروندي (شرق أفريقيا) أبلغت أنها احتجزت داخل المستشفى لمدة عام كامل حتى تمكنت من دفع فاتورة المستشفى بحسب تقرير لهيومان رايتس ووتش في 2006). في الولايات المتحدة توفت بعض النساء الحوامل خلال احتجازهن في معسكرات اللاجئين بسبب عدم توفر خدمات طبية وظروف ملائمة للولادة.[46]

ممارسات أخرى

التصنيفات السابقة لها أهمية كبيرة في تعريف السلوكيات العنيفة خلال الولادة ولكنها تظل منقوصة ولا تغطي جميع جوانب العنف التي يمكن أن تتعرض له الحامل داخل غرفة الولادة.

  • العنف الجنسي Sexual Abuse:

بحسب تقرير مشترك لكلية هارفارد للصحة العامة والمنظمة الأمريكية للتنمية الدولية USAID[46] فإن العنف الجنسي هو واحد من أقل أشكال العنف التوليدي انتشارًا داخل المستشفيات. لا يعطي التقرير اهتمامًا كبيرًا بالعنف الجنسي ويذكره عرضًا خلال الحديث عن العنف الجسدي Physical Abuse مع التركيز على أن حوادث العنف الجنسي تقع أكثر خلال مرحلة الحمل وخلال تقديم رعاية ما قبل الولادة للنساء الحوامل. قد يبدو الخيط الفاصل بين العنف الجسدي والعنف الجنسي خلال الولادة غير واضح بسبب خصوصية الولادة وتعامل الأطباء والطاقم الطبي بشكل مباشر مع المنطقة التناسلية للمرأة الحامل، ولكن هذا بالذات ما يجب أن يدفع نحو بناء إطار واضح لممارسات العنف الجنسي خلال الولادة، إذ لا يجوز التعامل مع هذه القضية بنفس طريقة التعامل مع العنف الجنسي في أطر وبيئات أخرى، وربما يكون ذلك هو السبب في ندرة المعلومات الموثقة عن حالات التحرش والعنف الجنسي خلال الولادة.[47]

بالإمكان التعرف على التحرش والاعتداءات الجنسية في سلوك الأطباء المعنفين حتى لو لم تتمكن النساء الحوامل أنفسهن من تمييز الفارق بين التحرش الجنسي والفحص الطبي. تخضع النساء لفحوصات مهبلية متكررة بدون داعي خلال المخاض كما أنها يُجبرن على القيام بالفحوصات بشكل متكرر على يد أشخاص متعددين حتى لو أبدين رفضهن لها، ويجرى الفحص في غياب غطاء أو ساتر وبدون استئذان مسبق، ناهيك عن إجبارهن على التعري في أغلب الحالات بدون داعي قبل إجراء الفحوص.[39]

يورد التقرير المذكور حادثة لامرأة حامل من كينيا أبلغت عن أن الطبيب المسؤول عن ولادتها قد أجبرها على تنفيذ فحوصات مهبلية وباعد ما بين قدميها بالقوة وأدخل أصابعه داخل مهبلها عدة مرات بينما كان يلمس نفسه. دراسات أخرى أيضًا ذكرت العنف الجنسي خلال الولادة وتحدثت بوضوح عن لمس المهبل بشكل متكرر من أجل الفحص المهبلي خلال المخاض.

يجب الأخذ بالاعتبار أن النساء أقل ميلًا للإبلاغ عن العنف الجنسي بالذات مقارنة بأنواع أخرى من العنف بسبب الخوف من الفضيحة أو تعامل العائلة مع المرأة نفسها أو بسبب تجارب سابقة لها مع التحرش الجنسي إجمالًا، كما أن ما يُبلَّغ عنه من حواداث يمر مرور الكرام بدون تحقيق أو مسائلة بسبب دفاع الطاقم الطبي المرافق للطبيب عنه وعن سلوكياته باعتبارها جزءًا من الإجراءات الضرورية خلال الولادة. لهذه الأسباب لا يوجد قدرة على تحديد مستوى انتشار العنف الجنسي خلال الولادة خصوصًا في المنطقة العربية لكن الشهادات المتوفرة عبر وسائل الإعلام الرقمية تؤكد العكس؛ إحدى الطبيبات تؤكد أن بعض المستشفيات تؤكد للنساء الحوامل أن من سيولدهن في غرف الولادة ممرضات قابلات أو مريضات ليتفاجئن لاحقًا بوجود الأطباء الذكور، والذين يمرون بين الحوامل لانتقاء من سيقمن بتوليدها.[48]

  • تحديد وضعية الولادة:

على مدار قرون طويلة كانت النساء تستخدم وضعيات مختلفة من أجل الولادة، وفي كثير من الثقافات لم تعطِ القابلات أي تعليمات للنساء الحوامل من أجل اختيار وضعية محددة خلال الولادة، أو كن يخترن الوضعية التي تشعر خلالها المرأة بالراحة أكثر، وهو أمر نسبي يختلف من امرأة إلى أخرى. كثيرًا ما كانت المرأة تُمنح حرية الحركة خلال المخاض وبعضهن ولدن أجنتهن وهم جالسات القرفصاء، أو على مقاعد مخصصة للولادة، أو مستلقيات أو جالسات على الأرض.[45] كان الأمر منوطًا براحة المرأة وتمكينها من تجاوز وقت الولادة العصيب بأقل درجة ألم وبأقصى درجة من الطمأنة.

في القرن السابع عشر بدأ استخدام وضعية الولادة الحديثة المعروفة باسم وضعية الانسداح Lithotomy position حيث تستلقي المرأة على سطح أفقي مع رفع ساقيها وتثبيتهم على رافعتين. استخدمت هذه الوضعية أول مرة في جراحات المثانة سنة 200 قبل الميلاد في اليونان، واستخدمت في فرنسا لأول مرة في القرن السابع عشر كوضعية للولادة. يعتقد بعض المؤرخين أن انتشارها كوضعية ولادة يعود إلى تأثير الملك لويس الرابع عشر الذي كان يستمتع بمشاهدة النساء خلال الولادة كما أنه ساهم في نشر مهنة القبالة بين الذكور في فرنسا. بدأ استخدام وضعية الانسداح بدرجة أكبر في أوروبا بعد 1847 عندما استخدم التخدير بالكلوروفورم خلال الولادة، حيث أن هذه الوضعية (أو وضعية الاستلقاء الأفقي بالكامل) أفضل خيار متاح في حال كانت الحامل تحت التخدير والطبيب سيجري الولادة باستخدام الملاقط المعدنية، وقد تنوعت الوضعيات التي استخدمها الأطباء في المستشفيات الأوروبية، ولكن أي من هذه الوضعيات لم يأخذ بالحسبان راحة الحامل خلال الولادة. في 1828 كتب طبيب أمريكي: "ينبغي وضع المرأة بحيث تسبّب أقل قدر ممكن من العرقلة لعمليات المولِّد accoucheur، وهذا متفق عليه من الجميع، ولكن توجد آراء متباينة حول ما هي هذه الوضعية."[49]

في 2014 قررت سيدة أمريكية أن تلد طفلها الرابع بشكل طبيعي بعد ثلاثة ولادات قيصرية، وقد خططت للولادة في مركز صحي وعدها بأن يتبع أي خطة ولادة تقررها بنفسها حتى لو قررت أن تتحرك بحرية خلال المخاض داخل غرفة الولادة، وبعد بدء المخاض أجبرها الطاقم الطبي على الاستلقاء على سرير الولادة وقاموا بتقييدها وأصيبت نتيجة لذلك بجروح ورضوض.[50]

  • الحرمان من المرافق:

تُحرم النساء غالبًا من وجود مرافق معها داخل غرفة الولادة بدعوى عدم تكدير سير عمل الطبيب وطاقمه، تفيد الدراسات أن وجود المرافق خلال المخاض يقلل من التدخلات الطبية غير الضرورية ويقلص مدة المخاض ويحد من استخدام الوسائل الطبية للتحكم في الألم.[51] يوفر المرافق للحامل حماية من التعنيف وبإمكانه مسائلة الطبيب أيضًا عن الإجراءات الطبية التي يستخدمها.

  • الفصل بين الأم والطفل بعد الولادة :

يُفصل الجنين بعد الولادة عن أمه مباشرة من أجل فحصه والتأكد من سلامة الوظائف الحيوية، كما يُحمل بعيدًا عن غرفة الولادة من أجل تنظيفه. يجب أن تتضمن اللحظات الأولى بعد الولادة تلامسًا مباشرًا بين الأم وطفلها حديث الولادة ومساعدتها على القيام بالرضاعة الطبيعية أول مرة كما يجب أن تحتفظ الأم بحق التواجد مع طفلها داخل نفس الغرفة.

الملامسة المباشرة تساعد على تنظيم درجة حرارة الطفل، نبضات قلبه، تنظيم مستويات الغلوكوز في الدم ومعدل التنفس وتقلل من الضغط والإجهاد النفسي المصاحب لانتقال الطفل من الرحم إلى العالم الخارجي. تدعم الملامسة المباشرة الرضاعة الطبيعية وتجعلها أسرع وأكثر سلاسة، وتساعد على تنظيم هرمونات الأم بحيث تنظم إفراز الحليب وتجنب عواقب نزيف ما بعد الولادة (البرولاكتين والأوكسيتوسين). الملامسة المباشرة خلال رعاية ما بعد الولادة أيضًا مهمة من أجل تنظيم معدلات نبضات القلب والتنفس وزيادة الوزن للأطفال الخدج.[52]

إن حرمان الأم والطفل من هذه الفوائد الصحية يعتبر في حد ذاته عنفًا توليديًا، ولكن حتى مع تجاوز هذه الفوائد الصحية والتأثيرات الفسيولوجية المرغوبة فإن الفصل بين الأم ورضيعها حديث الولادة يعتبر تكثيفًا رمزيًا لسلطة المؤسسة الطبية على جسد المرأة وجسد رضيعها والعلاقة بينهما، ويعمق سيطرة المؤسسة الطبية على أجساد الحوامل بما يتجاوز التأطير الطبي المكثف ويحول حدث الولادة إلى أداة سيطرة مؤسسية.

  • الممارسات العنيفة بعد نيل الموافقة:

تتمحور التجربة الإيجابية للولادة حول إشراك الحامل في القرارات الخاصة بعملية الولادة ونيل موافقتها المستنيرة ورضاها عن الإجراءات والتدخلات الطبية التي يجريها الطبيب والطاقم الطبي، إلا أن نيل الموافقة على أي إجراء لا يمكن أن يعتبر تبريرًا لأي ممارسة عنيفة أو تطبيق عنيف للإجراءات التي تم اتخاذها. كما أن الموافقة المستنيرة أيضًا تتطلب أن لا تُنتزع تحت التهديد أو بعد إعطاء معلومات مغلوطة. الموافقة المستنيرة وسيلة لتمكين الحامل وليست وسيلة لحماية المؤسسة الطبية من أي تبعات قانونية تجري خلال الولادة.

العنف التوليدي كعنف هيكلي ومؤسسي

لا يمكن التعامل مع العنف التوليدي خارج السياقات المتعددة التي تحكمه، ولا يمكن تفسيره باعتباره ناتج عرضي للعلاقة بين الأشخاص Interpersonal Relationship (بين الحامل ومقدم أو مقدمي الرعاية الصحية). العنف التوليدي يندرج تحت مظلة العنف الهيكلي الذي تمارسه المؤسسة الطبية، ولكنه في ذات الوقت عنف قائم على أساس الجندر، كما أنه ممارسة تعيد إنتاج النظام الاجتماعي القائم وتقوم بترسيخه. لقد دار النقاش النسوي على مدار عقود بخصوص العنف التوليدي باعتباره جزء من بنية هيكلية بحاجة إلى الإزالة،[23] لكنه أُهمل في السياق المؤسسي بل ورُفض علانية، وأصرت المجموعات التي تمثل المؤسسة (الأطباء - الممرضون) على التعامل مع النقاش باعتباره استهدافًا مباشرًا لها ولقدرتها على أداء وظيفتها، وبشكل غير مباشر تمكنت هذه المجموعات من فرض وجهة نظرها على النقاش والتعامل مع العنف الهيكلي والمؤسسي هذا باعتباره خارجًا عن سياق المؤسسة لا ممثلًا لها، أي أنها نجحت في لفت النظر بعيدًا عن البنية العنيفة للمؤسسة الطبية وحصر التعامل مع العنف التوليدي على أنه حدث منفصل. ليس هناك أمثلة على ما سبق أوضح من نموذج منظمة الصحة العالمية التي لا تزال ترفض استخدام مصطلح "العنف التوليدي" في أي من أدبياتها، وتصر على استخدام مصطلحات أكثر عمومية وأقل "إثارة للجدل"، بالإضافة إلى الحالة أو النموذج البرازيلي، حيث أن النقاش حول العنف التوليدي قد نشأ أصلًا في البرازيل خلال التسعينيات قبل أي دولة لاتينية أخرى، ولكنها تأخرت مقارنة بدول لاتينية أخرى في الاعتراف به ناهيك عن أنها توقفت رسميًا عن استخدام المصطلح وأصبحت تفضل استخدام المصطلحات التي توفرها المظلة المؤسسية الأممية. وقد ظهرت المطالبات لإنهاء العنف التوليدي في البرازيل تحت مسميات مثل: حركة أنسنة الولادة وتعزيز حقوق الإنسان الخاصة بالنساء، مع تجنب واضح لاستخدام مصطلحات العنف.[17]

تشبّه بعض الدراسات ممارسات العنف التوليدي بممارسات العنف داخل العلاقات الشخصية أو الرومانسية،[44] يعني ذلك أن ذات الهيكل الاجتماعي السلطوي/الذكوري الذي يرعى الممارسات العنيفة داخل العلاقات الشخصية هو ذاته الذي يسهل حدوث العنف خلال الولادة داخل المؤسسة الطبية، فالمؤسسة ذاتها جزء من النظام الذي أنتج هذه العلاقات من الأساس، وتقوم بإعادة إنتاجها بأشكال مختلفة، وتظهر بناء على ذلك علاقة الحامل بالطاقم الطبي خلال الولادة باعتبارها اختلالا في توازن القوة بين طرف قوي متحكم مع طرف ينبغي إبقاءه في حالة ضعف، ويستند تحكم الطبيب على سلطة معرفية تراكمت عبر قرون وساهم في تعزيزها امتلاك الطبيب للأدوات والتكنولوجيا والدعم المؤسسي والقانوني، وهو ما يجعل هذه السلطة غير مرئية ومطبَّعة. إن العنف التوليدي ليس مجرد سلوك شخصي مسيء من طبيب أو ممرضة، بل هو نتيجة بنية اجتماعية، ثقافية، طبية بل وقانونية كاملة تعمل على إدارة وضبط وتشييء جسد المرأة في الولادة، ويجب كشفها وتحليلها بوصفها عنفًا هيكليًا.

تجربة الولادة الإيجابية

تجربة الولادة كثيفة ومعقدة ويمكن أن تحدث في بيئات مختلفة ينتج عنها مخرجات متنوعة لا يمكن التحكم بها أو وضعها بشكل كامل في إطار موحد، ولذلك من الصعب الوصول إلى توجيهات إرشادية موحدة يمكن تطبيقها على جميع الولادات خاصة وأن تحديد موعد الولادة بدقة أمر صعب وغالبًا ما تحدث الولادات بشكل طارئ ما لم يكن مخططًا بشكل مسبق لإجرائها بمساعدة تدخلية طبية. لكن يمكن صياغة إطار عام للمبادئ التي يجب أن تطبق والاعتبارات التي يجب أن توضع بالحسبان خلال الولادة من أجل ضمان تجربة ولادة إيجابية في كل مرة.

لا تعني تجربة الولادة الإيجابية تجريدها من صعوباتها، فالولادة ستظل حدثًا مؤلمًا ومحكومًا بتقلبات فسيولوجية حادة وسينتج عنها تأثيرات جسدية ونفسية عميقة، إن تجربة الولادة الإيجابية يجب أن تكون بتقديم الدعم النفسي والمعنوي والمادي للأم خلال مرحلة الولادة من أجل مساعدتها على إتمام هذه المرحلة بأعلى نتيجة إيجابية ممكنة، وتلافي التدخلات الطبية ما لم يكن لها ضرورة، ومنح الأم الوصاية والسيطرة على جسدها والقرارات المتخذة بشأنه. كما يجب أن تراعي حفظ كرامتها ومنحها الدعم النفسي والعاطفي بشكل مستمر خلال الولادة وبعدها.

إن التدخلات الطبية في الولادة ليست أمرًا سلبيًا في حد ذاتها، لقد ساهم طب الولادة الحديث في خفض معدلات الوفيات بين الأمهات والرضع وقدم حلولًا لكثير من المشاكل والتعقيدات المهددة للحياة، ولكن المعرفة الحديثة والتطور الطبي الكبير الذي عاصرته البشرية خلال القرن السابق قد وُظَّفا من أجل السيطرة على الولادة لا من أجل تحسينها، ومن أجل تأطيرها، تغيير طبيعتها، وتحويلها إلى حدث طبي، بعد أن استمرت تُعامل كحدث طبيعي واجتماعي لقرون طويلة من عمر البشرية، وحتى عندما كانت المعرفة الطبية في العصور الوسطى والقديمة تُوظَّف من أجل تحسين تجربة الولادة ومخرجاتها فإنها لم تؤثر سلبًا على حقيقة أن الولادة حدث متمحور حول النساء وتجربة خاصة بهن، وهذا هو المعيار الأساسي الذي يجب أن يحكم التدخلات الطبية في الولادة على الدوام.

من ناحية أخرى يجب الأخذ بالاعتبار أن الولادة ليست بالضرورة حدثًا سريريًا كذلك، وعلى الرغم من أهمية المراقبة الطبية في بعض الحالات إلا أن الغالبية العظمى من الولادات يمكن أن تتم بعيدًا عن البيئة الطبية، أو بالحد الأدنى من الرقابة الطبية في أفضل الأحوال.

توصيات منظمة الصحة العالمية لتحقيق تجربة ولادة إيجابية

أصدرت منظمة الصحة العالمية مجموعة توصيات لرعاية الولادة وتجربة الولادة الإيجابية في كتيب بعنوان: WHO recommendations: Intrapartum care for a positive childbirth experience،[53] تضم هذه التوصيات مجموعة من التوجيهات الإرشادية المتعلقة بمراحل الولادة الثلاثة ورعاية الطفل حديث الولادة، وهي سلوكيات مقسمة إلى أربعة تصنيفات: سلوكيات موصى بها، سلوكيات غير موصى بها، سلوكيات موصى بها حسب السياق، وسلوكيات موصى بها في سياق البحث الدقيق. تضم الطبعة الصادرة في العام 2018 ستة وخمسين توصية مبنية على الأدلة العلمية Evidence-Based.

تعرف منظمة الصحة العالمية تجربة الولادة الايجابية بأنها:

"تحقق أو تتجاوز التوقعات الشخصية والاجتماعية الثقافية المسبقة للنساء، والتي تتضمن ولادة طفل/ة تتمتع بصحة جيدة في بيئة سريرية ونفسية آمنة مع استمرارية الدعم العملي والعاطفي من المرافق(ين) خلال الولادة وطاقم طبي متمكن تقنيًا. معظم النساء يرغبن في مخاض وولادة فسيولوجية (طبيعية) وتحقيق شعور بالانجاز الشخصي والتحكم من خلال المشاركة في اتخاذ القرار، حتى عندما تكون التدخلات الطبية ضرورية أو مطلوبة."

أول التوصيات المذكورة تستند إلى مفهوم رعاية الولادة القائمة على الاحترام Respectful Maternity Care RMC، وتعرفها منظمة الصحة العالمية بأنها:

"تشير إلى الرعاية التي تُنظم وتُقدم إلى جميع النساء (الحوامل) بطريقة تحفظ كرامتهن، خصوصيتهن، وسريتهن، وتؤكد خلو الخدمة المقدمة لهن من الأذى وسوء المعاملة، مع تمكين اتخاذ القرارات المستنيزة والرعاية والدعم المستمرين خلال المخاض والولادة."

وتشترط التوصيات أيضًا وجود متطلبات وموارد من أجل تحقيق هذا المفهوم بشكل واقعي، منها العدد الكافي لأفراد الطاقم الطبي المدرب والتدريب المناسب بالإضافة إلى الأدوات والموارد والبنية التحتية وأنظمة الرقابة.

يجب الأخذ بالاعتبار أيضًا أن التوصيات أكثر شمولية من مفهوم رعاية الولادة القائمة على الاحترام، وتنقسم من حيث موضوعها إلى قسمين، بعضها توجيهات أخلاقية وسلوكية للطاقم الطبي المشرف على الولادة، ولكن معظمها طبي، ويشرح التدخلات المطلوبة خلال الولادة من أجل تحقيق أفضل نتائج سريرية، والاشتراطات من أجل تنفيذها.

توصيات منظمة الصحة العالمية من منظور نسوي

توصيات منظمة الصحة العالمية مهمة ويمكن التعامل معها كإنجاز في جوانب متعددة، فهي تعطي بعض الاعتبار للتجربة الفردية والاجتماعية للولادة، وتتعامل معها بشكل أو بآخر باعتبارها حدثًا متمحورًا حول المرأة، وتؤكد على مفاهيم مهمة مثل رعاية الولادة القائمة على الاحترام RMC وضرورة الحد من التدخلات الطبية غير الضرورية، لكنها على الرغم من ذلك لا تزال متأثرة بالمنطق الطبي وتعطي الأولوية لنموذج المؤسسة الطبية بدلًا من تبني نماذج متعددة.

  • الولادة حدث طبي بالدرجة الأولى:

الغالبية العظمى من التوصيات طبية وموجهة للأطباء وطواقم العمل في المستشفيات وتركز على الجانب الصحي والطبي وتناقش تدخلات طبية وتحديد درجة ضرورتها مع إهمال الجانب الاجتماعي للولادة.

  • الأدلة العلمية الكمية:

توضح منظمة الصحة العالمية بأن التوصيات المنشورة مستندة إلى أدلة علمية، أي أنها مبنية على نتائج أبحاث كمية وتقوم بقياس متغيرات تحددها الجهة التي تجري البحث. علميًا فإن الأبحاث الكمية تعطي نتائج واضحة وقابلة للقياس والتطبيق ويمكن التعامل معها بسهولة، وهذه المواصفات ما يجعلها خيارًا مفضلًا عند إنتاج المعرفة الطبية والسياسات المرتبطة بالمؤسسة الطبية كذلك، لكن البحث الكمي يتجاهل أيضًا الخبرة الذاتية والسياق الاجتماعي والثقافي، كما أنه لا يخلو من التحيزات، ونتائجه مبنية على معايير يحددها معد البحث ذاته، ولذا فإن النتيجة النهائية للبحث الكمي عن فعالية سلوك طبي أو اجتماعي تُحدد بناء على ما يراه معد البحث باعتباره نتيجة إيجابية أو نتيجة سلبية، أي أن الأدلة الكمية تُنتج من خلال المؤسسة الطبية ذاتها وبناء على معاييرها.

في واقع الأمر فإن عملية الولادة تمثل تجربة ذاتية وتتسم بالتعقيد، والولادة داخل المؤسسة تخضع لعلاقات السلطة المعرفية والقانونية التي ترسخها، ولذا فإن أي توصيات بخصوص هذه العملية يجب أن تأخذ البعد الاجتماعي بعين الاعتبار، وهو ما لا تقوم به توصيات منظمة الصحة العالمية.

  • الخصوصيات الثقافية:

تستند التوصيات في جوهرها إلى المدرسة الغربية للطب الحيوي، وهي مدرسة تُقدم باعتبارها عالمية الانتشار والتأثير وتفترض أن معاني المرض واحدة في كل الثقافات على الرغم من أن انتشارها أصلًا كان مرتبطًا بالحدث الاستعماري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مع الأخذ بالاعتبار أن الولادة ليست مرضًا أو حدثًا طبيًا، ولكن حدث طبيعي وثقافي، ولذا فإن فرض منطق المؤسسة الطبية الغربية والممارسات المبنية على الأدلة العلمية على الولادة يفرض تهميشًا عنيفًا للخصوصيات الثقافية والاجتماعية ويقصي المعارف الشعبية المتوارثة على الرغم من قيمتها وتأثيراتها في العديد من البيئات والمجتمعات.

إن الأدلة العلمية - بحسب من ينتجها - غير مرتبطة بحدود ثقافية أو جغرافية، إلا أن عملية إنتاجها من الأصل ارتبطت بسياقات ثقافية وخصوصيات غربية لها تحيزاتها الخاصة. كما أن الأدلة تُجمع غالبًا من خلال بيئات طبية خاضعة للتحكم تتوفر غالبًا داخل بلدان ذات دخل مرتفع أو متوسط وبالتالي فإن أصوات النساء وتجاربهن في الدول ذات الدخل المنخفض أو دول الجنوب العالمي تظل مهمشة وأقل حضورًا وتأثيرًا في صياغة الدليل العلمي والتوصيات المبنية عليه.

  • تجاهل الولادة المنزلية:

توصيات منظمة الصحة العالمية لا تزال لحد الآن متمحورة حول التعامل مع الولادة كحدث سريري أو طبي، وأهم المؤشرات على ذلك هو غياب تام للتوصيات بخصوص الولادات المنزلية أو لحق المرأة في اختيار مكان الولادة. إن الولادة داخل المنزل ليست خيارًا رجعيًا أو خطيرًا ولا يتعارض مع إمكانية الإشراف الطبي، وقد ثبت ذلك بالدليل العملي خلال السنوات السابقة، حيث أصدرت بعض الهيئات الطبية الحكومية أدلة ومعايير للولادات المنزلية استجابة لأوضاع خاصة. وعلى سبيل المثال فإن وزارة الصحة السعودية أصدرت دليلًا مشابهًا استجابة للوضع الوبائي الخاص بمرض كوفيد-19 بسبب صعوبة الوصول إلى المستشفيات في تلك الفترة.[54] كما أن الطلب على الولادات المنزلية قد ارتفع بشكل كبير خلال تلك الفترة في أوروبا والولايات المتحدة.[55][56][57]

أما العراق فقد أصدرت قانونًا لتنظيم مهنة القبالة منذ عام 2012 وذلك استجابة للطلب المجتمعي على القابلات المنزليات، والذي تزايد بسبب حوادث العنف الناتجة عن الغزو الأمريكي في 2003، ويعترف القانون بالقابلات الشعبيات اللواتي يمارسن المهنة بدون تعليم أكاديمي.[58] وعلى الرغم من انحسار أعمال العنف في العراق منذ سنوات إلا أن الطلب على القابلات المنزليات لا يزال متزايدًا بسبب ارتفاع تكاليف الرعاية الطبية داخل المستشفيات. الولادة المنزلية ضرورية أيضًا في بعض المناطق الجغرافية بسبب ضعف المنشآت الطبية من حيث التواجد والانتشار وقدرتها على تغطية عدد كبير من السكان، كما أن بعض المؤسسات الطبية تمارس عنفًا توليديًا يظهر على شكل تفرقة عنصرية موجهة نحو أفراد الأقليات العرقية والإثنية والطبقات الأدنى والأكثر فقرًا. وفي المكسيك لا تزال القابلات الشعبيات في بعض الولايات مسؤولات عن حوالي 25 - 75 % من الولادات.

  • إهمال العنف المؤسسي:

توضح التوصيات غياب أدلة كافية على نجاعة التدخلات من أجل تعزيز السلوكيات المرتبطة برعاية الأمومة القائمة على الاحترام، واستنادًا لذلك فإن تعقيد الدوافع وراء إساءة المعاملة خلال الولادة يتطلب وجود تدخلات على مستوى العلاقات بين الأشخاص وعلى مستوى المستشفى والنظام الصحي. بالإضافة إلى التأكيد على أهمية الانخراط في الحوار وتعزيز التواصل بين مقدمي الرعاية الصحية والنساء وممثلات مجموعات الدفاع عن حقوق النساء.

تشخص منظمة الصحة العالمية من خلال ما سبق واقعًا حقيقيًا يشير إلى ضعف نجاعة المبادئ المرتبطة برعاية الأمومة القائمة على الاحترام في إحداث تغيير ملموس على الأرض، ولكنها تفشل في تحميل مسؤولية هذه المعطيات للمسؤول الحقيقي، فالعنف خلال الولادة - أي العائق أمام تحقيق تجربة الولادة الإيجابية - بجميع صوره وأشكاله تقع مسؤوليته على عاتق بُنى وهياكل خارجة عن تحكم النساء وتشمل أبعادًا أكبر من مجرد العلاقات بين الأشخاص (النساء الحوامل ومقدمي الرعاية الصحية)، والتي لا تنجح في تفسير هذا العنف ودوافعه (وهي أيضًا ما تفشل التوصيات في تعريفها بشكل دقيق).

طالعوا كذلك

مراجع

مصادر

  1. The Unexpected History Of Midwives (Youtube Video)
  2. 2٫0 2٫1 2٫2 A History of Obstetrics and Gynecology: From Ancient Midwifery to Modern Medicine
  3. Practice of Midwifery in Ancient India
  4. Fadel and Al-Hendy: Development of Obstetric Practice During the Early Islamic Era
  5. The start of life: a history of obstetrics
  6. 6٫0 6٫1 6٫2 Irvine Loudon: General practitioners and obstetrics: a brief history
  7. THE INDIAN MEDICAL DEGREES ACT, 1916 (ACT No. VII of 1916)
  8. RAND Corporation: International Comparison of Ten Medical Regulatory Systems (Technical Report)
  9. Encyclopedia.com: Hospital, Modern History of the
  10. Birth Settings in America: Outcomes, Quality, Access, and Choice. (NLM Bookshelf)
  11. Colonizing Childbirth: The Adoption of Western Obstetrics in Hong Kong (1842-1910)
  12. Ambalika Guha: Modernizing Childbirth in Colonial Bengal A History of Institutionalization and Professionalization of Midwifery, c.1860-1947
  13. Heathe Bell: MIDWIFERY TRAINING AND FEMALE CIRCUMCISION IN THE INTER-WAR ANGLO-EGYPTIAN SUDAN
  14. Dipti Tripathi: Western Intervention in the Childbirth Practices in Colonial India: A Historical Perspective
  15. Murdock and Durant: Settler Midwifery: A Colonial Tool in Canada's Reproductive Healthcare System
  16. Henci Goer: Cruelty in Maternity Wards: Fifty Years Later
  17. 17٫0 17٫1 Michelle Sadler et al.: Moving beyond disrespect and abuse: addressing the structural dimensions of obstetric violence
  18. Care for Normal Birth: A Practical Guide
  19. New WHO evidence on mistreatment of women during childbirth
  20. دراسة تحذر من أن سوء المعاملة أثناء الولادة هي مشكلة تتعلق بحقوق الإنسان والرعاية الصحية
  21. 21٫0 21٫1 Analysis of the concept of Obstetric Violence: Scoping Review Protocol
  22. A human rights-based approach to mistreatment and violence against women in reproductive health services with a focus on childbirth and obstetric violence : note / by the Secretary-General
  23. 23٫0 23٫1 23٫2 23٫3 Rodante van der Waal et al.: Obstetric Violence: An Intersectional Refraction through Abolition Feminism
  24. 24٫0 24٫1 C. R. Williams et al.: Obstetric violence: a Latin American legal response to mistreatment during childbirth
  25. 25٫0 25٫1 25٫2 Camilla Pickles: ‘Everything is Obstetric Violence Now’: Identifying the Violence in ‘Obstetric Violence’ to Strengthen Socio-legal Reform Efforts
  26. Obstetric and gynaecological violence in the EU - Prevalence, legal frameworks and educational guidelines for prevention and elimination
  27. Obstetric violence: abuse during childbirth is widespread, but the first step to fighting it is naming it
  28. إساءة معاملة النساء أثناء عملية الولادة .. سيدتي يناقش العنف عند الولادة (يوتيوب)
  29. Amy Marshall el al.: Women’s perspectives on disrespect and abuse during facility-based childbirth in Ethiopia: a qualitative study
  30. Marjan Mirzania et al.: Prevalence of mistreatment and disrespect of women during childbirth in the world: a systematic review and meta-analysis
  31. Case publications office of the european union: Studies on obstetric violence Experience, analysis, and responses
  32. Rachelle Joy Chadwick: Obstetric violence in South Africa
  33. 33٫0 33٫1 Farah Diaz-Tello: Invisible wounds: obstetric violence in the United States
  34. 34٫0 34٫1 Mounia El Kotni: Between Cut and Consent: Indigenous Women's Experiences of Obstetric Violence in Mexico
  35. Exposing Obstetric Violence in the Eastern Mediterranean Region: A Review of Women's Narratives of Disrespect and Abuse in Childbirth
  36. العنف في غرفة الولادة: واقع لا يُناقش (فيسبوك)
  37. RAGHAD FARHAT: The Prevalence of Obstetric Violence Against Women During Pregnancy and After Delivery in Syria: A Cross-Sectional Study
  38. الجزيرة: عنف التوليد بمشافي اليمن.. الصرخة المكتومة
  39. 39٫0 39٫1 “كشف جبري”.. عنف الولادة يمرّ من دون حساب
  40. 40٫0 40٫1 صفحة اتكلم/ي على فيسبوك(ألبوم صور): التعنيف الطبي أثناء الولادة/الحمل.
  41. الولادة العنيفة.. تمزقات وهبوط الحوض معاناة خفية تنهك أجساد الأمهات بصمت
  42. أطباء يمارسون العنف أثناء الحمل والولادة.. أصلها ناقصة!
  43. تسنيم عمران: عنف الولادة – هل تعرضتِ له؟ مقال توعوي
  44. 44٫0 44٫1 Violence against women in health-care institutions: an emerging problem
  45. 45٫0 45٫1 نجاة عبد الصمد: وضعيات الولادة: من خبرة الدايات إلى قوانين المستشفيات
  46. 46٫0 46٫1 Exploring Evidence for Disrespect and Abuse in Facility-Based Childbirth
  47. Meghana Munnangi et al.: “One's life becomes even more miserable when we hear all those hurtful words”. A mixed methods systematic review of disrespect and abuse in abortion care
  48. ندى أبو عيطة: ضرب وتحرش واستهتار بالألم.. عن العنف داخل غرف الولادة
  49. L. Dundes: The evolution of maternal birthing position
  50. الجزيرة نت: من القيصرية إلى الطبيعية.. عنف الولادة المسكوت عنه
  51. مُرافق الولادة: ما هو دوره، وكيف نختاره؟
  52. Jeannette T. Crenshaw: Healthy Birth Practice #6: Keep Mother and Newborn Together—It's Best for Mother, Newborn, and Breastfeeding
  53. WHO recommendations: intrapartum care for a positive childbirth experience
  54. The Saudi Home Birth Standards
  55. Birth in a pandemic: 'You are stronger than you think'
  56. Choosing for a Homebirth during COVID-19 Lockdown in The Netherlands, who and why: A national prospective questionnaire study
  57. Interest in Home Birth During the COVID‐19 Pandemic: Analysis of Google Trends Data
  58. نشوى نعيم: وجوه القابلات في العراق: من الأزقّة الشعبية إلى العيادات الخاصة